(إسلامية الأرض، والسيادة عليها، وحق المقاومة)

د. محمد سليمان نصر الله الفرا*

د. يونس محيي الدين فايز الأسطل**

لتحميل ملف Word + pdf لهذه المقالة المحكمة:

https://drive.google.com/open?id=1nQzxjuEzYN5E3A3tKwesuO_ZXWerK6hb&authuser=mail%40palscholars.org&usp=drive_fs

لتحميل ملف Word + pdf لكامل كتاب (ندوة صفقة القرن .. رؤية شرعية وقراءة استراتيجية):

https://drive.google.com/drive/folders/1r2-BGQF0Y5IXWzFDRP3goka9jrfh_rW9?usp=sharing

مقدمة:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على المبعوثِ رحمةً للعالمينَ، وعلى آلِه وأزواجِه الطّاهرينَ، والرّضَا عن الصّحابةِ والتّابعينَ، ومَن سارَ على دربِهم بإحسانٍ إلى يومِ الدّينِ، وبعدُ..

فإنَّ أرضَ فلسطينَ قد تعلَّقَ بها جملةٌ من الأحكامِ الشرعيَّةِ: العقديّةِ، والعباديّةِ، والجهاديّةِ، التي ميّزَتها عن سائر الأرضينِ، وجعلت لها قدسيّةً خاصّةً في ديننا الحنيف؛ حيثُ ترتَّبَ على ذلكَ التَّميُّزِ آثارٌ شرعيّةٌ حاكمةٌ للتصرُّفاتِ السياسيّةِ المتعلقة بالسِّيادةِ على هذِه الأرضِ، والتّعاملِ مَع غيرِنَا بشأنِها سِلماً وحرباً.

وإن هذه الأحكامَ المُؤثِّرَةَ مهيمنةٌ على أيِّ معاهدةٍ سياسيَّةٍ، أو اتفاقيَّةٍ، أو رؤيةٍ، تحدد مصير هذه الأرض في صراعنا الطّويلِ مع الاحتلال الصهيوني الذِي صالَ على هذه البُقعةِ امتداداً للاحتلالِ البريطانيِّ الذي كان أثراً من آثار ذُبولِ الخلافةِ العثمانيَّةِ الإسلاميَّةِ، وتقسيمِ أرضِها إلى دويلاتٍ مُتنافرةٍ أو مُتناحرةٍ.

وإنَّ (صفقة العَصر) – إذا صحَّ التّعبيرُ – التي اجترحَها الرئيسُ الأمريكيُّ (دونالد ترامب) إنما هي حلقةٌ من حلقاتِ رؤيةِ الغربِ المنحازِ للاحتلالِ الصهيونيِّ، لمستقبل الصراع المريرِ بيننَا – نحن المسلمين – وبينَ واليهود المحتلين الغاصبين لأرض فلسطين، وقد وضحَّت فيهَا الإدارةُ الأمريكيَّةُ الطّاغيَةُ فِي البِلادِ، المُكثرةُ فيهَا الفَسَادَ، رؤيَتَهَا للحلِّ السّياسيِّ المزعومِ لقضيّةِ فلسطينَ، بما يناسبُ منطلقاتِهَا العقديّة والسّياسيّة الشّيطانيَّةِ، ويخدمُ مطامعَها الاقتصاديّة والأمنيَّةَ في المنطقةِ العربيَّةِ بأسرِها.

وقد جاءت هذه الورقةُ البحثيَّة لتُحَرِّرَ بعضاً مِن المُسلَّمَاتِ الشَّرعيَّةَ التِي تَنقضُهَا صفقَةُ القَرنِ، وهِيَ: إسلاميَّةُ الأرضِ، والسّيادَةُ عليهَا، وحقُّ مقاومَةِ المُحتلِّين، وقَد وقعَت فِي ثلاثَةِ مباحِثَ، كمَا يلِي:

المبحثُ الأوّلُ: طائفةٌ من الأحكامِ الشّرعيّةِ المتعلّقةِ بأرضِ فلسطينَ.

المبحثُ الثّانِي: مناقضة جريمةِ صفقة القرن للمُسلَّماتِ الشّرعيّةِ.

المبحثُ الثّالثُ: حكمُ صفقةِ القرنِ في الميزانِ الشّرعيِّ.

