أحمد المعلم
الأمن لا يستغنى عنه كائن حي، ولا يزدهر بفقده أي شيء، ومن نعمة الرؤوف الرحيم أنه زود كل مخلوق بما يوفر له الأمن، ويرفع  عنه المخاوف والأخطار، والإنسان الذي كرمه الله وفضّله على كثير ممن خلقه تفضيلاً، قد وفَّر له من وسائل الأمن ما لم يوفر لغيره من المخلوقات، فهناك وسائل يعلمها وأخرى يجهلها، وهناك وسائل مادية وأخرى معنوية، وهذه إشارة إلى بعض تلك الوسائل:

  • فمن الوسائل غير المرئية التي وفرها الله للإنسان وجعل لها شروطاً ما أخبر عنه سبحانه بقوله: { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ }.
    يخبر الله تعالى أن الناس كلهم في علمه وإحاطته سواء، يستوي من كان مختبئ ومستخف في بيته أو ملجئه، ومن هو سارب أي ماش منتشر دون استخفاء.
    وإن هؤلاء جميعاً قد وكَّل بهم ملائكة يحفظونهم بأمر الله من كل مكروه وخطر يريدهم ويتعرض لهم، حتى يأذن الله تعالى في ذلك، ويستمر ذلك على وجه التشريف والتكريم لأهل الإيمان والطاعة ماداموا على ذلك، فإذا غيروا ما بأنفسهم من الإيمان إلى الكفر أو من الطاعة إلى المعصية غيّر ذلك عليهم؛ فتخلى عنهم ووكلهم إلى أنفسهم وإلى حولهم وقوتهم، فتسلط عليهم الخوف بعد الأمن، والضياع بعد الحفظ، وأتى بعد ذلك الخوف والمرض، وتوقفت الحياة وانهارت الحضارة قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.
    وقال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} ومع تلك المقومات التي لا دخل للإنسان بوجودها، جعل الله مقومات أخرى لتسخيرها له وتنزلها عليه من ذلك:
  • التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك ولا ظلم للنفس ولا للغير، قال تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } فمن لم يشرك بالله ولم يظلم نفسه ولا غيره له الأمن التام، ومن وقع في شيء من ذلك نقض من أمنه بمقدار ما ارتكب من الظلم.
  • ومن ذلك التمسك التام بمنهج الله وعدم الانحراف عنه، فمن فعل ذلك فقد ضمن الله له عدم الخوف في الدنيا والآخرة قال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} فإن أعرض عن ذلك المنهج نزل به ضنك المعيشة الذي يشمل الخوف والمرض والفقر وغير ذلك مما يفر منه الإنسان، قال تعالى:{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } ومن التمسك بالمنهج الرباني القويم الحكم بما أنزل الله والتحاكم إليه، قال تعالى:{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } وعند ترك الحكم بما أنزل الله والتحاكم إليه ينزع الأمن ويحل محله الخوف والقتال والتنازع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى، ويتخيروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم ))([1]) أي تفرقوا وتقاتلوا فحل الخوف مكان الأمن.
  • – ومن مقومات الأمن الاستقامة على منهج الله، وعدم التفريط فيه أو الانحراف عنه قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } ومن مقومات الأمن العدل الشامل أي عدل الجميع مع الجميع في جميع التصرفات من أحكام وعطاء ومنع وأقوال وأفعال. فيشمل رئيس الدولة ورئيس الحكومة وكل وزير فيها وقاض وكل موظف فيما يخصه، ويشمل بوجه قوي رجال الأمن، ويصل إلى الأب تجاه أولاده والزوج تجاه زوجاته والأم تجاه أولادها.
    قال تعالى مخاطباً جميع عباده: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: ( إن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة العدل كريمة؛ ولهذا يُروى: الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة )
    والعدل هو الذي يؤمّن الأمم من عدوان أعدائها، وتحل وفرته وشموله محل ما نقص من السلاح وعتاد مادي، كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه: إن مدينتنا قد خربت فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لها مالاً يرمها – يصلحها – به فعل, فكتب إليه عمر: ( أما بعد فقد فهمت كتابك وما ذكرت أن مدينتكم قد خربت, فإذا قرأت كتابي هذا فحصنها بالعدل ونق طرقها من الظلم فإنه مرمتها والسلام ).
    هذا فيما يخص أمن الأمة من عدوها الخارجي.
    وأما ما يخص أمنها الداخلي فالذي يجعل الخوف منتشراً: ظلم الناس بعضهم بعضاً، وظلم القضاة بحيث يسعى المظلومون للانتقام من الظالمين، أو يسعى أصحاب الحقوق لانتزاع حقوقهم بأيديهم؛ فتعم الفتنة والخوف، وتسخط الرعية على حكامها، حينما تشعر بظلمه لهم في توزيع الثروات والوظائف والخدمات، فيثورون وربما قطعوا السبل وأخافوا المارة وأقلقوا الأمن.
    فإذا عم العدل وشمل، ذهبت تلك الأسباب من أسباب الخوف والقلق والمنغصات، وحل محلها الأمن والسكينة.
    والحاكم العادل محبوب لدى رعيته يفدونه بأرواحهم، ويحفظون مصالحه بأنفسهم وأموالهم، و يعرضون أنفسهم للمخاطر من أجل سلامته، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه رمز العدل، كان ينام تحت الأشجار، ويمشي في الأسواق، ويسعى على أرامل المدينة وأيتامها، يسير في الليل وحده يحرسه محبة الله له، وما ألقى له من قبول ومحبة في نفوس رعيته، حتى تفاجأ الهرمزان عندما دخل المدينة، فوجد عمر نائماً تحت شجرة في أطراف المدينة ينتظر أخبار جيوشه الفاتحة، فقال قولته المشهورة : (عدلت فأمنت فنمت ) وقد نظمها حافظ إبراهيم شاعر النيل فقال :
    وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً
    بين الرعية عطلاً وهو راعيها
    وعهده بملوك الفرس أن لها
    سوراً من الجند و الأحراس يحميها
    رآه مستغرقاً في نومه فرأى
    فيه الجلالة في أسمى معانيها
    فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً
    ببردة كاد طول العهد يبليها
    فهان في عينه ما كان يكبره
    من الأكاسر والدنيا بأيديها
    وقال قولة حق أصبحت مثلاً
    وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
    أمنت لما أقمت العدل بينهمو
    فنمت نوم قرير العين هانيها
    الخطبة الثانية
  • الحمد والثناء:
    عباد الله:
    مما يخالف العدل، ويعزز الظلم، وينشر الخوف والرعب، ويزرع الأحقاد والبغضاء في نفوس الناس، أن ينحاز من يُفترض فيه أن يكون محايداً لا يميل إلى طرف من الأطراف، بل يفرض نفسه ملكاً للجميع، ابناً للكبير، وأباً للصغير، من جميع طوائف المجتمع، أقول: إن ميل وانحياز من كان كذلك إلى طرف من الأطراف هو من أقوى أسباب الفتنة، ومن أعظم الوسائل لإزالة الأمن وإحلال الخوف مكانه.

[1] رواه ابن ماجه والبزار والبيهقي وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب حديث رقم 1761.

نقلاً عن موقع الشيخ أحمد حسن المعلم