الملخص
قد أشار اللغويون في جملة مباحثهم إلى اختلاف معاني الصيغ في العربية، ولا سيما في مباحثهم الخاصة بالكلام على خصائص العربية ومنها طاقتها التعبيرية الكامنة في مباني صيغها الصرفية وإمكانية دلالتها على معانٍ متعددة تختلف باختلاف السياق الذي ترد فيه، فضلًا عن إمكانية تبادلها من سياق إلى آخر حسب إرادة المتكلم لمعناه المقصود وغرضه المطلوب، وعلى هذا الأساس حصل العدول بين صيغ المشتقات في العربية، ولا سيما في مستوى اللغة الصرفي، فيما يخصّ تحديدًا صيغ المصادر، والمصادر المزیدة لإمكانية تبادلها من سياق إلى آخر على وفق التقارب المعنوي فيما بينها، فضلًا عن التشابه اللفظي بين بعض من صيغها وقد تطرقنا في هذه الدراسة إلى الجانب الدلالي للانزیاح في المصادر المزیدة ولذا وصفت هذه الدراسة بكونها دراسة دلالية، واتّبعت هذا المنهج بغية التوصل إلى تجلية دلالات النص القرآني، وتم رصد ملامح جدیدة وغضة أوردناها في صمیم البحث.
Abstract
The linguists in their statement referred to the different meanings of formulas in Arabic, especially in their own talk on the characteristics of Arabic and expressive energy inherent in buildings And the possibility of their significance to multiple meanings vary according to the context in which they are contained, as well as the possibility of exchanging them from one context to another according to the will of the speaker to its intended meaning and purpose, and on this basis there was a regression between derivatives formulas in Arabic, especially at the level of morphological language, specifically The sources of resources, and the sources of the possibility of exchanging them from one context to another according to the convergence of the moral among them, as well as verbal similarity between some of the formulas We have discussed in this study to the semantic side of the displacement in the sources of the advantage and so this study was described as a study, Approach with a view to reaching a shed light on the implications of the Quranic text, has been monitoring a new and emergent features at the heart of research we have quoted.
مقدمة
یعّد الانزیاح بشتی أنواعه من الظواهر الأسلوبیة التي تمسّ النص القرآني وتعطي دلالتها الخاصة في کل موضع، فلابدّ من رصد الملامح الدلالیة لهذه الظاهرة حتی نکشف الدلالات الکامنة في هذه الظاهرة، ومن أمثلة هذه الظاهرة الانزیاح الصرفي للمصادر المزیدة حیث یستبدل مصدر آخر محلّ المصدر القیاسي المزیدة، أمر یعتبر في معظم الأحیان مسوّغًا صرفیًّا للکلام أو استبدالًا جائزًا لغویًّا. تهدف هذه الدراسة لاستيضاح معالم هذه الظاهرة في القرآن والکشف عن دلالاته الکامنة؛ بغیة الإسفار عن وجه من وجوه إعجاز القرآن الکریم، وهي كما يلي:
أولًا: الانزیاح عن المصدر :
المصدر مشتق من مادة ( ص د ر ) وهـو اسم مكان، يقال: صدرت الإبل عن الماء، إذا انصرفت عنه، وعلى هـذا الأساس سُمي المصدر مَصْـدَراً، قال الخليل: “المصدر : أصل الكلمة الذي تصدر عنه الأفعال”.[1] وقال الشريف الجرجاني : “المصدر : هو الاسم الذي اشتَقًّ منه الفعل وصدر عنه”[2]، ومن المعروف أنّ النحاة اختلفوا في المصدر والفعل أيُّهُما هو الأصل؟ فذهب البصريون إلى أن المصدر هو الأصل، وذهب الكوفيون إلى أن الأصل هو الفعل.[3] والشيء المهم أن المصدر يدل على الحدث مجردًا من الزمن في حين يدل الفعل على الحدث مقترنًا بزمان .
ثانياً ـ الانزیاح عن الإفعال :
لقد جاءت صيغ كثيرة في القرآن الكريم معدولة عن ( الإفعال ) وهو المصدر القياسي للفعل الرباعي (أفعل)، ولكن وقع الاختيار على نماذج عدة من هذا النوع من العدول؛ لتعدد صيغها المعـدول إليها، وتنوّع دلالاتها على وفق ذلك، وهذه النماذج هي: العـدول عن الإصلاح إلى الصلح، والعدول عن الإضلال إلى الضلال، والعدول عن الإقراض إلى القرض، والعدول عـن الإنبات إلى النبات، والعدول عن الإنشاء إلى النشأة، والعدول عن الإهلاك إلى المهلك.
