خاص هيئة علماء فلسطين

         

11/9/2025

السؤال:

نحن نعيش خارج فلسطين ولسنا فلسطينيين، وسؤالنا: الجهاد (على اختلاف أنواعه) في عصرنا وبحسب واقعنا المعروف لديكم: هل هو فرض عين أم فرض كفاية؟

الفتوى:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.

فننوه بداية إلى أمر مهمٍ ورد في السؤال، وهو عبارة: (ولسنا فلسطينيين)، فهذه من التقسيمات التي عززها المستعمر الغربي في المنطقة، ليشتتنا ويفرقنا حسب الانتماءات القومية والعرقية، ويضيع قوتنا ولحمتنا ووقوفنا مع بعضنا في نصرة المستضعفين.

وأما بخصوص سؤالكم فينبغي أن نعرف أن من سنن الله عز وجل في كونه، التدافع بين الحق والباطل، وأن أهل الباطل لا يزالون يقاتلون أهل الحق وإن تنازلوا ورضوا بالذل والهوان حتى يرجعوا عن دينهم، قال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} سورة البقرة:٢١٧، وقال تعالى: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} سورة البقرة:١٢٠، ولذلك فلا من بد من حصول التدافع والصدام بين أهل الحق وأهل الباطل، قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ} سورة البقرة: ٢٥١، وقال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} سورة الحج:٤٠، وعليه فلا بدّ من الإعداد واكتساب القوة للدفاع عن الحق ونصرته ونصرة أهله وتحقيق هذا الواجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وينبغي أن نفرِّق بين كلمتين في هذا الباب، وهما القتال والإعداد، أما القتال فهو خوض المعارك والدفاع عن الحق ومدافعة أهل الباطل بالسلاح في ميدان النزال، وهذا واجب جماعي على الأمة، وهو نوعان:

أولا: قتال دفعٍ، ويقع عندما يهجم الكفار على بقعة من بلاد المسلمين ليفسدوا الدنيا والدين ويعتدوا على الحرمات والأموال، فيجب وقتها على جميع أهل هذه البقعة أن يدفعوا هذا العدو دون إذنٍ أو شرط، وهذا القتال هو فرضُ عينٍ في حقهم، ويتوسَّع ليشمل من خلفهم حال عدم قدرتهم على دفع العدو وحدهم، كما هو الحاصل اليوم في غزة وفلسطين.

وأما النوع الثاني فهو قتال الطلب، وهو أن يكون للمسلمين دولةٌ وإمام، ويريدون نشر الدعوة في بلاد جديدة، فيعترض الكفار طريقهم ويمنعونهم، فيقاتلهم المسلمون وقتها ليفتحوا الطريق أمام هداية الناس ودخولهم في دين الله، وهذا فرضٌ كفائي، يُنتدب له جماعاتٌ من المسلمين المكلَّفين، وإذا قام به من يكفي من المسلمين سقط الإثم عن الباقين.

وأما الإعداد في سبيل الله فهو التجهُّز وتهيئة النفس والبدن والأدوات لقتال الأعداء، وامتلاك القدرة على القتال إن حضر، وهو فرض عينٍ على كل مسلم بالغ عاقل حر مستطيع، لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} سورة الأنفال:٦٠، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} سورة التوبة:٤٦، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن ماتَ ولَمْ يَغْزُ، ولَمْ يُحَدِّثْ به نَفْسَهُ، ماتَ علَى شُعْبَةٍ مِن نِفاقٍ) صحيح مسلم، وتحديث النفس بالغزو لا يكفي فيه أن يحدِّث الإنسان نفسه حديثاً نفسياً أنه سيغزو ويجاهد وهو متكئٌ على أريكته، مشحونٌ قلبُه بدنياه، وحياته مليئة بالترف والترهُّل وحب الدعة والراحة والركون إلى الدنيا؛ لأن من كانت هذه حاله فسيكون غدا من أول الفارِّين عن الجهاد عندما يُدعَی إليه، لكثرة ارتباطه بالدنيا وتثاقله إليها، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ}.

فالإعداد للمشاركة في القتال فرض عينٍ على كل مسلم، ولم يطلب منا رب العزة إعداداً مكافئاً للأعداء، بل طلب إعداداً مستطاعاً، كما في قوله تعالى: {ما استطعتم من قوة}، والأعداء مهما بلغت قوتهم فلن يصيروا آلهة، بل هم مجرد بشر؛ لديهم نقاط ضعف وسهو وغفلة، والمتوكّلون على الله القوي العزيز قادرون على اختراق جبهة الباطل ليأتوهم من حيث لم يحتسبوا، ويقذفوا في قلوبهم الرعب بإذن الله.

والإعداد مهمة دائمة، والمهم أن لا تتراخى الأمة أفرادا وجماعات عن عتادها وعدتها واستعدادها الدائم للقتال، كما قال تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً واحدة} (النساء: ١٠٢).

