رسالة المنبر
د. محمد سعيد بكر
المحاور
يرى البعض أنه إذا أصبحت العلاقة مع الأعداء طبيعية وحصل التعايش المطلوب، فإن لذلك فوائد جمة وثمرات .. ومن تلك الفوائد:
1️⃣ شيوع قيم التسامح والعفو والصفح ونسيان الثارات القديمة.
2️⃣ فتح آفاق التبادل التجاري والسياحي.
3️⃣ محاصرة أصحاب الأفكار المتطرفة.
4️⃣ فتح أبواب التعاون في المجالات الثقافية والتعليمية والرياضية.
والصحيح أن هذه الفوائد والثمرات المزعومة متوهَّمة وغير حقيقية .. ولا يذهب عاقل ذو شرف ودين إلى التطبيع مع الأعداء .. إنما يذهب إليه الضعفاء والجبناء .. وصدق الله في بيان الفائدة التي يرجوها هؤلاء الضعفاء من المسارعة في الارتماء بأحضان الأعداء: “فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ” (المائدة: ٥٢) .. إنه الخوف من بطش هؤلاء .. وبالتالي فنحن نلجأ إلى أعدائنا خوفاً من بطشهم!!
وعلى سبيل التفنيد المفصَّل لتلك الفوائد المزعومة نقول:
1️⃣ عن أي تسامح يتحدث المطبعون ودماء إخواننا لم تجف من أيدي هؤلاء السفلة والمجرمين فمذابحهم لا تزال مستمرة وإجرامهم بحق مقدساتنا وسجونهم تحكي حقدهم الدفين.
2️⃣ عن أي تبادل تجاري وسياحي يتحدثون .. وهل ثبت أن الدول التي طبعت مع أعدائها ازدهرت سياحياً وتجارياً .. بل هل أعداؤنا الذين سلبوا بلادنا واستولوا على أراضينا ذات الخيرات الكثيرة حريصون على ازدهارنا سياحياً وتجارياً؟!.
3️⃣ وما الذي يقصدونه بمحاصرة أصحاب الأفكار المتطرفة كبركة من بركات التطبيع سوى محاصرة المجاهدين واتهام كل من يفكر مجرد تفكير في دعمهم بالحال أو المال أو يثني على جهودهم بأنه إرهابي متطرف .. وفتح آفاق التنسيق الأمني الذي نقدم فيه خدمات الحراسة لأعداء ديننا وأوطاننا ومقدساتنا.
4️⃣ أما التعاون في المجال الثقافي العلمي الفكري .. فهل سيسمح لنا أحفاد القردة أن نتدخل في مناهجهم وإعلامهم ونشر ثقافتنا وعقيدتنا وفكرنا وقيمنا في ثناياها كما يفعلون في مناهجنا وبرامجنا لقلنا بأن في التطبيع شيء حسن .. ولكن هيهات هيهات .. وقد بدت ملامح تدخلهم بشكل مبكر من خلال ما رأيناه من مسخ أتى على مختلف منابر التوجيه والإرشاد في بلادنا.
إن من الشذوذ أن تصبح العلاقات طبيعية مع قوم يظنون أنهم شعب الله المختار .. وأن الله خلق الناس ليكونوا خدماً وعبيداً لهم.
لقد حاول النبي صلى الله عليه وسلم أن يفتح صفحة بيضاء مع يهود المدينة حين جاءها مهاجراً .. فعمل الوثيقة التي بيّن فيها قانون الدفاع المشترك .. لكن قبائل اليهود كلهم خانوا عهودهم .. ولم يقبلوا التعايش السلمي مع أطهر الخلق .. فهل يمكن لهؤلاء الخبثاء أن يتعايشوا معنا؟!
إن في كتاب الله تعالى ما يؤكد أن هؤلاء لن يقبلوا بنا .. وأن لهم بهذا التطبيع غايات خبيثة، فقد قال تعالى: “وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ” (سورة البقرة:120).
إننا اليوم أحوج ما نكون إلى تطبيع العلاقات مع أنفسنا وأهلنا وإخواننا وجيراننا؛ فقد أصبحت علاقات جامدة جافة ولم تعد علاقات طبيعية حميمية لطيفة هادئة .. وكلما اقتربنا من بعضنا صرنا أقوى ولم نحتج لمجرد التفكير في تطبيع العلاقات مع الأعداء .. وإلا فالذين لا يقتربون من بعضهم لاشك سيقتربون من أعدائهم .. والأعداء من شأنهم التفريق وبيننا وإقامة علاقات شاذة معنا.
لقد نهانا الإسلام عن تطبيع العلاقات مع أصحاب المنكرات فضلاً عن المعتدين .. فقال تعالى: “وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا” (النساء: 140).
بل لقد نهى الله تعالى علماء اليهود عن تطبيع العلاقات مع أصحاب المنكرات .. ولكنهم لم يصغوا لهذا النهي فوقعوا في المحظور .. قال النبي صلى الله عليه وسلم:” لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَجَالَسُوهُمْ في مَجَالِسِهمْ، وَوَاكَلُوهُمْ، وَشَارَبُوهُمْ، فَضَربَ اللهُ قُلُوبَ بَعضِهِمْ بِبَعْضٍ, وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعتَدُونَ، فَجَلَسَ رَسُولُ الله ﷺ وكان مُتَّكِئًا فَقَالَ: لا والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأطرُوهُمْ عَلَى الحَقِّ أطرًا” رواه الترمذي وهو حسن.