1.2- الانزیاح عن الإصلاح إلى الصُّلح :
قال تعالى: { وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } (النساء: 128)
وفي ( يُصلحا ) قراءتان: الأولى: ( يُصْلِحَا ) من ( أصلح ) وهي قراءة الكوفيين عاصم وحمزة والكسائي، وهي قراءة أبي عمْرو من البصريين، والقراءة الثانية : ( يصَّالحا ) من ( تصالح ) وهي قراءة ابن عامر وابن كثير ونافع، والأولى على معنى الإِصلاح الذي هو ضد الفساد، وفي معنى القراءة الثانية دلالة التصالح.[4] والراجح أَنّ في معنى ( الصلح ): التصالح، وهو أن يتصالح الرجل والمرأة على أن تطيبَ له نفسًا على القسمة، أو عن بعضها.[5] وقد تراجح عند ابن عطية دلالة ( صُلْحًا ) أهو على المصدرية أم على الإسمية؟, والصحيح أَنّه مصدرٌ انتقل إلى معنى الإسمية، فالصُّلْح لفظ عامّ مطلق، وهو ما تسكن إليه النفـوس، ويزول به الخلاف.[6] ومجيء ( صلحًا ) معدولًا به عن ( الإصلاح ) الذي هو المصدر المقيس للفعل ( يُصلح )؛ للدلالة على إرادة المعنيين الصلح والإصلاح، إذ لا يمكن تصور وجود صلح من دون إصلاح يسبقه، والإصلاح مستعمل في التنازع والتشاجر، قال تعالى: { إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ }(النساء:114)فالصلاح بمعنى الإصلاح[7] إذ إنّ التقدير: ( أن يُصْلحا بينهما إصلاحًا )، ونكتة العدول عن ( إصلاحًا ) هي أنه لما كان المأمور به يحصل بأَقل ما يقع عليه اسم الصلح بُني المصـدر على غير القياس، فجاء من الفعل المجرد ( يُصلح ) وهو (الصلح )، ويحصل بأن تليـن المرأة فتترك بعض المهر أو بعض القسم أو نحو ذلك، وأن يلين لها هو بإحسان العشرة في مقابلة ذلك[8]. هذا فضلًا عن أن (الصلح) لا يحصل إلّا بعد إصلاح، فجاء العدول للدلالة على المعنيين.
2 ـ2 – الانزیاح عن الإضلال إلى الضلال:
قال تعالى في وصف المنافقين: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (النساء: 60). في قوله تعالى : { يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً }عدول عن القياس؛ ولهذا فإنّ ( ضلالًا ) انتصب “على المعنى أي فيضلون ضلالًا”[9]، قال أبو حيان: “ضلالاً ليس جاريًا على يُضلّهم فيحتمل أن يكون جعل مكان إضلال، ويحتمل أن يكون مصدر المطاوع يضلهم أي فيضلون ضلالًا بعيدًا “[10]، فأبو حيان يرى أن ضلالًا في الآية يحتمل أن يكون مصدرًا لفعل محذوف مطاوع أضلّ، أي يريد الشيطان أن يضلهم فيضلون ضلالًا بعيدًا. والأرجح أنه معدول عن القياس ( إضلال )، وأما ضلال فهو مصدر ( ضلّ )، قال تعالى :{ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا } (النساء: 116) ” والمعنى: أن الشيطان يريد أن يُضلّهم ثم يريد بعد ذلك أن يضلّوا هم بأنفسهم، فالشيطان يبدأ المرحلة وهم يتمّونها، فهو يريد منهم المشاركة في أن يبتدعوا الضلال ويذهبوا فيه كل مذهب، يريد أن يطمئن إلى أنّهم يقومون بمهمته هو”.[11]
2. 3 ـ العدول عن الإقراض إلى القرض :
قال تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } (البقره: 245).
قال الطبري : “إنّما سمّاه الله -تعالى ذكره- قرضًا؛ لأن معنى القرض: إعطاء الرجل غيره ماله ممّلِكًا له، ليقضيه مثله إذا اقتضاه؛ فلما كان إعطاء من أعطى أهل الحاجة والفاقة في سبيل الله، وإنّما يُعطيهم ما يعطيهم من ذلك ابتغاء ما وعده الله عليه من جزيل الثواب عنده يوم القيامة سمّاه قرضًا، إذا كان معنى القرض في لغة العرب ما وصفناه ” [12] إذ القرض في اللغة القطع ثم سُمّي قطع المكان وتجاوزه قَرْضًا، ثم سمّي ما يدفع إلى الإنسان من المال بشرط ردِّ بدله قرضًا.[13] قال القرطبي: ” القرض اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء، وأقرض فلانٌ فلانًا؛ أي أعطاه ما يتجاوزه، أصله القطع، ومنه المقراض وأقرضته قطعتُ له من مالي قطعة يُجازى عليها، وانقرض القوم: انقطع أثرهم وهلكوا”.[14] والقرض اسمٌ معدولٌ به عن المصدر المقيس للفعل الرباعي ( أقرض )، أو كما عبّر أبو حيّان بأنه اسم أُقيم مقام المصدر الإقراض.[15] وإنّما قام القرض مقام الإقراض لمعنى مقصود وهو إرادة معنى (القرض) وهو : إسلاف المال بنية إرجاع مثله، ثم أطلق مجازًا على البذل لأجل الجزاء، ومنه بذل النفس والجسم رجاء الثواب، إذ إن المعنى معنى الإقراض فعل القرض وهو السلف. [16] فالمراد إذن بذل القرض وليس فعل القرض، فعُبّر عن نتيجة الإقراض وهي بذل القرض، فلما لم يكن فعل القرض وهو الإقراض مرادًا عُدل عنه إلى القرض الذي “هو بذل شيءٍ ليرد مثله أو مساويه”.[17]
