خاص هيئة علماء فلسطين

         

كتبه: د. محمود مصطفى أبو محمود ‏

المدير التنفيذي في هيئة علماء فلسطين

دكتوراه في التربية الإسلامية

‏ 19/10/2023م

في ظل ما يجري من أحداث جسام على ثرى الأرض المباركة فلسطين وغزة، وهي على شدتها تمثل إرهاصات لقرب تحقق وعد الله ونصره على الصهاينة المحتلين والمعتدين؛ ففي معركة طوفان الأقصى الجارية سقط صنم الدولة الصهيونية وتهشمت صورة جيشها، وأساء وجهها طائفة مؤمنة صدق فيهم وصف الله تعالى: ﴿عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً﴾ [الإسراء:5]، في ظل ذلك يغدو للتبشير مكان وضرورة تثبيتا وتقوية لصفوف الأمة عموما وللمجاهدين وأهلهم في غزة الصامدة خصوصاً.

عند الرجوع إلى لسان العرب نجد أن البشر والبشارة والبشارة بمعنى الطلاقة، والبشارة: ما بشرت به. والبشارة: ما يعطاه المبشر بالأمر، وأبشر واستبشر وتبشر وبشر: أي فرح وسر. والمبشرات: الرياح التي تهب بالسحاب وتبشر بالغيث. وتباشير كل شيء: أوله كتباشير الصباح والنور. والبشارة المطلقة لا تكون إلا بالخير، وإنما تكون بالشر إذا كانت مقيدة، كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21].

وقد تكرر استخدام البشارة والأمر بها في القرآن الكريم في (84) آية، فجاءت البشرى من الله سبحانه لعباده المؤمنين، نحو قوله تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} [التوبة: 21]، وقال تعالى: {وأبشروا بالجنة} [فصلت:30]، وجاء الأمر منه سبحانه وتعالى بالتبشير، فقال: {وبشر الصبرين} [البقرة:155]، و{وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [يونس:87]، و{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34]. و{وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:37]، كما بشرت الملائكة الأنبياء والمؤمنين، كقوله تعالى: {قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر:53].

ويمكن ملاحظة استخدام النبي ﷺ التبشير بالخير في مواقف عديدة، ليثبت قلوب أصحابه ويصبرهم، وخاصة في بدايات الدعوة في مكة المكرمة حيث تعرض الصحابة فيها للشدائد والمحن، ومن شواهد ذلك ما رواه الحاكم في مستدركه أن النبي ﷺ مر على آل ياسر وهم يعذبون في مكة، فقال مثبتا ومصبرا: «أبشروا آل عمار، وآل ياسر، فإن موعدكم الجنة».

وأيضا ما أخرجه البخاري من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه، قال: شكونا إلى رسول الله ﷺ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال ﷺ: «قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، فما يصدّه ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».

وأخرج أحمد في مسنده تبشير النبي ﷺ أصحابه – رضي الله عنهم- أثناء حفرهم الخندق قبيل غزوة الأحزاب بفتح مدائن الشام وفارس واليمن. وحين أجلى الأحزاب عن المدينة بعد معركة الخندق، قال ﷺ: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم».

ونجد في السنة النبوية بشارة النبي ﷺ للمسلمين بفتح القسطنطينية وروما، كما في الحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولا: قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مدينة هرقل تفتح أولا يعني قسطنطينية». وقد رأى المسلمون فتحها وتحققت البشارة وصارت إسطنبول مدينة المآذن وقلعة الإسلام وثغره المتقدم. ويرقب المسلمون في هذا العصر تتمة وعد الله بفتح روما لينشروا فيها التوحيد والعدل قريبا إن شاء الله.

ونجد أن النبي ﷺ كان يوصي أصحابه بمراعاة مبدأ التبشير، يظهر ذلك في الرواية التي أخرجها البخاري عن معاذ وأبي موسى رضي الله عنهما، قبيل إرسالهما إلى اليمن دعاة ومعلمين، فقال لهما: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا». قال النووي في شرحه: وفي الحديث أمر بالتبشير بفضل الله سبحانه وعظيم ثوابه وجزيل عطائه وسعة رحمته، والنهي عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير.

وذكرت السنة النبوية أسماء العديد من الصحابة الذين خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالبشرى، كالعشرة المبشرين بالجنة، وأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها التي بشرت ببيت في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا صخب. وجاءت البشرى لكعب بن مالك رضي الله عنه بتوبة الله عليه بعد تخلفه عن غزوة العسرة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله ﷺ قال: وهو يبرق وجهه من السرور: “أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك”.

فالبشرى هدية تحبها النفوس وتترقبها، فهي إن جاءت جبرت كسر النفس وقوت ضعفها، وأمدتها بالأمل لتسكن وتطمئن وتثبت وتفرح وتسعد وتتفاءل، ثم تكمل الطريق حتى تلقى ما توعد.

