رسالة المنبر
د. محمد سعيد بكر
المحاور
التفكير ميزة اختص الله تعالى بها الإنسان .. وهي مناط وأساس التكليف .. لأنه على ضوء هذا التفكير يختار المرء طريقه؛ قال تعالى: “إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا” (الإنسان: 3).
إننا إذا تتبعنا خطوات العظماء من المصلحين فإننا نجد من الصفات التي تجمعهم؛ تلك الرؤية التي اختصهم الله تعالى بها .. فهم يتناولون الأمور من زوايا نظر مختلفة .. ولا يسلكون مسالك التقليد البحت إلا في أمور لابد من التقليد فيها .. فهم لا يرغبون بالتغيير انقلاباً وتمرداً على كل موروث كما نرى ممن يسمون أنفسهم “المتنورين الجدد”!! ، فيصبح التفكير لعنة والتغيير نقمة على أصحابه.
لقد أساء الوليد بن المغيرة التفكير وأخطأ التقدير، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، فأنزل الله تعالى آيات تعيبه وتعيب طريقة تفكيره وتقديره الأعوج، قال تعالى: “إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ(٢٥).
لقد دعانا ديننا إلى استخدام عقولنا .. وجعلت شريعتنا السمحة من مقاصدها حفظ العقل .. وطُلب من العقل أن يكون واعياً وراعياً وحامياً للنقل .. لا متصادماً معه ولا متمرداً عليه.
إن كل تفكير يخضع للأهواء لا يعد تفكيراً نوعياً مهما حمل في ظاهر الأمر من روعة وجمال .. فالقلب مصدر العاطفة ولا يجوز أن يأخذ بزمام العقل وهو مصدر التفكير ليقوده إلى الجحيم .. بل إن العقل هو الذي يلجم القلب ويضبط العاطفة .. وكم أضل القلب من أصحاب العقول وأهلكهم، قال تعالى: “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ” (الجاثية: 23).
إننا أحوج ما نكون اليوم إلى تفكير نوعي مميز مختلف .. لأن هذا التفكير هو الأقدر على حل مشكلاتنا وإدارة أزماتنا، وهو من المعينات على جلب السعادة لنا في الدنيا والآخرة .. ولعل من معالم وقواعد ومواصفات التفكير النوعي المنشود ما يأتي:
هو التفكير الهادئ المُركَّز والبعيد عن الضوضاء والصوارف (الترهيب) أو الجواذب (الترغيب) من أي جهة داخلية نفسية أم خارجية كانت.
هو التفكير العميق، والذي يقرأ المشاهد والأحداث والكتب والمقالات والشخصيات من بين السطور ولا يكتفي بظواهر الأمور .. وبالتالي فهو لا يتعرض للخداع .. وإن ابتلى به فإنه لا يُلدغ من جحر واحد مرتين.
هو التفكير الإيجابي المتفائل، والذي لا يخنقه الواقع والحال .. بل دائماً عينه ترنو إلى المتوقَّع والمآل ولا يقطع أمله بربه ذي العزة والجلال.
هو التفكير المتواضِع لكل تجربة وفكرة وقصة نجاح سابقة .. والطامح لصناعة قصص نجاح مميزة على أطلال ذاك التاريخ العريق.
هو التفكير الأصيل المنبعث من الوحيين والمنطلق بعدهما وعلى ضوئهما بلا قيود ولا حدود .. فالأصل ثابت والفروع تنتشر بانسيابية نحو السماء.
هو التفكير الذي ينتج أفعالاً لا مجرد ردود أفعال .. ويحسن التعامل مع الضغوط ولا يخضع للانفعال.
هو التفكير التكاملي التراكمي الذي لا يجتزئ المشاهد والأحداث والنصوص، ويبني على القواعد ولا يحرق المراحل.
هو التفكير الذي يحسن الفك والتركيب ولا يتردد في الهدم أحياناً بقصد البناء.
هو التفكير الشجاع؛ ولكنها شجاعة الحكيم بلا تهور ولا تردد؛ فهو لا يتردد عن قرارات التصعيد ولا يخجل من قرارات الخفض، ولكل مقام مقال.
هو التفكير الذي يملك تجديد نفسه .. فلا يخضع لروتين قاتل منفر.
هو التفكير الذي يزن الأمور بميزان الحق في الحال والمآل لا بميزان الكثرة والقلة في عدد الرجال أو الثروة والمال.
هو التفكير الذي لا يقف عند حدود التنظير؛ فيجيب على أسئلة المفاهيم والتعليلات فحسب، بل يتحول إلى دائرة الآليات والكيفيات والإجراءات ويهتم في أدق التفاصيل ويراعي اللمسات الأخيرة.
هو التفكير الذي يخرجنا من المشكلة إلى العديد من الحلول .. لا ذاك التفكير الذي يخرجنا من المشكلة إلى الأزمة ومن الأزمة إلى الكارثة؛ مثل تفكير الملحد الذي لم يجد حلاً لمشكلة جفاف روحه وغلبة شهوته؛ فقرر التحلل من القانون الذي يراقبه والاستغناء عن ولي نعمته.