2. 4- الانزیاح عن الإنبات إلى النبات:
قال تعالى في حق مريم -عليها السلام- : { وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } (آل عمران: 37). قال الطبري: “معناه : وأنبتها رَبُّها في غذائه ورزقه نباتًا حسنًا “[18]، وهي في الحقيقة، ” مجاز عن التربية الحسنـة العائدة عليهـا بما يُصلحها في جميع أحوالها”[19] من بركة هذا النبات الحسن الذي أنبتها الله إيّاه في الدنيا أنها تنبت في اليوم مثل ما ينبت المولود في عام واحد، وأما في الديـن فلأنها نبتـت في الصلاح والسداد والعفة والطاعة [20] ويلحظ في {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا}مجيء (أفعل) في ( وأنبتها ) ومجيء مصدر الثلاثي ( نَبَت ) وهو ( النبات ) في ( نباتًا ) وذلك من الإعلام “بكمال الأمرين من إمدادها في النمو الذي هو غيب عن العيون, وكمالها في ذاتية النبات الذي هو ظاهر للعين، فَكَمُلَ في الإنبات والوقوع حسن التأثير وحسن الأثر، فأَعرب عن إنباتها ونباتها معنىً حسنًا”[21]
عزا ابن عاشور العدول عن الإنبات إلى النبات لكون ( نباتًا ) أخفّ من ( إنباتًا )، “فلمـا تسنى الإتيان به؛ لأنه مستعمل فصيح لم يعـدل عنه إلى الثقيل كمالًا في الفصاحة “[22]، وهو تعليل لفظي، والصحيح أنّ العلة في العدول معنوية وهي كون ” الإنبات إِنما ينظر فيه إلى صنع الله عزّ وجلّ وهو خفيّ، فعدلت الآية عنه إلى ما هو ظاهر وهو النبات حيث تتجلّى فيه مظاهـر الإبداع والقدرة، فكان ذلـك أقوى مناسبة لمقام بيان قدرة الله تعالى ولطف صنعه، والامتنان على عباده بنعمه”[23]
وقد ورد هذا النوع من العدول في سورة نوح، قال تعالى : { وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِن الأَرْضِ نَبَاتًا } (نوح: 17) وقد أشار الرازي إلى سر العدول عن القياس في هذه الآية قال وفيه ” دقيقة لطيفة وهي أَنه لو قال إنباتًا كان المعنى أنبتكم إنباتًا عجيبًا غريبًا، ولما قال أنبتكم نباتًا كان المعنى أنبتكم فنبتم نباتًا عجيبًا، وهذا أَولى؛ لأن الإنبات صفة الله تعالى وصِفة الله غير محسوسة لنا، فلا نعرف أن ذلك الإنبات إنبات عجيب، وهذا المقام الاستدلال على كمال قدرة الله تعالى فلا يمكن إثباته بالسمع، وأما لما قال : { أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتًا} على معنى أنبتكم فنبتم نباتًا عجيبًا كاملًا كان ذلك وصفًا للنبات بكونه عجيبًا كاملًا، وكون النبات كذلك أمرًا شاهدًا محسوسًا, فيمكن الاستدلال به على كمال قدرة الله تعالى، فكان هذا موافقًا لهذا المقام؛ فظهر أن العدول من تلك الحقيقة كان لهذا السرّ اللطيف”[24]
2. 5 – الانزیاح عن الإنشاء إلى النشأة :
قال تعالى على لسان إبراهيم (علیه السلام) وهو يخاطب قومه : { قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (العنكبوت: 20) .
قال الزمخشري : ” إنّهما نشأتان، وإن كل واحدة منها إنشاء، أي ابتداء واختراع، وإخراج من العدم إلى الوجود، لا تفاوت بينهما إلاّ أن الآخرة إنشاء بعد إنشاء مثله، والأولى ليست كذلك”[25] . فالمعنى اللغوي للنّشْء: إحداث الشيء وتربيته، وأكثر ما يُقال في حدوث الشيء شيئًا فشيئًا، قال تعالى: { وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ } (الرعد: 12) أي : يكون حدوثه في الهواء شيئًا فشيئًا، والإنشاء: إيجاد الشيء وتربيته.[26] والنشأةُ: مصدر مُؤَكّد لِيُنشِئ، إذ الأصل ( إنشاء ).[27] وقد جاء ( النشأة ) معدولاً به عن القياس للدلالة على كون المراد ليس حقيقة الإنشاء وهو الإيجاد والإحداث للشيء ومراعاته شيئًا فشيئًا على التدريج، وإنما يراد نتيجة هذا الإنشاء، وهي الصورة المتحصلة منه، والحالة الكائنة إليه، فالصورة والحالة التي يكون فيها الإيجاد ( نَشْأَة ) بعد إنشاء، فضلاً عن كونها نشأة واحدة؛ ولذا ” عبر عنها بصيغة المرة لأنها نشأة دفعية تخالف النشء الأول”[28].
2. 6 – الانزیاح عن الإهلاك إلى المَهْلَك :
جاء هذا النوع من العدولفي قوله تعالـى : { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا }( الکهف: 59).
