الكاتب: أ. د. محماد رفيع

بسم الله الرحمن الرحيم

            لم تكن معركة “سيف القدس” بفلسطين مجرد نصر مبين على الصهاينة المجرمين، وإنما كان نصرا ربانيا سريعا ناسفا لمشاريع التطبيع العلني التي دبت في العالم العربي قبيل المعركة، حيث أخزى الله المطبعين وحشرهم في الزاوية، وأدركوا خاسئين السقوط المدوي لأطروحاتهم التي كانوا يرددونها قبل المعركة، لذلك انبرى بعض أهل التطبيع من المرجفين لتحيين شبهاتهم وتسويغ ما أقدموا عليه من التطبيع مع الكيان الصهيوني، فكان أهم ما قدموه ويغالطون به ضرورة حفظ المصلحة الوطنية العليا.

  • فما هذه المصلحة الوطنية العليا التي قدموها على مصلحة حماية القدس والأقصى؟
  • وهل تعين التطبيع وسيلة لحفظ مصلحة الوطن العليا حقيقة؟

لقد تقرر عند العقلاء أن التماس الهدي المعرفي في الأقوال والأفعال إنما يتم بالاستدلال العلمي عبر مسالكه المنهجية وضوابطه المعرفية، غير أنه قد يلتبس على غير خبير بصور مزيفة مما يسميه أهل المناظرة والمنطق “الاستدلال المغالط”، حيث يعمد أهل المغالطة إلى تزييف عملية الاستدلال وتقديمه على أنه استدلال يقيم الحجة وما هو باستدلال، تماما كما سنرى مع القوم المطبعين[1].

مسمى المصلحة الوطنية العليا:

مسمى ” المصلحة الوطنية العليا” التي تمسك بها المطبعون مسوغا شرعيا وسياسيا للتطبيع مع الكيان الصهيوني تنوعت ترجمته من دولة مطبعة إلى أختها، فمن مصلحة التعاون العسكري والأمني والاستثمارات الاقتصادية الكبرى إلى الحذف من لائحة الإرهاب إلى دعم الوحدة الترابية للوطن إلى غيرها من المسميات التي لا يجادل عاقل في وجوب دفاع كل دولة على مصالحها الوطنية، بل وعلى جميع المسلمين والعرب مساندة كل دولة من دولهم في حفظ مصالحها، لكن المصالح كما هو مقرر عند أهل العلم وأهل السياسة مراتب منها العظمى ومنها الصغرى، منها العاجلة ومنها الآجلة، منها العامة ومنها الخاصة، فإذا تعارضت هذه المصالح وتعذر الجمع بينها قدمت العظمى على الصغرى، والعاجلة على الآجلة، والعامة على الخاصة.

وعليه فقضية القدس والأقصى خاصة وفلسطين عامة قضية الأمة الإسلامية والمسلمين في مختلف أنحاء العالم يشهد لذلك الشرع نصوصا ومقاصد[2]، وواقع حال الأمة التي هبت وتهب الآن في مظاهرات واحتجاجات وتدوينات وفديوهات ومرافعات وبيانات وغيرها في مختلف مناطق الدنيا، فهي قضية عظمى عقديا ومصلحيا، وحفظها أولى الأولويات، لما جرى ويجري من العدوان الصهيوني المدمر الذي استباح كل شيء من مقدسات المكان من بشر وشجر وحجر، فكيف تقابل هذه المصلحة العظمى العامة العاجلة بغيرها من مصالح قطرية جزئية محلية على أهميتها لأهل البلد؟

كما أن مصالح الأوطان المجزأة إنما تحفظ بحفظ فلسطين كما هو ثابت تاريخيا، فتاريخ الأمة أثبت أن الأمة تنتصر بانتصار فلسطين، وتنكسر بانكسارها، وهذا ما يفسر الهبوب الدائم للأمة عبر التاريخ في الدفاع عن فلسطين.

التطبيع وسيلة لحفظ مصلحة الوطن العليا:

     يقدم المطبعون التطبيع وسيلة اضطرارية لحفظ مصلحة الوطن، ومناقشة هذه الشبهة علميا من خلال الأسئلة الآتية:

أولها: ما مشروعية وسيلة التطبيع أولا؟

ثانيها: ما مدى درجة إفضاء وسيلة التطبيع إلى المصلحة المقصودة؟

ثالثها: ما وجه الضرورة الملجئة لوسيلة التطبيع؟

أما مشروعية التوسل بالتطبيع لحفظ مصلحة الوطن فمحال، ذلك أن الوسائل لا تستقل بأحكامها وإنما حكمها حكم ما أفضت إليه من مقاصد ومآلات، ومعلوم أن التطبيع وسيلة لنقل الكيان الصهيوني من موقع عدو الأمة الصهيوني المحتل للأرض المنتهك للعرض المزهق للأرواح إلى الدولة الصديقة الحليفة الشريكة، ومن مقتضياته التسليم للعدو بما غصبه من أرض، والاعتراف بحقه فيما ارتكبه من تدمير وتقتيل، وأنه طعنة غدر وخيانة للمرابطين والمقاومين في الأقصى وأكنافه الذين ينوبون عن الأمة كلها في الذود عن العرض والأرض، وأهل فلسطين في القدس وفي غزة والضفة وفي الداخل يصيحون ويستغيثون بأن التطبيع طعنة مؤلمة في ظهرهم، فهم أدرى من غيرهم بما ينفعهم وما يضرهم وإذاية المؤمن حرام فكيف بإذاية شعب مظلوم بأكمله ينوب عن الأمة.

