بقلم: د. وصفي أبو زيد
بحثتُ كثيراً في كتب القواعد بأنواعها ومذاهبها قديماً وحديثاً، فلم أجد لمقولة: «لا يفتي قاعد لمجاهد» أيَّ أثر في أي من كتب القواعد الفقهية المعروفة، ولا في الكتب التي تحدثت عن الجهاد سواء ضمن كتب السياسة الشرعية عامة أو تلك التي تناولت فقه الجهاد باستقلال، وهذا لا يعني حصر القواعد في كتب القواعد؛ فكم من القواعد الجديدة التي ظهرت لم تكن موجودة في كتب القواعد المعروفة، ولكنها مبثوثة في بطون كتب الفقه الكبيرة، وإنما المدار على دقة الصياغة، وصحة المعنى، مع إقامة الدليل على القاعدة.
وإنما يستخدمها بعض الساسة أو قيادات الحركات الإسلامية والجهادية أو المتعصبين لهم لفسح الطريق أمامهم ليختاروا ما يريدون ويقرروا ما يشاؤون دون رقابة علمية أو حسبة فقهية حتى لو صدرت من أهل الذكر المختصين المخلصين الذين أمرنا الله تعالى أن نرد إليهم أياً من أمور الأمن أو الخوف: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83)، قال العلامة عبد الرحمن السعدي في تفسيرها: «أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة، وفي هذا دليل لقاعدة أدبية؛ وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ».
وقد يستخدم هذه المقولة أهل الغلو من «الدواعش» وغيرهم لإسقاط مرجعيات العلماء في الأمة، وإطلاق يدهم في الميادين ليفعلوا ما يشاؤون.
وكيف لا يرجع المجاهدون للعلماء وحاجتهم لأهل العلم شديدة؛ حتى لو كان هؤلاء العلماء قاعدين أو ممنوعين أو عندهم أعذار تمنعهم من أن يكونوا مع المجاهدين.
وتاريخ الأئمة الأعلام شاهد على أن كثيراً منهم كان يرجع إليهم المجاهدون يستفتونهم فيما أهمهم من أمور الميادين وثغور الرباط، وكانوا يفتونهم، ومنهم الأئمة الأربعة فمن بعدهم، حتى عصرنا الحاضر وُجد علماء ما زال بعضهم على قيد الحياة كانت الحركات المجاهدة في فلسطين ترجع إليهم وتستفتيهم فيفتونهم؛ سراً وجهراً بناء على العلم بالواقع، ولم نسمع لأحد من المستفتين ساعتها قولهم: «لا يفتي قاعد لمجاهد»، كأن هؤلاء يريدون العلماء «تحت الطلب»، حين يحتاجونهم يرجعون إليهم ويستفتونهم، وحين يريدون إنفاذ ما يتصورونه صواباً رفعوا هذه المقولة في وجوههم: «لا يفتي قاعد لمجاهد»، أو «يا أخي ما دخلك بالسياسة؟ اترك السياسة للسياسيين»! لكم منطقكم وللسياسيين منطقهم، ويجب أن تعلموا الفرق بين الفقه والسياسة!
والحق أن هذا «الفصام النكد» لا يعرفه الإسلام، ولا يعرفه الفقه، أنتم الذين فرقتم هذا التفريق، فلم نعرفه إلا في ظل العلمانية التي تريد أن تفصل الفقه عن السياسة والدين عن الحياة، أما ديننا فلا يعرف هذا الفصل والفصم الذي يُميت الفقه والسياسة معاً، فأي فقه لفقيه لا يعرف السياسة؟ وأي سياسة لسياسي لا يعرف الفقه؟! فإذا لم يكن السياسي منضبطاً بالفقه فلا عبرة بسياساته، وإذا لم يكن الفقيه واعياً بالسياسة فلا عبرة بفقهه!
على أن كثيراً ممن يصفهم بعض المتعصبة وأهل الغلو بالقعود ليسوا قاعدين، إنما هم بين عالم ومتعلم، وبين معين للمجاهدين الذين يخلفون في أهاليهم بخير، وهؤلاء لهم مثل أجر المجاهدين، وقد أخرج البخاري بسنده عن زيد بن خالد الجهني، أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «مَن جَهَّزَ غازِياً في سَبيلِ اللَّهِ فقَدْ غَزا، وَمَن خَلَفَ غازِياً في سَبيلِ اللَّهِ بخَيْرٍ فقَدْ غَزا».
أما قول الله تعالى: (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (النساء: 95)، فهذا في عموم المسلمين، وهو تفضيل وليس نفياً للقاعدين بدليل ثبوت الفضل لهم في نص الآية لكن المجاهدين أفضل منهم، أما العلماء فلهم شأن آخر؛ إذ لا غنى لأهل الجهاد عن الرجوع للعلماء الثقات الربانيين يستفتونهم فيفتونهم.
