أ. د. محماد رفيع

بسم الله الرحمن الرحيم

          إن تعلق المغاربة علمائهم وعوامهم بفلسطين عامة وبالقدس خاصة تعلق خاص في قوته ‏وشدته منذ قرون طويلة إلى حد اللحظة، وسيبقى بإذن الله إلى يوم القيامة، وذلك راجع إلى ‏جملة روابط، منها:‏

الرابط العقدي: ‏

يرجع الارتباط العقدي للمغاربة بفلسطين إلى ما حبا الله به أرض فلسطين من ضمها ‏للقدس مسرى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ومصلاه ومعراجه إلى السماوات العلا عند ‏سدرة المنتهى في رحلته الغيبية، والإيمان بهذه الرحلة من عقيدة المسلمين المغاربة، فقد أخبرنا ‏الحق سبحانه بذلك في قوله: ” سبحن الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد ‏الأقصى الذي باركنا حوله” (الإسراء:1)، وهي المحطة التي رتب له فيها صلى الله عليه وسلم ‏اللقاء الجامع بأنبياء الله ورسله السابقين، يؤمهم عليه السلام في صلاة جماعية، في إشارة رمزية ‏قوية إلى قدسية المكان ، ومسؤولية المسلمين الشرعية عن حفظ وحماية بيت المقدس، كما أن ‏أرض فلسطين أرض مباركة تستمد بركتها وقدسيتها من الحقائق الدينية التي أجملها الطاهر بن ‏عاشور في الأمور التالية:‏

‏-‏        المسجد الأقصى من وضع نبي الله إبراهيم عليه السلام.‏

‏-‏        من صلى فيه من الأنبياء كداود وسليمان ومن بعدهما من أنبياء بني إسرائيل.‏

‏-‏        حلول عيسى عليه السلام فيه وإعلان دعوته إلى الله فيه وفيما حوله.‏

‏-‏        من دفن فيه من الأنبياء كقبري داود وسليمان حول الأقصى.‏

‏-‏        أعظم هذه الأسباب وأجلها بركة حلول النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيه وإمامته ‏بالأنبياء جميعا هناك في الصلاة في قصة الإسراء والمعراج.‏

فإذا كانت القدس تستمد بركتها وقدسيتها مما ذكر، فإن أمد هذه البركة يمتد ليشمل خير ‏الدنيا والآخرة مما وعدت به هذه البقعة المقدسة، قال البغوي في تفسير معنى هذه البركة: ” ‏الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ بالأنهار والأشجار والثمار، وقال مجاهد: سماه مباركا لأنه مقر الأنبياء ومهبط ‏الملائكة والوحي، ومنه يحشر الناس يوم القيامة”‏ ‏.‏

فبركة وقدسية أرض القدس وما حولها من أرض فلسطين والشام لم يكن اختيارا بشريا، ‏وإنما هو اصطفاء رباني لهذه الأرض كما تثبته وتتفق عليه جميع الرسالات السماوية السابقة.‏

الرابط التعبدي:‏

          ويتمثل هذا الرابط في انشداد همة المغاربة إلى إتمام رحلتهم التعبدية بعد المسجد ‏الحرام والمسجد النبوي بشد الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك، أخذا بقول النبي عليه ‏الصلاة والسلام: ” لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد ‏الأقصى”‏ ، بمعنى أن السفر إلى المساجد قصد الصلاة فيها ونيل تمام الفضيلة لا يكون إلا ‏للمساجد المذكورة لخصوصيتها القدسية، وبيان ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “الصلاة في ‏المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس ‏بخمسمائة صلاة “‏ ‏.‏

          وزاد من حرص المغاربة على التعبد في الأقصى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ” بيت ‏المقدس أرض المحشر والمنشر! ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره فمن لم ‏يستطع فيهدي له زيتا يسرج فيه فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه فصلى فيه “‏، ‏

الرابط العلمي:‏

          يعود الارتباط العلمي للمغاربة بفلسطين إلى ما درجت عليه الأسر المغربية والأندلسية ‏من الحرص على حمل أبنائهم على الرحلة العلمية إلى المشرق قصد استكمال تكوينهم العلمي، ‏بحيث من حاد عن هذه السنة نسب إلى التقصير، ونقرأ في سير علمائنا محطات عدة في رحلتهم ‏وعلى رأسها القدس، ومنهم من استقر به المقام هناك لسنوات عالما معلما كالإمام الطرطوشي ‏والإمام أبي بكر بن العربي المعافري، وصاحبنا أبي مدين شعيب الغوث، وغيرهم.‏

الرباط الجهادي

لعل ما يفسر الهبوب الجماعي للمغاربة عبر التاريخ لخدمة الأقصى وحمايته في ظروف ‏السلم والحرب تشوفهم إلى الانخراط في سلك الطائفة المجاهدة المباركة التي بشر بها رسول ‏الله صلى الله عليه وسلم في قوله: “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الدِّينِ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ ‏لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ – أي أذى – حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ)). ‏قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: ((بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِس”‏ ‏.‏