في الآية عدول عن القياس؛ إذ القياس أن يكون ( وجعلنا لإهلاكهم ) هذا على المصدر الأصيل، أما على المصدر الميمي فكان ينبغي أن يكون القياس ( لِمُهْلَكِهم ) وعليها جاءت قراءة الحجاز والعـراق، وهي التي عدّها الطبـري أولى بالصواب من قراءة عاصم ( لِمَهْلَكِهم ) بفتح الميم والـلام.[29] ولكن الـذي يرجح قراءة حفص عن عاصم (مَهْلِكِهم) بفتح الميم وكسر اللام؛ لأنه “قيل: ( أهلكناهم ) وقد قال قبل: ( وتلك القرى )؛ لأن الهلاك إنما حلَّ بأهل القُرى، فعاد إلى المعنى، وأجرى الكلام عليه دون اللفظ”[30] هذا فضلًا عن كون الفعل إذا كان من باب (ضرب) يأتي المصدر الميمي منه على (مَفْعِل) بكسر العين، ويأتي اسما الزمان والمكان على
(مَفْعَل) بفتح اللام.[31] ولمّا كان (هلك) من باب (ضرب) جاء المصدر الميمي منه على القيـاس وهو (مَهْلِك)، وهـو في الحقيقة معـدول عن المصـدر المقيس (إهـلاك)، قال الزمخشري : “أي : فضربنا لإهلاكهم وقتـًا مَعْلومًا لا يتأَخرون عنه”.[32]
والنكتة في العدول عن(الإِهلاك) إلى (المَهْلِك) أي العدول عن المصدر القياسي لـ (أهلك) إلى المصدر الميمي للدلالة على أنّ الهلاك الذي حلّ بهم لم يحصل إلاّ بعد إمهالٍ؛ ليكونوا إلى التوبة أقرب، إذ ليس المراد التعبير عن الإهلاك ذاته، بل المراد التعبير عن الهلاك الذي سيحلّ بأهل القرى، إن لم يتوبوا، هذا فضلاً عن كون الإهلاك يكون في الدنيا، والمهْلِك يكون في الآخرة، أي: فأهلكناهم في الدنيا لما ظلموا؛ أي وقت أن ظلموا ثم جعلنا لِمَهلِكهم في الآخرة موعدًا وهو يوم القيامة، بحيث جعلنا لإهلاكهم وقتًا معلومًا لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، فليعتبروا بهم ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم.[33]
ثالثاً: الانزیاح عن التفعيل :
جرى البحث في ثلاثة نماذج على هذا النوع من العدول وهي: العدول عن التعجيل إلى الاستعجال، والعدول عن التسميات إلى الأسماء، والعدول عن التكذيب إلى الكِذّاب، وهذه النماذج إنّما تُعبّر عن دلالات متعددة ومتنوعة، أشير إليها في كل أنموذج على حدة .
3.1 الانزیاح عن ( التعجيل ) إلى الاستعجال :
قال تعالى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (یونس:11) .
إذ القياس أن يكون على ( تعجيل ) ” فَوَضْع { اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ } موضع تعجيله لهم الخير إشعارًا بسرعة إِجابته لهم وإسعافه بطلبهم، حتى كأنّ استعجالهم بالخير تعجيل لهم”[34]، ومعناه أنَّ الله تعالى لو أجابَ دُعاء الناس بالشر لما لهم فيه مضرة ومكروه في نفسٍ أو مال أو ولد مثل ما يريدون فعله معهم في إجابتهم إلى الخير لأَهلكهم.[35] قال الرازي: “إنّ كل من عجّل شيئًا فقد طلب تعجيله، وإذا كان كذلك، فكل من كان معجِّلًا كان مستعجلًا، فيصير التقدير: ولو استعجل الله للناس الشرَّ استعجالهم بالخير إلاّ أنه تعالى وصف نفسه بتكوين العجلة وصفهم بطلبها لأن اللائق به تعالى هو التكويـن واللائق بهم هـو الطلب”.[36] فيكون: “التعجيل مـن الله، والاستعجال من العبد”[37]، وذلك؛ لأن “مدلول عجّل غير مدلول استعجل لأن عجّل يدل على الوقوع واستعجل يدل على طلب التعجيل, وذاك واقع من الله تعالى وهذا مضاف إليهم”[38]، أي أن الاستعجال مضافٌ إلى الخَلْق .
فتبيّن بذلك أَنَّ العدول عن القياس وهو ( التعجيل ) إلى ( الاستعجال ) للدلالة على الطلب والمبالغة الكامنة في صيغة (استفعل)، المنسجمة مع السياق في محاكاة الطبيعة البشرية، قال تعالى: { خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ }(الأنبیاء: 37)، وعلى هذا الأساس “ذكر في جانب الشرّ ( يُعَجّل ) الدال على أصل جنس التعجيل ولو بأقلّ ما يتحقق فيه معناه، وعبّر عن تعجيل الله الخيرَ لهم بلفظ (استعجالهم) الدال على المبالغة بما تفيده زيادة السين والتاء لغير الطلب إذ لا يظهر الطلبُ هنا”[39]، بل إنّ معنى الطلب باقٍ في صيغة (استفعل) وهذا المعنى فيها وإن دلّت على معنى آخر فرعي. فيكون المعنى: لو أن الله يُعجّل لهم الشَرّ مثلما هم يبالغون في طلب استعجال تحقيق الخير { لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ }أي : أُهلكوا .
