خاص هيئة علماء فلسطين

         

26/10/2023

الكاتب: محمد بن محمد الأسطل / مِن علماء غزة المقيمين فيها طيلة أيام معركة طوفان الأقصى

لست ممن يعتني بالردِّ على أيِّ لغطٍ يُثار في أيِّ قضيةٍ على وسائل التواصل؛ إجلالًا للمقام العلمي، وضنًّا بالوقت أن يذهب في غير فائدة أو فيما فائدته محدودة.

وفي الأيام الماضية سألني بعض الإخوة عمن يقول: إنه لا حاجة لاستفزاز العدو الصهيوني لئلا يردَّ هذا الرد.

واستثناءً مما ألتزمه في نفسي أجيب جوابًا سريعًا بما ينقدح في الخاطر؛ لأنَّ عنايتي غير متوفرة للجواب عن ذلك في مثل هذا الظرف فأقول:

هذه أربعة أسباب فقط بين يديك:

الأول:

إن العدو آخذٌ في تدنيس المسجد الأقصى وتهويده وبناء الهيكل بقفزات سريعة غير مسبوقة، فما كان يقطعه من الخطوات في سنتين أو ثلاث صار يقطعه اليوم في أسبوعين أو ثلاثة، مع ما يتضمنه ذلك من إهانةٍ للمقادسة وإذلالٍ لهم وتنكيل بهم واعتقال لفضلائهم.

هذا فضلًا عن الحَجْرِ عن فئات كثيرة لم يعد بوسعها أن تصل للمسجد الأقــصى للصلاة فيه، وكان هناك في حدود 50 حلقة علمية في المسجد كلها مُنِعت من سنين.

وفي الأيام التي سبقت العملية دنس المسجد الأقصــى قرابة خمسة آلاف مستوطن إن لم يكن أكثر، وهذا هو العدد الأكبر الذي يحصل خلال أيام قليلة ولم يحصل مثله من عشرين سنة، فجاءت هذه العملية للرد على هذا التدنيس والتهويد المتزايد، ودلالة ذلك ظاهرةٌ في اسم المعركة: “طــوفـان الأقصــى”.

الثاني:

إن العدو يمارس علينا عمليات موتٍ بطيء منذ خمس عشرة سنة، وعندنا جيلٌ شبابيٌّ كامل وُلِد داخل الأزمة، وجيل العشرينات والثلاثينات في أكثره معطلٌ في عامة جوانب حياته.

وكثيرٌ منهم لا يستطيع أن يتم تعليمه، ولا أن يتزوج ولا أن يبني بيتًا ولا أن يجد وظيفة.

وهذا كله ورَّث المجتمع كثيرًا من المشكلات الاجتماعية، فالبطالة تزيد والعنوسة تزيد، وقائمة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية تطول وتطول.

ومؤخرًا هاجر من البلد عشرات الآلاف إلى بلاد الغرب ليجدوا شيئًا من القوت الذي يقتاتون به، وهناك العشرات أو المئات ابتلعتهم الحيتان والأسماك في البحر، مع أن غاية ذهابهم الانتقال من أزمة إلى أزمة.

الثالث:

إن العدو يعذب سادتنا الأسرى، وكثيرٌ منهم يموت كل يوم مرات ومرات، ولك أن تتخيل أن بعضهم يعيش في متر ونصف من ثلاث عشرة سنة، وبعض الأسرى يتم إدخالهم إلى زنازين ملطخة جدرانها بالبراز، ويبقى الأسير في تنظيفها يومين أو ثلاثة في حالةٍ كئيبةٍ من الأذى وربما الانهيار النفسي.

هذا مع تعرية الأسير من الملابس، وضربه، فإذا انتهى من التنظيف نُقِل إلى زنزانةٍ أخرى ليعيد نفس الدور في كثيرٍ من الأحيان.

وقد بلغ الحال بالأسرى في المرحلة الأخيرة حدًّا لا يطاق، وبدؤوا يشعرون أن الأمة خذلتهم، وأنه لا أحد يشعر بشعورهم أو بمصابهم، بل لا يعلم بما يجري لهم!

ومع تصاعد الخط الديني في الحكومة الصهـيونــية بقيادة ابن غفير ومن على شاكلته ازداد الجحيم بالنسبة لهم، حتى وصل لحدٍّ لا يُطاق فعلًا.

وبدأت الأصوات في الأشهر الماضية تتعالى بضرورة العمل على تحريرهم واستنقاذهم من هذا الهوان.

أضف إلى ذلك ما تتعرض له الأسيرات من أفعال مهينة خادشة للدين والعفة والحياء مما لا أحب التطرق له هنا.

فجاءت هذه العملية لتضع حدًّا لهذه المآسي التي لا تكاد تنتهي.

