د. عمر حماد عضو هيئة علماء فلسطين
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رَجُلٍ غَزَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَانْهَزَمَ » يَعْنِى أَصْحَابَهُ : « فَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ فَرَجَعَ حَتَّى أُهَرِيقَ دَمُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلاَئِكَتِهِ : انْظُرُوا إِلَى عَبْدِى رَجَعَ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي حَتَّى أُهْرِيقَ دَمُهُ ».
رواه أبو داود، والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

الشرح والتعليق
- هذا الحديث يدل على جواز أن يحمل المجاهد على العدو وحده دون بقية الجيش، وعلى أن يشرى نفسه لله تعالى.
- نرى (الذئاب المنفردة) وهم يخرجون من الأنفاق ومن بين ركام البيوت المدمرة وهم يدمرون دبابات الميركافا ويصيدون رؤوس الصهاينة ويوقعونهم بين قتيل وجريح رغم الخطر الكبير الذي ينتظرهم، فهذا الفعل من الأمور التي حث عليها الشرع ومدح فاعلها ورضي عنه.
- قوله (عَجِبَ ربُّنا) أي رضي منه واستحسن فعله وعظم شأنه.
- قوله (فَعلم مَا عَلَيْهِ) أي: عَلِم ما يجب عليه من الثبات وحرمة الفرار من المعركة، إذ بالفرار تحصل هزيمة المسلمين، وبالثبات ولو كان العدد قليلاً يحصل النصر، والإثخان في العدو، وذلك كما ثبت الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين حين انهزم أكثر أصحابه ولم يبق إلا عدد قليل، وبعد ذلك رجعوا وانتصروا واثخنوا في العدو.
- قوله (فَرجع) أي فقاتل.
- قوله (حَتَّى أُهَريق دَمُه) بِضَم الْهمزَة وَفتح الْهَاء الزَّائِدَة أَي أريق، وَدَمه نَائِب الْفَاعِل.
- قوله (فَيَقُول الله عز وَجل لملائكته) يقول تعالى هذا الكلام للملائكة مباهياً بِهِ.
- قوله (انْظُرُوا إِلَى عَبدِي) أَضَافَهُ لنَفسِهِ تَعْظِيمًا لمنزلته عِنْده.
- قوله (رَجَعَ رغبة فيما عندي) أي رجع إِلَى الْقِتَال رَغْبَة فِيمَا عِنْدِي من الثَّوَاب.
- قوله(وشفقة مما عندي) أَي خوفًا مِمَّا عِنْدِي من الْعقَاب.
- يستفاد من الحديث
(أ) أَن نِيَّة الْمقَاتل فِي الْجِهَاد طَمَعا فِي الثَّوَاب وَخَوف الْعقَاب على الْفِرَار مُعْتَبرَة لتعليله الرُّجُوع بالرغبة فِيهِ.
- جواز دخول الواحد في صف القتال ولو ظن الهلاك. وكأن القائل يقول: إن الغالب في واحد يحمل على صف كبير أنه يظن الهلاك.
وقال ابن حجر العسقلاني في مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو: أنه صرح الجمهور أنه إذا كان لفرط شجاعته، وظنه أنه يرهب العدوّ بذلك أو يجرِّأ المسلمين عليهم، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن.
وقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ تَدُلُّ جَوَازُ الْمُبَارَزَةِ لِمَنْ عَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ بَلَاءً فِي الْحُرُوبِ وَشِدَّةً وَسَطْوَةً.
قال ابن رشد في البيان والتحصيل في مسألة حمل الواحد على العدو: إذا فعل ذلك إرادة السمعة والشجاعة، فلا إشكال ولا اختلاف في أن ذلك من الفعل المكروه؛ وأما إن اضطر إلى ذلك بإحاطة العدو به، ففعله مخافة الأسر، فلا اختلاف في أن ذلك من الفعل الجائز، إن شاء أن يستأسر، وإن يشاء أن يحمل على العدو ويحتسب نفسه على الله، وأما إذا كان في صف المسلمين وأراد أن يحمل على الجيش من العدو وحده محتسبا بنفسه على الله، ليقوي بذلك نفوس المسلمين
ويلقي به الرعب في قلوب المشركين؛ فمن أهل العلم من كرهه ورآه مما نهى الله عنه من الإلقاء إلى التهلكة، لقوله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] . وممن روي ذلك عنه عمرو بن العاص، ومنهم من أجازه واستحبه لمن كانت به قوة عليه – وهو الصحيح، وروي أن جعفر بن أبي طالب – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – حين لاحمه القتل يوم مؤتة، اقتحم عن فرس (له) شقراء ثم عقرها وقاتل حتى قتل، فلم ينكر ذلك عليه من كان معه من بقية الأمراء وسائر الصحابة، ولا أنكره النبي – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – عليه، إذ لا شك في تناهي علم ذلك إليه، ولا نهى المسلمون عن مثل ذلك؛ فدل على أن ذلك من أجل الأعمال، وأن الثواب عليه أعظم الثواب) أهـ.
وقال ابن المناصف صاحب كتاب (الإنجاد في أبواب الجهاد): وَبِالجُملَةِ فَكُلُّ مَن بَذَلَ نَفْسَهُ لإعزازِ الدِّينِ وَتَوهين أهلِ الكُفْرِ، فَهُوَ المَقامُ الشَّرِيفُ الذي تَتَوَّجَهُ إِلَيْهِ مِدْحَةُ الله تَعالى وَكَرِيمُ وَعَدِهِ فِي قَوْلِهِ سُبحانَهُ : ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) وَقالَ تَعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ).
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الشهادة، وأن يبلغنا منازل الشهداء
والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين
مع تحيات د. عمر حماد
الجمعة 9/8/2024م
الموافق 5/صفر/1446هـ