د. محمد سعيد بكر

المحاور

 كثيرة هي الجرائم والكبائر والموبقات .. وهي تتفاوت في حجمها بحسب ارتدادات قبحها على الفرد والمجتمع .. وبحسب امتدادات فسادها عبر الجغرافيا والتاريخ.

 فالقتل والمجازر التي يرتكبها المجرمون .. والزنا والعهر الذي يرتكبه الفاجرون .. والسرقة والاحتيال والاحتكار والغش وغيرها من الجرائم الاقتصادية .. والخيانة وبيع الأوطان وغيرها من الجرائم السياسية .. كل ذلك على الرغم من خطورته وقبحه إلا أنه قد يرتبط بزمان أو مكان محدد .. ولكن أقبح جريمة من وجهة نظري هي:

جريمة إخفاء الحقائق وكتمها وتزويرها

لأنه ليس أسوأ من التيه وضياع البوصلة .. ولعل من نتائج عمليات التزوير للحقائق وكتمها ما يأتي:

1️⃣ ضياع المبادئ وفساد العقائد وانحراف الأفكار .. وما الحالة التي وصل إليها اليهود والنصارى وأصحاب الملل والعقائد الضالة إلا بسبب جريمة كتم العلم والحقيقة.

2️⃣ ضياع الحقوق وحصول من لا يستحق على ما لا يستحق .. وما الاحتلال الذي جثم على صدر الأمة وحرمها من استقلالها إلا بسبب جريمة تزوير الحقيقة حتى بلغ الأمر بالمحتل أن يزوِّر التاريخ ليثبت لنفسه موطئ قدم في بلادنا.

3️⃣ ضياع الأمن والأمان وانعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم .. فالتقارير التي تقلب الحقائق جعلت من المصلحين في عين الحاكم خونة .. وجعلت من بطانة السوء أشرافاً وأعياناً وزعماء وسادة .. فضاع الأمن وسلب الذئاب البلاد وأهانوا العباد.

4️⃣ ضياع الأخلاق والقيم وتدمير الأسرة والمجتمع .. ذلك أن منابر الإعلام والتوجيه وهي تظهر الفاجرة والسافرة بمظهر المتحضرة؛ في حين تظهر صاحب اللحية والمحتشمة بمظهر المأزومين والمتخلفين .. كما تظهر العلاقات غير الشرعية بأنها علاقات رومانسية، طبيعية في حين تظهر العُقَد والأكدار في الحياة الزوجية الشرعية.

5️⃣ ضياع المستقبل القريب والبعيد .. فالأجيال التي تُحرم من معرفة الحقائق التاريخية لا يمكنها بناء مستقبل آمن؛ لأن التاريخ هو عين المستقبل، فإذا عميت تلك العين أو كانت عوراء صار المستقبل إلى الهاوية.

 لقد جاءت الآيات والأحاديث وهي كثيرة للتعبير عن خطورة كتم الحق وإخفاء الحقيقة ومن ذلك:

1️⃣ قال تعالى: “”وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ”” (آل عمران: 187).

2️⃣ وقال تعالى: “”إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ”” (البقرة: 159).

3️⃣ وفي مشهد مهيب يعرض القرآن حكاية سؤال الله تعالى لعيسى عليه السلام عن حقيقة كتمها قومه وعن تزوير خطير ارتكبوه فضلوا وأضلوا .. قال تعالى:”” وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ”” (المائدة: 116).

4️⃣ وفي بيان قول وشهادة الزور لك أن تتابع إنفعالات النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لأصحابه:”” ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا، قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت”” متفق عليه.

 هذا ومن الأسباب المشؤومة لكتم الحقيقة وإخفاء الحق ما يأتي:

1️⃣ الخوف على الأرزاق والأعمار والتنافس القبيح على دنيا فانية .. والسؤال هنا: هل زاد ذلك الكتم من أعمارنا وأرزاقنا أم أن بركة ذلك كله ذهبت ومحقت؟!

2️⃣ الحسد والحقد، قال تعالى:”” وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ”” (البقرة: 109).

3️⃣ الجهالة والإمعية وتكرار ما يقوله الآخرون دون استبانة .. وقد حذرنا القرآن من خطورة نقل الآثار والأخبار دون التأكد من صدقيتها، قال تعالى:”” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة”” (الحجرات: 6).

4️⃣ الغفلة عن مراقبة الله وسمعه وبصره، فقد توعد الله كل محرف وهو يرى ويسمع انحراف وتحريفه، قال تعالى: “”فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ”” (البقرة: 79).

 هذا ومن أدوات إخفاء الحق وكتم الحقيقة في زماننا:

1️⃣ أبواق الإعلام المأجورة؛ فهي تبذل طاقتها في تزيين الباطل ومحو الحق، قال تعالى:”” فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ”” (الأعراف: 116).

2️⃣ صناع المناهج والبرامج التي تجعل الأمة تعيش في واد وأولوياتها في واد آخر.