المبحث الأول: طائفة من الأحكام الشرعية المتعلقة بفلسطين:

إنَّ أرضَ فلسطينَ المباركةَ، يتعلّقُ بهَا عددٌ مِن الأحكامِ الشّرعيّةِ: العقديّةِ، والعباديَّةِ، والجهاديّةِ، إليك بيانَ أبرزِها فِي المحاوِرِ الثّلاثَةِ التّاليَةِ:

أولاً: الأحكام العقدية:

إنَّ دُرَّةَ فلسطينَ هيَ المسجدُ الأقصَى، ويتعلقُ به وبهَا عددٌ مِن الأحكامِ العقديَّةِ، منهَا الأربعَةُ التّاليَةُ:

  1. إنَّ فلسطينَ أرضٌ مباركةٌ، ودليلُ ذلكَ صَرِيحُ القرآنِ، وصَحِيحُ السُّنَّةِ، ويشهدُ لذلِكَ الدّليلانِ التّاليانِ:

الأوّلُ: قالَ تعالَى: ﴿وَنَجَّیۡنَـٰهُ وَلُوطًا إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلَّتِی بَـٰرَكۡنَا فِیهَا لِلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الأنبياء ٧١].[1]

فَقَد نصَّت الآيةُ الكريمَةُ علَى بركَةِ فلسطينَ لجمِيعِ العالمينَ، وليسَ للبشرِ وحدَهُم، فضلاً عَن المُسلمينَ أو الفلسطينيِّينَ، وقالَ أكثرُ المُفسرينَ: إنَّ البركةَ تشملُ بلادَ الشّامِ بأكمَلِهَا، ولذلكَ قالَ زهيرُ بنُ محمّد التّميميِّ: “إنَّ اللهَ تباركَ وتعالَى، باركَ ما بينَ العريشِ والفراتِ، وخَصّ فلسطِينَ بالتّقديسِ”.[2]

الثَّاني: عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَر رضي الله عنهما قَالَ: ذَكَرَ رسولُ اللهِ r: “اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا، وفِي يَمَنِنَا”، قَالُوا: وَفِي نَجْدِنَا يا رسُولَ اللهِ؟ قَالَ: “اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا، وفِي يَمَنِنَا”، قَالُوا: وَفِي نَجْدِنَا يا رسُولَ اللهِ؟ قَالَ: “هُنَاكَ الزَّلاَزِلُ وَالْفِتَنُ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ”. [3]

  • إنَّ النبيَّ الكريمَ r قَد قدَّمَ الشّامَ علَى اليمنِ فِي البركةِ، بينَمَا نبّأنا مِن أخبارِ نَجدٍ، ولعلَّ قرنَ الشّيطانِ فيهَا يتجلَّى في هذِه الأيّامِ ظُهوراً غيرَ مَسبوقٍ؛ بما فُرِضَ فيهَا مِن الفُجورِ والفُسوقِ.

واعلم أنَّ مظاهرَ البركَةِ فِي فلسطينَ عديدَةٌ:

  • فهيَ مُباركةٌ بركةً إيمانيّةً؛ ذلكَ أنَّها بلادُ نبوَّاتٍ، ومهبطُ ورسالاتٍ.
  • وهي مباركةٌ بركةً جهاديّةً حضاريّةً، فعليهَا سجّلَ التّاريخُ الإيمانيُّ منعطفاتِهَ الخطيرةَ، وأحداثَهُ العظيمَة، فهنَا معركَةُ اليَرموكِ التِي أطاحَت بالرّومانِ البيزنطيّينَ، وهنا معركةُ حطينَ التِي أذلَّت الصّليبيينَ، وهنَا عينُ جالوتَ التِي أوقفت زحفَ المغولِ التّتريِّينَ.
  • وهي مباركة بركةً اقتصاديةً كذلك؛ فإنَّها من جنانِ اللهِ في أرضِهِ.
  • إنَّ فلسطينَ هي أرضُ المحشرِ والمنشَرِ، ومنها مبعثُ النّاسِ لربِّ العبادِ، ويدلُّ لذلكَ حديثُ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: “الشَّامُ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ”.[4]

قالَ الإمامُ المناويُّ: “أي البقعَة التي يُجمعُ النّاسُ فيها إلَى الحسابِ، ويُنشرونَ مِن قبورِهم، ثم يُساقونَ إليهَا، وخُصّت بذلكَ؛ لأنّها الأرضُ التِي قالَ الله جلَّ وعلا فيهَا: {بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}، وأكثرُ الأنبياءِ بُعِثُوا منها، فانتشرَت فِي العالمينَ شرائعُهم، فناسَب كونَها أرضَ المحشرِ والمنشرِ”.[5]

  • إنَّ المسجدَ الأقصَى المباركَ هو مُنتهَى مُعجزةِ الإسراءِ، ومبتدأُ رحلةِ المعراجِ بالنبيٍّ r إلى السّماءِ، وفي شأنِ ذلكَ جاءَ قولُ اللهِ سُبحانَه وتعالَى: ﴿سُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِیۤ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَیۡلࣰا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِی بَـٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِیَهُۥ مِنۡ ءَایَـٰتِنَاۤ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ﴾ [الإسراء ١].