2.3 الانزیاح عن التسميات إلى الأسماء :
قال تعالى : { إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } (النجم:23) إذ القياس (تسميات)؛ لأنه إذا كان الفعل مضعفًّا من المنقوص ( سَمَّى ) كان المصدر المقيس (تفعلة)، قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ اْلأُنْثَى } (النجم: 27)، فهذه الأسماء مقصود بها الآلهة التي كانوا يعبدونها، وهي: اللات والعُزّى ومناة، وهي في الحقيقة أسماء لا مسميات تحتها، فما هذه المنحوتات “إلاّ أسماء سمّيتموها بهواكم وشهوتكم، ليس لكم من الله على صحة تسميتها برهان تتعلقون به”[40] إنّما هي تسميات مجردة من أي واقع، قال ابن عطية:” أي تسميات اخترعتموها أنتم وآباؤكم، لا حقيقة لها، ولا أنزل الله تعالى بها برهانًا ولا حُجّة “.[41]
ومجيء لفظ ( أسماء ) معدولًا به عن ( تسميات ) مشكلٌ؛ لأن أسماء لا تُسمّى وإنما يُسمّى بها، وفيه جوابان: لغوي، ومعنوي، وأّمّا اللغـوي وهو أَنّ التسميـة وضع الاسم، فيكون المعنى: أسماء وضعتموها، يقال: سمّيتُه زيداً وسمّيته بزيد، فسميتموها بمعنى سمّيتم بها. وأما المعنوي فهو أنه لو قال ( أسماء سميتهم بها ) لاستدعى ذكر مفعول آخر على نحو قولهم: سمّيت بزيدٍ ابني، فعندها سيكون قد صار للأصنام اعتبارًا وراء أسمائها.[42] فالأسماء أَلفاظ، والمسميات معاني، والتسميات إطلاق ألفاظٍ على المسميات ذوات المعاني، قال أبو حيان: “ومعنى الأسماء؛ أي ألفاظ أحدثتموها أنتم وآباؤكم فهي فارغة لا مُسميات تحتها”.[43] فهي في الحقيقة حجارة نُحِتَتْ وسُميّت آلهة.[44] وليس فيها شيءٌ من معنى الألوهية أو للصفة التي تصفونها بها من كونها آلهة وبنات وشفعاء، أو للأسماء المذكورة فإنهم كانوا يطلقون اللاتّ عليها؛ باعتبار استحقاقها للعكوف على عبادتها، والعُزّى؛ لعزتها، ومناة؛ لاعتقادهم أنها تستحق أن يتقرب إليها بالقرابين”[45].وبذلك تبيّن أن سبب العدول عن (التسميات) إلى
( الأسماء ) لإرادة الوصف الدقيـق لواقع تلك الأصنام بأَنّها مجـرد ألفاظ لا مدلولات لها، إذ إن “المراد بالمسمّيات مدلولات الأَسماء سواء أكانت جواهر أَم أَعراضًا أَم معاني أَم معنوية “.[46]
3.3 ـ الانزیاح عن التكذيب إلى الكذّاب :
قال تعالى : { وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} (النبأ: 28). والمقصود بهؤلاء المكذبين مشركو قريش؛ لأنهم كذّبوا النبيّ -صلی الله علیه وآله وسلم- على الرغم من وضوح الآيات التي جاء بها، وفي { كِذَّابًا} قولان، أولهما: قول البصريين في كون (كِذّابًا) مصدر ( كذّب ) الرباعي، موازنًا لمصدر ( أفعل ) الذي هو الإفعال، ومثله فاعَل فِعالاً.[47] وثانيهما: قول الكوفيين في كون (كِذّابًا) لغة يمانية فصيحة، فيقولون: خَرَّقتُ القميصَ خِرَّاقًا.[48] ولكنّ الذي يبدو أّنَّ (الكِذّاب) مصدرٌ معدولٌ به عن القياس وهو (التكذيب)؛ إذ لكل فِعل مزيد مصدر مقيسٌ لا يتخلف، فلا يكون العدول عن المصدر القياسيّ إلاّ لمعنى، ومجيء (الكذّاب) معدولًا به عن (التكذيب) في قوله تعالى: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا}؛ للدلالة : “على أنهم كذّبوا بجميع دلائل الله تعالى في التوحيد والنبوة والمعاد والشرائع والقرآن، وذلك يدل على كمال حال القوة النظرية في الرداءة والفساد والبعد عن سواء السبيل”.[49] فيكون معنى (كذّاباً): التكذيب الكبير الشديد.[50] فضلاً عن تضمنه معنى كَذَبُوا ؛ لأن كل مُكَذّب بالحق كاذب؛ لأَنّهم كانوا عند المسلمين كاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة “[51]، وهذا هو السر في إقامة (الكِذّاب) مقام التكذيب[52] ” ويجوز أن يكون الكِذّاب للمبالغة وصفاً لمصدر محذوف فالمعنى تكذيبًا بالغًا ذلك التكذيب إلى نهاية الكذب”.[53]
رابعاً: الانزیاح عن التفعيل إلى التفعلة :
وردت ثلاث صيغ معدولة من التفعيل إلى التفعلة في القرآن الكريم وهي: (تبصرة، وتحلة، وتذكرة) والقياس: التبصير، والتحليل، والتذكير؛ لأَن القياس في (فعّل) الصحيح (التفعيل) وفي (فعّل) المعتل الناقص (التفعلة)، فتكون تلك قد جاءت عدولًا عن القياس قياسًا على صيغة (التفعلـة) القياسية للأفعال المعتلة الناقصة التي على وزن (فعّل) نحو : وصّى توصية، وغطّى تغطيةً.
4. 1 ـ الانزیاح عن التبصير إلى التبصرة :
ورد هذا النوع من العدول في قوله تعالى : {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} ( ق : 7- 8 ) .
