عيسى القدومي

بين حين وآخر تثار شبهات وجهت للوقف الإسلامي من بعض الأصوات العلمانية وغيرها في هذا الزمن، تسعى لتعطيل هذا النظام الإسلامي، حيث قالوا أن الوقف يساعد على البطالة والكسل والتسكع ،ويعلم الناس التنبلة! ويزعمون بأن المؤسسات الوقفية تقوض السلطة الحاكمة، وتضعف قوة الدولة! وأن تلك المؤسسات الوقفية تعمل بمعزل عن المجتمع وسياسة الدول، ولا تقدم الجديد، وهذا وجه من أوجه الحرب على الأوقاف الإسلامية، والمؤسسات الخيرية ونظامها.

وهكذا ترادفت أقوالهم مع الحرب الإعلامية الشرسة التي يخوضها الغرب ضد مؤسساتنا الوقفية والخيرية، لذا نقول لمن يشيع تلك الشبهات أن الأوقاف هي مصدر عظيم لسد الحاجات، ووعاء لاستيعاب أموال المسلمين في أمور خيرية تستمر وتنمو وتدوم؛ فالوقف يحقق مصلحة عامة للأمة، وكان لانتشار الأوقاف في العهود الإسلامية خير دليل على الدور الذي كانت تقدمه الأوقاف للأمة في جميع المجالات، من حيث المساهمة في تأمين المياه للناس من خلال إنشاء الآبار ومحطات المياه لحفظ النفس وخير مثال على ذلك وقف زبيدة التي أجرت الماء من بغداد إلى مكة بدءا من عام 187 للهجرة، وأنشأت في هذا الطريق مرافق ومنافع ظل يستفيد منها حجاج بيت الله الحرام منذ أيامها إلي وقت قريب، وكان للوقف الدور الكبير في تأمين المسكن المناسب من خلال تأجير العقارات الموقوفة لحفظ النفس، والمساهمة في تأمين الطعام للفقراء والمساكين، ومن في حكمهم لحفظ النفس من خلال التكايا والأوقاف التي خصصت لإطعام الطعام، حيث اشتهرت التكايا في أغلب المدن الإسلامية، في دمشق وبغداد والبصرة ومكة والحجاز والسليمانية والقدس والخليل وطرابلس والمغرب العربي ومصر وغيرها من الأمصار، وكذلك أوقفت البساتين المثمرة التي خصص ثمرها للفقراء وأهل الحاجة.

وكان للأوقاف المساهمة في إنشاء دور العلم مثل كتاتيب تحفيظ القرآن والمدارس والمعاهد الدينية لحفظ العقل ونمائه. والمساهمة في بناء المساجد ودور العبادة وتيسير الحج وتقديم الخدمات للحجاج لحفظ الدين، والمساهمة في تحرير الأسرى والمعتقلين في سبيل الله لحفظ حرية النفس.

والمساهمة كذلك في بناء مؤسسات العلاج الخيرية لعلاج الفقراء والمساكين لحفظ النفس. وتقديم العون للمرضى والأيتام والعجزة وكبار السن وتوفير حاجاتهم الأصلية من مأكل ومسكن وعلاج، ومستشفى النوري الكبير في دمشق كان وقفاً من شروطه أنه على الفقراء والمساكين. وقد ظل بيمارستان النوري عامراً إلى سنة 1317هـ .. وقيل إنه منذ أن عمّر لم تنطفئ فيه النار. ‏وذاعت شهرته أنه بعد من أوائل الجامعات الطبية في الشرق.

وكذلك المساهمة في تشييد قبور الصدقة ليدفن فيها الغرباء والفقراء لتكريم الموتى، فقد خصص وقف ليكون ريعه لرعاية الفقراء حتى بعد وفاتهم ، وذلك بتحمل تكاليف تغسيلهم وتكفينهم ودفنهم، ومن أشهر هذه الأوقاف (وقف الطرحاء) الذي جعله الظاهر بيبرس برسم تغسيل فقراء المسلمين وتكفينهم ودفنهم.

والمساهمة في حفظ أموال الأغنياء من الإسراف والتبذير وتوجيهها لما ينفعهم بعد الموت، بل وحفظ كرامتهم إن ألمت بهم المصائب، فقد أوقف حميد بن عبد الحميد الطوسي ضياعاً على أهل البيوتات وذوي الأقدار غلتها مائة ألف دينار أيام المأمون، فقد تصيب بعض علية القوم مصائب وكوارث، وتأبى عليهم نفوسهم وأقدارهم أن يسألوا الناس فأوقفت الأوقاف في هذا المصرف ليقيلوا بها ذوي الأقدار عثراتهم .

