د. كمال الصيد (باحث في الدراسات الإسلامية، من تونس)

ملخّص:

شهد العالم العربي موجة من التطبيع مع الكيان المحتل من عدد من الدول العربية، ولم تكتف الجهات المطبعة بما قامت به من جريمة في حق القضية الفلسطينية ومصادمة الرأي العام العربي والإسلامي وإصباغ الشرعية على الاحتلال والاستيطان القهري والهمجي، بل طفق طابور الإعلام والنخب المأجورة من النفخ في إيجابيات هذا الفعل الشنيع ومحاولة ستر عورته، بادعاءات ضعيفة لا تصمد أمام الحقائق الساطعة والحقوق البينة،

مقدمة

لا بد في البداية من الاتفاق على معنى التطبيع بسبب محاولة التلبيس على المفهوم لاختراق العقل العربي والتأثير في الرأي العام من خلال التشويه والتحريف، وقد رأيت من الفائدة إتباع  منهج التعريف الغائي من التطبيع أو التعريف الوظيفي من أجل تعريف التطبيع مع الكيان الصهيوني، لأن العبرة في المعارك والصراعات هو تحقيق الأهداف، لذلك بديهي أن يتم تعريف التطبيع من خلال فهم الأهداف التي يرمي إلى تحقيقها العدو ، فالموضوع ليس ترفا فكريا بل تصدّ في إطار صراع قائم مع عدو يريد تحقيق أهداف على حساب المصالح الثابتة للقضية الفلسطينية، وحيث يوفر هذا التمشي وقتا في فهم طبيعة الصراع والمرامي التي يبتغيها العدو من خلال الدفع نحو التطبيع ويحقق وعيا وفهما دقيقا لمقاصد العدو، ومن هنا يسهل التصدي لها وفضحها وإحباطها وإقامة الحجة على الداعين للتطبيع، فالصديق الذي يستهويه التطبيع تحت مسميات السلم أو أمن المنطقة  يكون شريكا في جريمة الاحتلال إذا كانت معاملاته مع الكيان تحقق أهداف هذا الأخير، وتصب في مصلحته مما يدخل الصديق قبل العدو في خانة الخيانة والعداوة مهما كانت النوايا حسنة، فالعبرة في السياسة بالمقاصد والنتائج، لان عالم السياسة هو الحفاظ على الأنفس والعقيدة والأعراض والأموال، وكل تفريط في أحدها جريمة في حق  الوطن والأمة والإنسانية يقول الله تعالى :”  مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً”[1] وفي المحصّلة فإنّ أهم أهداف التطبيع تتمثل في ربط علاقات فاعلة مع الكيان الصهيوني تهدف إلى:

1-             إزالة الحواجز النفسية نحو التعامل مع الكيان المحتل التعامل معه على أنه جزء طبيعي في الوطن العربي، فسياسة التطبيع تكسر الحاجز النفسي لدى العرب في التعامل مع الأراضي المحتلة في ظل بقاء المحتل، وقد تؤدي لاحقًا إلى تجاوز الحاجز النفسي في التعامل مع المحتل ذاته وإهمال حقوق الشعب الفلسطيني

2-             تجاهل ممارسات حكومة الاحتلال في إبادة وتشريد الفلسطينيين.

3-             عدم الدعوة إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكل أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني

4-             تجاوز الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين من غير تحميلهم مسؤولية تلك الجرائم

5-             تحقيق “السلام” من دون الاتفاق على الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف حسب القانون الدولي وشروط العدالة،

6-             التسوية بين “الطرفين”، الإسرائيلي والفلسطيني (أو العربي)، في المسؤولية عن الصراع، ومحاولة إعادة قراءة تاريخ الصراع بحيث يقدم الرواية الصهيونية كرديف أو موازي للرواية الفلسطينية عن جذور الصراع.

