28/1/2025
د. حسن سلمان
مقدمة:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5-6].
منذ بدايات إعلان الهدنة بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وبين الكيان الصهيوني يدور الجدل في العديد من المواقع حول توصيف ما جرى وهل يعد انتصارًا للمقاومة أم انكسارًا؟ وبطبيعة الحال فكل واحد ينطلق من خلفيته وتصوره للحرب وطبيعتها، ولا تخلو المواقف من تحيزات معرفية وفكرية وسياسية؛ فليست كلها تنطلق من نظرة موضوعية وبحث مجرَّد؛ فمن كان موقفه معاديًا للمقاومة لن ننتظر منه حديثًا موضوعيًّا ولو جاءت بكامل فلسطين محررة من كل احتلال!
ولكن ليست كل الأقلام كذلك؛ فهناك بعض المحبين والمشفقين هالهم ما رأوا من مجازر وكوارث ونكبات طالت الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، فغلبوا هذه الحالة على غيرها مما يمكن أن يُعدَّ مكاسب في المنظور البعيد لقضية شعب تحت الاحتلال.
وفي هذا المقال نحاول بقدر الإمكان الولوج للتناول الموضوعي لطبيعة مآلات هذه الحرب، وهل يمكن اعتبارها انتصارًا ولو من بعض الوجوه، أم هي حالة انكسار محض، مع إقرار الجميع بالثبات الأسطوري والمقاومة الباسلة والشعب الصبور الحاضن لمقاومته حتى النهاية، رغم الحصار والتآمر لقوى الشرِّ العربية والغربية على أهل غزة الباسلة؟
والمقال لا يتناول المكتسبات غير المخطط لها أو المرادة من المعركة ابتداء؛ فهي من الأقدار الإلهية والهبات الرحمانية التي واكبت الحدث أو تلته أو متوقعة من تداعياته مستقبلًا، كما أن المقالة لم تذهب للقول باستجرار المقاومة من المحور الإيراني وأنها كانت ضحية لمخطط صفوي أو روسي، أو أن القرار لم يكن محلَّ اتفاق أو إجماع داخل قيادة حركة المقاومة؛ لأن الأصل خلاف ذلك ولا يزول الأصل بالشكوك والظنون بل تحتاج لبينات وبراهين قاطعة، بل إن إيران وأذرعها هي أكبر المتضررين من هذه الحرب؛ وفق تصريحات المسئولين الإيرانيين أنفسهم حيث صرح نائب الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية جواد ظريف في منتدى دافوس: “لم نكن نعلم شيئا عن السابع من أكتوبر إذ كان من المقرر أن نلتقي بالأميركيين بشأن تجديد الاتفاق النووي في التاسع من أكتوبر، لكن العملية دمرته” أ.ه، وقد صرّح أحد الشخصيات العسكرية في المقاومة، من خلال برنامج (ما خفي أعظم)، بأن المحور بمختلف أطرافه لم يكن على علم مسبق بتوقيت العملية أو تفاصيلها الدقيقة، ولكنه أكد أن هناك معلومة قد وصلت للمحور بوجود إرادة قوية لدى المقاومة لتنفيذ عملية نوعية كبيرة.
وعند تحليل المشهد العام، يتبين أن إيران، بصفتها الدولة القائدة للمحور، لم تكن في وضع يسمح لها بالاستفادة المباشرة من توقيت العملية أو حجمها. بل على العكس، جاء التوقيت بشكل غير مناسب، مما وضعها في موقف حرج على المستويين السياسي والعسكري.
ورغم أن العملية حملت دلالات رمزية واستراتيجية، إلا أن نتائجها جاءت عكسية على المحور، حيث شكلت قدرًا نافذًا أحدث تغييرات جذرية في معالم المنطقة، سواء على صعيد النهوض أو التراجع. وفيما يتعلق بالتفاصيل الخاصة بالعملية وقراراتها، فإنها تندرج ضمن الشؤون التنظيمية الداخلية للمقاومة، حيث تعود مهمة النقد وتصحيح المسار إلى أجهزة الحركة المختلفة، مع الإشارة إلى أن ذلك لا يعني غياب دور المناصحة البنّاءة.
