خاص هيئة علماء فلسطين

         

مخلص برزق

25/10/2023

منذ اجتياح طوفان الأقصى حدود غزة الزائلة تجاه أرضنا المحتلة ونجاح أبطال القسّـام بالتنكيل بالعدو وإيقاع هزيمة تاريخية قاسية بجيشه وتحويل منحنى الصراع تجاه تسريع الخط الزمني لزوال الكيان الغاصب، والصدمة هي القاسم المشترك بين قادة دول العالم سواء كانوا حلفاء للكيان الغاصب أو الذين يتعاطفون مع الشعب الفلسطيني لانتزاع حقه من المحتلين.

ولأنّ حجم الإنجاز الذي حققته كتائـب القسـام فاق كل التوقعات إلى الحد الذي أوصل تسريبات عن المشاركين بذلك الطوفان أنَّ ما حدث فاق الخطة المرسومة بأضعاف أضعاف ما خطط لها. فقد جاءت ردة فعل الكثير من الدول المؤيدة للمقاومة التزام الصمت وترقب ردّة فعل حكومة نتنياهو والولايات المتحدة حيال ذلك الزلزال المدمر الذي أصاب الكيان الصهيوني في مقتل. وقد كانت تركيا من بين تلك الدول، والتي تميز زعيمها رجب أردوغان بمواقف متقدمة على غيره في مناصرة القضية الفلسطينية، برز منها موقفه من المجازر التي ارتكبت بحق الفلسطينيين إبان حرب الفرقان عام 2009 وتوبيخه لشمعون بيريز علانية في مؤتمر المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد في منتجع دافوس السويسري ثم انسحابه من جلسات المؤتمر احتجاجا على إدارة الندوة لعدم إعطائه وقتاً كافياً.

الرئيس التركي بالكاد استطاع النجاح في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بعد تحالف الأحزاب المعارضة الكبيرة ضده تحت ما أطلق عليه اسم تحالف الأمّة أو تحالف “الطاولة السداسية” كما أصبح يعرف في الإعلام التركي، والذي اعتبر أول تحالف في تاريخ الجمهورية التركية يضمّ مثل هذا الطيف الواسع من المكونات السياسية، خاصة مع تزامن الانتخابات مع كارثة الزلازل المدمرة جنوب تركيا والتردي الشديد في سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار الأميركي وارتفاع نسبة التضخم.

كل ذلك تسبب في تغير ملحوظ في سياسات أردوغان الخارجية تجاه دول وأنظمة كان يشاطرها العداء أو المناكفة السياسية وعلى رأسها الكيان الصهيوني ونظام رئيس الانقلاب العسكري في مصر عبد الفتاح السيسي والإمارات المتحدة وغيرها ثم هو عمل على بناء جسور من العلاقات الدافئة معها بغية الخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تجثم على صدر الشعب التركي.

اشتعل فتيل الحرب الضروس ضد غزة فيما هو يصارع تداعيات حملة الكراهية والعنصرية ضد السوريين خصوصاً والعرب عموماً والتي أثارتها وهيجتها فئات معارضة تنفذ أجندات خارجية بأهداف خبيثة ترمي إلى ضعضعة مكانة أردوغان وحكومة العدالة والتنمية وصولاً إلى تحقيق خسارة مدوية له في الانتخابات البلدية المرتقبة. مع ما تسبّبته حملة الكراهية تلك من التأثير السلبي على الموسم السياحي وتوتير العلاقات التركية الخليجية.

مع ارتفاع فاتورة الدماء والأشلاء في صفوف أطفال غزة ونسائها وشيوخها وشبابها والتي بلغت أرقاماً قياسية راحوا ضحية إحدى أبشع جرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية في العصر الحالي والتي يمكن اعتبارها “هولوكوست” بشع  بحق المدنيين ضمن حصار مطبق لامثيل له، كل ذلك تحت غطاء دولي وتواطؤ كامل مع المحتلين لإبادة غزة بمن فيها، وصل إلى الحد الذي جلبت فيه الولايات المتحدة حاملات الطائرات فورد ثم آيزنهاور معاً تهديداً لكلّ من تسول له نفسه ردع المحتل الصهيوني عن ارتكاب جرائمه أو من يفكر بالدفاع عن غزة وهي تحترق وتدمر على ساكنيها بذخيرة الدمار الشامل الأميركية المتطورة.

في تلك الأجواء المصيرية من تاريخ أمَّتنا صدرت تصريحات خجولة من الرئيس التركي أشبهت كثيراً تلك التي اعتاد الفلسطينيون سماعها من الزعماء العرب والتي لا تقدم ولا تؤخر شيئاً من حجم المذبحة الجاري تنفيذها باستعجال وتشفٍّ وحقد لا مثيل له. تصريحاتٍ باردة لا تقلل شيئاً من حجم المعاناة الكبيرة التي تعصف بشدة بسكان القطاع المحروم من الماء والغذاء والكهرباء والوقود وحتى الدواء.

وكان أقصى ما قام به الرئيس التركي هو الإعلان عن تنكيس أعلام الدولة حداداً على شهداء غزة إضافة إلى مناشدات بالسماح للمساعدات الإنسانية التي أرسلتها تركيا إلى مطار العريش كي يتم إدخالها للقطاع دون جدوى.