7-             تجاهل حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وخاصة حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة والتعويض حسب قرار الأمم المتحدة رقم 194، عبر الترويج لما يطلق عليه “النظرة للمستقبل” وتجاوز تاريخ الصراع. (الحقوق الفلسطينية فيما سبق تعني الحق في تقرير المصير، بما فيه حق اللاجئين في العودة والتعويض طبقا لقرار الأمم المتحدة 194، وكافة القرارات المتعلقة بعروبة القدس، وعدم شرعية الاستيطان ومصادرة الأراضي، وتهجير السكان بالقوة وتغيير الجغرافيا والديموغرافيا).

ورغم وضوح مقاصد التطبيع ومخاطرها على القضية الفلسطينية والحقوق الشرعية للفلسطينيين، إلا أن جهات الدعاية وطوابير الإعلام للبلدان المطبعة مازالت تروج لمنافع التطبيع وتعدد في مصالح السلام مع الكيان المحتل في كل المجالات، سأكتفي في هذه الورقة بالرد على شبهتي تحقق المصلحة الاقتصادية والمصلحة الأمنية في جزأين، الرد على دعوى منافع الاقتصادية للتطبيع في الجزء الأول والرد على دعوى توفير التطبيع الأمن والسلام في الجزء الثاني .

  1.  التطبيع بين المنافع الاقتصادية والتبعية السيادية

يدعي البعض من الذين ينظرون إلى التطبيع على أنه يحقق لهم مصالحهم الاقتصادية ويفتح لهم أبواب التعاون مع المنظمات المالية المانحة ويرضي عنهم المجتمع الدولي وأن الأزمات المالية تنتهي بمجرد التطبيع والعودة الصاغرة إلى المجتمع الدولي، وأن ذلك لن يتم إلا عبر التطبيع مع إسرائيل. وهو ما يتعارض مع الحقيقة إذ ليس صحيحا أن التطبيع إيذان بإنهاء الأزمات الاقتصادية للبلدان المطبعة، بل هذا الادعاء ليس إلا تبريرا على الخضوع والخنوع للكيان والاستسلام والارتماء في أحضان العدو، وأن هذا المسار يناقضه الواقع والحقيقة لان الخيارات والمواقف في عالم السياسة تقاس بميزان الربح والخسارة وبميزان تحقيق المصالح والمفاسد، وما تؤكده حقائق الواقع ان التطبيع كله مجلبة للمفاسد للقضية الفلسطينية أولا وللأمة ثانيا ولن يخدم إلا الكيان الغاصب لحقوق الفلسطينيين ثالثا. 

أولا : دوافع الدول المطبعة ليس معالجة الأزمة الاقتصادية

الحقيقة التي لا غبار عليها ان قرار التطبيع التي قامت به الدول العربية المطبعة ليس من أجل تجاوز الأزمة الاقتصادية ولكن له مآرب أخرى تخدم مصالح وطنية ضيقة وتحقق رغبات أنظمة قصيرة المدى ومن الأمثلة على ذلك

  1. المغرب: لم تكن مطامع المغرب من التطبيع سوى مطلب وطني قومي قد يدخل في إطار المناكفات الداخلية أو التجاذبات مع الجارة الجزائر، لقد اكتفت المغرب بالحصول على اعتراف الحكومة الأمريكية بمغربية الصحراء الغربية، وهو اعتراف هش يمكن في أي لحظة،أن يسقط زمن حكم بايدن، وهو من ناحية ثانية يزيد التوتر بين المغرب والجزائر في موضوع يبقى خنجرا في خاصرة وحدة المغرب الكبير وهو ما يخدم مصالح الكيان.
  2. دول من الخليج: أما بالنسبة لدول الخليج المطبعة كما في حالة البحرين أو الإمارات فإنها تتطلع إلى وقف النفوذ الإيراني مقابل التطبيع، وهي فزاعة من جهة وشماعة يغطي بها على حقيقة الاستسلام من جهة أخرى، ومعلوم أن هذه الدول وخاصة الراعية للتطبيع ليس بها أزمة اقتصادية وليست في حاجة إلى التطبيع من الناحية الاقتصادية إلا وهم الأمن من فزاعة المشروع الإيراني.
  3. أما السودان:فمعلوم أنها تريد من التطبيع أن ترفع الحكومة الأمريكية اسمها من قائمة الدول المساندة للإرهاب،ومع ذلك تريد السودان إقناع العالم أن ذلك بسبب ان يسمح لها باستئناف علاقات اقتصادية طبيعية مع المؤسسات المالية الدولية مع إمكانية استعانة الخرطوم، بالتقنية الإسرائيلية المتطورة، في مجال الزراعة.

