خاص هيئة علماء فلسطين

         

مخلص برزق

يسوقنا يوم عاشوراء سوقاً إلى بيت المقدس والأرض المباركة، فإذا كان ذلك اليوم من أيام الله يؤرخ لإسراء موسى عليه السلام ليلاً فإنه يُذكِّرنا بإسراء نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

والمتتبع لتفاصيل أحداث يوم عاشوراء في القرآن الكريم يتبيّن له بمجرد وضع الآيات بعضها إلى جانب بعض أنّها كانت في حقيقتها رحلة إسراء لنبي الله موسى عليه السلام، ففي المواضع الثلاثة جاء الأمر الإلهي لموسى بالإسراء، كما في آيات إسرائه:

  • “وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ” (78) سورة طه
  • ·       “وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ” (52) سورة الشعراء
  • ·       “فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ۖ إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ” (24) سورة الدخان

ومن يقارن بين آيات سورة الإسراء وآيات إسراء موسى عليه السلام لا يخفى عليه وجود تشابه بين مفردات الآيات “إسراء، ليلاً، بعبده، عبادي”..

أما الإسراء، فقد جاء إسراء موسى عليه السلام بصيغة الأمر له: “أسْرِ، فأسْرِ”، في حين أن إسراء محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم جاء خبراً عن فعلٍ قصد الله به نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم تكريماً وتسلية له، فقال: “سبحان الذي أسرى بعبده” وزاد في تعظيم الحدث بنسبته إليه مع جعل التسبيح باسم المصدر (سبحان) وهو يحرِّره من محدودية الزمان والمكان والحال.

وفي الحالتين أكّدت الآيات على أن الإسراء قد حصل “ليلاً”، غير أنَّ الفارق فيه هو أنَّ موسى عليه السّلام قام به أمام قومه وبصحبتهم، وتحركوا معه خطوة بخطوة، ورأوا بأمِّ أعينهم عظم الأهوال التي واجهتهم حتى جعلتهم يقولون في لحظة حاسمة بيأسٍ وفجيعة: إنّا لمدركون. كما أنَّهم عاينوا بأنفسهم معجزة شقّ البحر وإغراق فرعون وجنوده ونجاتهم سالمين. ومع ذلك كلّه فما كان أسرع من نكوصهم على أعقابهم، قال تعالى عنهم: “وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ” (138) سورة الأعراف.

أمّا محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم فقد كان إسراؤه “ليلاً” بعيداً عن أعين الخلق، ولأنّ معجزته الكبرى صلَّى الله عليه وسلَّم كانت القرآن الكريم فقد جاءت معجزة الإسراء والمعراج تعزيزاً لها وخدمة لها، فالدليل على معجزة الإسراء كامن في آيات القرآن، والذي يؤمن بالقرآن الكريم لن يتردّد في تصديق حدوثها كما فعل أبو بكر رضي الله عنه بقوله: “إن كان قال فقد صدق؛ إنّي أصدِّقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدِّقه في خبر السّماء”، فاستحق بهذا التصديق صفة الصدِّيقيّة ولقب الصدِّيق بجدارة.

ولا غرابة في أن ترد لفظة “القرآن” إحدى عشرة مرة في سورة الإسراء، وهي الأكثر في كافة سور القرآن لتعطي إشارة لقارئ السورة بأن القرآن الكريم هو المعجزة الأعظم من حادثة الإسراء المحصورة في زمان ومكان محددين، فيما القرآن باقٍ على مدى الزّمان والمكان. وقد جاء فيه وبسورة الإسراء تحديداً قوله تعالى: “وما منعنا أن نرسل بالآيات إلاَّ أن كذَّب بها الأولون” فالذين رأوا الآيات المعجزة من الأقوام السّالفة لم ينتفع أكثرهم بذلك ولم ينقلهم إلى دائرة الإيمان، على عكس أمَّة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم التي آمنت بالغيب فأغناها ذلك عن رؤية المعجزات، وكفاها أنَّ آيات الكتاب المعجزة تتلى عليهم.

وفي ذلك لطيفة نوردها هنا حيث افتتحت السور الثلاثة التي أوردت إسراء موسى عليه السلام بالحديث عن القرآن الكريم معجزة النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

  • طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ (2) سورة طه
  • طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) سورة الشعراء
  • حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) سورة الدخان

وذلك يأخذنا إلى لطيفة أخرى أيضاً أوردها الخطيب الشربيني في مغني المحتاج (5\307) جاء فيها: ” فائدة: الحكمة في كون صوم يوم عرفة بسنتين وعاشوراء بسنة أن عرفة يومٌ محمّديٌّ –يعني أن صومه يختص بأمّة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم- وعاشوراء يومٌ موسوي، ونبيّنا محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم أفضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه أجمعين، فكان يومه بسنتين”.

وأزيد بأنَّ يوم عرفة مرتبط بمعجزة النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم التي هي القرآن الكريم فقد نزلت فيه الآية: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا” (3) سورة المائدة وعنها أورد البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه “أنَّ رجلًا مِن اليهودِ قال له: يا أميرَ المؤمنين، آيةٌ في كتابِكم تَقْرَؤُونها، لو علينا معشرَ اليهود نزَلَتْ لاتخَذْنا ذلك اليومَ عيدًا. قال: أيُّ آيةٍ؟ قال: “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا” قال عمرُ: قد عَرَفْنَا ذلك اليومَ، والمكانَ الذي نَزَلَتْ فيه على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو قائمٌ بعرفةَ يومَ جمعةٍ”.

أما عن وجهة الإسراء وكيفيته، فقد كان إسراء موسى عليه السلام تجاه الأرض المقدسة، وكذلك كان إسراء نبيّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، وإذا كان الله قد شقَّ لموسى البحر بالعصا، فإنّه قد شقّ أطباق السماوات لمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم حتى وصل إلى مكانة لم يصلها ملكٌ مقرَّب ولا نبي مرسل.. “ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ” (9) سورة النجم.

وإذا كان إسراء موسى عليه السلام بصحبة أخيه هارون عليه السلام، فإنّ إسراء نبيَّنا صلَّى الله عليه وسلَّم كان بصحبة ورفقة جبريل عليه السلام، وهو الذي قصَّ عليه ما جرى يوم عاشوراء كما في صحيح الترمذي: “لمَّا أغرقَ اللَّهُ فِرعونَ قالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فقالَ جبريلُ: “يا محمّد فلو رأيتَني، وأَنا آخذٌ من حالِ البحرِ فأدسُّهُ في فيهِ مخافةَ أن تُدْرِكَهُ الرَّحمةُ” حال البحر: طين البحر.

ولم يقف الأمر عند ذلك فقد اشتمل إسراء نبيّنا صلَّى الله عليه وسلَّم على صلاته إماماً بموسى والأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، وهو الذي مرَّ بقبره أيضاً ليلة إسرائه فقال: “أَتيْتُ – وفي رواية: مررت – على موسى ليْلةَ أُسرِيَ بي عند الكثِيبِ الأحمرِ وهو قائمٌ يُصلّي في قبرِه”. صحيح مسلم.

كان إسراء موسى عليه السلام من أرض مصر إلى أرض سيناء، وكان إسراء سيِّدنا ونبيِّنا محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم من مسجدٍ إلى مسجد..

من أول مسجدٍ وضع للنّاس إلى ثاني مسجد وضع للنّاس.. من قِبلةٍ إلى قِبلة.. من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.