رسالة المنبر

د. محمد سعيد بكر

المحاور

حكمت شريعتنا السمحة على لصوص المال بأن تقطع أيديهم ضمن شروط وضوابط محددة، قال تعالى: “وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ” (المائدة: 38).

ولكن لابد قبل إقامة الحد على السارق من أمور ثلاثة مطلوبة من ولاة الأمور تحديداً .. وهذه الأمور هي:

1️⃣ تعليم الجاهل .. فلا يقام الحد على من يجهل حكم السرقة، وهذا يتطلب توعية تعمل على نشرها مختلف المنابر، فحُكم الله تعالى أولى بأن يُدرَّس وأن يعلم.

2️⃣ إطعام الجائع .. وكيف نقيم حد السرقة على من لا يجد قوت يومه .. (دون أن نبيح فعله الشنيع) .. وهذا أيضاً مما يجب في حق ولاة الأمور .. لأن من واجبهم تأمين الوظائف الكريمة للشباب، وضمان الحياة الكريمة للكهول.

3️⃣ تأمين الخائف .. لأن سلوك المرء عند الخوف (الشديد) سلوك غير مسؤول، باعتباره سلوك خارج عن إرادته .. فمن واجب ولاة الأمور تأمين الخائفين كذلك.

لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يتهاون مع السارقين .. بل إنه صلى الله عليه وسلم على الرغم من رحمته بالنساء .. وعلى الرغم من صفحه عن أهل مكة يوم فتحها إلا أنه لم يتهاون مع تلك المرأة المخزومية التي سرقت عام الفتح .. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه حين حاول الشفاعة للمخزومية التي سرقت: (أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟!)، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: “إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا” متفق عليه.

ومن المعلوم أن إقامة حد السرقة منوط بالحاكم وولي الأمر .. فإذا عُدم الحاكم وولي الأمر القائم على حدود الله؛ وجب على الأمة العمل المتواصل بلا كلل ولا ملل على إيجاده وإقامته .. لا أن تقبل بتعطيل أحكام الله وترضى بأحكام وضعية، قال تعالى: “تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” (البقرة: 229) .. فكيف إذا صرنا إلى زمان أصبح فيه بعض ولاة الأمور وبعض حاشيتهم – للأسف- هم اللصوص والسارقون وقاطعو الطريق؟!!

أمتي هل لك بين الأمم

 منبر للسيف أو للقلم

أمتي كم صنم مجدته

 لم يكن يحمل طهر الصنم

لا يلام الذئب في عدوانه

 إن يك الراعي عدو الغنم

فاحبسي الشكوى فلولاك لما

كان في الحكم عبيد الدرهم

لقد صرنا إلى زمان تعددت وتنوعت فيه صور السرقة ومن تلك الصور القبيحة المشينة الأثيمة عدا عن سرقة المال:

1️⃣ سرقة القلوب؛ فكم سرقت بنات الهوى قلوب شباب، وكم سرقت الشخصيات الافتراضية قلوب أزواج وزوجات وخربت بيوتهم وجعلتهم في تيه؟!

2️⃣ سرقة العقول؛ فكم سرقت مواقع التواصل والمناهج والبرامج المستوردة عقول أجيال فجعلتهم في حالة توحد وشتات؟!

3️⃣ سرقة الشهادات والخبرات؛ فكم سرقة لأبحاث ومعلومات وخبرات جعلت من سارقيها يتنعمون في العلامات والترقيات والرواتب والرتب؟!

4️⃣ سرقة الأوقات والأعمار؛ وهذه يعمل عليها رفقاء السوء، ويقع في حبائلها كل إنسان يعيش الفوضى ولا يحسن تنظيم أوقاته.

5️⃣ سرقة الإنجازات والمؤسسات؛ بأن يبذل فرد أو قوم الأعمار والجهود والأموال في بناء برنامج أو مؤسسة أو مشروع ثم يأتي شخص أو جهة متنفذة ويسرقون ذاك الجهد تحت ذرائع واهية وباسم القانون الذي صاغوه بهتاناً وزوراً على حين غفلة من الطيبين.

