د. إبراهيم مهنا

كثر الحديث هذه الأيام عن الإرهاب وضرورة محاربته، بل تأسست من أجل هذه الغاية تحالفات إقليمية ودولية وبذلت الأموال الطائلة لتحقيق ذلك. وإن المتابع لهذه الأحداث يجد أن بعض الدول الداعية والمتحمسة إلى محاربة الإرهاب هي دول تمارس الإرهاب بل وترعاه!!

وعمدت الدول التي تحكم شعوبها بالقهر والاستبداد إلى رفع شعار محاربة الإرهاب واستخدمته للقضاء على المعارضة الداخلية السياسية السلمية وحركات الإصلاح المجتمعي، ليعطي نفسه شيئا من الشرعية الدولية باعتبار أن الإرهاب جريمة دولية.

وتطور الأمر عند البعض –من أبناء جلدتنا- ليرمي بهذه التهمة جزافا فيلقيها على المقاومة الفلسطينية التي تقاتل من أجل دحر الاحتلال الصهيوني الجاثم على مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم وهو بذلك يخلط الأوراق بما يخدم الاحتلال –علم أم لم يعلم-.

من أجل ذلك كان من واجب الوقت بيان الفرق بين الإرهاب المحظور والمقاومة المشروعة، ونقيد مصطلح الإرهاب بـ “المحظور” لسببين:

الأول: أن استخدام مصطلح الإرهاب في القرآن الكريم جاء بالمعنى الإيجابي إذا أسند للمسلمين، فهو يدل على وجوب إعداد القوة بجميع أشكالها لردع من تسول له نفسه الاعتداء على الإسلام والمسلمين، أي أن التلويح بالقوة واستخدامها هنا هو وقائي لهدف مشروع، قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال:20] بخلاف ما إذا أسند لغير المسلمين فقد جاء بمعنى سلبي، قال تعالى عن سحرة فرعون: (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [الأعراف: 116].

الثاني: حتى لا يستباح مصطلح “الإرهاب” بإطلاقه جزافا على ما يحتمل وما لا يحتمل، وليتحمل من يستعمل هذا المصطلح عبء إثبات المعنى السلبي له على من وقعت عليه التهمة، فإن لم يفعل فلا أقل من يحد مستخدمه حد القذف إن لم يصل إلى جريمة العمالة والخيانة.

ولقد وقعت على وثيقة قيمة عالجت هذا الموضوع معالجة موضوعية، فآثرت الاكتفاء بنشرها موافقا على ما جاء فيها، وتمثل هذه الوثيقة رؤية عربية-إسلامية لمجموعة منتخبة من المفكرين العرب بلغ عددها 96 شخصية من نحو 14 دولة، وكانت بداية المشروع فكرة بادر بطرحها مركز دراسات الشرق الأوسط في الأردن على مجموعة من الخبراء تداعوا لوضع المسودة الأولى، وذلك في 5 كانون الثاني/ ديسمبر 2001 إثر أحداث 11أيلول / سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، وتم إنجاز الوثيقة في مايو 2003م.

وإليكم نص الوثيقة :

أولاً: الديبـاجـة

· رغبة في تشكيل رؤية عربية إسلامية لمفهوم الإرهاب، وتمييزه عن مفهوم المقاومة المشروعة، وإسهاماً من مثقفي الأمة في صياغة مفهوم دولي للإرهاب، وحرصاً منا على المحافظة على التفاعل الحضاري بين الأمم.

· والتزاماً بالمبادئ الدينية والأخلاقية السامية التي تمثلها قيمنا الحضارية العريقة التي تدعو إلى حماية حقوق الإنسان التي نصت عليها مبادئ القانون الدولي وأسسه.

· وتأكيداً على حق الشعوب في مقاومة الاحتلال الأجنبي والتصدي للعدوان، وتحرير الأرض، وتقرير المصير، ونيل الاستقلال بمختلف الوسائل، بما في ذلك الكفاح المسلح.

·وتماشياً مع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية -التي تأسست في تموز / يوليو 2002- الذي ألزم جميع الدول بالامتناع عن استعمال القوة أو التهديد باستعمالها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة أو على أي نحو لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة.

 أُعدت هذه الوثيقة للتفريق بين الإرهاب من جهة، وأعمال المقاومة المشروعة والكفاح المسلح من جهة ثانية، ولتحول دون اتخاذ الاتهام بالإرهاب ذريعة لانتهاك حقوق الإنسان، وسيادة الدول، والتدخل في شؤونها الداخلية.

ثانياً: متـن الـوثيـقـة

·مفهوم الإرهاب

الإرهاب: هو استخدام غير مشروع للعنف أو تهديد باستخدامه ببواعث غير مشروعة، يهدف أساساً إلى بث الرعب بين الناس، ويعرض حياة الأبرياء للخطر، سواء أقامت به دولة أم مجموعة أم فرد، وذلك لتحقيق مصالح غير مشروعة، وهو بذلك يختلف كلياً عن حالات اللجوء إلى القوة المسلحة في إطار المقاومة المشروعة.