وإعداد الفرد المسلم لنفسه لخوض المعركة له عدة نواحي: منها اللياقة البدنية؛ ليكون قادراً على تحمُّل ظروف المعركة، ومنها المهارة في استعمال السلاح، ومنها القدرة على العمل ضمن مجموعة، وهذه كلها قد أصبحت اليوم علوماً لها دوراتُها المتعددة، والأخذ بهذه العلوم والتَمَرُس بهذه الفنون واجب شرعًا، وإلى جانب هذا الإعداد الخارجي هناك إعداد داخلي وزاد إيماني من التزام الفرائض والواجبات، وفعل النوافل والمستحبات، وترك الحرام والمنكرات، وهذا إعداد واجبٌ أيضا لتكتمل منظومة الثبات، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} سورة الأنفال:٤٥.

وننوه هنا إلى شبهةٍ وإشكالٍ كبير في فهم إقامة واجب الإعداد والجهاد عمليا لدى أفراد الأمة، وهذه الشبهة تتمثل في ترك الإعداد والجهاد بالسلاح في سبيل الله عند قيام موجباته بحجةٍ وعبارةٍ يرددها البعض وهي قولهم: (كلنا على ثغر)، وهذه العبارة والشبهة هي سبب لكثير من المشاكل في سلوك الأفراد والجماعات، بل هي سبب لكثير من الانتكاسات المعاصرة في المشهد الإسلامي، فهذه العبارة يستخدمها كل من يريد التخلي عن واجب الإعداد والجهاد بكامل قناعته، وإرضاء ضميره وعدم لوم نفسه على أي تقصير، ومعلوم أن النفوس تميل إلى الدعة والراحة والابتعاد عما يسبب لها التعب والفقد، كما قال تعالى: {وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم}، {كتب عليكم القتال وهو كره لكم}، {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَٰرِهُون}.

ولذلك فلا بد من تأصيل وتطبيق مبدأ وجوب الإعداد على كل مسلم قادر، وخاصة في وقت لزوم الجهاد على الأمة لقيام موجباته الكثيرة من احتلال بلدان، وأسر رجال مؤمنين ونساء مؤمنات، وضياع مقدسات، وغير ذلك من أمور يشيب لها الولدان، ولا بد من ترسيخ هذا الأمر في الوعي الجمعي لدى أفراد الأمة، ليشعر بالنقص والتقصير كل مسلم لم يقم بهذا الواجب، ثم بعد تطبيقنا لهذا الأمر عمليا، واستعداد الجميع ليكون مجاهدا بنفسه في سبيل الله، يأتي دور توزيع الثغور والجهود، ووقتها نقول: كلٌ منا على ثغر، أما أن يُنفَّر العاملون للإسلام ويُصدُّون عن طريق ذات الشوكة، ويُبغَّض إليهم هذا الطريق، ويُهوَّن أمره وأمر القائمين عليه، وربما يحارِب البعض فكرته، ويثبط السالكين عن السير في ركابه بحجج دنيوية وشيطانية، ويُوجَّه المعظم للانضمام للعمل الناعم خيرياً ودعوياً وتربوياً وسياسياً وإعلامياً وغيره -مع أهمية وعظمة هذه الأعمال-، فليس هذا إلا تسويل نفس واتباع هوى ومحاولة تبرير لسلوك انهزامي أمام النفس والواجب.

 وكلنا نعلم أنه لو كان الأمر بالخيار والاختيار والتخيير ما سلك أحد درب الجهاد والتضحية إذا كان يسد عنه شرعاً العمل في الأمور الناعمة، ولكنه الوجوب والإلزام وتطبيق ما شرعه الله ونيل رضاه.

وخلاصة الكلام في المسألة بكل وضوح/ أنه لا يصح تقسيم الناس ابتداء، هذا مجاهد وهذا مدني (تربوي أو خيري أو سياسي أو إعلامي،…)، بل الجميع في المجتمع المسلم مقاتلين وقت الحاجة، ويجب أن يعدوا أنفسهم إعداداً حقيقياً ليكونوا مجاهدين، وهم عساكر مع وقف التنفيذ، مثل قوات الاحتياط الجاهزة والمدربة، وهذا الأمر موجود ومعمول به في الدول الحديثة وعند أعدائنا تحت مسمى الخدمة العسكرية أو التجنيد الإجباري أو قوات الاحتياط، ومتقبَّلٌ عندهم في القانون الدولي، فنحن أولى بذلك منهم، وعلينا ألا نخجل من ذلك، بل هو تطبيق لما فرضه الله علينا من وجوب الإعداد على الجميع، والاستعداد الدائم للقتال في كل لحظة، ثم بعد ذلك تُوزع الثغور والمهمات حسب الكفاءة والقدرة، ونطالب وقتها كل أحد بلزوم ثغره والإتقان فيه، مع استعداده الدائم للقتال حال استنفاره والاحتياج إليه، وهذا هو دين الإسلام وتشريعه، وبذلك يتحقق قول الله عز وجل: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة…}، وتتحقق النصرة الحقيقية إن احتاج المسلمون إلينا: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر}، وتتحقق تلبية النفير إن طُلب منا، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا استُنفرتم فانفروا)، وهكذا كان حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إعدادا وجهادا ونفيرا، بل وصل الحد لمعاقبة وهجر من تخلف عن نفير واحد، والله أعلى وأعلم، والحمد لله رب العالمين.