خاص هيئة علماء فلسطين

         

د. إبراهيم مهنا
غرة محرم 1445هـ

هذه مجموعة خواطر أقدمها للمسلمين عامة، وأخص منهم المهجرين من ديارهم وأموالهم، لعلها تكون لهم ‏تسلية وعبرة وبشارة، سائلا المولى سبحانه التوفيق والسداد.‏

الوطن الأصلي:‏
إن وطن الإنسان الأصلي هو الجنة، حيث كان أبونا آدم وأمنا حواء عليهما السلام، قال الله تعالى: (وَقُلْنَا يَا ‏آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة: 35] وقد كان العدو الأول للإنسان (إبليس) هو المتسبب في إخراج ‏آدم وحواء من الجنة وطنهما الأصلي، قال الله تعالى: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا ‏اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ) [البقرة: 36] ولا يزال الشيطان يكيد ‏لبني آدم حتى يفتنهم ويضلهم ويبعدهم بشكل نهائي عن دخول الجنة وطنهم الأصلي، قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ ‏لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 27]. وحين تنقضي هذه الحياة الدنيا فإن ‏مرجعنا –إن أطعنا ربنا- إلى وطننا الأصلي، فحياتنا على هذه الأرض هي نوع من الهجرة في الحقيقة.‏

حب الوطن من الفطرة:‏
الأصل في الإنسان أن يحب وطنه، ويتشبث بالعيش فيه ولا يفارقه، فحب الوطن غريزة متأصلة في ‏النفوس تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه ويحن إليه إذا غاب عنه ويدفع عنه إذا هوجم، ويغضب له إذا ‏انتقص، ومهما اضطر الإنسان إلى ترك وطنه فإن حنين الرجوع إليه يبقى معلقاً في ذاكرته لا يفارقه وإن ‏كان غيره أكثر نفعاً له. فالتعلق بالأوطان والحنين إليها فطرة في النفوس لم ينكرها الإسلام، بل وجهها ‏الوجهة الصحيحة التي تكون سببا لخدمة الدين وإعلاء رايته، فلا عجب إن بذل الإنسان الغالي والنفيس من ‏أجل حماية وطنه والذود عنه، ولمَّا قدِم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينةَ اشتكى واشتكى أصحابُه ‏واشتكى أبو بكرٍ وعامرُ بنُ فُهَيرةَ مولى أبي بكرٍ وبلالٌ فاستأذَنتْ عائشةُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ‏عيادتِهم فأذِن لها فقالت لأبي بكرٍ: كيف تجِدُكَ ؟ فقال: كلُّ امرئٍ مُصبَّحٌ في أهلِه والموتُ أدنى مِن شِراكِ ‏نَعلِه. وسأَلَتْ عامرَ بنَ فُهيرةَ فقال: إنِّي وجَدْتُ الموتَ قبْلَ ذَوْقِه إنَّ الجبانَ حتفُه مِن فوقِه. وسأَلَتْ بلالًا فقال: ‏‏”ألا لَيْتَ شِعري هل أبيتَنَّ ليلةً بفَجٍّ وحولي إِذخِرٌ وجليلُ”. فأتَتْ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأخبَرتْه ‏بقولِهم فنظَر إلى السَّماءِ فقال: “اللَّهمَّ حبِّبْ إلينا المدينةَ كما حبَّبْتَ إلينا مكَّةَ وأشَدَّ اللَّهمَّ بارِكْ لنا في صاعِها ‏ومُدِّها وانقُلْ وباءَها إلى مَهْيَعةَ” [رواه ابن حبان في صحيحه] ومهيعة وهي الجُحفةُ، فبلال رضي الله عنه ‏كان يَتمنَّى أنْ يَبيتَ لَيلةً واحدةً في وادي مكَّةَ -مكة التي نشأ فيها وتربى على الرغم من أصله الحبشي-، ‏ويُطفِئَ أشواقَه الحارَّةَ مِن مِياهِ مَجَنَّةَ -وهي: ماءٌ عندَ عُكاظٍ على أميالٍ يَسيرةٍ مِن مكَّةَ بناحيةِ مَرِّ الظَّهرانِ- ‏وأنْ يُمتِّعَ ناظرَيْهِ بمُشاهَدةِ الإذْخِر والجَليلِ، وهما نَبْتانِ مِن الكلَأِ طَيِّبِ الرائحةِ يَكونانِ بمكَّةَ، وأنْ يُشاهِدَ ‏شامةَ وطَفِيلًا، وهما جَبَلانِ مُتجاوِرانِ جَنوبَ غرْبِ مكَّةَ.‏
واقترن حب الوطن بحب النفس، فكلاهما متأصل في نفس الإنسان عزيز عليه، لذا كان الإخراج من الديار ‏‏–ولو كان فريضة- مساوٍ لقتل النفس، قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن ‏دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ) [النساء: 66] ‏