أما فيما يخص المراقبين والدارسين، فإن الأهم هو تأكيد أن قرار الحرب كان فلسطينيًا خالصًا، وجاء في إطار حرب التحرير المستمرة التي لم تتوقف منذ نشأة الاحتلال، ولن تتوقف بإذن الله تعالى حتى زواله.
وقد سبق أن تناولت في بعض المقالات منهجية النصر في المنظور الشرعي ولكنه لم يكتمل وسيكون لذلك تتمة في وقت لاحق -إن شاء الله- ولكن سيكون الحديث في هذه المقالة من منظور استراتيجي لماهية النصر والهزيمة مستعينًا بالعلوم العسكرية والسياسية في ذلك.
أولًا: تعريف النصر عسكريًّا:
النصر العسكري يُعرَّف بأنه تحقيق الأهداف المحددة في إطار العمليات القتالية، سواء كانت أهدافًا تكتيكية أو استراتيجية، ويُعتبر النصر انعكاسًا للقدرة على التفوق في ساحة المعركة وإلحاق الهزيمة بالعدو، ويمكن تقسيم تعريف النصر العسكري إلى العناصر التالية:
1. تحقيق الهدف العسكري:
يشمل الوصول إلى الأهداف العسكرية المحددة مسبقًا، مثل احتلال مواقع استراتيجية، دحر قوات العدو، أو إجبار الخصم على قبول شروط معينة. على سبيل المثال، في الحرب العالمية الثانية، كان استسلام ألمانيا واليابان بمثابة تحقيق للأهداف العسكرية للحلفاء.
2. تفوق القوات:
التفوق العسكري يعتمد على القدرة على استخدام الموارد والتكتيكات بفعالية لتحقيق نتائج ملموسة. مثال ذلك هو حرب الخليج الثانية (1991م)، حيث تفوقت القوات الدولية بقيادة الولايات المتحدة على العراق من خلال التكنولوجيا العسكرية المتقدمة وكانت هزيمة الجيش العراقي وتراجعه وانسحابه.
3. إلحاق الهزيمة بالعدو:
يتحقق النصر العسكري عبر تدمير قدرة العدو على المقاومة، نموذج لذلك هو الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973م، حيث تمكنت القوات المصرية والسورية من تحقيق نجاحات تكتيكية في المراحل الأولى من الحرب.
4. تحقيق الهيمنة:
السيطرة على ساحة المعركة أو تحقيق تفوق عسكري طويل الأمد. مثال ذلك هو الهيمنة التي فرضها الحلفاء في معركة نورماندي (1944 م)، التي غيرت موازين الحرب العالمية الثانية.
5. التداعيات السياسية:
النصر العسكري غالبًا ما يترتب عليه نتائج سياسية، مثل فرض معاهدات السلام أو إعادة رسم حدود الدول، مثال ذلك اتفاقية فرساي التي أنهت الحرب العالمية الأولى.
***
ثانيًا: أنواع النصر العسكري:
1. النصر التكتيكي:
النصر التكتيكي هو نجاح في تحقيق هدف محدد أو هدف قصير المدى في إطار معركة أو عملية عسكرية محدودة. يتميز هذا النوع من النصر بتركيزه على موقع أو عنصر معين من الخطة العسكرية الشاملة.
خصائصه:
– نطاق محدود جغرافيًّا وزمنيًّا.
– يعتمد على التخطيط والتنفيذ الفوري.
-يكون عادة جزءًا من خطة استراتيجية أكبر.
نموذج عملي:
عبور الجيش المصري لقناة السويس – حرب أكتوبر 1973م:
– نجح الجيش المصري في عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف الدفاعي الإسرائيلي في الساعات الأولى من الحرب.
– هذا النصر كان تكتيكيًّا لأنه ركز على تحقيق اختراق في جبهة محدودة، ولكنه ساهم بشكل كبير في تحقيق أهداف استراتيجية أوسع.
2. النصر الاستراتيجي:
النصر الاستراتيجي يشمل تحقيق أهداف عسكرية بعيدة المدى تؤثر على مسار الحرب بشكل عام، يتعلق هذا النوع بإحداث تغيير شامل في موازين القوى على المستوى الإقليمي أو الدولي.
خصائصه:
– يشمل مناطق واسعة وأهدافًا طويلة المدى.
– يتطلب تخطيطًا شاملًا وموردًا أكبر.
