خاص هيئة علماء فلسطين

         

8/2/2024

بعض الرجال في زماننا تشعر أن مهمتهم في الحياة أن يقيم الله بهم الحجة على عباده، وجدوا ليكونوا قدوة للناس وحجة عليهم، يمثلون نماذج واقعية لما قرأناه من سير أسلافنا العظام، ترى فيهم الصحابة في تسليمهم وانقيادهم، والتابعين في زهدهم وعلمهم، وتتمثل فيهم القادة الفاتحين في طموحهم وهمتهم. كثير من هؤلاء نزهد بهم في حياتهم ثم نستشعر المصيبة عند فقدهم، ونلمس الفراغ الذي أحدثوه بعد غيابهم. ودعنا قبل أيام واحدا من هؤلاء العظماء؛ الشيخ الجليل والمجاهد النبيل والصابر المحتسب القائد عمر دغلس رحمه الله.

عمر دغلس شاب فلسطيني من بلدة عصيرة الشمالية قرب نابلس شمال الضفة الغربية، نشأ في بيئة مشبعة بالانتماء لدينه وأرضه وقضيته، ترعرع في بساتين قريته وكهوف جبل النار، كان يقف على قمة عيبال -أعلى نقطة في جبال نابلس- وينظر إلى الأفق البعيد متفكرا طامحا. وقد ظهرت كفاءته في سن مبكرة إذ كان من النواة الأولى المؤسسة لكتائب القسام في الضفة الغربية مع أنه ما يزال في الثانوية. وفي حين يعيش كثير من الشباب في هذه المرحلة العمرية مراهقة طائشة وينشغل باهتمامات بسيطة أو تافهة، كان عمر يعد العدة منشغلا ببناء شخصيته متحضرا لمقاومة عدوه مهتما لقضايا أمته.

شخصية عمر القوية وقلبه النقي دفعاه للانخراط في مقاومة الاحتلال مبكرا، فألقت قوات الاحتلال القبض عليه وهو طالب في السنة الرابعة في كلية الاقتصاد بجامعة النجاح الوطنية. وفي عام 1992 أبعد الاحتلال 415 من كوادر الحركة الإسلامية خارج فلسطين، ألقى بهم على الحدود اللبنانية فتنازعتهم الحرية من الأسر وأشواق العودة، فعسكروا عند قرية مرج الزهور التي غدت فيما بعد معلما تاريخيا، وتجربة ساهمت في صقل المئات من القادة والعلماء في تلك الظروف القاسية.

كان البطل عمر واحدا من مبعدي مرج الزهور، تلك التجربة التي تستحق الدراسة الطويلة؛ فأولئك الأبطال حينها لم يركنوا لإبعادهم وظروفهم، فحولوا القفر إلى حديقة غناء، وهذا شأن صاحب الرسالة يحمل قضيته في صدره حيث حل ولا يعدم طريقا لإحيائها ولا أسلوبا للبناء والعطاء. نظموا أنفسهم وعينوا ناطقا باسمهم وأسسوا جامعة وعقدوا الندوات وألفوا الكتب وقاموا بالمسيرات واستجلبوا وسائل الإعلام والمحطات العالمية لرصد هذه الظاهرة التي بدأت تتحول لعبء كبير على الاحتلال خلال عام واحد فقط، فقرر إنهاء هذا الكابوس!

خاض المبعد العائد عمر -كما يسمي نفسه- حينها تلك التجربة فتركت مرج الزهور في ملامح شخصيته ما تركت من صلابة أرضها وانبساط جغرافيتها ووفرة خيراتها، وكانت حافزا ومنطلقا لبدء رحلة جديدة خارج الوطن، لينتهي به المطاف في سوريا صحبة عدد من الكرام من رفقاء دربه وإبعاده.

أذكر أول مرة التقيتها بأبي جعفر أواخر التسعينات؛ تعرفت على رجل ذي هيبة، طويل القامة، قوي البنية، مفتول العضلات، بقيت أثر قبضته في كفي لدقائق كأنما صافحت لتوي جبلا. تكررت اللقاءات في مناسبات مختلفة واشتد إعجابي وصحبي به، وكنا شبابا تعجبهم الشخصية القوية، وتجذبهم أحاديث المقاومة وبطولات المجاهدين. وكم فرحنا يوم شاركنا في حفلة زواجه من ابنة رفيق دربه وإبعاده الشيخ البصير حسين العواودة أبو بكر رحمه الله. ولما رزقه الله أول أبنائه وكان ينوي تسميته جعفرا، حثته عمته والدة صديق دربه المطارد رقم واحد في الضفة الغربية محمود أبو هنود رحمه الله على تسمية ولده الجديد محمودا فاستجاب؛ فصار أبا محمود.

