25/2/2025

د. أحمد نوفل

آيات الصيام .. وما أدراك ما عظمة آيات الصيام ؟!

خمس آيات بيّنات نيّرات حكيمات .. في القرآن .. كأنها تشير إلى الخمس الأركان !

صفحتان من القرآن حوت هذه الآيات الخمس، وكأنهما تشيران إلى صفحة النهار وصفحة الليل ..

ولذا جاء في الصفحة الأولى: ” أيّاماً معدودات ” .. ” شهر رمضان ” ..

وفي الصفحة الثانية: ” ليلة الصيام ” .. ” يسألونك عن الأهلّة ” .

فسبحان من رتب القرآن هذا الترتيب، ونسّقه هذا التنسيق العجيب. وكأن القرآن بهاتين الصفحتين اختزل الزمان، وكثّف الأوقات مثلما تجمّع الزمان وتكثّف .. في ليلة القدر ..

وهذه نظرة عامة على الآيات موقعها وترتيبها ونسقها:

ابتدأت الآيات بالنداء؛ لينسجم مع جو السورة الذي كثر فيه النداء. وجاءت الآية الأولى أقصر آية رمزاً للتخفيف، واستهلالاً بالمدخل اللطيف. وكانت آخر آية أطول الآيات، لقد روّضت النفوس وصارت تتحمل التكليف .

وجاء في وسط الآيات وفي درّة عقدها من حيث العدد (عدد الآيات): ” شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن “

ولا شك أن شهر رمضان واسطة عقد الزمان. وأن نعمة القرآن قلب النعم التي منّ بها المنّان على أمّة الإيمان، أما رأيت إلى سورة: ” الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ” وهي سورة الكهف جاءت في وسط وفي قلب سور الحمد مثلما جاءت آية: ” شهر رمضان ” في القلب من آيات الصيام؟

وأما الوسط من حيث المساحات والمسافات: فآية ” وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب ” فكأنّه صار للآيات: وسْط ووَسَط، وهذا له ملحظ، وهذا له ملحظ، فالقرب من الله واسطة عقد أهداف الصيام .. فتأمّل !

وملحوظة أخرى أن الآيات بدأت بالنداء كما سلف، وبالنداء تستجاش الطاقات، وتستجمع القدرات، وتحفز الإرادات والعزمات .. ثم بعد النداء: ” كُتِبَ ” وقد تعددت في السورة صيغة كُتِبَ، فقبل آيات الصيام مباشرة: ” كُتِبَ عليكم القصاص ”  ، ” كُتِبَ عليكم إذا حضر أحدكم الموت ..” وبعد كُتِبَ عليكم الصيام: ” كُتِبَ عليكم القتال “

وانظر إلى التنسيق العجيب: إنه ما كتب القتال إلا بعد تهذيب الأرواح بالصيام؛ لأن الإسلام العظيم حريص على الأرواح، وحتى لا يتحوّل الناس بحمل السلاح إذا لم تتهذّب الأرواح إلى كواسر وضوار، كالذي تراه من الذين حملوا السلاح دون أن تتهذب نفوسهم وطباعهم وأرواحهم وتركوا أخلاقهم فتحوّلوا إلى وحوش ضارية، تقتل بلا رادع ولا وازع، فتأمّل  حكمة الباري !

وملحوظة أخرى  أن آيات الصيام الخمس خُتمت بالفعل المضارع المفيد للحركة، فليس شهر رمضان شهر البطالة والعطالة، ولكنه شهر العمل والقوة، والإنتاج والجهاد .. من هنا جاءت فواصل الآيات فعلاً مضارعاً.

وملحوظة أخرى أن أربع آيات من الآيات الخمس ختمت بـ: ” لعلكم ” في أول آيتين، و “لعلهم” في آخر آيتين، فلم هذا؟

أقول: لعل مردَّ ذلك أن ” لعلكم ” بضمير المخاطب والدورة في حالة انعقاد.

أما ” لعلهم ” بضمير الغائب  فجاءت بعد أن انفضت الدورة وتوزع الخريجون على أرجاء الأرض ينشرون تعاليم السماء ..

وملحوظة أخرى  أن آيات الصيام ختمت في أولها بـ ” لعلكم تتقون ” وختمت في آخرها بـ ” لعلهم يتقون “

فبالتقوى ابتدأت وبالتقوى ختمت، ليقول لك بأن روح الصيام وأهم أهداف الصيام هو تحقيق التقوى.

وملحوظة عامة أخرى قبل أن ندخل في تفاصيل تفاسير كلمات الآيات:

إن آيات الصيام سُبقت بقوله تعالى: ” ليس البرًّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البِرّ من آمن ..”

واتبعت بقوله تعالى: ” وليس البِر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البِرَّ من اتقى ..”

