20231121

د. طه أحمد الزيدي- عضو الهيئة العليا ولجنة الفتوى في المجمع الفقهي العراقي

الأصل في تشريع صلاة الجمعة في البلد أن تكون واحدة يجتمع فيها المسلمون، وقد ذهب  جمهور العلماء إلى تحريم تعدد الجمعة في بلدة واحدة إلا من حاجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقيم في المدينة مدة حياته عليه الصلاة والسلام، سوى جمعة واحدة، وهكذا في عهد الخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم أجمعين، وفي سائر الأمصار الإسلامية في صدر الإسلام، ولما في اجتماع المسلمين في مكان واحد لأداء الجمعة من إقامة شعائر الإسلام، ولما فيه  من إغاظة لأعداء الإسلام من المنافقين وغيرهم باتحاد الكلمة وعدم الفرقة، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ أَمَرَ أَهْلَ قُبَا، وَأَهْلَ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَأَهْلَ الْقُرَى الصِّغَارِ حَوْلَهُ، أَنْ لَا تُجَمِّعُوا، وَأَنْ تَشْهَدُوا الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ”  قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ  أَنْ يُجَمِّعُوا (تعدد الجمع) إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْأَكْبَرِ، (رواهما عبد الرزاق في مصنفه، 3/ 168و170).

وقد نصّ بعض الفقهاء على أن الواجب هو اجتماع أهل البلدة أو القرية على جمعة واحدة ما أمكن ذلك من دون مشقة تحقيقا للمصلحة الكبرى في الاجتماع ولاسيما في الطوارئ والثغور التي تستدعي الاجتماع،  “فإن كان البلد ثغرا، فالأفضل لأهله: الاجتماع في مسجد واحد؛ لأنه أعلى للكلمة، وأوقع للهيبة فإذا جاءهم خبر عن عدوهم سمعه جميعهم،  وتشاوروا في أمرهم وإن جاءهم عين للكفار رأى كثرتهم، فأخبر بها، قال الأوزاعي: لو كان الأمر إلي لسمرت أبواب المساجد التي للثغور، ليجتمع الناس في مسجد واحد”، (كشاف القناع للبهوتي، 1/ 456)

أما إن دعت الحاجة الشديدة إلى إقامة جمعتين أو أكثر في البلد أو المدينة الكبيرة فلا بأس بذلك في أصح قولي العلماء، مثل: ضيق المسجد الواحد وعدم اتساعه لأهل البلد، أو لسعة البلد وتباعد أطرافها والمشقة الشديدة عليهم في تجميعهم في مسجد واحد ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قُرَى غَرِيبَةٍ، فَدَكَ وَيَنْبُعَ وَنَحْوِهَا مِنَ الْقُرَى عَلَى مَسِيرَةِ ثَلَاثٍ مِنَ الْمَدِينَةِ أَنْ يُجَمِّعُوا وَأَنْ يُصَلُّوا الْعِيدَيْنِ» (رواه عبد الرزاق 3/301، وهو مرسل)

وقد نص كثير من العلماء على جواز تعدد الجمعة عند الحاجة، قال الخرقي رحمه الله: (وإذا كان البلد كبيرًا يحتاج إلى جوامع فصلاة الجمعة في جميعها جائزة) ، وفصّله ابن قدامة رحمه الله في كتابه “المغني 2/248”: (وجملته أن البلد متى كان كبيرًا يشق على أهله الاجتماع في مسجد واحد ويتعذر ذلك لتباعد أقطاره أو ضيق مسجده عن أهله كبغداد وأصبهان ونحوهما من الأمصار الكبار جازت إقامة الجمعة فيما يحتاج إليه من جوامعها، وهذا قول عطاء، وأجازه أبو يوسف في بغداد دون غيرها؛ لأن الحدود تقام فيها في موضعين والجمعة حيث تقام الحدود، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله: لا تجوز الجمعة في بلد واحد في أكثر من موضع واحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجمع إلا في مسجد واحد وكذا الخلفاء بعده ولو جاز لم يعطلوا المساجد، حتى قال ابن عمر رضي الله عنهما: لا تقام الجمعة إلا في المسجد الأكبر الذي يصلي فيه الإمام، فأما مع عدم الحاجة فلا يجوز في أكثر من واحد، وإن حصل الغنى باثنتين لم تجز الثالثة، وكذلك ما زاد، لا نعلم في هذا مخالفا).

وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن صلاة الجمعة في جامع القلعة: هل هي جائزة، مع أن في البلد خطبة أخرى، مع وجود سورها، وغلق أبوابها – أم لا؟ فأجاب : نعم، يجوز أن يصلي فيها جمعة لأنها مدينة أخرى كمصر والقاهرة، ولو لم تكن كمدينة أخرى فإقامة الجمعة في المدينة الكبيرة في موضعين للحاجة يجوز عند أكثر العلماء؛ ولهذا لما بنيت بغداد ولها جانبان أقاموا فيها جمعة في الجانب الشرقي، وجمعة في الجانب الغربي، وجوز ذلك أكثر العلماء، وشبهوا ذلك بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – في مدينته إلا في موضع يخرج بالمسلمين فيصلي العيد بالصحراء، وكذلك كان الأمر في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، فلما تولى علي بن أبي طالب وصار بالكوفة، وكان الخلق بها كثيرا، قالوا: يا أمير المؤمنين، إن بالمدينة شيوخا وضعفاء يشق عليهم الخروج إلى الصحراء فاستخلف علي بن أبي طالب رجلا يصلي بالناس العيد في المسجد، وهو يصلي بالناس خارج الصحراء، ولم يكن هذا يفعل قبل ذلك، وعلي من الخلفاء الراشدين، (مجموع الفتاوى  24/ 208) ففعله حجة ، فإذا جاز ذلك في العيد للحاجة فالجمعة مثله بجامع المشقة والحاجة والرفق بالمسلمين.

وعليه فالأصل أن صلاة الجمعة كانت واحدة في البلدة، ثم دعت الحاجة والمصلحة إلى تعددها لتوسع العمران في البلدة الواحدة، وفي عصرنا إن رأت السلطة الشرعية المعنية بإدارة المساجد بالتشاور مع المرجعيات الشرعية المعتبرة وكبار العلماء الثقات حاجة أو مصلحة عامة في اقامة جمعة موحدة فلها ذلك بناء على الأصل، مع الحرص على توفير وسائل نقل لدفع المشقة والحرج عن الناس في السعي اليها إن بعدت عنهم، وأن لا تتكرر ثلاث جمعات متواليات سدّا للذريعة.

وبناء على ما سبق فإن دعوة المرجعيات الشرعية المعتبرة والجهات المعنية بإدارة المساجد إلى إقامة جمعة موحدة، وتحشيد جماهير المصلين لنصرة أهل غزة وللتنديد بجرائم الكيان الصهيوني، والقوى المساندة له في جرائمه، وللضغط على الحكومات العربية والإسلامية وحتى المنظمات الدولية لحثها على ايقاف المجازر التي ترتكب بحق أهل غزة، فهذا الأمر مشروع، ومن لا يستطع حضورها لمرض او عجز أو يشق عليه لبعد مسافة إقامتها ، فهو معذور حقيقة أو حكما مأجور. والله أعلم.

اللهم هذا مبلغنا من العلم وهذا جهدنا في التبليغ، اللهم فاشهد.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.