– يؤدي إلى تغيير جذري في مسار الحرب أو النزاع.
نموذج عملي:
السيطرة على برلين – نهاية الحرب العالمية الثانية- (1945م):
– تمكن الحلفاء، بقيادة الاتحاد السوفيتي، من اقتحام برلين والسيطرة عليها.
-كان سقوط برلين بمثابة نقطة تحول استراتيجية أنهت الحرب في أوروبا وأجبرت ألمانيا على الاستسلام.
-أثرت هذه السيطرة على الترتيبات الجيوسياسية في أوروبا بعد الحرب.
3.النصر الكامل:
النصر الكامل هو عندما يتم القضاء على قدرات العدو العسكرية والسياسية تمامًا، مما يؤدي إلى استسلامه أو انهياره الشامل. غالبًا ما يكون هذا النوع من النصر نتيجة لتفوق كامل وشامل للطرف المنتصر، ولعل هذا النوع يمكن أن نطلق عليه كسب الحرب نهائيًّا لا كسب المعركة في سياق محدود، وربما أطلقنا عليه مسمى الفتح لأنه نتاج تراكمي للانتصارات العسكرية التكتيكية والاستراتيجية، كما يترتب على ذلك المكتسبات السياسية كالاستقلال لمن كان تحت الاحتلال أو التحرير السياسي لمن كان تحت الاستبداد.
خصائصه:
– إنهاء الحرب بشكل حاسم.
– إزالة قدرة العدو على المقاومة العسكرية أو السياسية.
– غالبًا ما يؤدي إلى تغييرات جذرية في النظام السياسي أو الجغرافي.
نموذج عملي:
استسلام اليابان – نهاية الحرب العالمية الثانية (1945):
– بعد قصف مدينتي هيروشيما وناجا زاكي بالقنابل الذرية، استسلمت اليابان للحلفاء.
– كان هذا النصر كاملًا لأن اليابان فقدت تمامًا قدرتها على المقاومة، وانتهت الحرب في المحيط الهادئ.
– أدى هذا النصر إلى تغييرات جذرية، بما في ذلك احتلال اليابان من قبل الولايات المتحدة وإعادة تشكيل نظامها السياسي.
وخلاصة القول فإن أي نوع من النصر العسكري يلعب دورًا مهمًّا في تحقيق الأهداف العامة للحرب، ويعتمد نجاح أي جيش على التنسيق بين الانتصارات التكتيكية والاستراتيجية للوصول إلى نصر كامل.
***
ثالثًا: قراءة في اتفاق الهدنة بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني من منظور النصر العسكري:
لفهم الاتفاق بين حماس وإسرائيل من منظور النصر العسكري، يتعين تحليل الاتفاق من خلال أهداف كل طرف وتقييم مدى تحقيق تلك الأهداف، سواء على المستوى التكتيكي أو الاستراتيجي، والاتفاقات من هذا النوع غالبًا ما تكون مشحونة بالتوترات السياسية والعسكرية، حيث يسعى كل طرف إلى تأطير النتائج على أنها نصر يخدم أهدافه بعيدة المدى. وهذا شيء طبيعي في ظل الحروب.
أهداف الحرب ومكاسبها للجانب الفلسطيني:
أطلقت حركة حماس حرب “طوفان الأقصى” لتحقيق أهداف ترتبط بالدفاع عن المقدسات، كسر الحصار، تعزيز مكانة المقاومة، وفرض معادلات جديدة مع الاحتلال، وهذه الأهداف تحمل بُعدًا سياسيًّا وعسكريًّا ودينيًّا، وتسعى الحركة من خلالها إلى تغيير الوضع القائم وتحقيق مكتسبات للشعب الفلسطيني على المدى القريب والبعيد.
وأبرز هذه الأهداف تتلخص فيما يلي:
1. الدفاع عن الأقصى والمقدسات الإسلامية، والردُّ على جرائم الاحتلال التي لم تتوقف عن المسجد الأقصى.
2. كسر الحصار على قطاع غزة والذي دام لسنوات دون حلٍّ جذريٍّ، وقد أدى لمعناة إنسانية كبيرة.
