خاص هيئة علماء فلسطين
18/8/2024
لجنة الفتوى في هيئة علماء فلسطين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن من أهم الوجبات التي تلزم المسلمين عموماً، وهي أعظم في حق أصحاب الأموال الذين فتح الله عليهم وآتاهم من فضله وكرمه، أن يبذلوا من أموالهم لنصرة أهلنا في غزة؛ لأن الجهاد بالمال؛ لا يستغني عنه المقاتلون لتأمين السلاح والذخيرة، ولا المدنيِّونَ لتأمين ضرورات عيشهم من طعام، وشراب، ولباس، وعلاج.
والله سبحانه وتعالى قدَّم الجهادَ بالمال على الجهاد بالنفس، في سائر المواضع في القرآن إلا موضعاً واحداً، وذلك لأهميته القصوى؛ إذ لا يمكن أن يتحقق الجهاد بالنفس إلا بسلاح وعتاد، ولا يمكن تحصيل ذلك إلا بالمال، قال تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة: 41]، وقال ﷺ: «جاهِدُوا المُشرِكِينَ بِأموالِكُم وأنفُسِكُم وألسِنتِكُم» صحيح: رواه أبو داود (2504).
والنبي ﷺ جعَل مَن جاهد بماله كمَن جاهَد بنفسه، فقال ﷺ: «مَن جهَّزَ غازيًا فَقدْ غَزَا، ومَن خَلَفَ غازياً في أهلِهِ فقَدْ غَزَا»ِ متفق عليه وفي رواية “من جهّز غازياً في سبيل الله حتّى يستقِلّ، كان له مثل أجره، حتّى يموت أو يرجع “صحيح ، أخرجه ابن ماجه.
بل جعَل النفقة فيه بسَبعِ مائةِ ضِعفٍ، فقال ﷺ: «مَن أنفَقَ نَفَقةً في سَبيلِ الله كُتبَتْ بسَبعِ مِائةِ ضِعفٍ» صحيح: رواه الترمذي في سننه (1625)
وقد اتفَق العلماء على أن الغُزاةَ في سبيل الله تعالى المتطوِّعينَ للجهاد يجوز إعطاؤهم مِن الزكاة قَدْرَ ما يَتجهَّزون به للغزو، مِن مَركبٍ وسلاحٍ ونفقةٍ وسائر ما يَحتاج إليه الغازي مدةَ الغزو وإنْ طالت.
وهذا الحكم بالنسبة للزكاة، أمَّا إذا احتاج المجاهدون للمال ولا يوجدُ زكاةٌ، أو وُجِدَتْ ولم تَكْفِ للجهاد، فيجب على المسلمين حينئذٍ أنْ يُخرِجوا من مالِهم ما يكفي إخوانَهم حتى يدفعوا هذا العدوان الغاشم، كما نصَّ على هذا أهل العلم؛ لأنه لو لم نفعل ذلك لَصارت ديارُنا عرضةً لاستيلاء الكفار عليها.
وقال الإمامُ القرطبي رحمه الله تعالى: اتفق العلماء على أنه إذا نزَلتْ بالمسلمين حاجة بعد أداءِ الزكاة فإنه يجب صَرْفُ المال إليها، وقال مالكٌ: يجب على الناس فِداءُ أَسْراهم وإن استغرق ذلك أموالَهم، وهذا إجماعٌ أيضًا. اهـ تفسير القرطبي (2/242).
وقال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله تعالى عند قوله سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة:34]: فهذا يندرج فيه من كَنَزَ المال عن النفقة الواجبة في سبيل الله، والجهادُ أحقُّ الأعمال باسم سبيل الله، سواء كان مَلِكًا أو مُقدَّمًا أو غنيًّا أو غيرَ ذلك، وإذا دخل في هذا ما كنزُ من المال الموروث والمكسوب فمَا كُنِزَ مِن الأموال المشتَرَكة التي يَستحقها عمومُ الأمَّة -ومُستحِقُّها مصالِحُهم- أَولَى وأحرَى. مجموع الفتاوى (28/440).