ثانيا: التطبيع يزيد في الأضرار الاقتصادية للدول المطبعة

إن المشاريع المزمع التعاون فيها ضمن صفقات التطبيع المشبوهة لا تخدم إلا مصالح الكيان المحتل بل هي تضر بالاقتصاد الوطني للكيانات المطبعة والأمثلة على ذلك عديدة منها:

  • المشروع الإماراتي المشترك مع الكيان المحتل لمد خط أنابيب ينقل نفط الخليج إلى الموانئ الإسرائيلية على البحر الأبيض،وهذا المشروع سيؤثر لا محالة على تنافسية خط سوميد الذي ينقل هذا النفط عبر الأراضي المصرية. وتصبح حينئذ المنافسة بين اقتصاديات العالم العربي على حساب تكامل القوى الاقتصادية العربية، وهو شكل من أشكال تشتيت القوى العربية التي تخدم مصلحة الكيان، وتضعف المردود الاقتصادي للدول المطبعة.
  • العجز الكبير في الموازنات التجارية بسبب المبادلات التجارية المختلة بين البلدين لان قيمة الواردات العربية أكبر بكثير من صادراتها، ثم إن سوق بلد الاحتلال صغير جدا، وهو مفتوح أصلا على منتجات البلدان الأوروبية والولايات المتحدة، فهو يكاد يكون مغلقا تجاه الدول العربية وأكثر من ذلك فإن البضائع العربية ليس لها القوة الكافية لمنافسة البضائع الغربية إلا في بعض المنتوجات الفلاحية مثل التمور،
  • ت‌-    السوق العربية كبيرة واستفادة الكيان المحتل أكبر بكثير، فكل بضاعة تدخل السوق العربي يكون مصدرها بلد الاحتلال تكون على حساب بضاعة ومنتوج عربي. والخشية من هذا التطبيع الاقتصادي أن تغرق الأسواق العربية بسلع الكيان المحتل، وهو ما يمس بالإنتاج المحلي الذي قد يؤدي إلى غلق بعض الشركات الضعيفة أو تراكم المنتوجات الفلاحية في بلد التطبيع بسبب غلائها. ثم الخشية من نوعية سلع الكيان المحتل التي قد تحمل أضرارا صحية وقد تناقلت عديد المصادر شبهات حول مكونات منتوجات الكيان التي تهدد سلامة المواطن العربي.
  • إن التعاون الاقتصادي لن يكون مجديا ومفيدا للمطبعين لأن الشارع العربي ومنه رجال الأعمال وأصحاب الشركات والمصنعين والفلاحين العرب جلهم رافض للتطبيع ويحملون وعيا بالقضية الفلسطينية ولا يؤيدون التطبيع، وهم يعلمون أيضا ان أي تعاون مع الكيان المحتل سيجعلهم عرضة لغضب الشارع العربي ويضعهم امام خطر مقاطعة المستهلك العربي في بلدانهم، لذلك سيكون التعاون مختلا ويخدم مصلحة الكيان العدو. فالتطبيع والسلام مع الكيان المحتل لم يحقق الرفاه للشعوب العربية بل ازداد وضعها سوءا بازدياد تبعية اقتصادها للغرب.