إننا اليوم نعاني من سرقة جيل بأكمله .. جيل سرقوا عقله وقلبه وماضيه ومستقبله .. جيل مخطوف الروح .. جيل هائم على وجهه لا يُحل حلالاً ولا يحرم حراماً .. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

في زمان شاع فيه سرقة وبيع الأعضاء البشرية نحن لا نخاف على أبناءنا وبناتنا من لصوص يستبيحون خطفهم وقتلهم وبيع أعضائهم؛ بقدر خوفنا من أولئك الذين يمكرون الليل والنهار ويحترفون خطف حياء وعفة بناتنا تحت مسميات حرية المرأة من النسويات .. كما يحترفون خطف رجولة وشهامة أبنائنا تحت مسميات الرجولة الناعمة (كيوت) .. وإلا فما قيمة بقاء الأحشاء والأعضاء إن ذهبت العفة والكرامة والرجولة والشهامة، وسُلب الحياء من الأحياء.

إن فينا ومنا وبيننا من يسرق ميراث أخواته، وخبرات زملائه، ويسارق النظر إلى هذه وتلك .. ثم يأتيك يشكو من سرقة سائق سيارة الأجرة له بتطويل الطريق عليه .. فالسارق مسروق .. وكيف يستقيم الحال ونحن في دائرة غش وسرقة تبدأ ولا تكاد تنتهي؟!

بل إن هنالك من يبيح لنفسه سرقة من يسرقه وخيانة من يخونه، وقد حسم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بقوله: “أدِّ الأمانةَ إلى منِ ائتمنكَ، ولا تخنْ من خانكَ” رواه أبو داود وهو صحيح .. والمخرج من ذلك هو بالنصيحة والصبر وطلب الحقوق ثم بالمدافعة لا بارتكاب الجرم نفسه.

ولا أجد من الأوصاف للتعبير عن حال ذاك الذي وقعت عليه جريمة السرقة؛ فسرق اللصوص قلبه أو عقله أو ماله أو جهده .. سوى أنني أؤكد على أنه يعيش غصة ما بعدها غصة؛ لاسيما وهو يرى اللصوص وقطاع الطرق يسرحون ويمرحون في ماله أو جهده بلا وازع ولا رادع؟!

أما توصيفنا لحال ذاك السارق المارق فلا أجد في قاموسنا ما يعبر عن سلوكه سوى أنه مريض ولديه عقدة نقص لا يمكن أن يكملها مطلقاً؛ فهو يعلم أنه سارق مغتصب لحقوق الآخرين .. ومهما حاول إقناع نفسه بأن له حق فيما سرق فإن نفسه وفطرته على الرغم من تلويثها إلا أنها تبقى تطارده وتعكر عليه مزاجه .. فشؤم الكبائر لا يزال يلاحق أصحابها حد الاختناق .. فالسارق مكتئب حزين وإن بدا في غاية السعادة والسرور.

لقد كان لصوص الأمس يستخفون عن الأنظار .. ويرتكبون السرقة بالليل .. أما لصوص اليوم فيمارسون كبيرة سرقة الأوطان والأجيال في وضح النهار .. بل ويحاكِمون من يعترض على سرقاتهم بتهمة إطالة اللسان!!

وإن من النكد الذي صرنا إليه اليوم أن نرى من ينادي بالاعتراف والتطبيع مع سارق أرضنا ومقدساتنا.. فأي جبن وذل أسوأ من هذا الاعتراف والتطبيع مع السارقين؟!

إننا اليوم أمام عصابات منظمة أو قل: هي مافيات تعمل لحساب شياطين الإنس والجن، ضمن خطوط (إنتاج) متكاملة تبدأ بذاك الذي يمارس السرقة جهاراً نهاراً بيده، مروراً بمن يمدح ويزين فعله ويعتبره جزءاً من الواجب الوطني عبر قنوات التواصل والإعلام، مروراً بمن يحمي ذاك العمل الآثم، مروراً بذاك الذي يحاسِب ويحاكم كل معترض على ذاك اللص الخطير .. ولكل هؤلاء حصة من تلك الغنيمة الآثمة.