وهو بهذا انتهاك للقواعد الأساسية للسلوك الإنساني، ومنافٍ للشرائع السماوية والشرعية الدولية لما فيه من تجاوز على حقوق الإنسان.

وتشير ظاهرة انتشار الإرهاب في العالم إلى أزمة فكرية تعيشها المجتمعات المختلفة، التي ترتبط بفلسفة العنف في تحقيق أهدافها، ويُعبر تفشي أعمال العنف على الصعيد الدولي عن إشكالية سياسية تتعلق بطبيعة العلاقات الدولية المستندة إلى تحكم الدول القوية عسكرياً في مصالح الدول الأضعف

·الجهاد والمقاومة

يطلق لفظ الجهاد في النصوص الإسلامية بمعناه العام على مقاومة العدو أو مجاهدة النفس أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، وقد اصطلح الفقهاء على أن الجهاد بمعناه الخاص هو “بذل الوسع والطاقة في القتال في سبيل الله بالنفس والمال واللسان بهدف نصرة الإسلام والمسلمين”، أي قتال من قاتل المسلمين وأخرجهم من ديارهم، أو القتال لأجل ردع المعتدين ودفع عدوان واقع، أو لإخراج المعتدين من أرض المسلمين، أو القتال دفاعاً عن النفس والمال والعرض، حيث يُعد كل ذلك جهاداً (في سبيل الله). وبذلك  فإن مقاومة الاحتلال الأجنبي ودفع ظلمه، وعدوانه عن الأنفس والممتلكات والأعراض يُعد جهاداً (في سبيل الله).

وقد حرّمت الشريعة الإسلامية العدوان في الجهاد مثل قتل من لا يجوز قتله من النساء والأطفال وكبار السن ورجال الدين المنقطعين للعبادة، وسائر المدنيين غير المقاتلين ممن لا يخدمون تحت السلاح لدى المعتدين، كما حرمت تجاوز الحد المشروع في القتل، أو القتال لأجل الفساد في الأرض، أو نهب خيرات الشعوب، أو تخريب زروعها وثمارها وأشجارها.

وفي الوقت الذي تقرر فيه الشريعة الإسلامية حق المقاومة المشروعة وفق ما ورد أعلاه، فإن التراث الفكري الغربي ذاته قد أسَّس لحق مقاومة الطغيان، ورفع شعارات الحرية والعدالة والمساواة التي نادى بها روسو وفولتير وغيرهم من الفلاسفة في أوروبا قبل قرون عدة، كما أن المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة والمادة (2) من الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب، ووفقاً لما قرره القانون الدولي وفقهاؤه، ووفقاً للحق الطبيعي في الدفاع عن النفس والمال والأملاك والأعراض والحريات، فإن من حق الشعوب التي تتعرض للاحتلال والاستعمار والعدوان والطغيان المسنود بالقوة، اللجوء إلى المقاومة المسلحة بوصفها مقاومة مشروعة، وفي هذه الحالة تنطبق اتفاقيات الحماية الدولية المختلفة على المقاتلين من أجل الحرية ضد الاستعمار والاحتلال أو الاضطهاد، وبذلك تتمتع الفئات التي تمارس هذا الحق في المقاومة المشروعة بمركز قانوني معتبر، حسب هذه الاتفاقيات، بما يتيح لها التصدي للاستعمار والاحتلال، وقد أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم (3246) الصادر في 14/12/1974 على شرعية  حق الشعوب في الكفاح المسلح في سبيل تحررها من الاحتلال، وذهب إلى “أن أي محاولة لقمع الكفاح المسلح ضد السيطرة الاستعمارية والأجنبية والأنظمة العنصرية هي مخالفة لميثاق الأمم المتحدة ولإعلان مبادئ القانون الدولي الخاصة بالعلاقات الدولية والتعاون بين الدول، وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، وقد أكدت الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب الصادرة في عام 1998 في المادة الثانية على أنه لا “تُعد جريمة حالات الكفاح بمختلف الوسائل، بما في ذلك الكفاح المسلح ضد الاحتلال الأجنبي، والعدوان من أجل التحرر وتقرير المصير”.

وبناءً على ما تقدم فإن المقاومة هي: استخدام مشروع لكل الوسائل بما فيها القوة المسلحة لدرء العدوان، وإزالة الاحتلال والاستعمار، وتحقيق الاستقلال، ورفع الظلم المسنود بالقوة المسلحة، بوصفها أهدافاً سياسية مشروعة، وهو ما يتفق مع القانون الدولي وتؤيده الشريعة الإسلامية.

وتستند مشروعية المقاومة إلى مجموعة من المبادئ القانونية الثابتة، كحق المقاومة استناداً لعدم الولاء والطاعة لسلطة الاحتلال، واستناداً إلى حق الشعوب في تقرير مصيرها، والدفاع المشروع عن النفس، والاستناد إلى قرارات الأمم المتحدة، والاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية المدنيين أثناء الحروب.