3️⃣ بعض المشايخ ورجال الدين الذين يذهبون بالناس بعيداً عن أولويات الأمة من خلال منابر الإسلام .. فكثير منهم يقول ما يبتغي لا ما ينبغي؛ إيثاراً للسلامة فيكتم الحق ويخفي الحقيقة ولا يشهد على زمانه شهادة حق.

4️⃣ بعض الآباء والأمهات الذين يخافون على أولادهم فيروون لهم قصصاً من بطولات الجبناء وأخرى تظهر ضعف المصلحين والعلماء.

 وحتى نخلص إلى حلول وعلاجات لتلك الآفة والجريمة الكبرى يمكننا القيام بما يأتي:

1️⃣ تحذير الأجيال من خطورة الكذب في أبسط الأمور وأعظمها، وتربيتهم على الصدق مهما كلفهم من ثمن.

2️⃣ إعادة مراجعة التاريخ والنبش عن حقائقه المؤلمة.

3️⃣ التأكيد على حرمة تداول الأخبار والآثار قبل الاستبانة.

4️⃣ بيان شرف كلمة الحق مهما كلف ذلك من ثمن .. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “”سيِّدُ الشُّهداءِ حمزةُ بنُ عبدِ المطَّلبِ، ورجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ فأمره ونهاه فقتله”” أخرجه ابن حبان وهو صحيح.

5️⃣ تعزيز قيمة المراقبة الإلهية قال تعالى: “”وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ”” (الأنعام: 60).

 هذا وإن من الحقائق التي حرص شياطين الإنس والجن على طمسها .. والتي ينبغي التأكيد عليها والجهر بها وكشفها للعالمين ما يأتي:

1️⃣ حقيقة التوحيد واليقين التام بوجود الله وقدرته وحكمته.

2️⃣ حقيقة اليوم الآخر وما فيه من جنة ونار .. وعموم الإيمان بالغيب لاسيما في عالم المادية الغالبة.

3️⃣ حقيقة التيه الذي وصل إليه الآخرون مهما بلغوا من مظاهر العلم والمعرفة فهم “”يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ”” (الروم: 7).

4️⃣ حقيقة الوجه القبيح لأدعياء المدنية والديمقراطية واحترام حقوق المرأة والحيوان والإنسان وهم أبعد ما يكونون عن هذه المعاني التي ينادون بها.

5️⃣ حقيقة بعض الأنظمة الوظيفية المستبدة وخيانتها وعمق ارتباطها بالأعداء.

6️⃣ حقيقة يهود وحراسهم والمطبعين معهم وأنهم أشد الناس عداوة للمؤمنين.

7️⃣ حقيقة بعض التيارات والجماعات والمؤسسات والشخصيات وأدوارها المشبوهة في زماننا ومكاننا.

8️⃣ حقيقة بعض العناوين والمصطلحات البراقة كالفائدة وهي الربا والمشروبات الروحية وهي الخمر .. واليانصيب وهو القمار .. وغيرها.

9️⃣ حقيقة بعض المصطلحات العظيمة المباركة والتي حاولوا مسخها بإطلاق أسماء لا تليق بها .. فالجهاد يبقى جهاداً وإن قالوا عنه إرهاباً .. والنصيحة والجهر بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة تبقى دعوة وإن قالوا عنها تدخلاً في شؤون الآخرين واتهموا أصحابها بإطالة اللسان على الفاسدين.

🔟 حقيقة المخلصين من العلماء العاملين والمجاهدين والمصلحين؛ وأنهم تيجان رؤوس الأمة وإن حاولوا تشويه صورتهم وإظهارهم بمظهر الضعف والاستكانة.

وختاماً

مهما ملك المفسدون في الأرض من أدوات طمس الحقائق وتشويهها وتزويرها؛ فإنه يبقى للحق أهله ورجاله، ويبقى له بريقه الساطع كالشمس التي لا يغطي خيوطها الغربال .. والناس أمام الحق والحقيقة على أنواع وأقسام ..

فمنهم من يعمل جاهداً على إخفائها؛ فهؤلاء هم المغضوب عليهم (وهم في الغالب من دهاقنة يهود) ..

ومنهم من خفيت عليه ولم يكلف نفسه عناء البحث عنها؛ فهؤلاء هم الضالون (وهم في الغالب من رهبان النصارى وأتباعهم) ..

ومنهم من بحث عنها وسعد بالوصول إليها وآمن بها ودافع بعضهم عنها مات في سبيلها؛ فهؤلاء هم أسعد الناس، وهم (معَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا (النساء: 6) .. ومن أبلج الأمثلة عليهم؛ سحرة فرعون “”قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا”” (طه: 72) ..

ومنهم من وجدها لكنه لا يزال يتعامل ببرود وجمود تام معها .. فهؤلاء هم الغافلون أو كسالى المسلمين .. نسأل الله أن يبعث في قلوبنا وقلوبهم عشق الحق والحقيقة والعمل من أجلها وخدمتها والموت في سبيلها .. اللهم آمين آمين.