الإخراج من الديار هو دأب المفسدين:‏
كما حرص إبليس على إخراج آدم وحواء عليهما السلام من سكنهم الجنة، فإن أتباعه يحذون حذوه ويتبعون ‏منهجه وأساليبه، فقد أخرج المفسدون في الأرض كثير من الأنبياء والمصلحين من ديارهم بغير حق، قال ‏تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ . ‏ثمّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن ‏يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ) [البقرة: 84-85].‏
وبعدما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم أول مرة وشاهد جبريل عليه السلام،”رجع إلى خديجة ‏رضي الله عنها يرجف فؤاده، فانطلقت به إلى ورقة بن نوفل، وكان رجلا تنصر ، فقال ورقة: ابن أخي ‏ماذا ترى ؟ فأخبره، فقال ورقة: هذا النَّامُوسُ الذي أُنْزِلَ علَى مُوسَى، يا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، أكُونُ حَيًّا حِينَ ‏يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ فَقالَ ورَقَةُ: نَعَمْ؛ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ‏ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. [رواه البخاري] وبعدما أخرجه قومه قال ‏النبي صلى الله عليه وسلم عند هجرته من بلده التي يحب مكة: “ما أطيبك من بلد، وما أحبك إلي، ولولا أن ‏قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك” [رواه الترمذي برقم 2724].‏
واقترن حب الوطن مع التمسك بالدين، فالبر والعدل مأمور بهما لمن لم يقاتل المسلم على دينه، أو يخرجه ‏من بلده، وفيه دليل على مكانتها في الدين وفي نفس الإنسان، قال الله تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ ‏يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ‏‏[الممتحنة: 8].‏

الله تعالى ناصرٌ قضايا المهجرين:‏
وعد الله تعالى المهجرين من ديارهم بتكفير سيئاتهم وبدخول جناته ثوابا من عنده، قال تعالى: (فَالَّذِينَ ‏هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ ‏تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) [آل عمران: 195]، ولم يقتصر ‏ثوابهم لهم على ما يجدونه في الآخرة، بل وعدهم حسن الثواب في الدنيا أيضا، قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا ‏فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [النحل: 41]، ‏وقال: (ومَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى ‏اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [النساء: 100] وفي معنى ‏مراغما قال البقاعي في نظم الدرر: أي مهربا ومذهبا ومضطربا يكون موضعا للمراغمة يغضب الأعداء به ‏ويرغم أنوفهم بسبب ما يحصل لهم من الرفق وحسن الحال .. من الرغم: وهو الذل والهوان، وأصله من ‏لصوق الأنف بالرغام وهو التراب، تقول: راغمت فلانا أي هجرته وهو يكره مفارقتك لذلة تلحقه بذلك .. ‏ولما كانت المراغمة لذة الروح، فكانت أعز من لذة البدن فقدمها، أتبعها قوله (وسعة) أي في الرزق.‏

وفي الختام نقول للمهجرين اللاجئين والنازحين عن ديارهم وأموالهم، لا تبتئسوا بل أبشروا بتأييد الله لكم ‏وبحسن الثواب في الدارين، فاصبروا واحتسبوا فإنكم على نهج الأنبياء تسيرون، واعلموا أن العاقبة ‏للمتقين.‏