فالإسراءُ والمعراجُ مُعجزتانِ مِن مُعجزاتِ النّبيِّ r، ومعلومٌ أنَّ المعجزاتِ مِنَ العقائدِ، وقد أجمعَتِ الأمّةُ علَى وجوبِ الإيمانِ بمعجراتِ الأنبياءِ الثابتةِ، وحرمَةِ إنكارِهَا، وكلُّ مَن أنكرَ معجزةَ ثابتةً للنّبيِّ r قطعاً، كانَ كافراً خارجاً عَن الملَّةِ، ومُكَذِّباً لصريحِ القرآنِ، ﴿وَمَا یَجۡحَدُ بِـَٔایَـٰتِنَاۤ إِلَّا ٱلۡكَـٰفِرُونَ﴾ [العنكبوت ٤٧].

  • ثبتَ فِي مُعجزةِ الإسراءِ والمعراجِ أنَّ النبيَّ r قد صلَّى في القدسِ إماماً بالأنبياءِ أجمعين، وذلكَ إشارةٌ إلى ما هو ثابتٌ من أصول الدينِ، أن النبي r خاتم الأنبياء والمرسلين، وهو سيد ولد آدم أجمعين، وأن أمته المرحومة المعصومة خير الأمم كذلكَ، فقد قال الله تعالى: ﴿وَكَذَ ⁠لِكَ جَعَلۡنَـٰكُمۡ أُمَّةࣰ وَسَطࣰا لِّتَكُونُوا۟ شُهَدَاۤءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَیَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَیۡكُمۡ شَهِیدࣰاۗ﴾ [البقرة ١٤٣].

ثانياً: الأحكام العبادية:

وأشيرُ إلى جملةٍ منها في النّقاطِ الخمسِ التالية:

  1. إنَّ فلسطين فيهَا المسجدُ الأقصَى، وَهُوَ القِبْلَةُ الأولَى لنَا فِي الصّلاةِ، فقَد كانَ الصّحابةُ رضيَ اللهُ عنهم يتَّجِهُونَ إليهِ فِي صلاتِهم؛ قبلَ الهِجرَةِ وبعدَها، إلَى أن أُمِرُوا بالتّوجُّهِ للكعبَةِ فِي الصّلاةِ، فقَد جاءَ في حديثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: “نَزَلَ رَسُولُ اللهِ r أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى أَخْوَالِهِ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَصَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ  سِتَّةَ عَشَرَ شَهْراً، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْراً، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ r يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ: ﴿قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِی ٱلسَّمَاۤءِۖ فَلَنُوَلِّیَنَّكَ قِبۡلَةࣰ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَیۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ وَإِنَّ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ لَیَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا یَعۡمَلُونَ﴾ [البقرة ١٤٤] فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ[6]، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ”.[7]
  2. إنَّ المسجدَ الأقصَى هُوَ ثانِي مسجِدٍ وُضِعَ فِي الأرضِ؛ لعبادةِ اللهِ وتعظيمه، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ: “الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ”، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: “الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى”، فَقُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: “أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ الْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ، فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ”.[8] وهذِه مِن خُصوصيَّاتِ نبيِّنَا مُحمّدٍr ، وأمّتِه مِن بعدِه، حيثُ جُعلَت لنَا الأرضُ مسجداً وطَهورا.
  3. إنَّ المسجد الأقصَى هو أحد المساجِد الثّلاثة التِي لا تشدُّ الرحالُ إلّا إليهَا؛ لحديث أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: “لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِد: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى”.[9]

والمعنَى: لا تُشدُّ الرِّحَالُ طلباً للأجرِ الزّائدِ، إلا إلى هذه المساجِدِ؛ لمَا ثبتَ مِن فضلِهَا، ومُضاعفَةِ ثوابِ الصَّلاةِ فيهَا، فقد قالَ الحافظُ ابن حجرٍ رحمَهُ الله: “فيه فضيلةُ هذِه المساجدِ، ومزيّتُها علَى غيرِها؛ لكونِها مساجدَ الأنبياءِ، ولأنَّ الأوَّلَ قبلةُ النَّاسِ، وإليه حجُّهم، والثَّانِي كانَ قبلةَ الأمم السّالفةِ، والثالثَ أُسِّسَ علَى التَقوى”[10]، وقد ارادَ الحافظُ ابن حجرٍ العسقلانيُّ بالثانِي المسجدَ الأقصَى، وبالثالث المسجدَ النَّبويَّ، مراعيا ترتِيبَ الوُجودِ، لا الترتيبَ الواردَ فِي الحديثِ.

