خاص هيئة علماء فلسطين

         

26/10/2023

محمد خير موسى

للأسماء دلالاتها وارتباطاتها التي تضخ لنا من المعاني ما يكون نوراً يهدي في عتمة التيه والسؤال عن صوابية الطريق، وسلوى في المصاب، وتثبيتا عند زلزلة الأقدام، ودروساً للأجيال العابرة.

طوفان الأقصى؛ هذا الاسم يذكرنا بطوفان كان على وجه الحقيقة لا المجاز؛ خلّد القرآن الكريم ذكره ليكون عبرة وتذكيرا، والقرآن الكريم هو الهداية للتي هي أقوم في معركة دخول المسجد الأقصى المبارك، كما بيّنت ذلك سورة الإسراء بجلاء لا شك فيه، ومن التدبر في القرآن الكريم نعيش مقاربة بين الطوفانين؛ طوفان نوح عليه الصلاة والسلام وطوفان الأقصى.

“بِأَعْيُننا وَوَحْينا”

بعد ما لاقاه نوح عليه الصلاة والسلام من قومه من عَنَت وتكذيب؛ جاءه أمر الله تعالى أن يصنع السفينة، وجاء الأمر بصناعة الفلك في غاية الإعجاز البياني؛ إذ يقول ربنا تبارك وتعالى في سورة هود: {واصنع الفُلْك بِأعْيُننا وَوَحْينا} [سورة هود: 37].

فالله تعالى يأمر نوحا عليه الصلاة والسلام أن يبدأ بصناعة الفلك، ويطمئنه أن هذه الصناعة حين تأتي على وفق وحي الله تعالى تكون مُحكمة قوية، وأنها محفوفة برعاية الله محفوظة بحفظه، يقول الإمام محمد أبو زهرة في زهرة التفاسير: “واصنع الفلك بأعيننا، أي رقابتنا ورعايتنا وحمايتنا، وعبَّر سبحانه عن ذلك بقوله بأعيننا، وذُكرت العين لأنها أقوى إدراك الحسّ، وذُكرت بالجمع “بأعيننا” جمع عين؛ للدلالة على كمال الرعاية والحفظ والكلاءة، وقوله تعالى: “ووحينا” أي؛ بإرشاد منّا إلى مواضع الإحكام فيها ودفع أي خلل في بنائها”.

وهكذا هو حال من انخرطوا في الجهاد في سبيل الله تعالى في فلسطين عموما، وفي غزّة على وجه الخصوص؛ فإن صناعتهم وإعدادهم لسلاح المواجهة إنما جاء امتثالا لأمر الله تعالى ووحيه بجهاد المعتدين وردّ عدوانهم، والذود عن بيضة الدين وحرمة المقدسات، وفي هذه المباشرة بإعداد السلاح وتصنيعه تطمين لهم أن هذا الفعل ما دام جاء امتثالا للوحي فإنه بأعين الله تعالى، أي في رعايته وحفظه وكلاءته.

“إِنْ تَسخروا منَّا فَإِنَّا نسخر منكم”

عندما بدأ نوح عليه الصلاة والسلام بصناعة الفلك، أخذ قومه يسخرون من فعله ومن صناعته، وقد بيّن الله تعالى هذا المشهد في سورة هود بقوله: {ويصنع الفُلْك وكلَّما مرَّ عليه مَلَأٌ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منَّا فإِنَّا نسخر منكم كما تسخرون} [سورة هود: 38]، ولاحظ أنّ البيان الإلهي استخدم صيغة المضارع “يصنع الفلك” للدلالة على استمرار المشهد وامتداده إلى عصرنا الحاضر.