وقد يقول قائل .. وهل البيع والشراء مع غير المسلمين حرام .. والجواب على ذلك السؤال المموه يحتاج إلى تركيز .. فنحن لا نتكلم عن مجرد كافر أو غير مسلم أو حتى كتابي أجاز لنا الإسلام البر والإحسان له طالما أنه غير معتد ولا مغتصب .. أما المغتصبون المعتدون فلا مكان لهم بيننا .. ولا نعترف بهم ولا نقبل التعاطي معهم ليبقى النبذ لهم هو عنوان العلاقة معهم.
إن عجزنا وضعفنا وقلة حيلتنا لا تبيح لنا تطبيع العلاقات مع أعدائنا .. فنحن ننكر عدوانهم ولو بقلوبنا ونعلن عن هذا الإنكار بألسنتنا تصريحاً وتلميحاً .. وقد اعتدت قريش على المسلمين فصبر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقاوم عدوانهم لضعف الدعوة في مكة ولحرصه على السلم المجتمعي فيها .. لكنه لما خرج إلى المدينة لم ينس عدوان قريش على حقه وحقوق أصحابه؛ فأخذ يبعث سرايا قطع تجارة قريش ولم يُطبع مع قريش تطبيعاً اقتصادياً .. وهذا يعني أن الأولى قطع تجارة الأعداء لا قبولها والتسويق لها.
إن أي محاولة لإنها الصراع ضرب من العبث وتضييع الأوقات والأعمار والجهود وتنكُّر لدماء الشهداء وغفلة عن المغيبين في سجون المحتل .. وبدلاً من التفكير في “إنهاء صراع” لن ينتهي مطلقاً لابد من التفكير في “إدارة الصراع” وشتان بين تفكير انهزامي .. وتفكير نهضوي حر متقدم.
لقد رفض اليهود الأوائل دعوة أنبيائهم؛ فقتلوا بعضهم وَكذبوا الباقين .. ولما جاء موسى عليه السلام وخلصهم من استبداد فرعون لم يلتزموا أمره ولم يطيعوه .. ولما مات حرفوا رسالة موسى عليه السلام .. ثم عبثوا بعد ذلك برسالة عيسى عليه السلام .. ثم أنكروا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم .. فهم مجتمع قبيح مغلق، لا يمكن أن ينفتحوا على الآخر إلا وفق شروطهم وقواعدهم، قال صلى الله عليه وسلم: “لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن اليهود كلهم” متفق عليه .. فهل هنالك أي أفق للتعايش مع قوم هذه صفتهم .. بل هل يمكن التعايش مع قوم يكرهون أنفسهم؛ قال تعالى: “بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ” (الحشر (14)).
إننا دعاة سلام .. وأصحاب رسالة سلام .. وتحيتنا في الدنيا لبعضنا وفي جنات الخلد السلام .. وصلاتنا ختامها السلام .. ولكننا لا نقبل الذل والهوان ولا نرضى بالاغتصاب والعدوان .. فمن أراد من الأفراد أو الأمم أو الأنظمة أو الشعوب والملل أن يكون مقامه فينا طبيعياً مقبولاً؛ فليكن عادلاً منصفاً، بعيداً عن الظلم والاستبداد، والعدوان، والاغتصاب .. حتى لو لم يكن مسلماً .. فدعوة الله تُعرض ولا تُفرض .. وإلا فإننا ننكره وننكر وجوده ونشمئز من مجرد سماع اسمه .. ولو بقي فوق رقابنا متجبراً مستبداً مغتصباً مئات السنين.
ومن أجمل ما قيل في إنكار التطبيع شعراً كلمات الشاعرة ابتسام البرغوثي التي تقول فيها:
اهدأ بُنَيّ فلن تخيبَ ظُنوني
واترك وساوسَ قلبِك المحزونِ
إهدأ فما قتلوا بنا أنشودة ال
أرضِ الحبيبةِ أو هوى الزيتونِ
للأرضِ روحُكَ قد نذرتَ فَداوِها
مكلومةٌ في سرّها المكنونِ
وبخنجر الغلّ استباحوا قلبَها
وبآخَرٍ في ظهرِها المطعون
مَن هم ليفتوا في تواجد أمّةٍ
خلقت قبيل الخلق دون ظنون
لا كان من يلوي عليك لسانه
وهوى إلى التطبيعِ كالمجنون
وقعوا وما استحيَوْا على ما وقّعوا
رباهُ … عذّبهم عذابَ الهونِ
يا بحرُ يا عشقا يهدهد أضلعي
ويبثّ يملأ بالرجاء عيوني
بيني وبينك ذمةٌ دون الورى
فانسف خُطاً هيهات أن تمحوني
وختاما
إن من الواجب رد عدوان المعتدين .. ومجاهدة الغاصبين المعتدين .. ودعوة العصاة الفاسدين؛ دون مداهنة لهم ولا خضوع ولا خنوع تحت مسميات خادعة .. فالتطبيع مع العدو خيانة وفجور وعهر سياسي وانبطاح .. وسوف تلعن الأجيال المتعاقبة كل مطبع عندما ترى آثار فساده المزمن ولا بعد حين.
سيندم المهرولون نحو أعداء الأمة ندماً شديداً بصريح قول الله تعالى: ” .. فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ” (المائدة: 52) .. قال الإمام الطبري رحمه الله: “
فإنه يعني هؤلاء المنافقين الذين كانوا يوالون اليهود والنصارى .. لعل الله أن يأتي بأمر من عنده يديل به المؤمنين على الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر ، فيصبح هؤلاء المنافقون على ما أسروا في أنفسهم من مُخالة اليهود والنصارى ومودتهم ، وبغضة المؤمنين ومحادتهم “نادمين”.