  • إنَّ الصَّلاةَ في المسجدِ الأقصَى ثوابُها مضاعفٌ، فعن أَبِي ذَرّ ٍرضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ r عَنِ الصَلَاةِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ؛ أَفْضَلُ؟ أَوِ الصَلَاةُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ r؟ فَقَالَ: “صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ فِيهِ، وَلَنِعْمَ الْمُصَلَّى فِي أَرْضِ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ، وَلَيَأتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لَقَيْدُ سَوْطٍ، أَوْ قَالَ: قَوْسُ الرَّجُلِ حَيْثُ يَرَى مِنْهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، خَيْرٌ لَهُ، أَوْ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا”.[11]

قال ابنُ القيم رحمه الله: “وقَد رُوِيَ فِي بيتِ المقدِس التّفضيلُ بخمسمائةِ، وهو أشبَهُ”[12]، ولعله يقصدُ حديثَ جَابِر رضيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: “صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِائَةُ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَصَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَلْفُ صَلَاةٍ، وَصَلَاةٌ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَمْسُمِائَةِ صَلَاةٍ”.[13]

والحديثُ الأوّلُ يُشيرُ إلَى أنَّ أجرَ الصّلاةِ فِي المسجدِ الأقصَى بخمسينَ ومائتَي صلاة، والحديثُ الثّانِي يُشير إلى أنّه ضِعفُ ذلكَ، ولعلَّ السِّرَّ فِي الإقامَةِ فِي مرأى المسجدِ الأقصَى، ولو على مقدارِ سَوطٍ أو قوسٍ، هو بسببِ أهميّةِ الرّباطِ هناكَ، حيثُ تشتدُّ معركةُ السّيطرةِ عليهِ؛ كمَا فِي صفقةِ القرنِ، وقرارِ الضّمِّ.

  • إنّ الصّلاةَ في المسجدِ الأقصَى سببٌ من أسبابِ تكفيرِ الخطايا والذنوب، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r: أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بُنْيَانِ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ، وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَا يَأْتِي هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ، إِلَّا خَرَجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: “أَمَّا اثْنَتَانِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ”.[14]

ثالثاً: الأحكام الجهادية:

ويمكنُ تلخيصُ أهمِّها في النِّقاطِ الثّلاثِ التّاليةِ:

  1. إنَّ فلسطينَ أرضُ رباطٍ وجهادٍ إلى يومِ القيامةِ، وإنَّ أهلَها مرابطونَ، وإلَى يَومِ القِيَامَةِ؛ فقد جاءَ فِي الحديثِ عَن أبِي الدّرداء رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله r: “أَهْلُ الشَّامِ، وَأَزْوَاجُهُم، وَذَرَيَّاتُهُم، وَعَبِيدُهُم، وإماؤُهُم، إلَى مُنتَهَى الجزيرَةِ، مُرابِطُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَمَنِ احْتَلَّ مِنْهَا مَدِينَةً مِنَ المَدَائِنِ فَهُوَ فِي رِبَاطٍ، ومَن احتلَّ مِنْهَا ثَغْراً مِنَ الثُّغورِ فَهُوَ فِي جِهَادً”[15]، والمُرَادُ بِالفِعلِ: (أحتَلَّ) أي سَكَنَ، وأقامَ بنيَّةِ الرّباطِ والجهادِ، وأنَ يكونَ موطئاً يغيظُ الكفّارِ فِي أضعفِ الإيمان؛ فكيفَ إذَا نالَ مِن عدوٍّ نَيلاً؟!
  2. إنَّ أهلَ فلسطينَ هُم الطّائفَةُ المنصورَةُ، ويشهدُ لذلكَ مجموعة من النُّصوصِ، ومنها الأحادِيثُ الثّلاثةُ التّاليَةُ:
  3. عن سَلَمَةَ بْنَ نُفَيْلٍ رضي الله عنه أَخْبَرَ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ r، فَقَالَ: إِنِّي أسَمْتُ الْخَيْلَ[16]، وَأَلْقَيْتُ السِّلَاحَ، وَوَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، قُلْتُ: لَا قِتَالَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ r: “الْآنَ جَاءَ الْقِتَالُ، لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ، يَزْيِغُ اللَّهُ قُلُوبَ أَقْوَامٍ، فَيُقَاتِلُونَهُمْ، وَيَرْزُقُهُمُ اللَّهُ مِنْهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا إِنَّ عُقْرَ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ، وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ”[17]؛ أيْ أنَّ الجهادَ في سبيل الله ماضٍ إلى يومِ الوقتِ المعلومِ، وإنَّ أهمَّ ساحاتِه الشّامُ، وإنَّه لا غنَاء عن الخيلِ، وربّما يشملُ ذلكَ الآلاتِ المتحركة اليومَ؛ في البرِّ والبحرِ والجوِّ.
  4. عن مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه قالَ: سمعت النبيَّ r يقول: “لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، مَا يَضُرُّهُمْ مَن كَذَّبَهُمْ، وَلَا مَن خَالَفَهُمْ؛ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ” فَقَالَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ: قَالَ مُعَاذٌ رضي الله عنه: “وَهُمْ بِالشَّأْمِ”[18]، ولمَّا كانَ الجهادُ في سبيلِ اللهِ هو الحياةُ، كانَ مِن بركاتِ الشَّامِ أن يحيَى أهلُه بعزّةٍ وكرامةٍ.
  5. عن جَابِرَ بن عبد اللَّهِ رضي الله عنه يقول سمعت النبي r يقول: “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ على الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قال فَيَنْزِلُ عِيسَى بن مَرْيَمَ عليهِ السَّلامُ، فيقول أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لنا، فيقول: لَا إِنَّ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللَّهِ هذه الْأُمَّةَ”[19]، ويكونُ نزولُ عيسَى u في بلادِ الشَّامِ، ويُطاردُ الدّجّالَ حتَّى يُدركه ببابِ لُدٍّ، أو مدينةِ (اللّدِّ)، فيقتُلهُ، ويُبادُ اليهوُد الآتونَ معهُ مِن بلادِ أصفهانَ، حتى ولو اختفَوا خلفَ الشَّجرِ والحجر.[20]
  6. إنَّ النبي r قد حثَّ على الرباطِ في فلسطينَ؛ لحديثِ ابْنِ حَوَالَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: “سَتَكُونُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، جُنْدٌ بِالشَّامِ وَجُنْدٌ بِالْيَمَنِ وَجُنْدٌ بِالْعِرَاقِ”، قَالَ ابْنُ حَوَالَةَ: فَمَا تَأْمُرُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: “عَلَيْكَ بِالشَّامِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ، فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ، وَلْيَسْتَقِ[21] بِغُدَرِهِ”.[22]