والعـدول في (تبصرة) كونها مصـدر الفعل الصحيح (بَصَّرَ) والقياس فيه (تبصيراً )، وقد جاء المصدر (تبصرة) عدولًا عن القياس، وهو بمعنى التبصير الذي هو: التعريف بحاسّة البصر، قال تعالى : { وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ }[54] “أي: يعرفونهم”[55] فالله يُبَصّـِرُ الحميمَ الحميمُ حتى يعرفه[56]، فيكون التبصير: التعريف بالبصر.[57] ولكن في معنى التبصرة: التبصير؛ “أي: تبصيرًا وتبيانًا. يقال: بصّرتُه تبصيرًا وتبصرةً، كما يقال: قدّمته تقديمًا وتقدمةً، وذكّرته تذكيرًا وتذكرة”.[58] إلاّ أنه في معنى التبصرة دلالة يُرجّحها السياق وهي دلالة كون هذا التبصير لمرة واحدة؛ إذ هو خاص بكل عبدٍ منيب، فضلًا عن معنى التفعلة الذي هو ما يؤدي إلى الشيء، فيكون معنى التبصرة: ما يؤدي إلى الإبصار.[59]
4. 2 ـ الانزیاح عن التحليل إلى التحلة :
قال تعالى : { قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } (التحریم: 2)
نزلت هذه الآية بعد أن حرّم النبي -صلی الله علیه وآله وسلم- على نفسه زوجه أُم إبراهيم مارية القبطية فلم يقربها حتى أخبرت عائشة[60]، فأنزل الله قوله مخاطبًا النبي-صلی الله علیه وآله وسلم-: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (التحریم: 1). وفي شرع الله بعد تحريم النبي -صلی الله علیه وآله وسلم- تَحلّة الأَيمان وهي الحنث في القسم إلاّ إذا كان في معصية، وتحلَّة مصدر الفعل (حلّل) نحو : كرّم تكرمه.[61] وهو “ليس مصدر مقيسًا، والمقيس التحليل والتكريم؛ لأن قياس (فعّل) الصحيح هو التفعيل”[62] ومجيئه معدولًا إلى تحلةً للدلالة على خصوصية في هذا التحليل، وهو كونه خاصًّا بتحليل اليمين، وهو كفارة القسم، فضلًا عن كون معنى صيغة التفعلة ما يؤدي إلى الشيء، فيكون معنى { تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } : ما يؤدي إلى تحليلها بالكفارة.
خامساً ـ الانزیاح عن المفاعلة :
جاءت ثلاثة نماذج على هـذا النوع مـن العدول وهي: العدول عن المجازاة إلى الجزاء، والعدول عن المجاهدة إلى الجهاد، والعدول عن المعاهدة إلى العهد، وسنتناول العدول عن المبايعة إلى البيع، والعدول عن المعاهدة إلى العهد؛ لأنه عدول من الوضوح بمكان .
1 ـ الانزیاح عن المبايعة إلى البيع :
جاء هذا النوع من العدول في موضع واحد في سورة التوبة، قال تعالـى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (التوبة: 111)
العدول حاصل في المخالفة بين مصدر الفعل (بايع) الذي هو المبايعة والمجيء بمصدر الفعل (بايع) الذي هو البيع، فصار الكلام بايع بيعًا وفي هذا العدول نكتة دلالية, وهي الإشعار بكون هذا البيع ليس كأَيّ بيع الذي هو بمعنى “إعطاء المثمَّن وأَخذ الثمن”[63] ولكن المقصود بالبيع في الآية المبايعة؛ لأنّ بايع الذي على وزن (فاعل) لم يأتِ في القرآن الكريم إلاّ للدلالة على البيعة، وهي عهد بين النبيّ -صلی الله علیه وآله وسلم- وبين المؤمنين لبذل الطاعة.[64] ومجيئه معدولًا عن المبايعة إلى البيع للإشعار بكون هذا البيع مغايرًا لسائر البيوع فإنّه بيع للفاني بالباقی.[65]
2 ـ الانزیاح عن المعاهدة إلى العهد :
قال تعالى : { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}(البقره: 100)، وهذه الآية وصف لليهود في نقضهم الوعد، ومن ذلك تكذيبهم للنبي -صلی الله علیه وآله وسلم- مع أنه قد أخذ الله منهم العهد في تصديقه، قال الله : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنَ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ }( البقره: 101).
و(العهد) معـدولٌ به عن (المعاهدة) وإن كان أقـرب إلى الاسمية منها إلى المصدرية ؛ ولذا قيل : هو اسم مصدر وليس بمصدر، وقد جاء نصبه على أنه مصدر، أو تضمَّن (عاهد) معنى ( أَعطى).[66] والصحيح أنه مصدر انتقل معناه من المصدرية إلى الاسمية، فالعَهْد: حفظ الشيء ومراعاته حالًا بعد حال، من قولهم للمطر: عَهْدٌ، وعِهـَاد، وللروضة التي أصابها المطـر روضة معهـودة، على اعتبار معنى التفقد والمراعاة، ومنه سُمّي المَوْثِق الذي يلـزم مراعاته وحفظه عَهْداً.[67] والعهد المقصود هو العهد الذي كان بينهم وبين الله تعالى، كان قد أخـذه عليهم إن خرج النبيّ العربي آمنوا به، وأخرجوا المشركين من ديارهم، وأن لا يعينوا أحدًا من الكافرين عليه، ولكنهم نقضوا العهد، مع ما أظهر الله ” من الدلائل الدالة على نبوة محمد -صلی الله علیه وآله وسلم- وعلى صحة شرعه، “فكان ذلك كالعهد منه سبحانه وقبولهم لتلك الدلائل كالمعاهدة منهم لله سبحانه وتعالى “[68]
وسمة نقض العهود والغدر سمة اليهود، وفي ذكر ذلك تسلية لرسول الله -صلی الله علیه وآله وسلم-؛ لأن من يُعتاد منه طريقة معينة، لا يكون فيه صعوبة على النفس من مخالفته، كصعوبة من لم تجد عادته بذلك.[69]
وقد عُدل عن القياس للدلالة على كون هذا الموثق المأخوذ عليهم عهدًا لازمًا للحفظ والرعاية في ذمتهم، فلا مجال لديهم لنقضه، فهو ليس معاهدة وإنما هم عاهدوا أي تكفلوا بحفظ عهد واحد من العهود ورعايته وهو الإيمان بالنبيّ -صلی الله علیه وآله وسلم-، وقد أُخذ عليهم هذا العهد في التوراة حتّى سميت التوراة بالعهد؛ قال ابن عاشور: “والمراد بالعهد عهد التوراة أي ما اشتملت عليه من أَخْذ العهد على بني اسرائيل بالعمل بما أُمروا به أخذًا مكررًا حتّى سُمّيت التوراة بالعهد، وقد تكرر منهم نقض العهد مع أنبيائهم ومن جملة العهد الذي أخذ عليهم، أن يؤمنوا بالرسول المُصدِّق بالتوراة “[70]
ولعلّ في العدول عن المعاهدة إلى العهد سرًّا لطيفًا وهو أنّ النقض الذي نقضوه هو العهد ذاته، فكأنهم ناقضون لحقيقة العهد بحيث لا يؤمنون بوجود عهد أَصلًا ؛ ولذا عُبّر عن عدم اعتقادهم به بقوله تعالى: {نَبَذَهُ}, ومعنى النبذ “إلقاء الشيء وطرحه؛ لقلّة الاعتداد به، ولذلك يقال: نبذته نَبْذ النَعْل الخَلِق”[71] وقطعًا فالمعاهدة هذه ليست كالعهد، فهـم يدخلون في المعاهدة ولا يلتزمون بالعهـد، وينبغي التنبيه على أنّ من العلماء من أعرب (عهدًا) هنا مفعولًا به، على اعتبار أن معنى عاهدوا أعطوا[72]، ولذلك قيل: إن (عهدًا) هنا أقرب إلى الاسمية.
