د. محمد سعيد بكر
رسالة_المنبر ٥-١-٢٠٢٣م
المحاور :-
كان الناس يستدلون بالنجوم في تحديد اتجاهاتهم ومساراتهم .. قال تعالى: “وَعَلَامَاتٍ ۚ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ” (16).
ثم بنى المخترعون فكرة البوصلة على ضوء خبرتهم في التعامل مع الاتجاهات والنجوم .. وصارت بمثابة دليل ومرشد لاسيما في كل أنواع وصور الملاحة براً وبحراً وجواً.
حتى جاء الاختراع الحديث والذي يستخدمه الإنسان بشكل سهل ومتاح لتحديد وجهته بشكل يضمن له سلامة المسير نسبياً .. بل ويوفر عليه من الوقت والجهد الشيء الكثير خصوصاً وهو يكشف له عبر الأقمار الصناعية مواضع الازدحام والحوادث أو الطرق السالكة.
وهنا لابد أن نحمد الله تعالى الذي أعان ووفق، وإلا فلولا فتح الله تعالى لبقي ذلك كله مغلقاً .. والفتح في عمل الدنيا ليس مقتصراً على المؤمنين بل يمكن أن يُفتح لغير المؤمن إن هو سلك أسباب الفتح وسعى واجتهد .. فلكل مجتهد نصيب.
وشتان بين اختراع ينوي به المؤمن عمارة الأرض على الوجه الذي ينفع ولا يضر، وبين من يسعى لاكتشاف أو اختراع ما يحقق مصلحته الذاتية .. وهو مستعد لقطع الخير عن الناس إن وجد أن مصلحته الشخصية مهددة بالخطر.
إننا ونحن ننظر في اختراعٍ بحجم (اللوكيشن) لنذهل من قدرة الإنسان على معرفة أدق التفاصيل في المسارات العامة والشوارع الضيقة .. فكيف بقدرة الخالق جل جلاله .. وهذا يعني أنه لا يجوز أن يأخذنا الاندهاش بقدرة المخلوق فننسى قدرة الخالق؛ إذ لولا الوهاب ما كانت موهبة، وصدق الله في بيان جوانب من معرفته لدقائق الأمور وتفاصيلها: “يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ” (لقمان: 16).
إننا بحاجة ماسة لتحديد وجهتنا ومعرفة خطة سيرنا في مختلف جوانب حياتنا؛ لا في رحلاتنا اليومية على الشوارع العامة وفي الزقاق فحسب .. لأن دقائق عمرنا أغلى من أن تضيع بلا غاية ولا وجهة أو هدف.
إن استخدامنا لتطبيق (اللوكيشن) ليس ضرباً ولا رجماً بالغيب .. بقدر ما هو نظر في المساحة المتاحة بشكل واسع في واقع قائم .. ولا يعلم ماذا يكون إلا من يملك أن يقول للشيء كن؛ فيكون.
إننا نستذكر كيف كنا قبل هذا الاختراع نضيع أحياناً ولا نهتدي السبيل .. ولكن لا ينبغي أن يكون لوجود هذا الاختراع ما يجعلنا نترك الاعتماد على ذواتنا ولا نحفظ مساراتنا المتكررة على الأقل؛ لأنه لربما انقطع بنا الانترنت أو شاحن الخلوي وعندها يلزم الرجوع إلى الأسلوب التقليدي في الوصول إلى المواقع المختلفة.
إننا مع تعدد وتنوع الطرق والمسارات والغايات لا ينبغي أن ننسى أو أن تبتعد عيوننا أو أن يخطئ (اللوكيشن) والبوصلة قبلتنا الثانية عند كل صلاة: “وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ” (البقرة: ١٥٠) .. وقبلتنا الأولى ومسرى رسولنا الكريم .. ومثلما كانوا يقولون: كل الطرق تؤدي إلى روما ينبغي أن يردد المسلم: كل الطرق تؤدي إلى مكة والقدس.
إن من الواجب أن نكثر من شكر ربنا الذي امتن علينا بتسهيل حركة السير وجعل الأرض مطوعة للمسير، قال تعالى:” وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا” (نوح: 20) .. وإلا فما قيمة البوصلة و(اللوكيشن) إذا كانت الأرض عسيرة على أهلها؟!.
إننا بحاجة إلى ضبط مستمر ومتجدد للبوصلة و(اللوكيشن) .. فكم من الناس بدأوا مشوارهم إلى وجهة طيبة كريمة، ثم انحرفوا عنها إلى سبل الغاية والهوى، قال تعالى:” وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (الأنعام: 153).
إنني أتخيل طريق الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستخدم دليلاً (خريتاً) ماهراً قد أمن مكره وإن لم يكن مسلماً (عبد الله بن أريقط) ليؤكد لنا على ضرورة وجود ووضوح (اللوكيشن) ولكن بعد تحديد الأهداف والغايات .. بل إنه سلك في طريق عودته إلى مكة فاتحاً طريقاً غير معتاد (لوكيشن خاص) ليموه ويغمي على قريش حتى يداهمها (سلماً) دون أن يجد رد فعل يتسبب بإراقة الدماء .. فهل جهزت أمة الإسلام اليوم (لوكيشن) العودة إلى ديارها ومقدساتها بعد طول شتات؟!.
