د. نواف تكروري رئيس هيئة علماء فلسطين

قال تعالى: “مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا” الكهف:17‏

فالهداية إلى سبل الخير والإيمان توفيقٌ من الله سبحانه وتعالى للعبد، وسلوك طريق الغواية والهوان والضّلال خذلان من الله ‏سبحانه وتعالى له، قال تعالى: “وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء” الحج: 18‏

وفي هذا يقول ابن عطاء السكندري: “إذا أَرَدْتَ أنْ تَعْرِفَ قَدْرَكَ عِنْدَهُ فانْظُرْ فيما يُقيمَكَ” فإن استعملك بالخير وخدمة دينه ‏وشريعته ونصرة الحقّ ومواجهة الباطل فمقامك عنده عظيم وإن تركك لنزعاتك وأهوائك والشيطان فذلك هو الخذلان ‏والحرمان.‏

وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “أجمع العارفون بالله أنَّ التوفيق هو ألاّ يَكِلَكَ الله إلى نفسك، وأن الخذلان هو أن يُخْلِيَ ‏بينك وبين نفسك”‏

ولا شك أن توفيق الله تعالى وهدايته ورحمته تستمطر بالصفاء والوفاء والتقوى، فقد قال تعالى: “وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ ‏فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ” الأعراف:156.‏

وينال التوفيق أيضاً بالسعي وبذل الجهد في سبيل الله تعالى قال تعالى: ” وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ ‏الْمُحْسِنِينَ” العنكبوت: 69‏

وفي هذا جاءت النصوص الواضحة منها قوله تعالى:‏ ‏” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ” الأنفال: 29. قال ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم: “احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ”‏

ولا شك أن التّوفيق والخذلان، يقعان في الأمور كلّها؛ الشّعائر والمعاملات وفي أمور الدنيا وأمور الآخرة.‏

وإنّ التوفيق يقع للعباد على درجات بقدر اجتهادهم وإخلاصهم وصدق طويتهم، والخذلان على دركات بقدر تخليهم عما أمر ‏الله تعالى به عباده وسوء طويتهم، وربما تكاسلهم عن المهام الملقاة عليهم.‏

ولا شك أنه على قمة سلّم التّوفيق والرضى والاجتباء أن يكون المرء مع من لبّى نداء الأقصى، وهب لنصرة مسجدها ‏الأقصى أو انتفض في باب العمود، أو رابط في حي الشيخ جراح ليذود عنها بجسده ولو لم يملك سلاحاً وإنما بجسده مؤثراً ‏الدفاع عن مسرى رسول الله تعالى على سلامة النفس والأهل والمال.‏

ومن قدّر له هذا الاختيار والانحياز إلى هؤلاء الأبطال فقد وُفق لعظيم الغنم عند الله تعالى، وكل من سار إلى القدس ‏والأقصى من كل أنحاء فلسطين أو من الدول المجاورة وهو يعلم عقبات الطريق؛ سواءٌ وصل أم صُدّ وبقي يحاول فقد ‏اصطفاه الله تعالى ووفقه إلى حسن التقدير والاختيار.‏

غزّة بين التّوفيق والاصطفاء الفرديّ والجماعيّ:

وقمة التوفيق والاصطفاء أن يختار الله سبحانه وتعالى العبد أو الجماعة أو البلد ليكون في قلب معركة الدّفاع عن الأقصى ‏والمقدسات، التي تُبذلُ فيها المهج ويجود فيها الموفّقون بالغالي والنفيس، فأهل غزة اليوم بمقاومتهم في أعلى مراتب التوفيق ‏والاصطفاء بإذن الله تعالى.‏

وتجلّى التوفيق أيضاً في وضوح المعركة والخطاب

ومن صور توفيق الله تعالى البالغة توفيقه للصبر على الآلام، وحسن التعبير عن ذلك أمام العالم كله عند هدم ‏البيوت وفقد الأحبة، والرضى عن الله تعالى في كل ذلك، فأي توفيق أعظم من أن يفقد العبد أسرته فيحوقل ويحتسبُ ويحمد ‏الله ثم يدعو الله بالشفاء لنفسه ليقارع مجدّدًا دفاعاً عن القدس والأقصى، ويستهين بكل هذا الألم، لاستحضاره عظمة ما جاد ‏من أجله وهو الله تعالى والقدس والأقصى مما هون عليه ما جاد به.‏

ومن هنا لا يماري عاقل في أن عموم أهل غزة مدنيين وعسكريين وسياسيين جنداً وقادة ومرابطين كلهم على أعلى سلم ‏التوفيق والتسديد ونيل الرضى من الله سبحانه وتعالى بإذن الله تعالى بما ظهر لنا من توفيق بالموقف والتصرف والصبر ‏والثبات وإغاظة العدو.‏

قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ * مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن ‏رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا ‏يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ‏وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ”  التوبة: 119 ـ 121، فمن كان هذا خياره فقد ‏وفق وهدي إلى سواء السبيل وإلى جزاء المحسنين.‏

ومن التوفيق اشتراكك بما تستطيع في نصرة هذه القضية وشعورك بملء وقتك وشغلك في نصرتها والدفاع عنها بالحجة ‏والبيان والضغط وتوفير الحاجات وتفعيل الخير في ذلك.‏

ومن التوفيق أيضاً أن تبذل في أي وجه من وجوه الجهاد بالعلم أو الوقت أو المال أو القدرات، أو أن تجمع من ذلك كل ما ‏تقدر عليه فهو والله اصطفاء من الله تعالى وتوفيق.‏

وأما دركات الخذلان والحرمان فهي في نقيض ذلك، فأن يملأ قلبك الخوف وترى أن ما هم فيه محض انتحار، وعينٌ لا ‏تستطيع مجابهة المخرز، وإلقاء بالنفس إلى التهلكة.‏

أو أن تبخل بمالك فترى بذله على حاجاتك وكمالياتك أولوية على حاجات الموفقين للجهاد وضروراتهم.‏

أو أن تجهل حال هؤلاء ومقامهم الذي أقامهم الله تعالى وأنه الدفاع عن كرامة الأمة كلها وعن مقدسات المسلمين ودينهم، ‏فتراه اعتباطاً أو ترى من هبوا لنجدة المقدسات أصحاب هوى ويبحثون عن مكاسب دنيوية، ويا نعما من كان هواه في هذا.‏

أو حتى أن ترغب بنصرتهم ولكن لا تكلف نفسك لوناً من ألوان العناء والصبر لتحقيق العون، بل أن تنصرهم ببابٍ لا مشقّة ‏فيه عليك وأنت تقدر على أكثر منه فتقتصر في نصرتك لهم على باب دون باب أو وقت دون وقت، وتعد فعلاً واحداًَ أو ‏حراكاً لمرة قد رفع عنك التكليف.‏

فكل هذا من الخذلان والحرمان من رحمات الله تعالى وتوفيقه لحسن العمل.‏

‏ أنواع دركات الخذلان:

إنّ الخذلان على دركات متفاوتة تختلف بحسب الأشخاص وديمومة الخذلان، فليس من أقدم أحياناً وأحجم أحياناً أخرى كمن ‏ضعف وأحجم دائما، وليس من أحجم مستشعراً ذنبه كمن كابر وفسر ذلك لنفسه وأوله، فهؤلاء على دركات في الخذلان ‏والحرمان من شرف المشاركة.‏

ولكن أردأ أنواع الخذلان والإهانة والحرمان للعبد أن يلبس عليه إبليس هوانه وتخليه عما وجب عليه، فيرى ذلك هو الحكمة ‏وتسول له نفسه لكي يبدو متأولاً يثبط الناس عن النصرة، فيستوي هو وأفخاي أدرعي في الطرح ويلبس ذلك لبوس الدين أو ‏الوطنية أو الحرص على دماء أهل غزة وبيت المقدس.‏

فتكون طروحه ومنشوراته وكلماته تدين المدافعين عن كرامة الأمة ومقدساتها داعمة المعتدين ولو سبهم أثناء حديثه ولكنه ‏يدعمهم بوجه من الوجوه.‏

فهؤلاء لا ريب أنهم في أسوأ أنواع الخذلان وضياع البوصلة وفقدان التوفيق، ولعل مثلهم في الخذلان، وأحط منهم، من ‏ينتظر بذل الباذلين مختبئاً خائرا ًيلمز بالمقاومة وأعمال الجهاد، ويتطلع بموقعه إلى قطاف ثمار هذا الجهاد الميمون في ‏ميادين السياسة والمفاوضات

فالعاقل المنصف والمؤمن الفطن هو من بحث توفيق الله تعالى في الانحياز إلى المخذولين المحرومين المظلومين، ومجابهة ‏العتاة المجرمين والمحتلين الغاصبين.‏

ولا شك أن طريقنا شائك يميز الله فيه الخبيث من الطيب فيا فضل من وفقه الله لموقف حق ومسيرة بذل ومشاركة بما ‏يستطيع ويا خيبة المحروم في هذه الدنيا ويوم تبيض وجوه وتسود وجوه.‏