ولا بدَّ أنّ في الأمر حكمة عظيمة .. وسراً عميقاً، وأعتقد أنه ما يلي:

إن أخطر ما تتعرض له العبادات أن تتحوّل إلى طقوس وشكليات، وتُفَرّغ من الروح والمضمون والفحوى والجوهر. ولعلّ الصيام أكثر عبادة تعرّضت لمثل هذه المسألة، وما زال الإعلام يُشغل الناس بالمسلسلات والمسابقات ونشر ثقافة التسلية والترفيه، وأنواع الوجبات حتى يصبح الصيام فريضة كأنها ما فُرضت إلا من أجل زيادة الاستهلاك، والمزاحمة في الأسواق، وزيادة الأعباء من النفقات، وزحام الطرقات ..

من هنا جاء سابقاً ولاحقاً: ليس البِرَّ، أي: يا مسلمون لا تُحوّلوا العبادات إلى عادات وطقوس وشكليّات .. فليس البِرَّ في الشكليات إنّما البر في الجواهر والمحتويات .. فتأمّلوا ترتيب الآيات .

وملحوظة أخرى:

أنه زُعم أن في الصيام كثيراً من الأحكام المنسوخة وبعض الكلمات والآيات المنسوخة، وليس في الواقع شيء من ذلك على الإطلاق، فقوله تعالى: ” كما كتب على الذين من قبلكم ” والذي زعم أنه منسوخ، وما به نسخ، فليس المقصود أنه كتب عليكم بتفاصيله وأحكامه الفرعية كما كتب على الذين من قبلكم، لا، وإنما كتب عليكم أصل الفريضة .. فريضة الصيام كما كتب الصيام في أصله على الذين من قبلكم، فالصوم كالصبر، قانون عام في الدين .. لا يعرى منه منهج أنزله رب العالمين .. في الأولين ولا في الآخرين.

وكلمة: ” أياماً معدودات ” قيل – زعماً – بأنه نسختها كلمة ” شهر رمضان ” فقد كان الصيام أياماً ثم فرض شهراً، ولا والله، ما الشهر إلا هذه الأيام المعدودات، فشهر رمضان توضيح وبيان وليس نسخاً للكلمات السابقة.

وكذا زعموا أنه نسخ قوله تعالى: “وعلى الذين يطيقونه فدية ” وأنه إن كان الأمر بالتخيير فمن شاء صام ومن شاء افتدى، ولا والله ما كان، وإنما معنى يطيقونه: يستطيعونه بمشقة بالغة، فهم على تخوم لا يطيقونه وإن كانوا يطيقونه، فافطن رعاك الله. 

وكذا زعموا أن ” أحل لكم ” نسخت أحكاماً كان معمولاً بها، وهذا الذي زعموا أنه كان معمولاً به إنما هو استصحاب الواقع لا أنه أحكام شرِّعت لهذا الواقع، فتدبر !

ملحوظة أخرى سميتها: اللطف في آيات الصيام .

وفيها أقول:

القرآن كلام اللطيف الخبير، والصيام فرض وركن فرضه الله اللطيف بعباده كما قال: ” الله لطيف بعباده “، ومن تأمّل آيات الصيام وجدها تفيض باللطف فيضاً، فأولاً البدء بالنداء وبأحب الأسماء: ” يا أيها الذين آمنوا ” وما فيه من معنى التودد والتلطف، فأنت لا تنادي بأحب الأسماء إلا أحب الأشخاص، ثم ما في النداء من حفز وحث وتشجيع واستجاشة للاستجابة، فالنداء مشحون باللطف.

وثانياً: قوله تعالى : ” كُتِبَ ” بالبناء للمجهول .

وهذا فيه منتهى التلطف ، فالإله العظيم اذا كَلَّف بما فيه مشقة بني الفعل للمجهول  حتى لا يقترن اسمه الجليل الحبيب : الله ، بالمشقة والثقل والتكليف . وتأمّل : ، ” كُتِبَ عليكم القصاص كُتِبَ عليكم اذا حضر احدكم الموت .., ”  كُتِبَ عليكم الصيام ” , ” كُتِبَ عليكم القتال “.. ” الخ

وتأمّل : “كَتَبَ الله لأغلبنّ انا ورسلي ” ، ” كَتبَ ربكم على نفسه الرحمة ” ، ” اولئك كَتبَ في قلوبهم الايمان ” .. الخ

 ولطف ثالث في قوله تعالى :” كما كُتب على الذين من قبلكم “

وذلك لمؤانسة المؤمنين والتلطف بهم ، فأنتم يا مسلمون تسلكون طريقا مطروقا سلكته الامم كلها من قبلكم ، ولستم تسلكون طريقا موحشا ، انتم فيه وحدكم ، فانظروا خلفكم تجدوا كل الامم وراءكم .. او امامكم .. لا مشكلة .. انها المؤانسة والملاطفة مرة اخرى .