وقال أيضًا: والعاجز عن الجهاد بنفسه يجب عليه الجهاد بماله، فمَن عجز عن الجهاد بالبدن لم يَسقط عنه الجهاد بالمال، كما أن مَن عجز عن الجهاد بالمال لم يَسقط عنه الجهاد بالبدن. اهـ مجموع الفتاوى (28/87).
وعلى هذا فيجب على النساء الجهادُ بأموالهن إنْ كان فيها فَضْلٌ، وكذلك في أموال الصغار إذا احتِيج إليها، كما تجب النفقاتُ والزكاةُ…
فإذا هجَم العدو فإنَّ دَفْعَ ضررِهم عن الدِّين والنفس والحُرمة واجبٌ إجماعاً. اهـ الفتاوى الكبرى (4/607، 608).
فيجب على أغنياء وتجار المسلمين، بل على جميع مَن يقدِر مِن المسلمين، أنْ يُنفِقوا من مالِ الله لأهلنا في غزة؛ لأن الحفاظ على النفوس أَولى من الحفاظ على المال، فأموال الأغنياء ليست أغلَى وأثمَنَ من دماء المجاهدين، فكما وجَب على المجاهدين أنْ يَبذلوا أنفسَهم وأرواحَهم، فكذا يَجبُ على أهل المال أن يَبذلوا أموالَهم، فالجودُ بالنفسِ أقصَى غايةِ الجودِ، فمَن لم يَقدرْ على الجهاد بنفسِه فلا يَسقط عنه واجبُ الجهاد بماله.
فلْيَنتبهِ الأغنياء إلى حُكمِ الله في أموالهم، حيث إنَّ الجهادَ في حاجة، والمجاهدون لا يَجدون قيمةَ السلاح أو الذخيرة، ويُقتَل المئاتُ منهم يوميًّا، وديارُهم في يد الكفار، والأغنياء غارقون في شهَواتهم إلا من رحم الله.
وعلى هذا: يجب على مَن عجَز عن الجهاد بنفسِه لعُذرٍ أنْ ينفِق من ماله على المجاهدين وأهليهم حتى يثبتوا في الجهاد، فجهادُ النفس قد يكون فرضَ عَينٍ وقد يكون فرضَ كفايةٍ، أما جهاد المال فهو فرضُ عينٍ على كل مسلم ومسلمة.
كما يجب على تجار المسلمين -تأكيداً لما سبق- ما يلي:
1- تفعيلُ الجهاد بالمال، فإنه قَسيمُ الجهادِ بالنفس.
2- مقاطعةُ منتجاتِ الشركات التي تدعمُ الاحتلال بأيِّ أنواعِ الدعم فلا يشترون منهم ولا يتاجرون معهم.
3- عدم إمدادُ اليهود بأيِّ أنواعِ الإمداد، سواء أكان غذاءً أو دواءً أو وقودًا أو غير ذلك.
4- أن يَعلَموا أن المالَ المبذول منهم ليسَ تَبرُّعًا أو تَفضُّلًا، إنما هو واجبٌ شرعي أوجبَه عليهم ربُّهم سبحانَه ورَسولُه ﷺ وعلى هذا أجمع علماء الأمة.
فالواجب السعي وبذل الجهد في جمع التبرعات والصدقات والزكوات، ونُذكِّركم بقوله تعالى: ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون:10]، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة:254].
وفي الختام: نُحذِّرُ أصحابَ الشركات التي تَقومُ على تحويل الأموال مِن أخذِ نسب زيادة، فهذا من السُّحتِ، بل المطلوب منهم أن يقوموا بالتحويل مَجاناً، فهذا هو جهادهم، فإنْ أخَذوا شيئاً فيكون بالنِّسَبِ المتعارَف عليها قبل الحرب، وإلا فهذا جُرمٌ وحرام وإثمٌ عظيم وأكلٌ لأموال المجاهدين والفقراء بالباطل، واللهُ سائِلُهم ومُحاسبُهم.