د. محمود مصطفى أبو محمود

7/11/2023

هل نكتب لأهل غزة نوصيهم بالصبر أم أنهم سبقونا ومضوا مجاهدين صابرين محتسبين. إن الصبر عنوان هذه المرحلة وطريق النصر وسبيل الفلاح، ومن نصيبكم يا أهل غزة أن تحيوا روح الجهاد في الأرض المباركة، وإن تضحياتكم وبطولاتكم أحيت العزم وكانت سببا في كي الوعي ويقظة الأمة والإنسانية. والله معكم ولن يتركم أعمالكم وجهادكم. ورغم الدماء التي سالت فقد انتصرتم يا أهل غزة ونجحتم في ضم كل الأمم لحلف الفضول الذي يرفض الظلم ويستنكر العدوان. ويبقى الاعتذار مستمرا إلى الله تعالى ثم لكم عن تقصيرنا وعن خذلان الأنظمة وتآمر الحكام الفاسدين وإن الصبر عليهم لن يطول.

بلا شك فإن الصبر من أعظم الأخلاق التي يحتاجها المرء في حياته، وهو كما وصفه علي بن طالب رضي الله عنه: مطية لا تكبو. وعرفه ابن منظور بأنه حبس النفس عند الجزع. وهو من صبر يصبر صبرا فهو صابر وصبار وصبير وصبور، والأنثى صبور أيضا بغير هاء، وجمعه صبر. والصبور من أسماء الله تعالى؛ فهو سبحانه لا يعاجل العصاة بالانتقام.

ويعرف ابن القيم الصبر ويبين مراتبه، فيقول: الصبر هو حبس النفس على طاعة الله، وكفها عن معصيته، وتثبيتها لترضى وتسلم بما قدره الله تعالى وقضاه دون شكوى. ومراتب الصابرين خمسة: فالصابر: أعمها، والمصطبر: المكتسب الصبر المليء به. والمتصبر: المتكلف حامل نفسه عليه. والصبور: عظيم الصبر والذي صبره أشد من صبر غيره. والصبار: كثير الصبر.

وبذلك يرتبط مفهوم الصبر بحسن إدارة المرء لذاته، وكيف يتعامل أو يتجاوز المواقف الحياتية وتحدياتها المختلفة.

وقد تكرر ذكر الصبر في القرآن الكريم أكثر من مئة مرة؛ فيها أثنى الله تعالى على الصابرين، وذكر بمواقف صبرهم وتحملهم ونوه لثوابهم، نحو قوله تعالى: (إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون) [المؤمنون:111]. وفي الحديث عند البخاري، قال ﷺ: «ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر»، وكل هذا يؤكد عظيم مكانة الصبر وأهميته في حياة الأفراد والجماعات.

وقد وجه سبحانه عباده أن يكون صبرهم جميلا، يخلو من الجزع أو الشكوى، وليس معه يأس أو قنوط أو عجلة، بل فيه تسليم بالقدر، ويصاحبه عمل وجد وأخذ بالأسباب، وتضرع لاستمطار الفرج من الله تعالى، قال تعالى: {فاصبر صبراً جميلاً} [المعارج: 5]. يقول سيد قطب: «الصبر الجميل هو الصبر المطمئن، الذي لا يصاحبه السخط، ولا القلق، ولا الشك في صدق الوعد؛ صبر الواثق من العاقبة، الراضي بقدر الله». وعرفه ابن عاشور بأنه: «الصبر الحسن في نوعه، وهو الذي لا يخالطه شيء مما ينافي حقيقة الصبر، أي اصبر صبرا محضا، فإن جمال الحقائق الكاملة بخلوصها عما يعكر معناها من بقايا أضدادها».

وأعظم الصبر ما يكون في الجهاد والرباط وتحت ظلال السيوف وقصف المدافع، وعند البحث عن الوالد والولد تحت الأنقاض والركام في جنح الظلام ورائحة الموت في كل مكان. لسان حالهم: ﴿فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون﴾ [يوسف: 18]. فلولا هذا الصبر لانهارت النفوس أمام هذه الخطوب والكروب، قال ﷺ: «والصبر ضياء» رواه مسلم.

وما أشبه اليوم بالبارحة؛ فصبر أهل غزة وثباتهم يشبه صبر الرعيل الأول في غزوة الأحزاب في السنة (5هـ)، ويشبه خندقهم أنفاق غزة اليوم، ويشبه تحزب الأحزاب مع اليهود آنذاك تكالب هذه الأساطيل والقوات والدول لحصار غزة والتآمر على مجاهديها. وبعون الله تعالى سنرى نهاية أحزاب اليوم كهزيمة أجدادهم من بني قريظة بالأمس، تدمر جمعهم وتشتت شملهم، وإن غدا لناظره قريب.