ومعلوم أن كل وسيلة تفضي إلى مضرة سواء كانت هذه المضرة للمتوسل نفسه أو لغيره فمحظورة لعموم قوله تعالى: “ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة” ( البقرة: 194)، وقوله عليه السلام في الحديث الذي عليه مدار الفقه كما يقول العلماء:” لا ضرر ولا ضرار”[3]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “المسلم أخو المسلم؛ لا يخُونُه ولا يَكذِبُه ولا يخذُلُه، كلُّ المسلم على المسلم حرامٌ: عِرضُه وماله ودمه، التقوى هاهنا، بحسْبِ امرئ من الشرِّ أن يَحقِرَ أخاه المسلم”[4].
            وقد تقرر عند العلماء وفاقا أن الذرائع إنما سدت لما تفضي إليه من مفاسد، ولا حصر لمفاسد التطبيع الواقعة منها والمتوقعة، كما بات موثقا[5]، وصار عيانا للعالمين، والإمام المقري يقول: “عناية الشرع بدرء المفاسد أعظم من عنايته بجلب المصالح”[6]، فإذا تعددت تلك المفاسد وغلبت كما هو الحاصل منع هذا التطبيع بناء على مآلاته الفاسدة، والقاعدة أن ” مراعاة المقاصد مقدمة على رعاية الوسائل”[7]، فإذا سقط المقصود “المصلحي” الموهوم من التطبيع المشؤوم سقطت وسيلته، بناء على القاعدة الفقهية الشهيرة: ” سقوط اعتبار المقصود يوجب سقوط اعتبار الوسيلة”[8].

فماذا عن الضرورة الملجئة للتطبيع على ما فيه من فساد، بناء على قاعدة ” الضرورات تبيح المحظورات”؟

القول بالضرورة في التوسل بالتطبيع قول ساقط شرعا باطل فقها، ذلك أن مآلات التطبيع التي نعيشها الآن هو ما جرى ويجري في فلسطين من تقتيل بالجملة للأرواح وتدمير للأبنية وتدنيس للمقدسات واعتقال وتعذيب للمئات من الشباب، وقد أجمع العلماء على انتفاء الضرورة في قضيتين اثنتين: القتل والزنى، فلا تستباح الأرواح والأوطان للضرورة، هذا إذا سلمنا بالضرورة في اللجوء إلى التطبيع، ولا ضرورة في ذلك شرعا وواقعا، ولا يقول بها عاقل، فمصالح الأوطان تحمى وتحفظ بالوسائل المشروعة المتعددة والمتجددة، وفي ذلك فليجتهد المجتهدون، وإلا فالمستعمرون والمحتلون لأوطان غيرهم كما في إفريقيا والعراق وأفغانستان وغيرها من مناطق العالم هم في زعمهم المريض حماية لمصالح اوطانهم وأمنهم القومي، فأي سخافة عقل أن يدمر وطن من أجل مصلحة وطن آخر؟

والحمد لله رب العالمين


[1] – وقد فصلت القول في تفكيك بنيان استدلال علماء التطبيع في بحث بعنوان: “منهج الاستدلال عند علماء التطبيع مقاربة أصولية وسبر مقاصدي“، نشر ضمن أعمال الندوة العلمية التي نظمها المركز العلمي للنظر المقاصدي في القضايا العاصرة نونبر 2020م، منشورات المركز العلمي للنظر المقاصدي بتعاون مع موقع منار الإسلام.

[2] – لقد أطال العلماء النفس في هذه الأيام في بيان إسلامية قضية فلسطين وعقديتها من خلال مؤتمرات وبيانات وفتاوى ومقالات.

[3] – رواه مالك في الموطأ مرسلا، وابن ماجة والدار قطني مسندا.

[4] – الترمذي في السنن بسند حسن عن أبي هريرة.

[5] – من الوثائق المهمة في بيان أخطار التطبيع على أوطان المطبعين قبل غيرهم كتاب: ” بيبيو الخراب على الباب” للأستاذ المناضل أحمد ويحمان، طبعة2/2020م، بسلا.

[6] – المقري، أبو عبد الله. القواعد، تحقيق ودراسة أحمد بن عبد الله بن حميد، منشورات جامعة أم القرى بالسعودية 2/443.

[7] – المقري، المصدر السابق 1/329.

[8] – المقري، المصدر السابق 1/330.