هو التفكير الذي يتناول معالي الأمور ويبحث في أولويات احتياجات أهله ووطنه وأمته .. ولا يبعثر الطاقة في سفاسف الأمور والمعارك الجانبية التافهة.
ولعل مما يصرف عقول كثير من الناس عن الوصول إلى هذا النوع من التفكير ما يأتي من العقبات:
1️⃣ الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
2️⃣ البيئة غير المحفزة، والصحبة المثبطة.
3️⃣ كثرة التجارب الفاشلة والوصول إلى حالة من اليأس.
4️⃣ الخوف من المجهول وعدم امتلاك روح المغامرة.
5️⃣ غلبة العاطفة والهوى وانطماس البصيرة.
بالمثال يتضح المقال؛ وفي السيرة أعظم النماذج على التفكير النوعي، على الرغم من حضور الوحي المسدد للرأي والمسيرة، فمن نماذج التفكير النوعي في مشاهد السيرة النبوية ما يأتي:
1️⃣ فكرة الأسلوب السهل في حل النزاع بين القبائل المتنازعة على وضع الحجر الأسود في مكانه.
2️⃣ فكرة الاجتماع الأول في دار الأرقم بن أبي الأرقم على الرغم من صغر سنه (١٦ عاماً) وذلك لصرف الأنظار والعقول عن مجرد احتمال أن يكون التجمع في بيت هذا الفتى الصغير.
3️⃣ فكرة إرسال مجموعة من الصحابة الكرام إلى الحبشة لتحقيق هدف حمايتهم من جهة ونشر الدعوة هناك من جهة أخرى.
4️⃣ فكرة البدء بمحاولات فتح آفاق للدعوة خارج مكة من خلال التواصل مع كل من يأتي مكة تاجراً أو حاجاً وطلب هدايتهم أو نصرتهم، ومن خلال رحلة الطائف.
5️⃣ فكرة المؤاخاة بين المهاجرين (المعلمون أصحاب التجربة الأولى) والأنصار (التلاميذ أصحاب اليد البيضاء).
6️⃣ فكرة قطع تجارة قريش لإرغامها على إرجاع حقوق المهاجرين.
7️⃣ فكرة التحول من استراتيجية الدفاع إلى استراتيجية الهجوم بعد غزوة الأحزاب.
8️⃣ فكرة الصلح الثقيل لتحصيل ما بعده من فتح جميل.
9️⃣ فكرة مخاطبة الملوك والتحول من الخطاب الدعوي المجرد إلى الخطاب السياسي الدولي الرسالي.
إننا اليوم أحوج ما نكون إلى التفكير النوعي الذي نحقق من خلاله تفوقاً على الذات قبل أن نتفوق على الآخرين .. والتفوق على الذات يتطلب الإجابة على سؤالات محددة ثم نعزم العزيمة ونبدأ مشوار الإقلاع الحضاري .. وهذه الأسئلة هي:
1️⃣ كيف كنا؟
2️⃣ كيف أصبحنا؟
3️⃣ كيف ينبغي أن نكون؟
إن شدة الدهاء والمكر التي يتمتع بها الخبثاء تتطلب تفكيراً نوعياً يوقف عجلة تدميرهم ويعكر صفو تفكيرهم ويحقق عنصر المفاجأة لهم .. فلا يجدون إلا وأن تلك الأمة الغافلة قد استيقظت من غفلتها وعادت إلى رشدها واستمسكت بمصدر قوتها وعزتها .. وعندها ينقلب السحر على الساحر؛ فيتجدد مشهد غرق فرعون والخسف بقارون .. “وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” (الزمر: 61).
إن وصول العقل إلى حالة من العجز قبل إعماله وفركه ومحاولة تشغيله؛ كل ذلك لا يجوز ويلام صاحب العقل المغلق غير المستخدَم، لأنه لم يجرب ولم يبادر .. في حين أن المبادرون يأخذون أجر المحاولة .. ويوشك أن تفتح لهم الأبواب.
إن أعظم ما ينبغي التفكير فيه هو التفكير في مقاصد كلام ربنا في كتابه العظيم .. وهو ما يمكن أن نسميه: (وعي الوحي) .. لما في ذلك من تمكين لعلاقتنا بربنا سبحانه من جهة، وما ينتج عن ذلك من اكتشاف وتتبع لأسباب سعادتنا من جهة أخرى .. فهنيئاً للفقهاء والمفسرين، وأعانهم الله على حمل أمانة ما وصلوا إليه من الكنز الثمين.
وختاماً
لقد أصبح الحليم في زماننا حيراناً، وطاشت العقول، وتشتت الفكر، وأصبح مجرد التفكير العادي فضلاً عن التفكير النوعي في غاية الصعوبة .. وليس لنا إذا أردنا إعمال عقولنا كما ينبغي أن تعمل؛ إلا المثابرة والإخلاص، وحسن الانتماء لديننا وأمتنا وأوطاننا، والأخذ بالأسباب المتاحة، وسؤال الله الهداية والسداد وطلب الحكمة وفصل الخطاب، قال تعالى: “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ” (البقرة: 269).
نقلاً عن:
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=197381605827960&id=100066683647545