تطبيقات مبدأ الصبر:

مما يزيد مستوى الصبر ويحقق النصر تصفح كتاب الله العزيز وتدبر آياته، والأخذ بوصية الله تعالى نحو قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون﴾ [ آل عمران: 200].

يا أهلنا في غزة.. اعلموا أن الإيمان هو ركيزة الصبر ومنبعه، إيمان بالله تعالى وإيمان بالفكرة يدفعان للثبات والتضحية والشجاعة والجود والإيثار، وقد روي موقوفا على ابن مسعود قوله: “الإيمان نصفان، نصف في الصبر ونصف في الشكر”.  قال تعالى: ﴿إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور﴾ [إبراهيم: 5]. يقول ابن القيم: والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.. ولذة الدنيا والآخرة ونعيمها والفوز والظفر فيهما لا يصل إليه أحد إلا على جسر الصبر، كما لا يصل أحد إلى الجنة إلا على الصراط.

نوصي أنفسنا وإياكم بالصلاة والقيام، وبالدعاء والاستغاثة بالله وذكره كثيرا؛ فهو سبحانه يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، قال تعالى: ﴿إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين﴾ [الأنفال: 9].

احذروا من القنوط، وإن أبطأ الفرج أو تأخر النصر. ولا مكان لليأس بينكم، هيا انشروا روح التفاؤل والتبشير بالخير والثقة بوعد الله وبزوال المحنة، قال تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون} [سورة الصافات:171-173].

أعظم الصبر ما كان عند الصدمة الأولى وعند نزول المصيبة، فيمسك المؤمن زمام نفسه فلا تنفلت جزعا، ويحافظ على رباطة الجأش، ويري الله من نفسه الصبر والرضى، فقد أوصى النبي ﷺ فقال: «الصبر عند الصدمة الأولى» رواه البخاري.

يتجنب العاقل أي قول فيه اعتراض على قدر الله تعالى ومشيئته، ويترك عنه ما يتبع “لو” من حديث التخذيل والتحسر على ما فات. قال رسول الله ﷺ: «وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا، يهوي بها في جهنم» رواه البخاري.

يحمد المؤمن الحق ربه في الضراء ويلهج لسانه عند المصيبة بـ “إنا لله وإنا إليه راجعون”، قال رسول الله ﷺ: «إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي، فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده، فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة، وسموه بيت الحمد» رواه الترمذي وحسنه.

اعتنوا بالمواساة وحافظوا على الروح الجماعية والتضامن والتزاور، وتحدثوا عن القدوات الصابرة المحتسبة، ونفذوا برامج التكافل والإغاثة والإمداد وخصوا المجاهدين بأحسنها، وابنوا الدوافع للصبر، وذكروا بما أعده الله للصابرين قال تعالى: ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾ [الزمر: 10]. أخرج الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: لقيني رسول الله ﷺ، فقال لي: «يا جابر ما لي أراك منكسرا»؟ قلت: يا رسول الله استشهد أبي، وترك عيالا ودينا، قال: «أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك»؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: «ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحا. فقال: يا عبدي تمن علي أعطك. قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية. قال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون» قال: وأنزلت هذه الآية: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً} [آل عمران:169].

يا أهل غزة.. يا أهل الله وخاصّته اليوم.. امتطوا مطية الصبر حبا لله تعالى ووفاء للأوطان وأهلها وتعظيما للمقدسات وجهادا في طريق تحرير فلسطين والدفاع عنها. واصبروا تحديا لهذا الاستكبار الصهيوني وسعيا في كسر شوكته وإغاظة أهله.

مهما ادلهمت الخطوب فلا يتمنى المؤمن الموت، ولا يدعو على نفسه، فإن طول عمر المرء خير له؛ لعله يتزود من عمل الخيرات، أو يجاهد في سبيل الله، ولعله يطول به العمر فيفرح مع المؤمنين بنصر الله وفرجه، قال ﷺ: «لا يتمنى أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا» رواه مسلم.

ويصبر المؤمن إن ابتلي بالأسر أو أصابته الجراحات أو فقد الأحبة، ويثبت ويتحمل ويحتسب، ويستذكر قوله ﷺ: «ما من مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقها، إلا كفر الله بها سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها» رواه البخاري.

وفي الختام كل التحية والإكبار إلى ذلك المجاهد المرابط على ثغره، الصابر في خندقه الممسك بعنان سلاحه، كلما سمع هيعة أو فزعة، طار إليها، يبتغي الجهاد مظانه، فمن هؤلاء تستلهم الأمة الصبر، ومن طريقهم تتنظر النصر.

نقلاً عن:

https://www.aljazeera.net/blogs/2023/11/7/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%A8%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D9%8A%D9%84-%D9%88%D8%AA%D8%B7%D8%A8%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA%D9%87-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%B7%D9%88%D9%81%D8%A7%D9%86