ثالثا :التطبيع طريق نحو التبعية الاقتصادية

لقد كان واضحا لدى المحللين ان التطبيع جاء في شكل صفقة بترتيب أمريكي رافقه تهديد وإكراه من إدارة ترامب مضاف إليه طمع وشجع بعض الأنظمة العربية،وقد رضخت بعض الدول تحت الإكراهات الأميركية والأطماع الذاتية،لكن ما لم تتحسب له بعض الأطراف العربية المطبعة أن هذه الصفقة التطبيعية ليست حفلة شاي، على حد التعبير الساخر للمفكر الكويتي عبد الله النفيسي في أحد تدويناته حيث قال:” فوجئ الوفد السوداني الذي يتفاوض مع الأمريكان حول التطبيع مع إسرائيل بوضع الأمريكان 47 شرطاً لتحقيق التطبيع. منها توطين ملايين من اللّاجئين الفلسطينيين في السودان الشاسع وسيطرة الأمريكان على المياه الإقليمية السودانية”. وأضاف في تغريدة أخرى: “منح السودان الأمريكان إنشاء قواعد عسكرية على أراضيه ونقل قيادة أفريكوم إلى السودان وإعادة النظر في كل القوانين السودانية، وإبعاد الصين من أي نشاط داخل السودان واحتكار الأولوية للاستثمارات الأمريكية. إلخ. فلا يتصور أحد أن التطبيع حفلة شاي”. مضاف إلى ذلك مفاسد اقتصادية أخرى منها:

  • الرضوخ لشروط المؤسسات الداعمة. ومزيد الارتهان للكماشة الاقتصادية والمالية للنظام الدولي المرتهن أصلا للوبيات الكيان المحتل.
  • عدم صرف القروض والمساعدات المالية المشروطة بالتطبيع في مجالات الاستثمار والإعمار والتنمية والبحث العلمي والتطور التكنولوجي وتقوية الاقتصاد وإنما تصرف لتغطية كتلة الأجور المرتفعة والنسبة الكبيرة تذهب إلى خلاص الديون الخارجية، فيصبح الوضع الاقتصادي المتردي والأزمة المالية تدور في دائرة مفرغة لا خروج منها.
  • التورط في مزيد من الديون الخارجية بسبب القروض المشروطة بالتطبيع بحيث تضع الشعوب تحت التهديد بالإفلاس. وهو إضعاف للقرار السياسي وسلب الاستقلال الوطني وتركيع الإرادة الوطنية لأجندات الكيانات الغاصبة ومن ثمة تصبح الشعوب تحت سيطرة الإملاءات السياسية الأجنبية.

رابعا :التطبيع يخدم  مصلحة اقتصاد كيان الاحتلال

 يشكل التطبيع الاقتصادي فرصة كبيرة للكيان المحتل حيث يوفر له مناسبة لفتح سوق جديدة لصالح بضائعه وسلعه، فوفقا لبيانات دائرة الإحصاء المركزية للكيان، قُدّر إجمالي الصادرات الإسرائيلية من السلع والخدمات إلى أسواق منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنحو 7 مليارات دولار أميركي سنويًا، من بينها أكثر من مليار دولار أميركي لدول الخليج العربية. وتمثل أسواق منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نحو 7 في المائة من إجمالي الصادرات،[2]

ومن الأمثلة الفعلية على استفادة الكيان المحتل من السوق العربية، إعلان شركة الكهرباء الوطنية الأردنية وشركة «نوبل إنيرجي» الأميركية Noble Energyفي سبتمبر 2016، عن توقيع اتفاقية لاستيراد الغاز الطبيعي المسال من إسرائيل بقيمة 10 مليارات دولار أميركي، وإعلان شركة دولفينوس القابضة المحدودة للغاز المصرية عن طريق شركة «نوبل إنيرجي» في فبراير 2018 عن توقيع اتفاقية مع مجموعة «ديليك للحفر» التابعة للكيان المحتل بقيمة 15 مليار دولار أميركي، تقوم بموجبها الثانية بتزويد مصر بالغاز الطبيعي. وكما أعلنت مصر في شهر جانفي 2019، عن تأسيس «منتدى غاز شرق المتوسط» (EMGF)، الذي يضم سبع دول من بينها الكيان المحتل، بغرض إنشاء سوق إقليمية للغاز لتأمين العرض والطلب للدول الأعضاء.[3]