حقيقة معنى هذه المقولة
وبما أنها ليست قاعدة، ولم توجد في كتب الفقه، فما معنى هذه المقولة إذن؟
إن معناها يصدق على كل مسألة، وكل فتوى، وكل مفتٍ في أي زمان ومكان، وفي كل جيل وحال.. كيف ذلك؟
مقتضى هذه المقولة أن «القاعد» ليس على علم بحال المجاهدين وأحوال الجهاد، وهذا ينطبق على المفتي الذي لا يعلم بالواقعة التي هي محل الإفتاء أو الاستفتاء؛ فإذا كان الفقه البعيد عن ساحات القتال على علم بأحواله وقريباً من أهله بحيث يمكنه ذلك من معرفة حقائق الأمور وموازناتها ومآلاتها ومقاصدها، فله حق الإفتاء، بل يجب عليه أن يغيث الأمة بالرأي الفقهي إذا كان أهلاً له.
بل لا أذهب بعيداً إن قلت: إن المجاهد الذي يجاهد في الميدان ويحمل السلاح لو كان جاهلاً بنصوص الشرع وأصول الفتوى ومقومات الاجتهاد لا يجوز له أن يفتي في مسائل الجهاد وقضاياه، بل يجب زجره وتأديبه!
وإن كانت هذه المقولة تصدُق على زمان قديم تتباعد فيه المسافات، ويبتعد فيه مكان الجهاد عن المفتين، بحيث لا يمكنهم هذا البعدُ من معرفة مجريات الأحداث والتصورات الحقيقية لواقع المسائل المستفتى عنها؛ فإن هذا لا ينطبق على عصرنا الذي لم يعد يخفى فيه شيء، بل إن الناس اليوم يشاهدون على الشاشات ما يجري في ساحات القتال وميادين الجهاد؛ فلم يعد مقبولاً كذلك مقولة: «أهل مكة أدرى بشعابها»، بل إن بعض أهل مكة لا يعرفون الطريق إلى الكعبة إلا باستخدام “GPS” الذي يستخدمه أهل مكة أنفسهم ويعرفون به شعابها، فلم يعد هذا مقبولاً بعد هذا التطور الهائل من وسائل اتصال جعلت العالم، لا أقول قرية واحدة، بل غرفة واحدة!
أما إذا كان المقصود بـ”القاعدين” أهل النفاق الذين يصدُّون عن سبيل الله، ويشوّهون صورة الجهاد والمجاهدين، فهؤلاء لا يؤخذ عنهم فتوى أصلاً، لا لمجاهد ولا لقاعد؛ لأنهم –حينئذ– لن يوثق بفتواهم، ولن تحقق فتاواهم مقاصدها الشرعية، فالناس ينظرون إلى دين المفتي وأخلاقه وإخلاصه وتجرده قبل أن ينظرون إلى علمه، وهكذا ينظر الشرع الشريف إلى الإفتاء والاستفتاء.
التأكيد على فقه واقع المسائل
ومن هنا، فإن إدراك الواقع، والتصور الحقيقي للمسائل المستفتَى عنها هو العمود الفقري للإفتاء الصحيح، وبدونه سيتنزل النص الشرعي على غير مناطه، ومن ثم يكون الضلال والإضلال.
ولهذا قال الإمام ابن تيمية: «والواجب أن يُعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين، فلا يؤخذ برأيهم ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا» (الفتاوى الكبرى، 5/ 539).
وقال تلميذه الإمام المحقق ابن قيم الجوزية: «ولا يتمكَّن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحُكم بالحقِّ إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فَهْم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقةِ ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات؛ حتى يحيط بها علماً.
والنوع الثاني: فَهْمُ الْوَاجِبِ فِي الْوَاقِعِ، وَهُوَ فَهْمُ حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ قَوْلِهِ فِي هَذَا الْوَاقِعِ، ثُمَّ يُطَبِّقُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ؛ فَمَنْ بَذَلَ جَهْدَهُ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَعْدَمْ أَجْرَيْنِ أَوْ أَجْراً؛ فَالْعَالِمُ مَنْ يَتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَةِ الْوَاقِعِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» (إعلام الموقعين عن رب العالمين، 1/69).
خلاصة الأمر أن المفتي يجب أن يكون عالماً بنصوص الشرع، وواعياً بالواقع الذي هو محل تنزيل نصوص الشرع ومحل الاستفتاء؛ فله حق الإفتاء، بل يجب عليه أن يفتي إذا سُئل حتى لو لم يكن في أرض المعركة، ويحرم الإفتاء على المجاهدين إذا كانوا غير ملمين بأحكام الشريعة فيما يتعرضون له من نوازل ومستجدات، ولا معنى حينئذ لمقولة: «لا يفتي قاعد لمجاهد» التي يشهرونها في وجه كل صاحب رأي أو انتقاد؛ حتى لو كان من أهل العلم المتجردين المخلصين؛ فإن الجهاد بالكلمة جهاد، والاشتغال بالعلم والتعليم «نفير» كما أسماه القرآن: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ) (النوبة: 122)؛ فلا غنى لأهل الجهاد في ميادين المعارك عن الرجوع لهؤلاء الربانيين.
نقلاً عن موقع مجلة المجتمع:
https://mugtama.com/theme-showcase/item/98916-2020-02-08-05-15-11.html