يقول سيد قطب في الظلال: “والتعبير بالمضارع؛ فعل الحاضر، هو الذي يعطي المشهد حيويته وجدتّه، فنحن نراه ماثلا لخيالنا من وراء هذا التعبير، يصنع الفلك، ونرى الجماعات من قومه المتكبرين يمرّون به فيسخرون؛ يسخرون من الرجل الذي كان يقول لهم إنه رسول، ويدعوهم ويجادلهم فيطيل جدالهم؛ ثم إذا هو ينقلب نجّارا يصنع مرْكِبا؛ إنهم يسخرون لأنهم لا يرون إلا ظاهر الأمر، ولا يعلمون ما وراءه من وحي وأمر، شأنهم دائما في إدراك الظواهر والعجز عن إدراك ما وراءها من حكمة وتقدير، فأمّا نوح فهو واثق عارف، وهو يخبرهم في اعتزاز وثقة وطمأنينة واستعلاء أنه يبادلهم سخرية بسخرية”.

وعندما بدأ المجاهدون في غزّة بصناعة أسلحتهم، لاسيما الصواريخ والقذائف، كان قومهم من أبناء جلدتهم ولغتهم من المنهزمين يسخرون منهم، فيصفون أسلحتهم التي يصنعونها أنها عبثيّة، أو محض مواسير أو ألعاب أطفال، وكان المجاهدون من فصائل المقاومة لا يعبؤون بهذه السخرية مواصلين عملهم بدأب وجهد، حتى إذا انطلق الطوفان كانت هذه الصواريخ تغطي خارطة فلسطين كلها من الجليل إلى صفد ويافا وحيفا وتل أبيب وعسقلان، وصولا إلى القدس وبئر السبع.

“بِسم اللَّه مَجْراها ومُرْساها”

عندما جاء الأجل الموعود، وجاءت إشارة انطلاق الطوفان، أمر الله نوحا عليه الصلاة والسلام أن يركب مع المؤمنين به في الفلك، وطمأنه أن هذه السفينة ستجري في الموج برعاية الله لا بقوّتها ولا بإحكامها، فهي تجري برعاية الله وترسو بعناية الله تعالى، كما بيّن في سورة هود: {حتَّى إِذا جاء أَمْرنا وَفَارَ التَّنُّور قلنا احمل فيها من كلٍّ زوجيْن اثنين وأهلك إلَّا من سبق عليه القول وَمَنْ آمَن وما آمَن معه إلَّا قليلٌ * وقال اركبوا فيها بسم اللَّه مَجْراها ومُرْساها إنَّ ربِّي لغفورٌ رحيمٌ} [سورة هود: 40- 41].

أمرهم نوح عليه الصلاة والسلام أن يركبوا، مبيِّنا لهم أنها تجري باسم الله وترسو باسم الله ما داموا ثابتين على شرع الله ونهجه؛ يقول الشعراوي في تفسيره: “يعلِّمنا أن جريانها إنما يتمّ بمشيئة الله تعالى وأنهم يركبون فيها، لا لمكانتهم الشخصية، ولكن لإيمانهم بالله تعالى”.

وهكذا هي المقاومة في غزّة، عندما انطلقت فإنها طلبت من أبنائها والمؤمنين بها أن يركبوا سفينتها موقنين أن مجراها باسم الله، وأن مرساها سيكون باسم الله أيضا.

“لا عاصم اليوم مِن أمْر اللَّه”

انطلق الطوفان، وركب نوح عليه الصلاة والسلام الفلك مع المؤمنين وهي تجري بهم في موج كالجبال آمنين مطمئنين، بينما كان يبحث المستنكفون عن الركوب معه عن أماكن تحميهم من الموج، وملاجئ تقيهم الغرق، وكان من بينهم ابنه، وظن أن الجبل سيعصمه من الماء، لكن البيان من نوح عليه الصلاة والسلام جاء جليّا واضحا أنّه لا عاصم من أمر الله كما في سورة هود: {وهي تجري بهم في موجٍ كالجبال ونادى نوحٌ ابنَه وكان في مَعْزلٍ يا بُنيَّ اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوي إلى جبلٍ يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أَمْر اللَّه إلَّا مَن رَحِم وحال بينهما الموج فكان من المُغرَقين} [سورة هود: 42 -43].