كنا نجتهد لزيارته بين الحين والآخر لنستمع إلى رؤاه ومشاريعه وأفكاره العملية، لكنه كان كثير الغياب نظرا لطبيعة مهامه في التأهيل العسكري والأمني، والتي تقتضي أن يبقى بعيدا عن الأضواء، وكم من أبطال أمتنا جهلهم الناس لبعدهم عن العدسات، لكن الله بهم عليم! ومع الشهداء محمود أبو هنود إلى عز الدين الشيخ خليل إلى محمود المبحوح رفاق دربه وزملاء اختصاصه، استمر عمر دغلس في متابعة أعماله بعزم وإخلاص، وكفاءة وإتقان.

في عام 2008 تعرض لإصابة بليغة في عموده الفقري أصابته بالشلل التام. بعض الابتلاءات يصعب أن يتخيل الإنسان نتائجها، لم أكن أتخيل كيف سأرى ذلك الجبل الأشم المتفائل العنيد مقعدا فاقد القوى. كنا قبيل زيارته الأولى بعد الإصابة نجهز عبارات المواساة والتصبير، لكننا تفاجأنا بأننا أحوج لذلك منه إليه، وأنه هو هو بعزيمته وحركيته. لقد صار وكأنه الشيخ أحمد ياسين الثاني فعلا غير أنه لا يستطيع حتى استعمال الكرسي المتحرك، ولأول مرة أعلم أن الرجولة ليست مجرد جسد قوي وطول فارع، بل إيمان عميق وصبر جميل وتسليم مطلق.

لا شك أنه قد غير من أسلوب نشاطه وطبيعة مهامه بما يتناسب مع وضعه الجديد، لكنه لم يغير أبدا من عطائه واندفاعه، فكان حجة في همته ودأبه على الأصحاء. كثيرا ما يتحجج المقصرون بالأعذار والظروف، ربما يسعدهم أقل عائق ليكون ذريعتهم لتبرير خمولهم وكسلهم، لكنه لم يكن مثلهم، فما تقاعد عن العمل، ولا تراجع عن تقدم الصفوف، رغم أنه سيكون معذورا أمام الله وأمام الخلق، ولكنه أبى إلا أن يكون حجة الله علينا. تخيل أن تكون في زيارته فيحين موعد العلاج الفيزيائي، فترى المعالج يفعل بجسده وأطرافه ما يشاء، وهو مسترسل مع ضيوفه في حديثه الدقيق بكامل تركيزه مع بسمة رقيقة وفكاهة لطيفة! وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام.

اندلعت الثورة السورية فكان أبو جابر داعما ومساندا، كان كذلك حتى آخر حياته، مؤيدا لمشروعيتها، رافضا لكل خيار سياسي يتنكب للشعب السوري وقضيته. لم يلبث حتى اضطر للانتقال إلى لبنان، فانقطع التواصل سنينا، ثم يشاء الله أن نلتقيه مجددا أواخر 2018 في إسطنبول. ولم تزده كل تلك الأيام إلا بهاء ووضاءة، رأيناه وقد كساه الله هيبة وجمالا، استقبلنا بوجهه المنير ولحيته البيضاء. في مجلسه سكينة وراحة، كلما سألناه عن حاله اكتفى بالحمد والشكر ثم بادر لحديثه؛ لا شكوى ولا فضفضة بل إيمان وتسليم، وبدل الحديث عن آلامه يتحدث عن آلام الأمة وقضاياها، ويستعرض تاريخها وتجاربها، ويعرج على تجارب الجماعات الإسلامية، مستخلصا الدروس والعبر ثم يطرح الحلول والمبادرات، فتراه متحدثا بعظام القضايا ومبشرا بمشروع الأمة، لقد كانت آماله عريضة ونظرته بعيدة.

وبقدر ما أحدثت 7 أكتوبر في نفسه من الأمل الكبير والنصر المرتقب، إلا أن آلام غزة كانت تأكل من صحته. ومع ارتقاء رفقاء دربه واحدا تلو الآخر كان يذبل حتى استحكمه المرض، ليمضي ملتحقا بقافلة المجد على درب الشهداء.

فطبت حيا وطبت ميتا يا أخي عمر، نم في سلام؛ فمن خلفك من سيتابع المسيرة ويتمم الخطى، والملتقى الجنة بإذن الله.

نقلاً عن الجزيرة نت:

https://www.aljazeera.net/blogs/2024/1/31/%D8%B9%D9%85%D8%B1-%D8%AF%D8%BA%D9%84%D8%B3-%D8%AD%D8%AC%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%86%D8%A7