3. تعزيز مكانة المقاومة الفلسطينية في ظل حالة الجمود السياسي ومحاولات فرض التطبيع وتجاهل القضية الفلسطينية دوليًّا وإقليميًّا وتوحيد الفلسطينيين حول خيار المقاومة.
4. الإفراج عن الأسرى؛ ملف الأسرى كان حاضرًا بقوة؛ حيث خططت حماس لاستخدام الجنود والمستوطنين الذين تم أسرهم كورقة ضغط للتفاوض على إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
5. إعادة صياغة قواعد الاشتباك مع إسرائيل، حيث أرادت المقاومة أن تُظهر أن المواجهة ستمتد داخل الأراضي المحتلة عام 1948م، وأن مستوطناتها أصبحت في مرمى النيران، وفي ذلك إحراج للكيان الصهيوني على المستوى الإقليمي والدولي وتحطيم للصورة الذهنية التي يحرص الكيان ترويجها بأنه الجيش الذي لا يقهر.
هذه بعض الأهداف التي تم الاطلاع عليها مما هو منشور في أدبيات المقاومة أو تم الاستماع إليها من خلال الجلسات المباشرة مع المسؤولين في قيادة المقاومة الفلسطينية، وهذه بطبيعة الحال هي جزء من الأهداف التي توختها حركة حماس من الحرب وكلها يمكن إدراجها في الأهداف الاستراتيجية والتكتيكية، ولم تستهدف الانتصار الكامل الذي يقتلع الكيان كليًّا، ويحقِّق الأهداف النهائية للشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة.
ومن خلال هذه الأهداف يمكن القول بأنه من السابق لأوانه القول بأن الحرب قد حقَّقت أهدافها المعلنة في ظل إعلان بنود الهدنة وعدم الاطمئنان لديمومتها، وربما يتجدَّد القتال في أي لحظة من قبل بني صهيون وهم أكثر الأمم غدرًا وخيانة، ولكننا نسجل بعضًا مما تم تحقيقه تكتيكيًّا واستراتيجيًّا لصالح القضية الفلسطينية وذلك في النقاط التالية:
أولًا: المكاسب التكتيكية:
1. اختراق العمق الإسرائيلي:
نفذت حماس عمليات نوعية مفاجئة في عمق الأراضي المحتلة، مما أربك المنظومة الأمنية الإسرائيلية وأظهر ثغرات كبيرة في استعداداتها العسكرية والاستخباراتية.
2. إطلاق آلاف الصواريخ:
أظهرت حماس قدرة على إطلاق وابل كثيف من الصواريخ على مدى أشهر متواصلة، بما في ذلك استهداف مناطق استراتيجية مثل تل أبيب ومدن رئيسة أخرى، مما أصاب الحياة اليومية داخل إسرائيل بالشلل.
3. أسر جنود ومدنيين إسرائيليين:
أسر عدد من الجنود والمستوطنين واستخدامهم كورقة ضغط للمفاوضات المستقبلية بشأن الأسرى الفلسطينيين، مما شكل ضغطًا على الحكومة الإسرائيلية منذ بداية الحرب وحتى نهايتها وكانت الورقة الأقوى لدى المقاومة.
4. إدارة المعركة رغم الحصار:
برهنت حماس على قدرتها على مواصلة العمليات العسكرية وإدارة معركة طويلة الأمد رغم الحصار الخانق المستمر على قطاع غزة.
5. توظيف الإعلام والحرب النفسية:
استطاعت حماس توظيف الإعلام بشكل فعال لإظهار قدرتها العسكرية وتعزيز الروح المعنوية لدى الفلسطينيين ومناصريها إقليميًّا ودوليًّا.
ثانيًا: المكاسب الاستراتيجية:
1. إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة الدولية:
نجحت حماس في تسليط الضوء على القضية الفلسطينية عالميًّا بعد فترة من التجاهل الدولي، ولفت الانتباه إلى معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال والحصار، كما ساهمت الحرب في تأخير عمليات التسارع نحو التطبيع الذي كان يسير بوتيرة غير مسبوقة.
2. تعزيز مكانة المقاومة:
أظهرت أن خيار المقاومة لا يزال قائمًا وفاعلًا في ظل الجمود السياسي والتطبيع المتزايد مع إسرائيل، مما عزز مكانتها في الشارع الفلسطيني والإقليمي.