وفي معرض حديثه عن فوائد التطبيع مع السودان تحديدا، قال نتانياهو رئيس حكومة سلطة الاحتلال متحدثا عن تحقيق انتصارات اقتصادية لفائدة الكيان: «إن التقارب مع الخرطوم، سيفتح منافع للإسرائيليين، الذين يعبرون المحيط الأطلسي، ف”نحن الآن نطير غربا، فوق السودان، وفوق تشاد، التي أقمنا معها أيضا علاقات، إلى البرازيل وأمريكا الجنوبية”.[4]  وأضاف إن “اتفاقيات التطبيع الثلاث مع الدول العربية أنهت العزلة الجغرافية لإسرائيل بتوفير رحلات جوية عبر أجواء السعودية والبحرين والإمارات أقصر إلى الهند ووجهات آسيوية أخرى وأرخص ثمنا”. إن إسرائيل كسرت عزلتها وباتت قادرة على الوصول لأي مكان في العالم في وقت أقل وبكلفة أيسر. ستوفر على الركاب المتجهين ساعات وبالطبع الكثير من المال”.[5]

  1. التطبيع بين تأمين الأنظمة والرشوة السياسية

الادعاء بان التطبيع يحقق الأمن للدول المطبعة إدعاء سخيف وباطل، وما بني على باطل فهو باطل لأن دولة الاحتلال هي دولة مغتصبة للحقوق ولا معنى لإقامة علاقات مع كيان لا حقيقة له في ضمير الأمة الإسلامية وفي شرائع الحقوق الدولية كما ان هذا الكيان بني على أنقاض أمن الشعب الفلسطيني وأرضه فكيف يؤتمن من لا أمان له ومن جهة أخرى فإن فاقد الشيء لا يعطيه فالكيان المحتل لا يملك تأمين نفسه، فكيف يؤمن غيره، هل في وارد الواقع ان يدافع الكيان المحتل عن البلدان المطبعة ضد أي اعتداء خارجي؟ لهذه الأسباب الادعاء بتوفير الأمن والسلام مع الكيان المحتل باطل وهو كذلك أيضا للأسباب التالية:

أولا:التطبيع لا يساهم في تحقيق الأمن والسلام للشعب الفلسطيني

من المهم الانتباه أولا ان التطبيع الحاصل لا يحمل أي تنازلات إسرائيلية لصالح الموقف الفلسطيني وإنما كانت كل نتائجه في المحصلة على حساب القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين،إذ أعطت غطاء عربيا يضفي الشرعية على الاحتلال والقبول به كمعطى واقعي وقانوني بالإمضاء على اتفاقيات التعاون، ثانيا لا توجد دولة مجاورة للكيان المحتل  ولها حدود معه من الدول الأربع التي أعلنت قيام علاقات معه وهي إذن لم تكن في حالة حرب معه حتى يتم الادعاء بتحقيق السلام والأمن ،ثالثا لم نر في مقابل التطبيع  من جانب الكيان المحتل لا وقفا للاستيطان ولا وقفا للعدوان على الأراضي المحتلة ولا حتى وعدا لوقف إعلان ضمه للضفة الغربية. وقد لخص رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو كل ذلك، في تصريحات تلت الإعلان عن التطبيع مع السودان بقوله، إن اتفاقات السلام مع دولة الإمارات والبحرين والسودان حتى الآن، جيدة “للأمن والقلب والجيب” حسب تعبيره، مضيفا أن مزيدا من الدول العربية ستلتحق بركب التطبيع.[6] إن السلام المزعوم هو سلام وأمن الكيان المحتل، وذلك بوقف المطالب الشرعية للشعب الفلسطيني ووقف كل أوجه المقاومة والدفاع عن الأراضي المحتلة. لقد وقعت مصر سنة 1979والاردن سنة 1994 معاهدات السلام مع دولة الاحتلال، دون مقايضة السلام بحل القضية الفلسطينية، محور الصراع مع الكيان المحتل، ووقّعت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993اتفاق أوسلو مع الاحتلال، دون إنهاء الاحتلال أو حتى تطبيق حل الدولتين، بل زادت في حدة ممارساتها الاحتلالية وسياستها الاستيطانية.