إن عمل اللوكيشن يشبه عمل الدعاة إلى الله في أمور عديدة منها؛
- 1- كلاهما يعملان على تحديد المسارات الأقرب للوصول إلى الغايات.
- كلاهما يكشفان ما يوجد على الطريق من تحديات وما في ذلك من تحويلات اضطرارية.
- كلاهما يحرصان على توفير العمر ويحترمان الوقت والزمن.
- كلاهما يضبطان سرعة الماشي ويكشفان ما في الطريق من كاميرات المراقبة.
- كلاهما لديهما قدرة على إيجاد الطرق البديلة ومخارج الطوارئ للوصول إلى الغاية المنشودة.
- كلاهما لديه قدرة على التكيف مع الليل والنهار .. فهما لا يتوقفان إلا اضطراراً.
- كلاهما لا ييأس حتى لو ابتعد عن الغايات المقررة (اضطرارا) من أن يعود إليها ولو بعد حين.
إن أولى ما ينبغي توجيه (اللوكيشن) نحوه هو الطريق إلى قلوب الناس وعقولهم بقصد دعوتهم وهدايتهم .. فالطريق إلى القلوب والعقول أصبحت صعبة بسبب ما يحيط بها من شهوات وشبهات والله المستعان.
كما ينبغي عدم الغفلة عن طريق الجنة؛ فهي طريق الذين أنعم الله عليهم ” مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا” (النساء: 69) .. وإن كانت هذه الطريق محفوفة بالمخاطر والصعوبات .. فقد روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ”.
إن خروج المرء من بيته بلا غاية ولا هدف لا يألوا على شيء لا يليق بالمرء المسلم الذي ينوي عند كل حركة وسكنة مقصداً أو عدة مقاصد نبيلة؛ فيثاب على بلوغها أو على نية بلوغ ما حالت الحوائل والموانع دون بلوغها .. فالأعمال بالنيات، والهجرة إما أن تكون لله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو إلى ما هاجر المرء إليه.
إننا اليوم كأمة نعيش حالة هي أقرب ما تكون إلى حالة بني إسرائيل في زمن التيه .. لأننا ضيعنا البوصلة بسبب الجبن والتخاذل وضعف النفوس والتشبث بالدنيا، فصرنا نمشي طويلاً لكننا لا نقطع المسافات نحو أشرف الغايات .. قال تعالى في بني إسرائيل: “قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ” (المائدة: 26).
إن من ألذ وأجمل ما يمكن أن نوجه البوصلة إليه، وأن يعرف (اللوكيشن) طريقه إليه؛ حِلَق العلم ومعاهد تحصيل المعرفة وميادين مزاحمة العلماء؛ ففيها يزيد الإيمان، ويتسامر الخلان، وتُعرِضُ عن الآثام العيون والآذان، لأجل ذلك قال نبينا العدنان صلى الله عليه وسلم:” مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا ، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ” رواه أبو داود وهو صحيح.
إن حاجتنا اليوم إلى تحديد مواقعنا والأرض التي نقف عليها لا تقل عن حاجتنا لتحديد وجهتنا والمواقع التي ننوي الذهاب إليها .. فقد أصبح كثير منا لا يعرف موقعه؛ وبالتالي لا يحسن تقدير موقفه ولا تحديد وجهته.
إننا مع الاعتياد والإلف لبعض المواقع لم نعد بحاجة إلى خطة سير إليها .. ولكن هذا لا يمنع من النظر المستمر في الآفاق من حولنا لعل طريقاً أقرب وأكثر إيناساً من طريق .. ولربما كان هذا سبب مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم لطريق ذهابه عند عودته لاسيما في العيد .. روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم “كان إذَا كانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ”.
إننا نهيب بأصحاب العقول الكبيرة من المهندسين وغيرهم وأصحاب الأموال النظيفة أن يضعوا أيديهم بأيدي بعضهم لاختراع كل وسيلة تسهل على الناس ضبط مساراتهم وتعينهم على قضاء حوائجهم؛ لأن مجرد إماطة الأذى عن الطريق صدقة .. فكيف بمن يخترع ما هو أنفع وأكبر من ذلك.
وختاماً
إن أسوأ ما يمكن أن نمارسه على طريق الغايات ونهاية المسارات أن نمنح دفة القيادة وتحديد الوجهة والبوصلة إلى من لا يخافون الله ممن باعوا دينهم ودنيا قومهم بثمن بخس، وصاروا تماماً مثل فرعون الطاغية؛ ذاك الذي قاد قومه إلى نهاية مظلمة لأنه سلك سبيل الهلاك .. قال تعالى:” يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ۖ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ” (هو: 98).
وإن سلوك سبل الهلاك لا يمكن أن يفضي إلى نهاية منجية لأجل ذلك قيل:
لا تَأْمَنِ الموتَ في طَرْفٍ ولا نَفَسِ
وإنْ تَمَنَّعْتَ بالحُجَّابِ والحَرَسِ
فما تَزالُ سِهامُ الموتِ نافِذَةً
في جَنْبِ مُدَّرِعٍ منها ومُتَّرِسِ
أَرَاكَ لستَ بِوَقَّافٍ ولا حَذِرٍ
كالحاطِبِ الخابِطِ الأَعوادَ في الغَلَسِ
تَرجُو النجاةَ ولم تَسلُكْ مسالِكَها
إن السفينةَ لا تَجري على اليَبَسِ