3. تغيير قواعد الاشتباك:
فرضت معادلة جديدة على إسرائيل، حيث باتت المناطق داخل الأراضي المحتلة عام 1948م في مرمى الصواريخ، مما شكل تحديًا جديدًا لمنظومة الردع الإسرائيلية.
4. ضغط على الكيان الصهيوني في ملف الأسرى:
أضافت ورقة جديدة للمفاوضات المستقبلية عبر أسر جنود ومدنيين، ما يجعل ملف تبادل الأسرى محوريًّا في أي تسوية مستقبلية.
5. توحيد الفلسطينيين حول المقاومة:
نجحت في حشد دعم شعبي واسع داخليًّا وخارجيًّا، وخلقت حالة من الوحدة حول خيار المقاومة كسبيل لتحقيق المطالب الوطنية.
6. إضعاف صورة الردع الإسرائيلية:
أظهرت الحرب محدودية قدرة إسرائيل على حماية مستوطنيها من الهجمات المفاجئة، مما أثر على صورتها كقوة لا تُقهر.
التقييم العام:
• تكتيكيًّا: تمكنت حماس من تحقيق اختراقات ميدانية ومعنوية أربكت إسرائيل وأثبتت استعدادها العسكري.
• استراتيجيًّا: أعادت توجيه الأنظار للقضية الفلسطينية، عزَّزت خيار المقاومة، وأجبرت إسرائيل على التعامل مع معادلات جديدة.
رغم هذه المكاسب، فإن الإنجازات مرتبطة بمدى نجاح الحركة في البناء عليها سياسيًّا وعسكريًّا واستراتيجيًّا بعد انتهاء العمليات العسكرية، ومدى ديمومة وقف الحرب واستمرارها، وما مدى حجم التنازلات التي قدمتها المقاومة للسلطة الفلسطينية في إدارة القطاع، وطبيعة الرؤية الوطنية الفلسطينية لحرب التحرير مستقبلًا، في ظل تراجع المحور الذي ظلت المقاومة الفلسطينية جزءًا منه وتراهن عليه كثيرًا.
أهداف الحرب المعلنة من قبل الكيان ونتائجها الأخيرة:
الأهداف التي أرادت إسرائيل تحقيقها من خلال إعلانها الحرب على قطاع غزة ردًّا على عملية “طوفان الأقصى” والتي أطلقتها حركة حماس تمحورت حول النقاط التالية:
1.القضاء على قيادة حماس ومراكزها العسكرية.
2.تحييد قدرات المقاومة العسكرية.
3.إعادة الردع ونظرية التفوق العسكري في المنطقة.
4.استعادة الأسرى والمفقودين.
5.تحقيق استقرار أمني طويل الأمد.
6.تفريغ قطاع غزة من سكانه وتهجيرهم وجعل القطاع منطقة غير صالحة للبقاء.
هذه الأهداف أغلبها تم الإعلان عنه رسميًّا، بينما القليل منها أكدته العمليات على الأرض والتصريحات الصادرة عن المسؤولين الإسرائيليين بشكل مباشر أو غير مباشر، مثل الهدف المتمثل في التهجير وإخلاء قطاع غزة من سكانه.
هل حققت إسرائيل أهدافها مع الهدنة المعلنة؟
مع دخول الهدنة حيز التنفيذ، يمكن تقييم تحقيق إسرائيل لأهدافها بشكل مرحلي كالتالي:
1. القضاء على قيادة حماس ومراكزها العسكرية:
إسرائيل نفذت عمليات اغتيال طالت قيادات بارزة في حركة حماس، واستهدفت مواقع عسكرية، لكنها لم تتمكن من تعطيل وتفكيك البنية القيادية للحركة بما يشلها عن التنسيق والربط أو العجز التام عن تحقيق منظومة الضبط والسيطرة أو القضاء الكامل على المراكز العسكرية للحركة.
2. تحييد قدرات المقاومة العسكرية:
رغم القصف المكثف والتدمير الممنهج ومشاركة العديد من الجيوش في مختلف المراحل فقد استمرت المقاومة بإطلاق الصواريخ طوال فترة الحرب، مما يشير إلى أن القدرات العسكرية للمقاومة لم تُحيد بالكامل حيث ظلت الحركة قادرة على المواجهة وتنفيذ العمليات وإحداث النكاية بالعدو حتى اليوم الأخير.