يقول أبو السعود في تفسيره: “قال سآوي إلى جبلٍ من الجبال يعصمني بارتفاعه من الماء زَعْمًا منه أنّ ذلك كسائر المياه في أزمنة السيول المعتادة التي ربَّما يُتَّقى منها بالصعود إلى الرُّبا، وأنّى له ذلك وقد بلغ السيل الزُّبى، وجهْلًا بأن ذلك إنما كان لإهلاك الكَفَرة، وأنْ لا محيص من ذلك سوى الالتجاء إلى ملجأ المؤمنين..” قال لا عاصم اليوم من أمْر اللَّه، أي: أحَدٌ من الناس، للمبالغة في نفْي كون الجبل عاصمًا بِالوجهين المذكوريْن، وزاد “اليوم” للتنبيه على أنه ليس كسائر الأيّام التي تقع فيها الوقائع، وتُلِمُّ فيها المُلِمّات المعتادة، التي ربما يُتخلَّص من ذلك بالالتجاء إلى بعض الأسباب العادية”.

فكان ذلك اليوم لا كالأيام، ولم يجد من رفضوا الركوب في سفينة الإيمان ما يعصمهم من الغرق المهين؛ وكذلك انطلق طوفان الأقصى يجرف غثاء الوهن، والوهم الذي عشّش في عقول بعض المسلمين بأن عدوهم لا يقهر، ويدوس فيه رجال الحق رؤوس الغزاة المتغطرسين، ويواجهون حقدهم بصدورهم المملوءة إيمانا راسخا وعقيدة ثابتة.

وينادي المجاهدون أبناء أمتهم أن يركبوا معهم في سفينة الجهاد في سبيل الله تعالى، موقنين أنها باسم الله مجراها ومرساها، ويستنكف الخائرون الجبناء، ويرفض المطبعون والمتواطئون ويظنون أن اتفاقيات التطبيع وأن قصورهم الفخمة وبروجهم المشيدة ستعصمهم من طوفان الحق، ولكن اليوم لا عاصم من أمر الله، لا عاصم من الغرق في الهوان وذلّة الدهر لمن استنكف أن يكون في سفينة الحق، التي تجري على طوفان الأقصى برعاية الله وحفظه.

“بُعدًا لِلقوم الظَّالمين”

يبلغ الطوفان مداه، وتبلع الأرض ماءها، وتكف السماء عن المطر بأمر الله تعالى، وتستوي سفينة نوح عليه الصلاة والسلام على الجوديّ، وقد نجا المؤمنون وغرق الكافرون الظالمون؛ قال تعالى في سورة هود: {وقيل يا أرض ابلعي ماءكِ ويا سماء أَقْلعي وغِيض الماء وقُضِي الأمر واستوت على الجُوديِّ وقيل بُعْدًا للقوم الظَّالمين} [سورة هود: 44].

يقول سيد قطب في الظلال: “وقيل بعدًا للقوم الظالمين، وهي جملة مختصرة حاسمة معبرة عن جوّها أعمق تعبير، “قيل” على صيغة المجهول فلا يُذكر من قال، من قبيل لفّ موضوعهم ومواراته، “وقيل بعدًا للقوم الظّالمين” بعدًا لهم من الحياة فقد ذهبوا، وبعدًا لهم من رحمة الله فقد لُعنوا، وبعدًا لهم من الذاكرة فقد انتهوا وما عادوا يستحقّون ذكرًا ولا ذكرى!”

وهكذا ستتوقّف القذائف والصواريخ، وستنتهي الغارات، وسترسو سفينة الحق على جوديّ النصر بإذن الله الناصر العزيز الحكيم؛ ويومها يحتفل المؤمنون بنصر الله لهم وللأمة جمعاء، ويقال: بعدًا للقوم الظالمين الذين سينتهون من الذّكر والذّكرى، ومن الواقع والأثر.

نقلاً عن:

https://www.alarabblog.com/Articles/Read?id=817f8f18-7eec-47c2-9452-ed36cd912128