ومع ارتكاب قوات الاحتلال المجزرة تلو المجزرة بدم بارد ودون أن يرمش لهم جفن، وتحت سمع وبصر دول العالم أجمع، بل وبالتزامن مع الزيارة التضامنية للرئيس الأميركي بايدن ثم رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، فقد أحدثت تلك المجازر وعلى وجه الخصوص مجزرة المستشفى الأهلي المعمداني التي زادت أعداد شهدائها على الخمسمائة موجة غضب اجتاحت شعوب العالم وحركت الكثير منها لتبدي تعاطفها مع ضحايا الهولوكوست في غزة، وكان من بينها الشعب التركي الذي عبَّر بشكل واضح عن انحيازه التام للسَّردية الفلسطينية ورفض الرواية الكاذبة التي بثها ساسة الكيان الصهيوني وتبنتها الولايات المتحدة وأكثر دول العالم.

بدا أنَّ أردوغان خارج نطاق التغطية، إذ وبعد مرور أسبوعين على انفجار شلالات الدماء بغزارة في أنحاء غزة وصدور استغاثة بتركيا خاصة دون دول العالم، وبأردوغان دون زعماء العالم، غير أنّه لم يصدر أيّ حراكٍ ملموسٍ من ذلك البلد الذي أحدث تدخله المباشر وغير المباشر فارقاً لصالح دول استنجدت به كأذربيجان وليبيا وقطر وحتى أوكرانيا.

وفي خضم الانتقادات الحادة وخيبة الأمل التي تلقاها الرئيس التركي من جهات معتبرة داخلية وخارجية، صدرت تلك التصريحات اللافتة للنظر لحليفه الأول دولت بهتشلي زعيم الحزب القومي التركي (م. هـ. ب) والتي أعلن فيها أنَّ على تركيا أن تمنح دولة الاحتلال مهلة 24 ساعة لوقف لإطلاق النار في غزة. وأنّه: “إذا استمرت “إسرائيل” بقصف المدنيين ولم تتراجع، فإنَّ تركيا تملك القدرة لجعل غزة مدينة يعيش فيها الأطفال بسلام وبأنّه وبكل صراحة يجب أن تتدخل الدولة التركية لمنع هذه الهجمات وأنّ أمامنا مسؤولية تاريخية عظيمة جداً”.

تلك التصريحات لاقت قبولاً من أحزاب تركية عديدة حيث سارع رئيس حزب “الرفاه من جديد” فاتح أربكان المتحالف مع أردوغان إلى تأييده وشكره على ذلك الموقف، وكذلك فعل رئيس حزب السعادة المعارض تمل قرة مولا أوغلو. وقد ذكرت الأنباء بأن أردوغان ووزير خارجيته هاكان فيدان سارعاْ إلى الاجتماع ببهتشلي عقب تلك التصريحات مباشرة.

وفي نظرة فاحصة لبعض الأدوار التي قام بها بهتشلي سابقاً ومنها دعواته للانتخابات المبكرة وإعلانه عن بعض المواقف السياسية الحادة تجاه بعض القضايا الداخلية وأحياناً الإقليمية ثم موافقة أردوغان له ونزوله عند مطالبه، بما كان يوحي بوجود ترتيب مسبق بينهما على الخروج بتلك المواقف والتصريحات. فقد يكون ما جرى مؤخراً أحد تلك التوافقات بينهما لإخراج الرئيس التركي من دائرة العجز التي بدا أنها قد تستنزف شعبيته على المستوى الداخلي خاصة مع اتفاق كافة الأحزاب التركية على مناصرة الحق الفلسطيني في مواجهة الإجرام الصهيوني، وتصاعد الغضب الشعبي هناك إزاء ما يجري في غزة.

تصريحات بهتشلي يمكن أن تمدّ لأردوغان طوق النجاة للإعلان عن مواقف مخالفة لتلك التي صدرت عنه سابقاً يخطو فيها بتركيا خطواتٍ عملية جادة تسهم في رفع المعاناة ووقف جرائم الحرب التي تجري على مدار الساعة، والوقوف بموقف مشرف ضد دول الغرب المؤيدة لجريمة إبادة غزة وأهلها. وبغض النظر عن مدى تساوق أردوغان مع تصريحات حليفه المقرب، وإن كان من غير المتوقع أن يؤدي ذلك إلى رفع سقف السياسة التركية إلى الذي طالب به بهتشلي، غير أنّ ذلك سيفضي بها إلى مغادرة مربع السّكون والشّلل الذي أصابها طوال أسبوعين من بدء طوفان الأقصى.

قد نشهد حراكاً سياسياً تتبنى فيه الأحزاب التركية رؤية متقدمة تبنيها على تصريحات بهتشلي وتأخذ ضوءاً أخضر من البرلمان التركي لاستدراك ما فات من وقت ثمين جداً في عمر شعبنا المجني عليه تجاوز فيه عدد الشهداء والمفقودين الخمسة آلاف ونصف. قد نشهد سعياً جادّا لإيقاف الهولوكوست والتّطهير العرقي والإبادة الجماعية لأهلنا في غزة الصامدة.

وما لم يحدث ذلك فإنَّ أزمة الرئيس أردوغان وحكومة العدالة والتنمية ستتفاقم، وشعبيته ستضمحل وتنهار على الصعيد المحلي والعربي والإسلامي بعد أن يكون قد سقط في اختبار غزة والقدس والأقصى والأرض المباركة الخافضة الرافعة.