20/2/2024

د. علي بن محمد الصلابي  الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

صدَّر العلماء دورًا حيويًا في توجيه المجتمع، مراعين مصالحه ومفاسده على مدى تاريخ الأمة الإسلامية الطويل. لذلك وجب الاعتماد على العلماء في قيادة الدعوة وتحكيم شرع الله. حيث تشير السنة إلى ضرورة توخي الحذر في مواجهة الفتن لتجنب المزيد من الاضطرابات.

زمن الفتن – بين الفقه والتوجيه الرباني

في تاريخ الأمة الإسلامية، تصدَّر العلماء والفقهاء وأهل الفتوى شعوبَهم وأممهم دائماً وأبداً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقارعة الظلم، ورد العدوان، وجمع الكلمة لتمكين دين الله في أرضه؛ وبهم قامت دول، وتمكّن شرع الله على أيديهم، وكان المرجع إليهم عند الفتن والملاحم والمحن.

فالعلماء الربانيون المستوعبون لواقعهم، العاملون بكتاب ربهم وسنة نبيهم (صلى الله عليه وسلم)، والملمون بتاريخ الأمم والدول والشعوب، لا بد من إعطائهم دورَهم الطبيعي في الأمة؛ فهذا من فقه التمكين، ولا يمكن أن يُنسى دور الأئمة كالحسن البصري وسعيد بن المسيب، والإمام مالك بن أنس والإمام أبي حنيفة النعمان والإمام أحمد بن حنبل، والإمام البخاري وسفيان الثوري، وابن تيمية والعز بن عبد السلام، وأبي حامد الغزالي و”أبو الأعلى المودودي”، والسيد قطب وعز الدين القسام، وعشرات العلماء الربانيين (رحمهم الله جميعاً)، الذين تركوا بصماتهم في صفحات التاريخ الإسلامي المشرقة.

ولا شك أننا اليوم نمر في محن عظيمة، وفتن أليمة كقطع الليل المظلم، ومن شأن الفتن أن تشتبه الأمور فيها، ويكثر الخلط وتزيغ الأفهام والعقول؛ والحكمة حينذاك إنما هي للجماعة التي يمثل العلماء رأسها، فالواجب على الناس، الراعي والرعية، الأخذ برأي العلماء والصدور عن قولهم، لأن اشتغال عموم الناس بالفتن وإبداء الرأي فيها ينتج عنه مزيد فتنة وتفرُّق للأمة، فالأمور العامة من الأمن أو الخوف مردها إلى أهل العلم والرأي، يقول الله عز وجل: {وإذا جاءهم أَمْرٌ من الأمن أو الخوف أَذاعوا به وَلَو ردُّوه إلى الرَّسول وإلى أولي الأمر منهم لَعَلِمَه الَّذين يستنبطونه منهم ولولا فضْل الله عليكم ورحمته لاتَّبعْتمُ الشَّيطان إلاَّ قليلاً} [النساء: 83].

إن الناس في الفتن يحتاجون إلى فقه المصالح والمفاسد، والعلم بمراتبها، فوق حاجتهم إلى العلم بآحاد النصوص الحاكمة على القضايا المعينة، إذ ليست المنكرات العامة المتعلقة بالسياسة الشرعية -وهي في الغالب سبب الفتن- كمسائل الطهارة والصلاة والحج والأحوال الشخصية، يقوم فيها الحق – غالبا- على الأدلة التفصيلية، بل قيام العلم في ذلك على أسس منها:

1- الأدلة الشرعية العامة، والقواعد التي تدخل تحتها أمور كثيرة.

2- مقاصد الشريعة.

3- الموازنة بين المصالح والمفاسد.

4- الأدلة التفصيلية.

ولا يمكن لعامة الناس فهم القضايا الكلية العامة، وإن كان يمكنهم فهم النصوص الجزئية؛ وكذلك فإن فهم مقاصد الشريعة لا يكون إلا باستقراء مجمل النصوص وتصرفات الشارع، ففقه المقاصد فقه عزيز لا يناله كل أحد، بل لا يصل إليه إلا من ارتقى في مدارج العلم، واطلع على واقع الحال، وقلّب النظر في الاحتمالات التي يظن حدوثها. وإن الموازنة بين المصالح والمفاسد تحتاج إلى فهم للشريعة ومقاصدها، وفهم للواقع ومراتب المصالح والمفاسد، وهذا كله لا يكون إلا للعلماء.

إن تصدُّر العامة الذين لا يفهمون كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) يشتت المسلمين ويفرق وحدتهم، لأن العوام لا يُتصور اتفاقهم على أمر إذا لم يكن لهم سراة يصدرون عن رأيهم، ولذلك كان الرد إلى أهل الحل والعقد؛ وإن قيام مسألة الإنكار في الأمور العامة هو على فهم مسألة عظيمة هي الإمكان وعدم الإمكان، وتحديد هذا الإمكان وعدمه ليس إلى جمهور الناس وعوامهم، بل هو إلى العلماء بشرع الله البصراء بواقع الناس.