ولحفظ العرض والمساهمة في تيسير الزواج للشباب والفتيات الفقيرات، أوقفت الأوقاف ليصرف من ريعها لتزويج الشباب والفتيان العزَّاب ممَّن تضيق أيديهم أو أيدي أوليائهم عن نفقات الزواج وتقديم المهور ، جاء في كتاب “الدارس في تاريخ المدارس” : ” من الأوقاف التي وجدت سنة 878هـ وقف تزويج الأيامى يعطى كل من تزوج من فقراء الحنابلة.

وتنوعت تلك الأوقاف لتصل إلى حفظ كرامة غير الإنسان، فقد تعدت حاجة الإنسان لتفي بحاجة الحيوان، وقد وجدنا في ثبت التأريخ أوقافاً خاصة لتطبيب الحيوانات المريضة، وفي الشام وقف للقطط الضالة يطعمها ويسقيها سمي بمدرسة القطط، وهي في القيمرية الذي كان حي التجار في دمشق، ووقف للكلاب الشاردة يؤويها ويداويها، سمي اسماً غريباً (محكمة الكلاب)، وهو في حي (العمارة) . وقد خصص وقف لرعي خيول الجهاد المسنة العاجزة، وهو في أرض المرج الأخضر بدمشق، ترعى فيه حتى تموت بكرامة. وفي مدينة فاس خصص وقف على نوع من الطير يأتي في موسم معيَّن، فوقف له بعض الخيِّرين ما يعينه على البقاء، ويسهِّل له العيش في تلك المدَّة من الزمن؛ وكأن هذا الطير المهاجر الغريب له على أهل البلد حقَّ الضيافة والإيواء.

ولقد وعى المسلمون منذ القرون الأولى ما للوقف من مقاصد سامية ومصالح ملموسة في الحفاظ على مكانة الأمة وأمنها ، فالوقف كان خير معين على الجهاد وحماية الثغور ببناء الربط والمراكز في مناطق التماس مع العدو وتقديم الدعم للمجاهدين خاصة في عهود نشر الإسلام والفتوحات في المشرق والمغرب . وأتقنت الصناعة الحربية والأربطة التي يرتادها المجاهدون لحماية الثغور ، حيث أوقفت لها الأوقاف لرد المعتدين على بلاد المسلمين ، فنشأت الكثير من المصانع خاصة في بلاد الشام ومصر أيام الحروب الصليبية على بلاد المسلمين.

وبذلك كانت الأوقاف الإسلامية من أشرف معالم الحضارة الإسلامية، وبلغت في استيفاء حاجات الفرد والمجتمع مبلغاً لم يعرف له مثيل بين الأمم والشعوب، وعملت على إسعاد البشر بالحفاظ على عقيدتهم وتوحيدهم وعلمهم وكرامتهم وسمو أخلاقهم، وهناء حياتهم، وحمايتهم من كل ما يضرهم. و تتابع المسلمون جيلاً بعد جيل يوقفون الأراضي والبساتين والدور وأعمال الخير والبر؛ مما ملأ الدولة الإسلامية بالمنشآت والمؤسسات التي بلغت حداً من الكثرة يصعب إحصاؤه والإحاطة به .

فلا ريب أن الوقف نظام إسلامي شرع بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة ، والأوقاف من أهم الموارد الاقتصادية للدولة الإسلامية، قال الله تعالى: }لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون{ آل عمران/82. وقال جابر بن عبد الله الأنصاري : لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذا مقدرة إلا وقف، وهذا إجماع منهم، فإن الذي قدر منهم على الوقف وقف، واشتهر ذلك ولم ينكره احد، فكان إجماعاً .

فالجوانب الإنسانية في أوقافنا بلغت الآفاق وأثبتت أن الأمة الإسلامية أمة حية ، أمة تجديد لا أمة تبديد ، وأمة ابتكار لا أمة تكرار ، وأمة إبداع لا أمة ابتداع ؛ جوانب الرائعة تأخذ الألباب من دقتها واهتماماتها بأمثلتها الرائعة ؛ تفردت بنتاجها الحضاري عن سائر الأمم .