وهذَا يعنِي أنَّ الرِّبَاطَ بالشَّامِ وبيتِ المقدسِ لا عِدْلَ لهُ، فهو خيرُ مواطنِ الرّباطِ علَى الإطلاقِ، وأما الرباطُ فِي العراقِ، فهو متأخرٌ عَن الرباطِ فِي اليمنِ، رُغم مُجاورته لبلادِ الشام، ولعلَّ سببَ ذلكَ أنّه بلدٌ يكثرُ فيه الشِّقاقُ والنّفاقُ.

وقَد ظهرَت مُعجِزَةُ الرِّبَاطِ فِي اليَمَنِ فِي هذهِ الأيَّامِ، بعدَ أن تكالبَ عليهِ العرَبُ المُنافقونَ، وأولياؤُهُم الصّليبيُّونَ، ومَا مكرُ اليهودِ عنهُم ببعيدٍ، فهُم الذينَ كُلّمَا أوقدُوا ناراً للحربِ أطفأهَا اللهُ، ويَسعَونَ فِي الأرضِ فساداً، ولتجدنَّ أشدَّ النّاسِ عداوةً للذينَ آمنُوا اليهودَ والذينَ اشركُوا.

المبحث الثاني: مناقضة جريمة القرن للمسلمات الشرعية:

وبيانُه فِي المِحورينِ التّاليينِ:

أولاً: صفقة القرن: الحقيقة والمآلات:

قامَت الرؤيةُ الأمريكيَّةُ (صفقةُ القرنِ) على ثلاثةِ محاورَ:

الأول: محور الاقتصاد:

تعرض الخطة استثماراتٍ بقيمة 50 مليار دولار، من أجل 179 مشروعِ أعمالٍ، وبنيَةٍ تحتيَةٍ، والتي سيديرها مصرفُ تطويرٍ متعدد الأطراف، وتتصور الإدارة أن الخطة ستمولها في الغالب دولُ عربيةٌ، ومستثمرون أثرياء من القطاع الخاص، وينقسم التمويل إلى 26 مليار دولار قروض، و13.5 مليار دولار منح، و11 مليار دولار في الاستثمار الخاص، سيُنفق معظم الخمسين مليار دولار في الضفة الغربية وغزة كما يزعمونَ، بالإضافة إلى إنفاق 9 مليار دولار في مصر، و7 مليار دولار في الأردن، و6.3 مليار دولار في لبنان، ويتضمن العرض عدداً من المشاريع المحددة، والتي تشمل بناء معبر سفر يربط بين الضفة الغربية وغزة بطريق سريعة.