يؤكد ذلك ما جاء على لسان رئيس الوزراء الأردني الأسبق طاهر المصري، إن ما جرى مؤخراً من اتفاقيات مع إسرائيل من قبل بعض الأنظمة العربية على “مبدأ السلام مقابل السلام” جاء على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، لما تمثله هذه الاتفاقيات من دعم للسياسات الإسرائيلية التي تواصل عدوانها على الحقوق الفلسطينية وتتمسك بقانون يهودية الدولة، الذي يشكل حجر الأساس لخطة تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه.[7]

ثانيا: التطبيع تامين الانظمة الاستبدادية

من الضروري بداية التمييز بين أمن النظام السياسي القائم وأمن الشعب. وعلى فرض الاتفاق مع منظري التطبيع أن الأمن هو أحد مكاسب التطبيع فإن هذا التطبيع يأتي فقط لصالح أمن الأنظمة، وهو قد يحمي النظام ويؤمنه لكن ذلك لن يكون إلا على حساب أمن الشعوب وحريتها. وهنا يصبح التطبيع رشوة سياسية لتأمين وجود الأنظمة المطبعة فيكون حينئذ الأمن مقابل الصمت. والأمن مقابل قمع المعارضة وإسكاتها. ومنع تمدد الانتفاضات المؤيدة للقضية الفلسطينية، ويتحول التطبيع إلى شكل من أشكال الاستكانة والترويض والتحنيط. ويرتد الأمن المرافق للتطبيع إلى تأمين عائلات الأنظمة واللوبيات الفاسدة في الحكم والقوى المتنفذة سياسيا واقتصاديا في البدان المطبعة. ويصبح التطبيع سلاحا في يد الكيان المحتل لاستدامة الاستبداد واستدراج الأنظمة للتبعية والخضوع. وقمع الشعوب وتخذيلها عن أداء واجبها إزاء القضية المركزية للأمة. والقطع مع تطلع الشعوب إلى الديمقراطية، إذ إن حرية الشعوب واسترجاعها لإرادتها عبر صناديق الاقتراع والحريات والمشاركة في القرار السياسي يسحب البساط من المطبعين والأنظمة الراعية لذلك، لأن الديمقراطية في الوطن العربي والإسلامي لا توفر مناخ التطبيع ولا تخدم مصالح الاحتلال لأنها لسان حال الشعوب المتطلعة إلى المقاومة والتحرير. ولكن من المفارقات العجيبة أنه لا يمكن التسليم حتى بتامين التطبيع للأنظمة المستبدة لان من آثاره عزل الحكومات العربية عن شعوبها وإضعاف قوتها الناعمة وشرعيتها في المنطقة،وهذا مؤذنٌ بالثورات والانتفاضات التي تهدد الأنظمة المستبدة والمطبعة، وعلة ذلك أن القضية الفلسطينية والقدس مستقرة في وجدان الشعوب العربية ولا يمكن المساس بها مما يضر بالاستقرار الداخلي للدول العربية لمصادمة أنظمتها بتطبيعها لموقف شعوبها من الكيان الغاصب.

ثالثا: التطبيع طريق نحو الاختراق الأمني

تتيح اتفاقيات التطبيع لكيان الاحتلال الولوج والتسلل إلى قلب الساحة العربية، أنظمة وحكومات  ومجتمعات، وتشتيت الموقف العربي الموحد وبث بذور الفتنة والانقسام بداخلها، وهو ما أشار إليه مدير مركز دراسات الشرق الأوسط، بيان العمري، “إلى أن منطلقات إسرائيل في بناء علاقاتها مع أي دولة عربية تكمن في زيادة النفوذ الإسرائيلي واختراق العالم العربي ومحاصرته وفق نظرية بن غوريون منذ خمسينيات القرن الماضي، مؤكداً أن تجربة أربعين عاماً من مسار التسوية والمعاهدات بين دول عربية وإسرائيل لم تحقق السلام والاستقرار في المنطقة ولم تحقق مصالح الشعب الفلسطيني”.[8]