3. إعادة الردع:
إسرائيل أظهرت قوة عسكرية هائلة، لكن استمرار الهجمات الصاروخية واختراقات المقاومة أفقدها جزءًا لا يستهان به من هيبة الردع التي كانت تسعى لتعزيزها.
4. استعادة الأسرى والمفقودين:
لم تنجح إسرائيل في استعادة جميع الأسرى خلال العمليات العسكرية، مع الهدنة قد يكون هذا الملف مرهونًا بالمفاوضات غير المباشرة مع المقاومة.
5. تحقيق استقرار أمني طويل الأمد:
لا يزال الوضع الأمني للكيان الصهيوني هشًّا، حيث لم تتمكن إسرائيل من تحقيق ضمانات واضحة تحول دون التصعيد المستقبلي. وفي المقابل، شهدت تآكلًا ملحوظًا في مستوى التعاطف الدولي الذي كانت تعتمد عليه ضمن سرديتها المستندة إلى المظلومية التاريخية.
6. تفريغ القطاع وتهجير السكان:
حتى الآن لم يحقق الكيان الصهيوني بغيته في تهجير سكان القطاع خارج فلسطين ولم يُسجل نزوح جماعي واسع من سكان غزة إلى خارج القطاع، رغم الضغوط الكبيرة التي يواجهونها، وسكان غزة يتميزون بصمود كبير وتشبُّث بأرضهم، وهذا يتعارض مع أي خطة تستهدف إفراغ القطاع بشكل كامل، ومع ذلك لا يمكن إنكار أن هناك عددًا من السكان خاصة من الشباب يسعون للهجرة بسبب الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، ولكن هذا لا يعني تحقيق هدف “التفريغ”، بل هو نتيجة طبيعية للضغوط الإنسانية والاقتصادية.
التقييم العام:
بالرغم من الدمار الكبير الذي أحدثته الحرب في قطاع غزة أرضًا وشعبًا وتدمير بعض القدرات العسكرية للمقاومة والتي تحتاج بعض الوقت لاستعادتها، ولكن وفقًا للأهداف المعلنة من الحرب بالنسبة للكيان الصهيوني لم تنجح إسرائيل في تحقيق أهدافها الاستراتيجية بشكل كامل، والدخول في الهدنة يعكس أن الطرفين وصلا إلى نقطة توازن نسبي دون حسم شامل لأي منهما.
الخلاصة:
النصر العسكري لا يقتصر على السيطرة الميدانية أو تدمير القدرات القتالية للخصم، بل يشمل تحقيق أهداف استراتيجية طويلة الأمد، وفي حالة اتفاق الهدنة بين المقاومة والكيان الصهيوني يمكن أن يُنظر إلى الاتفاق بأنه حالة توازن بين الطرفين لعدم تحقيق كل طرف ما تم الإعلان عنه من الأهداف السياسية والعسكرية.
النصر العسكري في سياق شعب تحت الاحتلال:
من المهم جدًّا تناول مفهوم النصر العسكري في سياق حرب تحرير يخوضها شعب تحت الاحتلال؛ فإن منطق الحسابات التقليدية غير موضوعي، وذلك لغياب التكافؤ بين الطرفين وطبيعة ونوع الحرب التي يخوضها كل طرف وأهدافها؛ فتحقيق السيادة والحرية والكرامة والاستقلال لا يكافئه شيء بالنسبة لمن يخوض حرب التحرير! فكم من ثورات تحررية تسحق تمامًا، ثم تعود للمشهد أقوى مما كانت عليه؛ وذلك لحضور وفاعلية القضية وإرادة أصحابها وعزيمتهم، والتاريخ الثوري للشعوب يشهد بذلك في مختلف القارات، من أوروبا إلى آسيا وإفريقيا وغيرها، وهناك أمثلة عديدة لذلك منها: الثورة الجزائرية، والثورة الفيتنامية، والثورة الإرترية، والحروب الأفغانية المتعددة، وقد خاضت بعض هذه الحركات حروب تحرير في مواجهة قوى عظمى، وكلها تؤكد حقيقة راسخة: أن الشعوب المحتلة، أصحاب الأرض، تنتصر في النهاية رغم جسامة التضحيات وفداحة الجرائم التي ترتكب ضدها، غير أن العبرة دائمًا تكون بتمام النهايات لا بنقص البدايات.