الثاني: محور السيادة:

أعلنَتْ خطَّةُ ترامب دعمَ دولةِ فلسطينَ، وعاصمتُها بعضُ الضَّواحِي الشرقيَّةِ للقُدسِ، والتي ستعتمد على الفلسطينيين لأخذ خطوات جَعلِهَا دولةً ذاتيَّةَ الحُكمِ؛ بقمعِ الشّعبِ، وإخمادِ المقاومةِ، وتعرض الخطَّةُ على الفلسطينيين دولة فلسطين المستقبلية، والتي لن تتأسس قبل أربع سنوات من إنفاذ الخطة، وقد وُعِدنَا بهَا عام 1999م، ونحنُ اليومَ بعدَ ربعِ قرنٍ بينناَ وبينَها بُعدُ المّشرِقَينِ، وأينَ مَا وُعِد بهِ قبلَ قرنٍ ما يُسمَّى بالشَّريفِ حُسَين.

وستكون دولة فلسطين منزوعةَ السّلاحِ (بدون قوات مسلحة) وستبقى كذلك، وهي دولة بلا أدنى سيادةٍ، وتقوم على أجزاء من الضفة وغزة، بغير القدس الشريف، وبشرط أن يُنهِيَ الفلسطينيون كل المناهج الدراسية والكتب، التي تحضُّ على مقاومة الاحتلال الصهيوني، ولهم السيطرة القانونية المدنية فقط على أراضيهم، بشرط أن يضمنوا نزع سلاح كل مواطنيهم، وعليهم الالتزام بكل الشروطِ المجحفةِ الأخرى للخطة.

الثالث: محور الأماكن المقدسة:

تعترف الخطة بحق الاحتلال في كل (القدس غير المقسمة) معترفة بالقدس عاصمة لدولة الكيان، وسيكتفي الفلسطينيون بأحياء في الأجزاء الخارجية لشرقي القدسِ، وراء الجدار الصهيونيِّ في الضفة الغربية، بما في ذلك كفر عقب، ومخيم شعفاط (توصف على أنها الجزء الشرقي لشعفاط وأبو ديس).

وتضع تلكَ الخطة المسجد الأقصى -متضمنًا المصلى القبلي- تحت سيادة الاحتلال، إذ تدعو الخطة إلى إبقاء الوضع الحالي، وترفض مطالبة الفلسطينيين بالحرم الشريف، مع بقائه تحت الإشراف الأردني، وتعطي للاحتلال مهمة حماية المواقع المقدسة، وضمان حرية التعبد!!

ثانياً: مناقضة الصفقة للمسلمات الشرعية:

يمكنُ بيانُ ذلكَ في النّقاطِ الخمسِ التَاليةِ:

  1. مِنَ المُسلَّماتِ الشّرعيّةِ التِي قامَ عليهَا دليلُ النّقلِ والعَقلِ، وأجمعَت عليها الأمّةُ خلفاً بعدَ سلفٍ، وجوبُ قتالِ المُعتدِينَ الصّائلينَ على الحُرماتِ العامَّةِ والخاصَّةِ، وإخراج المحتلين من أرضنا، فقد قال تعالى: ﴿وَقَـٰتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِینَ یُقَـٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِینَ * وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَیۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَیۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۚ﴾ [البقرة 190-١٩١]، والموافقةُ علَى صَفقةِ القَرنِ تُناقضُ هذا الحكم القطعي؛ ذلكَ أنّها تعطِي المحتلينَ حقّاً مزعوماً فِي أكثرِ أرضِ فلسطينَ، وتقرُّ احتلالَهم لبلادِنَا، وتوجبُ تركَ قتالهم، والعيشَ مَعَهُم فِي جوارٍ آمنٍ، وسلامٍ كاذبٍ.
  2. إن أرض فلسطينَ أرضٌ خراجيّةٌ، قد فُتِحَت عُنوَةً، وسالَ علَى تُرابِهَا دماءُ المُجاهِدِينَ مِن الصّحابةِ رضيَ اللهُ عنهُم والمؤمنينَ، ووقفها الفاروقُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه علَى المسلمينَ أجمعينَ، وعليهِ؛ فإن الحقَّ فيها لنَا فقط، ولا يجوزُ لمسلمٍ أن يتنازلَ عَن هذَا الحقِّ الثابتِ للأمّةِ كلِّهَا، وإنَّ الموافقَةَ علَى صفقَةِ القَرنِ تتنكَّرُ لهذَا الحكمِ الثَّابِتِ، وتتنازَلُ عَن أرضٍ موقوفةٍ علَى عبادِ اللهِ الصالحينَ إلَى يومِ الدّينِ.
  3. إنَّ ميراثَ الأرضِ للهِ تعالَى، يورِثُها مَن يشَاءُ مِن عبادِهِ، والعاقبَةُ للمتّقِينَ، وقَد وعَد الذينَ آمنُوا وعملُوا الصَّالحاتِ أن يمكنَهُم فِي الأرضِ؛ كمَا مكَّنَ الذِينَ مِن قبلِهم، والصَّلاحُ إنّما يكونُ فِي امتثال أمرِ اللهِ تعالَى، واجتنابِ نهيِهِ، واتّباعِ سُنَّةِ نبيِّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلّمَ، وإنَّ الموافقَة علَى صفقَةِ القَرنِ تَنَكُّبٌ لهذهِ الُمسلَّمَاتِ الشرعيَّةِ، ولن تؤدِّيَ بالموافقين إلى تحريرِ أرضٍ، ولا بناءِ دولةٍ، ولا تحقيقِ تمكينٍ، وحسبُهم أن يعلمُوا أنَّ اليهودَ إذا كانَ لهم نصيبٌ من الملكِ، فإذاً لا يؤتونَ الناسَ نقيراً.
  4. إنَّ ملايينَ اللّاجئينَ الفلسطينيِّينَ مِن المُهجَّرِينَ وأبنائِهِم عليهِم واجبُ العودَةِ إلَى الأرضِ المُباركَةِ فلسطينَ، ولا يجوزُ لأحدٍ أن يتنازلَ عَن حقوقِهِم، أو يفاوِضَ عليهَا، أو يوافِقَ علَى أيِّ حلولٍ تمنعُهُم مِن الرُّجوعِ إلَى بلادِهِم وديارِهِم، فقَد أُذِنَ للذينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُم ظُلِمُوا، وإنَّ اللهَ علَى نصرِهِم لقديرٌ، وإنَّ فتنةَ المؤمِنِ بإخراجِهِ مِن أرضه أشدُّ علَى نفسِهِ مِن قَتلِهِ علَى ثراها شهيداً، وعليه؛ فإنَّ الصّفقةَ المشؤومَة مُناقِضَةٌ لهذَا الحقِّ؛ ذلكَ أنّها تشطُبُ واجبَ العودَةِ شطباً كاملاً مِن قاموسِ الفلسطينيِّينَ.
  5. إنَّ السِّيادَةَ علَى أرضِ الإسلامِ إنّما هِيَ لشرعِ اللهِ تعالَى، ولا سُلطانَ علَى هذهِ الأرضِ إلا للمسلمينَ، وإنَّهُ لَن يجعلَ اللهُ للكافرينَ علَى المؤمنينَ سبيلاً، وأيُّ حلٍّ سياسيٍّ يجعلُ السّلطانَ على هذه البلادِ المقدَّسةِ لغيرِ المُسلمينَ، والسيادَةَ عليهَا لغيرِ شَرعِ اللهِ سبحانه وتعالَى، هو مُناقضٌ للعقيدَة، ومخاِلفٌ للشّريعَةِ، ويجبُ التصدِّي لهُ، وقمعُهُ ومنعُهُ بكلِّ سبيلٍ خِفافاً وثقالاً.

المبحث الثالث: حكم صفقة القرن في الميزان الشرعي:

مِن خلالِ مَا سبقَ بيانُهُ من الأدلَّةِ يمكن الخروجُ بالأحكامِ الخمسةِ التاليةِ:

  1. إنَّ ما سبقَ بيانُه يجعلُ أرضَ فلسطينَ المباركةَ دَيْناً فِي أعناقِنَا – نحنُ المسلمينَ – ومعلومٌ أنه يحرُمُ التَّفريطُ فيهَا، ويجبُ الدّفاعُ عنهَا، وتركُ هذا الواجبِ فيهِ مخالفةٌ لأمرِ اللهِ تعالَى.
  2. لا يجوزُ لمسلمٍ أن يعترِفَ بهذَا القرارِ، وكلُّ مَن صدَّقَه، أو أيَّدَه، أو دعَا إليهِ؛ فقد دعَا إلَى غيرِ ما عليهِ ملَّةُ الإسلامِ، والعياذُ باللهِ تعالَى، ولا يحزنكَ الذينَ يسارعونَ في الكفرِ بالمسارعةِ فيهِم، إنّهم لن يضرُّوا الله شيئاً، يريدُ اللهُ ألا يجعلَ لهُم حظاً في الآخرةِ، ولهُم عذاب عظيمٌ.
  3. إن فلسطينَ كلَّها أرضُ وقفٍ إسلاميٍّ؛ فلا فرقَ بينَ قدسِها وصفدِها في الحرمةِ، ووجوبِ الصيانةِ، وإنَّ القدسَ كلَّها عقيدةٌ؛ فلا فرقَ بين شرقِها وغربِها، ولا يجوزُ التّفريطُ فيها، ولا التنازلُ عنها، وكلُّ مَن يفرط في القدس وفلسطين فهو خائنٌ للهِ ورسوله، وخائنٌ للأمانةِ، فقد قال تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَخُونُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤا۟ أَمَـٰنَـٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾ [الأنفال ٢٧]، وليسَ من حقِّ أحدٍ أن يُفرّط في شبرٍ واحدٍ من أرض فلسطين، وإنَّ التنازلَ عن 78 % من الأرضِ المقدسةِ للصّهاينةِ ليسَ وطنيةً، ولا شرفاً، ولا تقبلهُ السياسَةُ ولا الكياسَةُ.
  4. إن الاعترافَ للغاصبينَ بحقٍّ مزعومِ في إقامة دولةٍ مسخٍ على ترابنا، ليس شرفاً ولا إنجازاً، بل خيانةٌ لله ورسولهِ، وخيانةٌ لدماء الشهداءِ، وتضييعٌ للأمانةِ، وليسَ صادقاً من اعترفَ بيهوديةِ الكيانِ، وفرَّطَ بغربيِّ القدسِ سلفاً، حينَ يعترِضُ على صفقة القرنِ، ولا يملكُ أحدٌ من أعرابِ النفطِ حقَّ تقريرِ مصيرِ بلادنا الطاهرةِ.
  5. إذا لم تستطِع الزعاماتُ العربيَّةُ المتهالكَةَ المَهينةَ أن تصونَ الحقَّ – ولن تستطيعَ – فليسَ من حقِّها أن تشاركَ في تصفيةِ القضيةِ؛ بل يكفِينا من عواجيزِ التيهِ، وبقايا النّكبةِ والنكسةِ، أن يُورِّثوا الصِّراعَ للأجيالِ القادمَةِ، بل القائمةِ، من أمثالِ كتائبِ القسَّامِ، وهي التِي ستقفُ لها شمسُ الثّباتِ، في كبدِ سماءِ الحقِّ، بعد انقراضِ جيلِ التِّيهِ والخزي، من أصحابِ السعادةِ والسيادةِ والسموِّ؛ فإنَّ الأرضَ المقدسةَ حرامٌ علَى أمثالِهم، شاهَت وجوههُم أجمعينَ أكتعينَ كافَّةً!!

وصلَّى اللهُ وسلَّمَ علَى سيِّدِنَا محمَّدٍ، وعلَى آلِه وصَحبِهِ أجمَعِينَ.


* عضو رابطة علماء فلسطين، وأستاذ الفقه الإسلامي وأصوله بالجامعة الإسلامية – غزة

* * عضو رابطة علماء فلسطين، وعضو البرلمان الفلسطيني

[1] وقد ثبتَت مباركةُ اللهِ جلَّ وعلا لأرضِ فلسطينَ فِي أربعة مواضعَ أخرَى مِن كتابِ الله، وهي: سورة الأعراف (137)، وسورة الإسراء (1)، وسورة الأنبياء (81)، وسورة سبأ (18).

[2] تاريخ دمشق، لابن عساكر: 1/140.

[3] متفق عليه: البخاري: 1037، ومسلم: 2905.

[4] أخرجه البزار: 3965، وإسنادُه صحيحٌ.

[5] فيض القدير، للمناوي: 4/171.

[6] لأنها أولُ بيتٍ وُضِعَ للنّاسِ، وحرصاً علَى عدمِ التّشبُّهِ باليهودِ، ولأنها قبلةُ إبراهيمَ عليهِ الصًّلاةُ والسّلامُ.

[7] متفق عليه: البخاري: 399، ومسلم: 527.

[8] متفق عليه: البخاري: 3366، ومسلم: 520.

[9] متفق عليه: البخاري: 1188، ومسلم: 1397.

[10] فتح الباري، لابن حجر العسقلاني: 3/65

[11] أخرجه الحاكم في المستدرك: 8553، وإسناده صحيح.

[12] المنار المنيف، لابن القيم: 93.

[13] كنز العمال، للمتقي الهندي: 34631، وفي إسناده لينٌ.

[14] سنن ابن ماجه: 1408، وإسناده صحيح.

[15] أخرجه ابن عساكر: 58/206، وقالَ الهيثميٌّ: رواهُ الطّبراني من رواية أرطاة بن المنذر، عمن حدثه عن أبي الدرداء، ولم يسمه، وبقية رجاله ثقاتٌ، فيكونُ في سنده انقطاعٌ.

[16] أي تركتُها سائمةً ترعَى، فلا تخرج للقتالِ

[17] مسند أحمد: 16965، وإسناده حسنُ.

[18] صحيح البخاري: 3641.

[19] صحيح مسلم: 156.

[20] ويشهدُ لهُ حديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعاً: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ) [مسلم: 2922].

[21] قولُهُ: (وَليَسْتَقِ) أمرٌ مِن الاستِقَاءِ، وقوله: (مِن غُدُرِه): َجمعُ غَدِيرٍ، ويقصدُ غديرَ الماءِ [التنوير، للصنعاني: 7/297].

[22] مسند أحمد: 20356، وإسناده صحيح