ومن أمثلة الاختراق الأمني تجربة التعاون الأمني بين السعودية والكيان المحتل فلقد”اتهم القائمون على تطبيق التراسل الفوري »واتساب« WhatsApp مجموعة »إن إس أو« NSO الإسرائيلية باستعمال تكنولوجيا بيغاسوس للتجسس Pegasus اختراق التطبيق، بغرض مراقبة صحافيين وناشطين سياسيين .وفي نفس السياق  ،اشترت الإمارات في اوت 2018من المجموعة نفسها تكنولوجيا متطورة لقرصنة الهواتف النقالة بغرض التجسس على معارضيها وخصومها، وبيعها للسعودية[9]،و بهذه المناسبة عبرت منظمة العفو الدولية:” إنه على إسرائيل أن تلغي منح ترخيص التصدير للمجموعة التي استعملت  منتجاتها في هجمات خبيثة على ناشطي حقوق الإنسان في المغرب والسعودية والمكسيك والإمارات”.[10]

وفي حادثة سابقة سنة 2012 وبعد ان اخترق متسللون أجهزة كومبيوتر. تابعة للشركة باستعمال فيروس يدعى» شمعون «، الأمر الذي أدى إلى تعطيل إنتاج النفط السعودي ً استعانت الرياض في إطار التعاون الاستخباراتي والأمني الإسرائيلي مع السعودية بمجموعة من الشركات العالمية في الامن السيبيرنيائي، من بينها شركة إسرائيلية لحماية أمن المعلومات لوقف الهجوم الذي تعرضت له شركة» أرامكو السعودية.[11]

وبجانب ما تحدث عنه نتانياهو من مزايا اقتصادية للكيان، “تبدو الفوائد الأمنية والإستراتيجية التي ستحصل عليها إسرائيل متعددة جدا، فعبر إقامتها علاقات أمنية ودبلوماسية مع السودان، ستطلع الحكومة الإسرائيلية على نشاطات تعتبرها إرهابية أو معادية لها، في مناطق متاخمة للسودان، مثل تشاد ومالي والنيجر، كما أن إسرائيل تنظر للفائدة الأكبر من الناحية الإستراتيجية، وهي إبعاد السودان تماما عن الحلف الإيراني.[12]

بهذه الوقائع وغيرها يثبت بما لا مجال للشك فيه أن التطبيع يخدم مصالح العدو، سواء من الجانب لأمني من خلال التنسيق الأمني على حساب الشعوب والمخلصين من الوطنيين او من الجانب التجاري بسبب تزايد اهتمام بعض دول الخليج العربية بشراء التكنولوجيا الاستخباراتية المصنوعة في إسرائيل، وتدلل أحداث التجسس على معارضين سياسيينأن حقيقة التطبيع هي تأمين لأنظمة على حساب الحريات والقضايا المركزية للأمة ومنها القضية الفلسطينية.