واللطف الرابع في قوله تعالى : ” لعلكم تتقون ” .

 فالإله العظيم القدير ملك السموات والارض يعلل الافعال لعباده ، حتى يتمثّلوا الحكم ، مستحضرين الحكمة . مع ان العباد شعارهم في معاملة العباد امثالهم : نفّذ ولا تعترض ! والاله العزيز الحكيم يبين حكمة الافعال التي يطلبها من عباده لينشطوا في الامتثال . انا ازعم ان معلمي الكيمياء والرياضيات والفيزياء لو شرحوا للطلاب حكمة دراسة هذه المواد لأقبلوا عليها اقبالا مختلفا، بينما هي الان من المغلقات المنفّرات .

ولطف خامس في قولاه تعالى : ” اياما معدودات “بين يدي قوله : ” شهر رمضان ” تخفيفا عنهم ورفقا بهم وتلطفا . فهو يهوّن عليهم المسألة . ان رمضان ليس الا ” اياما معدودات ” فصوموها وامتثلوا امر ربكم لا تستثقلوها !

ولطف سادس في المسارعة بالتخفيف من المولى اللطيف :

في قوله : ” فمن كان منكم مريضا او على سفر ” ولا حظ اللطف المضاعف في تضاعيف اللطف الاصلي . انه اولا سارع الى الرخصة ، ثم ثانيا لم يحدد ما المرض وما شدته وترك لك انت ان تقرر ما المرض وما الحاجة الى الافطار ، وكذا او على سفر .. فليم يقل لك بالسيارة او بالباخرة او بالطائرة او على ظهر البعير ! ولم يقل لك مئة كيلو او اقل او اكثر .

ثم لطف اخر في قوله : ” فعدّة من ايام اخر “

وقد تكون الايام البديلة متفرقة بدل المجتمعة ، وفي الشتاء بدل الصيف . أرأيت الى اللطف !

ولطف اخر في قوله : ” وعلى الذين يطيقونه ” فلم يقل لا يطيقونه . لا . وانما ” يطيقونه ” اي يستطيعونه ولكنه يشق عليهم .

ولطف في قوله : ” وان تصوموا خيرا لكم ” ولم يقل فرض عليكم .

ولطف في بيان لماذا الصيام ، لأنه ” شهر رمضان الذي انزل فيه القران ” ، ولماذا انزل القران ؟ : ” هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . فمن شهد منكم الشهر فليصمه ” اي لتقدّروا عظمة المنهج ونعمة المنهج ، ثم لطف اخر في تكرار الرخصة : ” ومن كان مريضا ..”

ثم لطف اخر في قوله :” يريد الله بكم اليسر ” وكان يمكن الاكتفاء بهذا ، لكن القران اضاف :  ” ولا يريد بكم العسر ” ، ثم بين علة اخرى للصوم : ” .. ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون .”

ثم لطف اخر في التقرب من العباد وان الصيام يؤهلهم ليكونوا مستجابي الدعوة ، ويجعلهم راشدين ، واعظم بها من منن ونعم وحكم ، ولا حظ انه في الآية قدّم اجابته للداعي قبل استجابة الداعي : ” فأني قريب اجيب دعوة الداع اذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ” . وفي الآية وقفات عديدة ندّخرها الى حين التفسير انما هذه مقدمات .

واما الرشد فيحتاج وحده الى وقفة مطوّلة . ونتركها الان .

واما الآية الاخيرة ففيها من الوان اللطف الكثير ، واتوقف عن متابعة الحديث طلبا للإيجاز والاختصار على ان يبين كل ذلك اذا جئنا لتفسير الآية ان وفق الله ويسّر.

وبعد :

فهذه نظرة عامة اخرى وليست اخيرة وان كنت ربما ختمت بها وربما اضفت اليها : وهذا ما سميته خماسيات آيات الصيام :

آيات الصيام خمس كما مر . وكلمة الصيام في سورة البقرة وردت خمس مرات . وشهر رمضان خمسة احرف . وكلمة “كتب ” بحق هذه الامة  الاسلامية وردت في سورة البقرة خمس مرات .

وان الآيات ختمت بخمسة افعال مضارعة . وفي الآيات خمسة افعال غير مقترنة باللام كلها في الآية الاخيرة :

( باشروهنّ ، وابتغوا ، وكلوا ، واشربوا ، اتمّوا )

وخمس افعال أمر  مقترنة باللام هي : ” فليصمه ، ولتكملوا ، ولتكبّروا ، فليستجيبوا ، وليؤمنوا “

الافعال المضارعة في آيات الصيام 15 ( 5*3)

الافعال الماضية 15 (5*3) *

•       استثنيت ” كان ” واثتبت ” كنتم “