الرابع:

ما صرَّحت به المقاومــة أنها استطاعت الوصول إلى معلومات سرية تكشف عن استعداد العدو لشن هجمة شرسة ضد قطاع غزة، بحيث تكون قاصمة، فأرادت المقاومــة أن تُفوِّت عليهم الفرصة، وأن تحرمهم من مكتسبات المباغتة، بل أرادت أن تكون مكتسبات المباغتة بيدها هي لا بيد العدو.

ومن ثم جاء هذا الهجوم الكاسح ليحقق عدة أغراض مجتمعة.

وقد مررنا بتجربة شبيهة في حرب 2014؛ إذ استقر عند المقاومة أن العدو يريد أن يشن حربًا قاصمة على غزة، فبدأت تستفزه بعشرات الصــواريــخ خلال يومين من غير إعلان رسمي، حتى اضطر للدخول من غير أن يقدر على تحقق المكتسبات التي يتمكن من إنجازها عبر المباغتة من مثل قتل أكبر عدد من القادة، أو مئات الجنود أثناء دورات التدريب وما إلى ذلك.

هذه أربعة أسباب كتبتها على عجل تحت أصوات الطائرات والصــواريــخ، لأقول بعدها:

إن أهل الثغور أدرى بأحوالهم، وحق الذي لا يعلم أن يسأل قبل أن يستقر على رأي، وهذا مقتضى الحكمة، ولا يُمنع من هو خارج البلد من أن يفتي في أمر البلد؛ ولكن بعد أن يستكمل أدوات العلم بالواقع كما هو معلومٌ من شروط الفتوى.

وإني لأكتب على ضيقٍ في الصدر؛ فإن وقت الأزمات وقت نصرة لا وقت نقدٍ وتقييم، وإن من تشبَّع برواية الأنظمة المستبدة التي تتبنى الرواية الصهــيونــية نفسها لن يقتنع، بل يكون متحفزًا للرد على كل من يقترب من قناعاته لئلا تُمس، ومن ثم فلا كبير نفع في مثل هذه المناقشات.

ونحن من سنين وسنين وعينا ما أخبرتنا به النصوص النبوية من وجود الفئة الخاذلة، وأخبرتنا النصوص كذلك أن أهل الثغور لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم بإذن الله.

وعندي يقين تامٌّ أن بعض الناس لا يهمه أن يبقى شعب بأكمله تحت الذل والهوان والطحن والفقر والأسرى وتدنيس المسرى والتنكيل بالأسرى، فكأن هذه الحالة هي الحالة الطبيعية التي ينبغي التعايش معها، ولست أدري من هو هذا الباطل الذي يسمح لك بالقضاء عليه ثم هو صامتٌ يعاملك بذوقٍ ولطف!

روى البخاريُّ في صحيحه عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: “لا يزال من أمتي أمةٌ قائمةٌ بأمر الله، لا يضرُّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك” قال معاذ: وهم بالشأم.

وأمر الله الذي سيأتي: هو يوم القيامة أو علاماته.

والطائفة المنصورة: هي التي تقوم بأمر الله، وتقيم دين الله، وأخص صفاتها: القتـال في سبيل الله، وهي مفرقة في الأمة لكن أخص موضع لها هو الشام.

والحاصل: أن الطائفة المنصورة تتسع لتشمل كلَّ قائمٍ بأمر الله في أي موضع، لكن أول الناس دخولًا فيها هم أهل الشام الذين يقاتــلون في سبيل الله.

والشام اليوم: فلسطين والأردن وسوريا ولبنان وإلى العريش من مصر وإلى الفرات من العراق وإلى تبوك من الحجاز وبعض المناطق في تركيا.

والحديث نصٌّ في أنَّ الطائفة المنصورة لا يضرها من خالفها ولا من خذلها، والمخالف يكون عادة من الخصوم والأعداء، والخاذل يكون من الأصدقاء والأقرباء.

وعلى ما تقرر؛ فإنَّ خِذلان الأمة لما يجري في فلسطين وفي الشمال السوري أمرٌ علمناه من النص النبوي.

على أنَّ شعوب أمتنا حية لكنها مكبَّلةٌ مُقيَّدة.

أسأل الله أن يفك القيد ويجمع أمر الأمة على كلمةٍ سواء وأن ينصرنا على القوم الكافرين.

أسأل الله جل جلاله أن ينصرنا على ما نحن عليه من ضعف، وأن يغنينا على ما نحن عليه من حاجة وفقر، وأن يُمَكِّنَ لنا على ما نحن عليه من عجز، وأن يعزنا على ما نحن فيه من ذلة، وألا يجعل لأحدٍ من المرجفين أو المخذلين علينا منة.

والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وكتبه:

محمد بن محمد الأسطل

الأحد 30-3-1445 هــ الموافق 15-10-2023

تاسع أيام معركة طـوفـان الأقصى