ومن جانب آخر إن كان الوقف الإسلامي دوره محدود كما يزعمون، فنسألهم لماذا حارب الاستعمار الفرنسي حينما احتل الجزائر الأوقاف الإسلامية وضمها لتكون بحوزة المستعمر؟ ولماذا حارب الاحتلال البريطاني لفلسطين في الفترة مابين 1917 إلى 1948 الأوقاف والمحاكم الشرعية الإسلامية؟ بل وضمها في دائرة أسماها العدل والقضاء التي يرأسها مستشار قضائي ” المستر بنتويش “، وهو يهودي ومن رجال الحركة الصهيونية. وكذلك دور الفرنسي سان سيمون أيام محمد علي باشا في عام 1224هـ حينما اقترح تأميم الأوقاف، وإذا بها تعاني العجز والإهمال وأضحت عبئاً على الدولة، بعد أن كانت وعلى مدى 12 قرناً من الزمان قوة مساندة للأمة، تقف في مواجهة النوازل والنكبات. فالأوقاف المرصدة على المدارس والمساجد للتعليم بلغ من كثرتها في بلد واحد مثل مصر في عهد محمد علي باشا أنه عند مسح الأرض الزراعية في مصر وجد أنها تبلغ مليوني فدان -4200م2– من بينها ستمائة ألف فدان أراضي موقوفة.

والكيان اليهودي مارس منذ احتلاله لمدينة فلسطين والقدس أبشع الإجراءات والاعتداءات على الأوقاف الإسلامية، بدءا من تدمير حارة المغاربة الوقفية التي كانت تضم 135 بيتاً وأربعة مساجد والمدرسة الأفضلية وأوقاف أخرى . وطالت الاعتداءات قبور الأموات ، فأقاموا متحف أسموه ” متحف التسامح ” !! على أرض مقبرة ” مأمن الله ” التاريخية التي تضم رفات الصحابة والصالحين والفاتحين .وسبق ذلك تدمير أكثر من 1200 مسجد في المناطق التي احتلوها عام 1948م ، وحولوا ما تبقى منها إلى بارات ومطاعم ومراقص وبيوت للخنا والفجور الذي يجيدوه .

وقد اعتبر اليهود الأوقاف الإسلامية أملاك غائبين، لذا نقلوا 75% من أراضي وعقارات الأوقاف إلى مؤسسات يهودية حسب قوانين أملاك الغائبين وقوانين أخرى متصلة، وهذا دفع الشاعر الفلسطيني لكتابة قصيدة في تهكمه على قانون أملاك الغائبين، ومصادرة الأوقاف، وكأنها لغائب !! يقول فيها :

الله أصبح غائباً ياسيدي صادر إذن حتى بساط المسجد

حتى يتامانا أبوهم غائب صادر يتامـانا إذن ياسيـدي

وبذلك أضحت الأوقاف الإسلامية في القدس وفلسطين أملاكاً وأموالاً يهودية ، ودمروا بذلك القطاع الوقفي، ليضعفوا شوكة أهل فلسطين، ويهينوا كرامتهم ببحثهم عن لقمة العيش، وإضعاف الرعاية لأهل الحاجة والعوز .

الخلاصة : استطاع الإسلام أن يجعل القطاع الوقفي يتعدى دور (حالات الطوارئ) إلى دور التنمية والاهتمام بكل شرائح المجتمع دون شقاق أو نزاع مع مؤسسات (القطاع الحكومي)، وقد وعى الاستعمار دور الوقف الإسلامي فحاربه وأضعفه في دولنا ، وسن التشريعات والقوانين لرعايته ونماءه ووجوده في دولهم، وأضحى قطاعاً رئيساً من قطاعات الدولة المعاصرة وفق المفهوم الإداري الحديث. وأطلقت عليه الأمم المتحدة مسمى القطاع الثالث، وهو القطاع الخيري والوقفي والتطوعي، الذي هو أساس من أسس الدولة المعاصرة الثلاث. ونقول للمشككين لدور الوقف: حسبنا أن التطبيقات التاريخية للمؤسسات الوقفية أنتجت حضارة إسلامية ما زالت بعض آثارها العملية ماثلة أمامنا، تدفعنا للبذل والعطاء.

نقلاً عن موقع مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية

http://www.aqsaonline.org/news.aspx?id=5101