أبو مدين شعيب الغوث قائد المغاربة في الفتح الصلاحي

          ينحدر شعيب بن الحسين الأنصاري الأندلسي (514- 589هـ / أبو مدين الغوث من ‏قرية قطنيانة بإشبيلية؛ إلا أنه غادر الأندلس في طفولته إلى المغرب الأقصى ، حيث عبر إلى ‏طنجة ثم مراكش حيث دخل في جربة قاسية بين الأجناد، شد الرحال بعدها إلى فاس ، وهناك ‏عكف في مسجدها الجامع يحفظ القرآن ويدرس العلوم الدينية والتصوف، حيث قال: ” لزمت ‏جامعها وتعلمت الوضوء والصلاة”‏ ‏. ‏

وكان من أبرز من لازمهم من العلماء وتلقى عنهم فنون المعرفة ابن حرزهم ، وأخذ ‏التصوف عن أبي يعزى، الذي كان يقول عنه: ” طالعت أخبار الصالحين من زمن أويس القرني ‏إلى زماننا فما رأيت أعجب من أبي يعزى”‏ ، وكان مما يميز أبا مدين رحمه الله أنه كما وصفه ‏أبو عبد الله التميمي الفاسي: ” كثير الأدب، بعيد الغضب، جمع العفة والوقار، وسمة ‏المتقين”‏ ‏. ‏‎ ‎

بداية قصة أبي مدين مع فلسطين ‏

          لعل بداية التحام شيخنا أبي مدين بقضية فلسطين ترجع إلى رحلته إلى الحج والعلم ‏معا كعادة العلماء المغاربة، حيث يسر الله له في هذه الرحلة المباركة أن يفوز بلقاء مميز – ظل ‏يفتخر به في بقية حياته- بالشيخ عبد القادر الجيلاني الذي ارتبط به حتى أخذ عنه الحديث ‏والتصوف ‏.‏

          وعاد أبو مدين من رحلته ضمن الوفد الحجيجي المغربي وهو محمل بأحوال وأهوال  ‏فلسطين، وظل في مستقره ببجاية ينشر العلم، ويذكر ويحرض طلبته وغيرهم على لزوم ‏الدفاع عن فلسطين.‏

هبة أبي مدين لنجدة فلسطين:‏

          ما أن وصل نداء استغاثة من صلاح الدين إلى السلطان أبي يعقوب المنصور لتحرير ‏الأقصى وفلسطين من الاحتلال الصليبي حتى كان أبو مدين من أوائل من لبى النداء مع من ‏جلبهم معه من طلبة العلم والمجاهدين، فشاركوا في معركة حطين التي وصفها ابن كثير بقوله: ” ‏كانت أمارة ومقدمة وبشارة لفتح بيت المقدس على عباد الله الصالحين واستنفاذه من أيدي ‏الكافرين”‏ ، وهي المعركة الحاسمة التي أبلى فيها المغاربة بقيادة أبي مدين البلاء الحسن، فقد ‏فيها شيخنا أبو مدين ذراعه ، فسر صلاح الدين غاية السرور ببلاء المغاربة برا وبحرا، وهو ما ‏جعله يأتمنهم على الأقصى والمدينة، فقال قولته الشهيرة: ” أسكنت هناك من يثبتون في البر ‏ويبطشون في البحر، وخير من يؤتمنون على المسجد الأقصى وعلى هذه المدينة”، ثم أوقف ابن ‏صلاح الدين الملك الصالح نور الدين أبو الحسن علي الأيوبي حارة المغاربة على مصالح طائفة ‏المغاربة المقيمين في القدس إبَّان سلطنته على دمشق (589هـ/1193م – 592هـ/1195م) حين ‏كانت القدس تابعةً له، بُغيةَ تشجيع أهل المغرب العربي على القدوم إلى القدس والإقامة فيها، ‏ومساعدة سكَّانها المغاربة الذين فضّلوا الاستقرار ومجاورة المسجد الأقصى المبارك. ومنذ ذلك ‏التاريخ أخذ هذا المكان من مدينة القدس يُعرف باسم “حارة المغاربة‎”.‎

وبقي أبو مدين ومعه عدد من العائلات المغاربية مجاورين بالمسجد الأقصى وخدمة ‏لمدينة القدس من خلال ثلاث واجهات: الأولى الدفاع عن القدس الأمانة، والثانية: جلب عائلات ‏مغاربية للاستقرار بالقدس، وتشييد الزوايا والمدارس، والأوقاف، والثالثة: تعليم أهل القدس ‏من خلال المجالس العلمية التي يعقدها أبو مدين رحمه الله.‏

نظرا لهذه العلاقة المتينة الراسخة التاريخية بين أهل المغرب وفلسطين، فقد ظلت ‏عددا من العائلات المغربية وفية للعهد مستقرة ببيت المقدس وأكنافها، حتى استولى الصهاينة ‏على المدينة وفلسطين وقتلوا وشردوا فمنهم من في الشتات ومنهم من في غزة، ومنهم من في ‏مخيم اليرموك بسوريا ومنهم من في مخيمات لبنان، ونذكر من تلك العائلات الشهيرة: عائلة ‏المصلوحي، وعائلة العلمي، وعائلة الريفي، وعائلة حبوش، وغيرهم، وما زالت بعض هذه ‏العائلات تبلي البلاء الحسن في العمل الوطني الفلسطيني وفي المقاومة أداء لواجب حفظ أمانة ‏فلسطين.‏

والحمد لله رب العالمين‎