فلابد من وضع الثقة بالعلماء الربانيين، فكثير من الناس من يطالب العلماء بعمل من الأعمال هم عنه ممتنعون، وما امتناعهم عنه إلا لنظرهم في مآلات الأمور وعواقبها؛ إذ بعض المصالح قد يُمتنع عنه لما يؤدي إليه في المآل من المفاسد العظمى، والدين الإسلامي يراعي المصالح، فلا يقر اعتبار مصلحة دنيا على حساب وقوع مفسدة عظمى.

ألا ترى أن قتل المنافق الثابت نفاقه، المعروف باستهزائه بآيات الله وبرسوله (ﷺ) وبالمؤمنين، أمر مشروع، بل واجب لوجود موجب للقتل، وهو الردة ومفارقة الدين؟

مع ذلك، فقد امتنع عنه النبي (صلى الله عليه وسلم)، لما يفضي إليه هذا القتل من المفاسد، فعن جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) أنه قال: كنا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ما بال دعوى الجاهلية؟» قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: «دعوها فإنها منتنة»؛ فسمعها عبد الله بن أُبي، فقال: قد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: «دعه، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه».

إن النبي (صلى الله عليه وسلم) امتنع عن قتل المنافق، خشية أن يتحدث الناس أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقتل أصحابه، في وقت كانت الدعوة فيه في طور الانتشار، فهذا ينفر الناس عن الإيمان برسالة محمد (صلى الله عليه وسلم)، وهذا المحظور أعظم من المصلحة المتحققة بقتل هذا المنافق.

إن وضع الثقة في العلماء الربانيين لخطوة مباركة نحو تحكيم شرع الله والتمكين لدينه، وإن العلماء الذين وصلوا إلى درجة النظر في فقه الإسلام من كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) هم الذين يجب أن يقودوا العمل الإسلامي والدعوة إلى الله.

إن أعداء الأمة الإسلامية اليوم، أيقنوا أن من أسباب قوة المسلمين التفافهم حول علمائهم وقادتهم، لذلك شنوا هجوما عنيفا من أجل زعزعة ثقة الأمة في علمائها وقادتها، واستعملوا أساليب متنوعة للتشويه والطعن فيهم، لأن العلماء هم الوصلة الحقيقية بين الأمة وقرآنها وسنة نبيها (صلى الله عليه وسلم)، وقد لاحظ الاستعمار الأوروبي الحديث ذلك، وما كانت الثورات التي فجرت الاستعمار إلا بقيادة العلماء والقادة الربانيين من المغرب إلى المشرق في كل ديار المسلمين؛ ولذلك قام أعداء الأمة بتشويه صورة القادة والعلماء بواسطة المسرح والتلفاز، والمجلة والجريدة، والنوادي والغناء، وكل وسائل الإعلام.

وللتبصّر في أهمية وحساسية الدور الذي يؤديه العلماء في زمن الفتن، قد يكون من المفيد أن تراجع كتاب “المشايخ والاستعمار” للأستاذ حسني عثمان، فإنه أكد أن القيادة الحكيمة، وهي تسعى لتحكيم شرع الله تعالى وإقامة دولة الإسلام، توقن إيقانا جازما أن المجتمع لن يكون إسلاميا بجرة قلم، أو بقرار يصدر من ملك أو رئيس أو مجلس قيادة أو برلمان؛ وإنما يتحقق ذلك بطرق التدرج، والإعداد والتهيئة الفكرية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية، وإقامة البدائل الإسلامية للأوضاع الجاهلية، التي تأسست عليها مؤسسات عدة لأزمنة عديدة. فهي تعين الهدف، وتضع الخطة وتحدد المراحل، بوعي وصدق، بحيث تنتقل من مرحلة إلى مرحلة بتخطيط وتنظيم وإرادة قوية، معتمدة على الله تعالى حتى تصل المسيرة إلى مرحلة التمكين الفعلي لدولة الإسلام المنشودة.

إن القيادة الربانية الحكيمة، والتي تسعى لتحكيم شرع الله، تعطي للعلوم بأنواعها – وخصوصاً علوم الشرع- أهمية، وتركز على علم المقاصد، وفقه الموازنات، وفقه الخلاف، وفقه الأولويات، وفقه السنن الربانية، لأهميتها في زماننا هذا، بل هي من أفضل العدة بعد تقوى الله تعالى للعاملين من أجل تحكيم شرع الله.

إن القيادة الربانية الحكيمة، هي التي تفجر طاقات الأمة، وهي التي تحتضن الإسلام، وتنهجه قلباً وقالباً، جوهراً ومنظراً، وعقيدة وشريعة، ودينا ودولة، وهي التي تصبح وتمسي وهمُّها عقيدتها وأمتها، وهي التي تسعى بكل ما تملك لحل المشاكل التي تواجهها، وتعمل بكل جهد وإخلاص، للقضاء على عوائق التمكين والنصر الداخلية والخارجية.

نقلاً عن موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين:

https://iumsonline.org/ar/ContentDetails.aspx?ID=32468