فمما يجب الانتباه إليه في مفهوم النصر بالنسبة لشعب تحت الاحتلال ما يلي:
1. إضعاف قوة الاحتلال:
يُقاس النصر العسكري في سياق الاحتلال بالقدرة على إضعاف قوة الاحتلال، أو إحداث تأثيرات استراتيجية تُغيِّر ميزان القوى لصالح الشعب المحتل، وحتى في حال عدم تحقيق انتصار عسكري ساحق، يمكن اعتبار إضعاف الاحتلال أو فرض تكاليف باهظة عليه خطوة مهمة نحو تحقيق النصر.
2. الصمود أمام الاحتلال:
– في حالات الاحتلال، يختلف مفهوم النصر عن الانتصار العسكري التقليدي؛ حيث يمكن اعتبار الصمود المستمر أمام الاحتلال بكل أشكاله نوعًا من النصر.
– إفشال الاحتلال في تقويض عزيمة الشعب أو إخماد حركته يُعدُّ إنجازًا استراتيجيًّا.
3. الإرادة الشعبية:
– يُقاس النصر العسكري أيضًا بقدرة الشعب المحتل على الحفاظ على إرادته السياسية، والثقافية، والإنسانية.
– استمرار المقاومة على الرغم من الضغوط العسكرية والسياسية يعكس تحقيق شكل من أشكال النصر.
4. تحقيق الأهداف السياسية تدريجيًّا:
– يُعدُّ النصر العسكري غالبًا جزءًا من نصر سياسي أشمل، وتحقيق المكاسب السياسية مثل الاعتراف بحقوق الشعب وكسر إرادة البقاء للمحتل في ظل كيان استيطاني خبيث فكرته قائمة على الاستيطان وادعاء حقوق تاريخية يمكن اعتبار كل ذلك امتدادًا للإنجاز العسكري.
5. الدعم والضغوط الدولية:
– يمكن اعتبار النصر العسكري جزئيًّا إذا تمكن الشعب المحتل من كسب دعم دولي واسع لقضيته، حيث تُسهم الضغوط الدولية الناتجة عن هذا الدعم في إجبار الاحتلال على تقديم تنازلات أو الدخول في مفاوضات بشأن تسويات سياسية.
*******
الخلاصة:
وخلاصة القول فالنصر العسكري لشعب تحت الاحتلال لا يُقاس بالوسائل التقليدية كما تقاس الحروب بين دول أو كيانات متكافئة القوة، بل يشمل النصر أمورًا أخرى كالصمود، الحفاظ على الإرادة، تحقيق مكاسب سياسية، وفرض تكلفة مستمرة على الاحتلال.
ولو نظرنا لحرب غزة الأخيرة فرغم ما فيها من معاناة وتحديات ولكنها في ذات الوقت تحمل في طياتها الكثير من المنح والفرص لتعزيز الصمود الفلسطيني وتراجع القوة الصهيونية وغطرستها، والتي أثبتت الحرب بأنه لولا الدعم الغربي اللا محدود والحصار الذي ضربه العالم بما فيهم الأنظمة العربية على الشعب الفلسطيني لتغيرت المعادلات السياسية والعسكرية، ولكن الحرب هي تراكم مكتسبات وانتصارات وصولًا للحسم والانتصار النهائي بإذن الله تعالى.
وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إلى ملحظ مهم جدا بين ما يقع للناس من قتل ومصائب وبين النصر وحصوله حيث قال:” إن حصول النصر لا ينافي ما يقع في خلال ذلك من قتل وجرح وذلك أن الخلق كلهم يموتون فليس في قتل الشهداء مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبني آدم فمن عدّ القتل في سبيل الله مصيبة مختصة بالجهاد كان من أجهل الناس، فإن الموت يعرض لبني آدم، فالذين يعتادون القتال لا يصيبهم أكثر مما يصيب من لا يقاتل بل الأمر بالعكس كما قد جربه الناس، ثم موت الشهيد من أيسر الميتات” قاعدة في المحبة ص149.
قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} النساء: 104
والحمد لله رب العالمين
********
نقلاً عن:
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=9009493329088396&id=100000834560502