سادساً ـ الانزیاح عن التفاعل :
تناول هذا المبحث ثلاثة نماذج من العدول في هذا النوع وهي: العدول عن التداين إلى الدين، والعدول عن التعالي إلى العلو، والعدول عن التواعد إلى الميعاد، وهذه هي النماذج التي وردت في القرآن الكريم.
1 ـ الانزیاح عن التداين إلى الدَيْن :
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ }(البقره: 282).
ومجيء (دَيْن) معدولًا به عن (التداين)؛ لأنه هو المصدر القياسي للفعل، (تداين)؛ للتأكيد على رأي الأخفـش (ت 215 هـ)؛ لأن (تداينتم) يدل على وجود الدين نحو قول رؤبة :
داينتُ أروى والديونُ تُقضى فَمَطلتْ بَعْضًا وأَدّت بَعْضًا
فلم يقل: داينت أروى بدين[73]، وقيل: إنّ ذكر (بدين) لبيان حُكم الدين دون حكم المجازاة؛ لأن من العرب مَنْ يقول: تداينا بمعنى تجازينا، وبمعنى تعاطينا الأَخذ والإعطاء بدين[74] ويكون بمعنى: إذا تعاملتم بدين مؤجّل فاكتبوه، فضلًا عن بيان نوعه بين كونه حالًا أو مؤجّلًا.[75] فذكر (بِدَيْنٍ) لتخصيص معنى (التداين) للمعاملة بالدَين؛ لأنّ التداين والمداينة تدل على المجازاة والمعاطاة، وإن كان في معنى الدين الأخذ والعطاء.[76]
كما أنَّ معنى التداين: “بيع الدين بالدين وهو باطلٌ، فلو قال: إذا تداينتم لبقي النص مقصورًا على بيع الدين بالدين وهو باطل، أمّا لما قال: { إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ } فالمعنى: إذا تداينتم تداينًا يحصل فيه دين واحد، وحينئذٍ يُخْرَج عن النص بَيْع الدين بالدين، ويبقى بيع العين بالدين، أو بيع الدين بالعين؛ فإنّ حاصل كل واحد منهما دين واحد لا غير”[77]، إذ إن الدَيْن في الشرع ” عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدًا والآخر في الذمة نسيئة، فإنّ العين عند العرب ما كان حاضرًا والدين ما كان غائبًا”[78].
إذن فالعدول عن (التداين) إلى (الدين) لنكتة دلالية نبّه عليها البيضاوي بقوله: ” وفائدة ذكر الدين أن لا يتوهم من التداين المجازاة ويعلم تنوعه إلى المؤجّل والحالّ وأنه الباعث على الكتبة “.[79]
2 ـ الانزیاح عن التعالي إلى العُلُوّ :
قال تعالى في تنزيه ذاته العلية:{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} (اسراء: 43) وذلك في معرض الردّ على الكافرين، قوله: { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا} (الإسراء: 42).
فالعدول حاصل في (تعالى علوًّا) وليس (تعاليًا) فهو عدول عن القياس، إذ جاء مصدر (تعالى) عُلُوًّا وليس تعاليًا.[80] والمراد المبالغة في البراءة والنزاهة ممّا وصفوه به جلّ في علاه.[81] قال البقاعي: “و{ تَعَالَى }أي علا وعظم العلو بصفات الكمال { عَمَّا يَقُولُونَ } من هذه النقائض التي لا يرضاها لنفسه أحد من عُقلاء خلقه، فضلًا عن رئيس من رؤسائكم، فكيف بالعليّ الأعلى” [82] والنكتة في العدول عن المصدر المقيس (تعاليًا) إلى مصدر الفعل الثلاثي (علوًّا) لإرادة تحقق المعنيين، معنى المبالغة في (تعالى)، ومعنى التجرد في (علوًّا) إذ إنه قد “أتى بالمصدر المجرد في قوله (عُلُوًا) إيذانًا بأنّ الفعل مجردٌ في الحقيقة وإن أتى به على صيغة التفاعل إيذانًا بالمبالغة”[83]، فمجيء (علوًا) إذن معدولًا به عن (التعالي) “للدلالة على أن التعالي هو للاتّصاف بالعلوّ بحقّ لا بمجرد الادّعاء”[84].
