خاص هيئة علماء فلسطين

         

16/11/2023

محمد خير موسى عضو المكتب التنفيذي في هيئة علماء فلسطين

غزوة تبوك كانت في السنة التاسعة للهجرة وسمّيت غزوة العُسرة؛ فقد وقعت في شدة وقسوة وشظف من النواحي المختلفة، عسرة اقتصاديّة لقلّة المال والفقر، وعسرة بيئيّة لشدة الحرّ وبُعد المسافة، وعسرة لوجستيّة سببها قلة التجهيزات وكثرة العدوّ، وعسرة في المواقف والخذلان ببروز المنافقين وخذلانهم وتخلفهم.

انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه الذين استجابوا لدعوته مسافة تقارب ستمئة وخمسين كيلو مترًا في شدة الحرّ وقسوة الطريق، لمواجهة العدو الذي حشد حشوده في تبوك معلنًا أن هدفه استئصال المسلمين والقضاء على دعوة الإسلام، وقد تخلّف عنه المنافقون الذين اختلقوا من الحجج والمبررات لخذلانه ما يندى له جبين المروءة.

كان من بين من تخلّفوا عن الركب صحابي أقعده التكاسل والتقاعس عن التجهّز للخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، اسمه أبو خيثمة “مالك بن قيس بن ثعلبة” رضي الله عنه، غير أن تخلّفه عن الركب لم يستمرّ، وكانت له وقفة مراجعة مع الذات واستدراك لما فات.

روى البيهقي في الدلائل، والطبراني، والواقدي، وابن كثير، وابن إسحاق في قصة أبي خيثمة رضي الله عنه: “ثم إن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أيامًا إلى أهله في يوم حارّ، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه “أي بستانه ومزرعته” قد رشّت كل واحدة منهما عريشها، وبرّدت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعامًا، فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه، وما صنعتا له”

في هذا اللحظة كانت لحظة الإفاقة من الغفوة، والشعور بالصعقة التي أيقظت القلب من غفلته المؤقته؛ “فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح “أي الشّمس” والريح والحرّ، وأبو خيثمة في ظلٍّ بارد، وطعام مهيّأ، وامرأة حسناء في ماله مقيم؟! ما هذا بالنَّصَف “ما هذا بالإنصاف والعدل”.

كم يحتاج كل من تخلّف حتى اليوم عن الانخراط في معركة الطوفان، التي تدور رحاها ويثور غبارها متعلّلا بحجج واهية أن يصفع نفسه كما فعل أبو خيثمة رضي الله عنه، فوالله ما هذا بالنّصَف أن نكون في ظلّ ظليل وعيش رغيد وماء بارد، نتقلب في النعم كأن لم يحدث شيء، بينما أهلنا وإخواننا وأمهاتنا في غزة يذوقون الموت صباح مساء، وتنزل على رؤوسهم أطنان القنابل، وتتمزق أشلاؤهم على مرأى ومسمع منّا؛ والله ما هذا من الإنصاف في شيء.

 “ثم قال أبو خيثمة مخاطبا زوجتيه: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهيِّئا لي زادًا، ففعلتا، ثم قدم ناضحه “أي جمَله” فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك”.

وهكذا كانت مراجعة أبي خيثمة لذاته نفسيّة ابتداءً تحولت إلى فعل سلوكيّ مباشر، فلا يكفي في مراجعة نفسك أن تشعر بتخلفك عن الركب، وتقصيرك في نصرة أهلك في غزة؛ بل لا بد أن يتحوّل هذا الشعور إلى سلوك عملي ومبادرة لا تأخير فيها، لتلحق بالركب وتستدرك ما فات، فما يزال الباب مفتوحًا ولكنك لا تعلم متى يكون إغلاقه، فلا تسوّف أكثر.

“وقد كان أدرك أبا خيثمةَ عميرُ بن وهب الجمحي في الطريق، يطلب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، فترافقا، حتى إذا دنوَا من تبوك، قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنبًا، فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك، قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” كن أبا خيثمة” فقالوا: يا رسول الله؛ هو والله أبو خيثمة”.

أجل؛ كان أبو خيثمة يشعر بذنبه في التخلف عن الركب والخجل من ذلك، ومع ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف رجاله ومعادنهم وأصالتهم، فعندما قالوا له إنَّ ظلَّ راكب قادمٌ من بعيد، توقع ودعا أن يكون أبا خيثمة، فالتخلف المؤقّت عن الركب لا ينفي أصالة المعدن، لكن عدم التدارك وعدم الوقوف مع الذات والاستمرار في التخلف هو ما ينفيها.

“فلما أناخ أقبل، فسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوْلى لك يا أبا خيثمة، ثم أخبر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا، ودعا له بخير”

وسطّر أبو خيثمة هذه الواقعة شعرًا فقال:

لمَّا رأيتُ الـنـاس في الـدِّيـن نـافَـقـوا   أتـيــتُ الـتي كـانـت أَعــفَّ وأَكـْرمـا

وبايَـعـتُ بالـيـُمْــنى يـَـدِي لـِمُحــمَّــد   فلم أكتسـبْ إثـما ولم أَغْـشَ مَـحْرَمًـا

تركتُ خَضِيبًا في العريش وصِـرْمَةً   صفـايـا كـرامًا بُـسْـرُها قـد تحَـمَّـمـا

وكنـتُ إذا شـكّ الـمـنـافق أَسْـمـحـتْ   إلى الدِّين نفسي شَطْرَه حيـث يمَّـمـا

كان اللقاء بعد التدارك فيه كثير من الحب وفيه العتب “أولى لك يا أبا خيثمة”، عتاب رقيق مع تحذير، فمعناها لقد دنوت من الهلاك يا أبا خيثمة لكن الله سلّم؛ ولقد عبّر عن نجاته من النفاق بتداركه في أبياته الرقيقة.. فيا من تخلفت عن ركب الطوفان إلى الآن، ولم تنخرط في معركة الحق المفصليّة، بكل ما تقدر عليه وتستطيعه في ميدانك ومجالك: أولى لك؛ وكن كأبي خيثمة.

نقلاً عن مدونة العرب:

https://www.alarabblog.com/Articles/Read?id=ded35940-0cae-40b0-a21c-223672c12dcc