تطبيقات مبدأ البشارة بالخير

ينبغي التوعية بمبدأ البشارة بالخير؛ وتوضيح مفهومه وأدلته، وأهميته في تصبير الناس وتثبيتهم أثناء الدعوة إلى الله والجهاد والرباط في سبيله، وفي المواقف الاجتماعية المختلفة.

من المفيد جدا جمع الآيات والأحاديث النبوية ونصوص التراث وقصصه وما تيسر من شعر الحماسة والقوة والثبات، التي ترفع الهمم وتبشر بالخير، وتبث الأمل، ونشرها بين الحين والآخر بأشكال وتصميمات وأساليب مختلفة.

يترك المسلم التشاؤم ويجتنب التنفير، بل هو يتصدى لروح اليأس والإحباط ومحاولات التخذيل؛ خاصة عند الشدائد، فقد أخرج مسلم في صحيحه قول رسول الله ﷺ: «لا طيرة، وخيرها الفأل» قيل: يا رسول الله وما الفأل؟ قال: «الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم».

على المؤسسات الإعلامية والقنوات والمنصات الإلكترونية والسينما العناية الكبيرة بإنتاج الأفلام والمسلسلات والأناشيد والبرامج التربوية، التي تصبر الناس وتثبتهم وتبشرهم وتبث فيهم روح التفاؤل والثقة بفرج الله ونصره وتحقق وعده.

ينبغي مراعاة ربط البشرى بأسبابها، فهي متحققة للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وللصابرين وللمحسنين وللمخبتين، فمن أراد البشرى سار في طريقها واجتهد لنيلها، قال تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشورى: 23].

أولى الناس بالتبشير هؤلاء المجاهدون الأبطال ومن خلفهم أقاربهم وجيرانهم في غزة وفلسطين، فنبشرهم رغم ألمهم بعون الله تعالى ونصره القريب، ونتلو على مسامعهم قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، وقوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7].

تبشير الأسرى والمعتقلين في سجون الصهاينة، بأن الله معهم، وأن الأمة لن تنساهم وهي ماضية في تحريرهم وفكهم؛ ولكن ليصبروا حتى يأتي الله بأمره، ولهم في يوسف عليه السلام أسوة حسنة.

يتوجب علينا عيادة جرحى الجهاد في غزة هاشم وأن نتكفل بتأمين العلاج والدواء والمشافي في فلسطين وخارجها، وندعو لهم ونبشرهم بالشفاء القريب، وأن ذلك كله يكتبه الله لهم سبحانه ويجازيهم عليه ويعوضهم خيرا وثوابا، فقد أخرج البخاري في الحديث القدسي عن أنس رضي الله عنه أن الله تعالى قال: «إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه، فصبر؛ عوضته منهما الجنة. يريد عينيه». وأخرج مسلم في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة، أو حط عنه بها خطيئة». كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾. [التوبة:120]

تبشير المهجرين والنازحين عن بيوتهم المهدمة في غزة، واللاجئين عموما في مخيمات الشتات بعودتهم إلى ديارهم، والاستقرار في أرضهم، فوعد الله تعالى متحقق للمؤمنين الصابرين، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].

تبشير أسر الشهداء وأهلهم ورفاقهم بما أعده الله تعالى لأحبابهم من ثواب ومكانة عظيمة في الحياة الآخرة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تك الأخرى ترى ما أصنع، فقال: «ويحك، أو هبلت، أوَ جنة واحدة هي، إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس». ومثله حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: لقيني رسول الله ﷺ، فقال لي: «يا جابر ما لي أراك منكسرا»؟ قلت: يا رسول الله استشهد أبي، وترك عيالا ودينا، قال: «أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك»؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: «ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحا. فقال: يا عبدي تمن علي أعطك. قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية. قال الرب ¸: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون».

يقوم العلماء والعارفون بالله ونحوهم من قادة الأمة والصالحين بواجبهم بالحضور بين الناس ويتقدمون الصفوف مع المجاهدين في بيت المقدس، يذودون عن عرض المجاهدين ويشاركونهم جهادهم ورباطهم ويتحملون مسؤولية تثبيتهم وتبشيرهم وتقوية عزائمهم؛ فقد حضر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وقعة شقحب 702هـ، قرب دمشق، وفيها انتصر المسلمون وكانت في رمضان فأخذ الماء وشربه أمام الناس وأوصى الناس بالفطر حتى يكون أقوى لهم …وكان يقسم بالله “إنكم منتصرون” فيقول له أمراء الأجناد قل إن شاء الله فيقول: “إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا”. مستندا في قسمه إلى قوله تعالى ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47].

أخيرا، فإنه كان من نصيب هذه الطائفة المنصورة بإذن الله أن تنال شرف الجهاد والرباط وتتقدم صفوف هذه الأمة الإسلامية العظيمة وترفع رايتها وتقودها في طريق الفتح والنصر والتحرير القريب إن شاء الله، تحقيقا لوعد الله تعالى، القائل: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء:7]. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

نقلاً عن موقع الجزيرة نت: ‏
https://www.aljazeera.net/blogs/2023/10/19