رابعا:التطبيع الأمني على حساب العمق الاستراتيجي الفلسطيني

إن من مخاطر التطبيع على القضية الفلسطينية ضربها في عمقها الاستراتيجي المتمثل في العمق الإسلامي باعتبار القدس هي آية من آيات الإسلام الحنيف فهي أول القبلتين وثالث المسجد الشريف، ويرغب التطبيع في عزل القضية الفلسطينية عن محيطها الإسلامي العالمي بخلق عداوات مصطنعة مع قوى إقليمية مناهضة للكيان،وصناعة أخطار وتهديدات من قبيل أن الخطر الإيراني هو الخطر الأكبر على الوطن العربي. أو خطر المشروع التركي ووصمه بالمشروع العثماني الإحتلالي، والمقصود بذلك دفع المطبعين إلى الاقتراب من الكيان المحتل، وإقناع النخب العربية بضرورة العمل المشترك والتنسيق الأمني والعسكري لمجابهة الخطر الداهم، والإيعاز بوجود تهديدات إستراتيجية مشتركة بين العرب وإسرائيل ووجود وحدة في المصالح تحتم العمل على مجابهة العدو المشترك. وبقطع النظر عن الموقف من المشروع الإيراني والصراع الشيعي السني في المنطقة العربية وعن تدخل إيران في شؤون داخلية لعدة دول عربية كسوريا والعراق و لبنان وغيرها…، فإن وقائع الأمور على الميدان تبرز الدعم الإيراني للمقاومة الفلسطينية ودون الخوض في النوايا السياسية، فإن العبرة في السياسة بالنتائج، كما أن التصدي لأي مشروع توسعي على حساب المصالح العربية ينبغي ان يكون عربيا خالصا، ولا يجر الوعي العربي إلى تناسى صورة الكيان المحتل والغاصب للأراضي العربية أو تناسي اعتداءاته على دول عربية   مصر والعراق والأردن ولبنان وليبيا والسودان وسوريا وتونس. وحروبها على قطاع غزة التي أصبحت موسمية. إن الزعم بوجود عدو خارجي يراد من خلاله  الإيحاء أن الكيان المحتل أصبح جزء متجذرا في منطقة الشرق الأوسط ولم يعد جسما غريبا بله يحمل همومها. وهو حينئذ لقي الاعتراف والقبول ولم يعد مصدر خطر أو تهديد بل أحد أفراد العائلة الغيورين على محارمها.

خاتمة

توجد رغبة من المحتل لصناعة مناخ سليم مغشوش وإيحاء بتعايش في المنطقة مما يخول للكيان بالاستقرار والاستمرار. والزعم بانتهاء التهديد وهو ما قد ينطلي على العقول الصغيرة والنفوس الضعيفة والقلوب الجبانة. لكن ليس كل مل يتمناه الاحتلال يدركه، إذ تأبى القضية الفلسطينية والقدس الشريف إلا أن تعيش وتخلد في قلوب أفراد الأمة الإسلامية حيث يشير استبيان إلى أن أكثر من 84% من العرب يرفضون الاعتراف بإسرائيل أو إقامة علاقات دبلوماسية معها[13]


[1] سورة    المائدة، الآية 32

[2]https://www.al-watan.com/news-details/id/235519، جريدة الوطن ، التطبيع مع إسرائيل، مقال صدر بتاريخ 29 جوان 2020.

[3]https://www.al-watan.com/news-details/id/235519، جريدة الوطن ، التطبيع مع إسرائيل، مقال صدر بتاريخ 29 جوان 2020.

[4]https://www.bbc.com/arabic/middleeast-54678832 موقع ال ب ب س 25 أكتوبر 2020.

[5]  نفس المصدر

[6]https://www.bbc.com/arabic/middleeast-54678832 موقع ال بب س 25 أكتوبر 2020.

[7]https://www.alaraby.co.uk/politics/%    موقع العربي الجديد ، 13 أكتوبر 2020.

[8] بيان العمري، مركز دراسات الشرق الأوسط، الصفحة الرسمية، 14 أكتوبر 2020.

[9]تقدير موقف بعنوان ” التطبيع العربي مع إسرائيل: مظاهره، ودوافعه «صادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، موقع الشرق، 26 جوان 2020.

[10]https://www.amnesty.org/ar/latest/news/2020/01/israel-nso-spyware-revoke-export-license/ صحفة منظمة العفو الدولي ، بتاريخ 14 جانفي 2020.

[11]تقدير موقف بعنوان ” التطبيع العربي مع إسرائيل: مظاهره، ودوافعه «صادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، موقع الشرق، 26 جوان 2020.

[12]https://www.bbc.com/arabic/middleeast-54678832 موقع ال ب ب س 25 أكتوبر 2020.

[13]مؤشر الرأي العربي الذي أجراه المركز العربي للأبحاث والدراسات.