ومن ذلك يتبين أن المقاومة عمل مشروع لتحقيق مصالح الشعوب التي تتعرض للعدوان والاحتلال، فيما الإرهاب يمثل اعتداءً على حق هذه الشعوب في الحياة والحرية وتقرير المصير. 

·مقاومة الإرهاب “الإسرائيلي”

وفيما يتعلق بدولة الاحتلال في فلسطين فإن قيامها كان على حساب شعب آخر، وهي الطرف المعتدي على الشعب الفلسطيني والمحتلة لأرضه، وما تستخدمه من وسائل التعذيب والاعتقالات الجماعية والقتل وارتكاب المجازر وقتل الأطفال وهدم البيوت ومصادرة الأراضي وتجريفها، وما تمارسه من البطش والظلم والتهجير والنفي بحق الشعب الفلسطيني هو الإرهاب بعينه. لأنه يُعد جريمة في عرف الدول كلها وفق ميثاق الأمم المتحدة، ومنافٍ لكل القيم الإنسانية فضلاً عن مخالفته للشريعة الإسلامية، ولهذا فإن أعمال المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي هي مقاومة مشروعة، وهي لا تختلف عن مقاومة ديغول وتشرشل للإرهاب النازي في أوروبا، ولا المقاومة الأمريكية للاحتلال الإنجليزي لأراضيها قبل قرون، ولا مقاومة الشعوب الأخرى للاستعمار والاحتلال الأجنبي لتحقيق الاستقلال وتقرير المصير.

·توصيات

ترى هذه الوثيقة أن الحد من ظاهرة الإرهاب ودعم المقاومة المشروعة يتطلب ما يلي:

1-السعي لوضع مفهوم متفق عليه للإرهاب، وتمييزه عن المقاومة المشروعة، وتعد هذه الوثيقة مساهمة في هذا المضمار.

2-المبادرة السريعة والجادة إلى تعزيز التفريق بين الممارسات الإرهابية التي تقوم بها إسرائيل وغيرها من الدول، وأعمال المقاومة المشروعة التي تقوم بها حركات التحرير الوطنية لتحقيق أهدافها في تقرير المصير والاستقلال، حتى لا تختلط المفاهيم كما هو الحال في فلسطين وغيرها.

3-تمكين الشعوب الواقعة تحت الاحتلال أو الاستعمار من تحقيق استقلالها ونيل حقها في تقرير المصير، حتى لا يكون ذلك ذريعة لأعمال عنف يختلف الناس في تسميتها بالإرهاب أو المقاومة المشروعة.

4-تفعيل التعاون الدولي المنظم على أساس العدل والمساواة ورعاية المصالح المشتركة دون هيمنة أو انتقائية، وتفعيل القانون الدولي فيما يتعلق بحماية حق الشعوب في نيل استقلالها وتقرير مصيرها.

5-السعي لتوفير الحماية الكافية للمدنيين في الحروب بما في ذلك تأمين إيصال المساعدات الطبية والإنسانية للمحتاجين منهم.

6-مواجهة إرهاب الدولة والحد من تفاقمه بالعمل على بلورة موقف دولي موحد ضد الدول التي تمارسه وبخاصة إسرائيل، والعمل على عزل هذه الدول حتى تتوقف عن ممارسة الإرهاب ورعايته.

7-التوقف عن التهديد بالقوة العسكرية والعقوبات الاقتصادية ضد الدول الضعيفة، واستغلال مواردها من جانب الدول الأقوى بصورة استعمارية، والعمل بدلا من ذلك على تشجيع إقامة علاقات التعاون والسلم الدوليين.

8-توسيع دوائر الحوار الثقافي والحضاري بين العالم العربي والإسلامي من جهة، والعالم الغربي من جهة أخرى، لتقليل الحاجة إلى اللجوء إلى القوة والعنف في أي خلافات بين الجانبين.

انتهت الوثيقة.

وفي الختام نؤكد على ما يلي:

لابد من امتلاك القوة كشرط أساس لتحقيق السلم والعدل والتمتع بالحرية، فالعدالة لا يحققها الضعفاء، والحقوق لا تكتسب بالتسول بل تنتزع انتزاعا من الظالمين.

الإرهاب المحظور هو وصف لفعل غير مشروع يقع على الإنسان والأفكار والحقوق المعنوية والحريات والموارد الطبيعية، وهو قرين “الإفساد” في المصطلح القرآني، وهو وصف ملازم لمن قام به سواء أكان فرداً أم جماعة أم دولة.

مقاومة العدوان ورد المعتدين هو حق مشروع أقرته الديانات السماوية والمواثيق الدولية والعقول السوية، ولا يجوز الخلط بينها وبين مفهوم الإرهاب المحظور.