إن من صور السرقات المنظمة في زماننا تلك الضرائب الباهضة والجمارك المضاعفة والرسوم المتكاثرة والضمانات والتأمينات المغشوشة .. كل ذلك وغيره مما أصبح جزءاً من حياتنا لا نملك له فكاكاً.

بل إن من أعظم السرقات تلك (الفوائد) الربوية .. فأنت تعطي المحتاج المضطر ١٠٠ دينار وتأخذها منه ١٥٠ ديناراً .. من خلال بنوك ومؤسسات إقراض تعمل في وضح الشمس، وتعلن الحرب على الخلق والخالق!

إن من أسوأ السرقات سرقة الأموال والدعم الذي يصرفه الطيبون بكل صدق ابتغاء مرضات الله في أبواب الخير كباب الدعوة والجهاد وإطعام الفقراء وتعليم كتاب الله .. فهم يستأمنون العاملين على هذا الخير ليضعوه في موضعه المشروع لا في جيوبهم؛ فيصير حال من يسرق تلك الأمانات كحال الذين يأكلون أموال اليتامى .. وصدق الله: ” إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا” (النساء: 10) .. ولو أن هؤلاء العاملين الكرام وضعوا المال في حقه، وتورعوا عن أخذ ما لا يحل لهم؛ لرزقهم الله ما هو أطيب وأهنأ وأطهر “ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه “.

إن لصوص التاريخ والجغرافيا هم اليهود بلا منازع .. وقد خلقهم الله ذوي قلوب ضعيفة وعقول حادة .. فبتلك القلوب الخائرة ترددوا عن كل مواجهة .. وخسروا كل معركة (حقيقية) .. ولكنهم بتلك العقول الحادة وذاك الخبث والحقد الدفين استطاعوا تشكيل عصابات ومافيات عالمية يديرون من خلالها الأنظمة والدول ويتحكمون في الاقتصاد والسياسة والبرامج والمناهج والإعلام .. فهل آن أوان إيقاف هؤلاء اللصوص عند حدهم ومنعهم وتأديبهم؟!

لقد سرق المحتلون والمستبدون وأعوانهم وحراسهم لذة حياتنا ومتعة عيشنا وابتسامة آبائنا وأجدادنا وفرحة أولادنا وبناتنا، وعكروا الماء والهواء والغذاء والدواء .. فهل من وقفة جادة تمنع هذا السطو وتوقف هذا النزيف؟!

لقد سرق الفاسدون كل شيء حتى خشوعنا .. وإلا فأنى لمن يتجرع مرارة العيش الصعب أن يخشع في صلاة أو تلاوة أو ذكر .. ولا نبرر لأنفسنا العبادة بلا خشوع لأجل ما صرنا إليه من فقر وجوع.

وختاماً

ستبقى البشرية تتجرع آلام ابتعادها عن منهج ربها حتى تتوب، وفي الإسلام منهج وقاية من هذه الآفة .. ومنهج علاج لمن وقع فيها .. وولاة الأمور مطلوب منهم تمكين منهج الوقاية وتفعيل منهج العلاج، وقد روى النسائي بإسناد حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “حدٌّ يُعْمَلُ في الأرضِ؛ خيرٌ لأهلِ الأرضِ من أن يُمْطَرُوا أربعينَ صباحًا” .. فهل نعيش حتى نسعد برؤية حدود الله تقام .. أم نبقى على ما نحن فيه من ضنك وتيه وضياع وأسقام .. كل ذلك مرهون بما نبذل من جهد في التوعية والتذكير والنصيحة والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. وبذلك نستحق معية الله الكريم التي بها (وحدها) نخرج من عنق الزجاجة الخانق الأثيم.