20231121

د. طه أحمد الزيدي- عضو الهيئة العليا ولجنة الفتوى في المجمع الفقهي العراقي

من خلال الحروب السابقة مع العدو الصهيوني المحتل، عُلم أن ردّهم سيكون شديدا على المدنيين من أهل غزة، مع وجود الدعم الدولي المساند والضعف العربي، نقول ينبغي أن نحسن الظن بمدارك قادة المقاومة الإسلامية، وأن هذا الأمر كان حاضرا في أذهانهم ومندرجا في تقريراتهم لمآلات الأمور، ولاسيما مع وجود سوابق لمبادرة العدو الصهيوني باستهداف المدنيين أو كرد فعل على هجمات المقاومة، فالعدو لم ينقطع عن الاستهداف بشتى صوره، وعن انتهاك حقوق المدنيين، وقد حث القرآن الكريم المسلمين على طلب العدو مع وجود الألم والقرح فكيف بدفعه، قال الله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء:104)، (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) (آل عمران)، وبعد انكسار المسلمين في غزوة أحد نَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فِي طَلَبِهِمْ، حَتَّى بَلَغُوا قَرِيبًا مِنْ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، وَذَلِكَ حِينَ قَالَ اللَّهُ: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران: 173) (أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، والطبراني في الكبير)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: لَمَّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ أُحُدٍ وَبَلَغُوا الرَّوْحَاءَ، قَالُوا: لَا مُحَمَّدًا قَتَلْتُمُوهُ، وَلَا الْكَوَاعِبَ أَرْدَفْتُمْ، وَبِئْسَ مَا صَنَعْتُمُ ارْجِعُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَدَبَ النَّاسَ فَانْتَدَبُوا حَتَّى بَلَغُوا حَمْرَاءَ الْأَسْدِ وَبِئْرَ أَبِي عِنَبَةَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} (آل عمران: 172) (أخرجه النسائي في الكبرى).

ومعلوم أن القتال لا يزال منذ عصر النبوة سجالا، بين انتصار وانكسار، ولم يمنع ذلك من معاودته، وإن استرداد الحقوق المشروعة والدفاع عن الدين والأرض والعرض لا بدّ له من تضحيات، وهذه من سنن الله في التدافع.

وقد تكون لدى بعض فقهاء السياسة الشرعية المتابعين بعمق رؤية في مآلات معركة طوفان الأقصى، لا تنسجم الى حد ما مع الرؤية المعلنة لقادة المقاومة، فالنصيحة المنضبطة من غير تشهير ولا تسقيط معتبرة، ولكن حسن الظن بهم مقدم، فالخير أرادوا وهذا مبلغهم من العلم وما وصل اليهم اجتهادهم، وهم يدركون عظيم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، مع ظننا أنها لم تكن بعيدة عنهم، وقد أعدوا لأشد المآلات خطرا خطة، وقدروا لأسوء العواقب قدرها، والأمر لله من قبل ومن بعد.    

وأخيرا نود تأكيد الحقائق الآتية:

الأولى: إن طبيعة المعركة مع اليهود الصهاينة ذات منطلقات دينية، فلا بد أن تبقى ضمن هذا الاطار، ولن ينتهي الوجود الصهيوني إلا تحت راية الإيمان والإسلام والعودة الى دين الله اعتقادا وسلوكا وعملا ورباطا، وهذا نداء الحجر والشجر الذي انطقه الله، أو ما يبث عبرها من التقنيات الحديثة في آخر الزمان، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: “لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ”، (أخرجه البخاري ومسلم)، وحتى الدعم الأمريكي يأتي تحت المظلة الدينية، ولذلك صرح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن: أنه لم يأتِ لإسرائيل كونه وزيرا لخارجية الولايات المتحدة فقط؛ ولكن بصفته “يهوديا فرّ جده من القتل”.

الثانية: لا يؤاخذ المقاتل بما يرتكبه العدو من جرائم بحق المدنيين، وإن كان من لوم واستنكار ومؤاخذة فهي تكون بحق العدو المجرم الذي ينتهك الشرائع والقوانين الدولية، ويرتكب أبشع الجرائم بحق المدنيين العزل، وبحق المؤسسات المدنية، ولا يصح قلب الحقائق وتحريف صريح النصوص، فضلا عن حقيقة الوقائع لخداع الرأي العام، كما قيل سابقا على لسان من بغى وقتل من ثبت بالنص تقتله الفئة الباغية: (قتله من خرج به)، ولو افترضنا جدلا إلى أن مباشرة العدو الصهيوني لما ارتكبه من مجازر وحشية وجرائم إبادة بحق المدنيين العزل في غزة كان سببه بدء المقاومين معركة طوفان الأقصى، فمن القواعد الفقهية المقررة: إذا اجتمع المتسبب والمباشر، غلبت المباشرة، وقدم المباشر، أو أُضِيفَ الْحُكْمُ إلَى الْمُبَاشِرِ، وسقط حكم السبب، فإذَا أَمْسَكَ شَخْصًا فَقَتَلَهُ آخَرُ فَالْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ تَقْدِيمًا لِلْمُبَاشَرَةِ عَلَى السَّبَبِ، وَانْقطع حكم التَّسَبُّب. (المنثور في القواعد الفقهية للزركشي، 1/ 136، والتحبير للمرداوي 3/ 1063)، ولأن الفاعل هو العلة المؤثرة، والأصل في الأحكام أن تضاف إلى عللها المؤثرة لا إلى أسبابها الموصلة، وإنما قدم المباشر على المتسبب في الحكم إذا اجتمعا، من باب اجتماع العلة وعلة العلة، والحكم يضاف إلى العلة لا إلى علة العلة (ينظر: شرح القواعد الفقهية للزرقا، 447)، وهذا الحكم إذا اجتمعا حقيقة، فكيف إذا ثبت فعل المباشر، وكان التسبب مظنونا ومفترضا، وعليه فمن الظلم شرعا وعرفا الطعن في المقاومين لتبرير الفعل الاجرامي للمعتدين الظالمين، وهذا التصرف يعدّ صورة من صور التخذيل والإرجاف المذمومين شرعا، ومآله إلى خذلان قائله ومؤيديه.

الثالثة: نذكّر أنفسنا وإياكم بالمبشرات القرآنية والنبوية لأهل فلسطين ومن يناصرهم ولا يخذلهم، قال الله تعالى: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا* عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) (الاسراء: 7-8)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس) (رواه الإمام أحمد)، وحسبنا بهذه البشرى دافعا للعطاء والبذل والنصرة والصبر، وأن تكون عاقبة هذه المعركة خيرا.