3 ـ الانزیاح عن التواعد إلى الميعاد :
قـال تعالى : { إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}( الأنفال: 42).
نزلت في معركة بدر، يخاطب فيها الله المؤمنين بأَنّه “لو كان اجتماعكم في الموضع الذي اجتمعتم فيه، أنتم أيّها المؤمنون وعدوكم من المشركين، عن ميعاد منكم ومنهم { لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ }لكثرة عدد عدوكم، وقلّة عددكم، ولكنّ الله جمعكم على غير ميعاد بينكم وبينهم { لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا } وذلك القضاء من الله كان نصرُه أولياءه من المؤمنين بالله ورسوله، وهلاك أعدائه وأعدائكم ببدر بالقتل والأَسر”[85] فالخلاف الحاصل سيكون في الميعاد أي لاختلفتم في زمان القتال، حتى وإن “أعلم كل منكم الآخر بالخروج للقتال {لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ }، أي لتخلّفتم عن الميعاد أي المواعدة أي التواعد بمعنى أنكم لم توفوا بما أعلمتم به بل تتخلفون عن الخروج، فالميعاد معناه التواعد”[86]، والميعاد في اللغة : المواعدة ووقتها ومكانها.[87]وبذلك يتبين أنّ الاختلاف يكون في زمان المواعدة، وليس الاختلاف في أنهم يتواعدون أم لا يتواعدون، ولذا قيل: إنّهم لو تواعدوا القتال بعدما عَلِم كلُّ طرفٍ حالَ الطرف الآخر لحدث الاختلاف في الميعاد هيبة من العدوّ ويأسًا من الظفر عليهم.[88]
إذن فالعدول عن التواعد إلى الميعاد للدلالة على أن المراد زمان الوعد، لا حقيقة التواعد، فالمراد زمان وقوع الحدث، وهو التواعد، لا وقوع الحدث مجردًا من الزمان؛ ولذا ورد بصيغة (الميعاد) الدالة على توكيد زمان الوعد، إذ لم يأتِ في القرآن الكريم إلاّ للدلالة على الزمان.[89]
سابعًا ـ الانزیاح عن التفعل :
وردت ستة نماذج على هذا النوع من العدول، وقع البحث على ثلاثة منها, وهي: العدول عن التبتُّل إلى التبتيل، والعدول عن التقبّل إلى القبول، والعدول عن التقوّلات إلى الأقاويل، وهذه النماذج تُعبّر عن سرّ العدول عن التفعّل إلى غيره من الصيغ غير المقيسة عليه .
1 ـ الانزیاح عن التبتُّل إلى التبتيل :
قال تعالى مخاطبًا النبي -صلی الله علیه وآله وسلم- في بداية البعثة : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا }( المُزّمِّل: 8).
يلحظ في الآية مجيء { تَبْتِيلًا } معدولًا به عن المصدر المقيس للفعل ( بتّل ) وهو ( التَبَتُّل )، وقد جاء اختيار هذه العبارة الدقيقة للإشعار بأَنّ (التبتل) وهو الانقطاع إلى الله بالعبادة، هو المقصود بالذات أولًا، ثم جاء ذكر (التبتل) وهو التصرف والانشغال بالعبادة ثانيًا؛ للإشعار أنه لابُدّ منه ولكنه مقصود بالغرض.[90] وليـس المقصود الإتيان بـ (تبتيلًا)؛ لأن معنى تبتّـل بَتَّل نفسـه، مراعـاةً لحقّ الفواصل.[91] ولكنّ المقصود معنويّ أَشار إليه ابن القيّم: “ومصدر تبتَّل إليه (تَبُتّل) كالتعلم والتفهم ولكن جاء على (التفعيل) مصدر (فعّل) لسِرّ لطيف. فإن في هذا الفعل إيذانًا بالتدريج والتكلف والتعمّل والتكثر والمبالغة. فأَتى بالفعل الدال على أحدهما وبالمصدر الدال الآخر فكأنه قيل: بتّل نفسك إلى الله تبتيلًا وتبتّل إليه تبتُّلًا, فَفُهم المعنيان من الفعل والمصدر”.[92] وفيه ملحظ تربوي وهو الجمع بين معنى التدرج في صيغة (تبتل إليه)، والتكثير في صيغة (تبتيـلًا) “إذ الأصل أن يتدرج الإنسان من القلّة إلى الكثـرة والمعنى: احمل نفسك على التبتّـل والانقطاع إلى الله في العبادة شيئًا فشيئًا حتى تصل إلى الكثرة”.[93] وهنا تكمن فائدة العدول وهي تضمين معنى الفعلين وذلك عن طريق المجيء بالمصدر معدولًا به عن القياس، “فالسالك إلى الله لا غنى له عن تكلف التبتّل ومحاولته ليحمل نفسه عليه؛ لثقله عليه أول أمره، ولابد من إكثار التبتّل ومحاولته حتى تعتاده النفس وتطاوع له”.[94]
2 ـ الانزیاح عن التقبّل إلى القبول :
قال تعالى في قصة (مريم) -عليها السلام- : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } (آل عمران: 37).
وذلك بعد أن نذرت امرأة عمران ما في بطنها لله، وبعد أن وضعتها أنثى قال تعالى: { إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }(آل عمران: 35).
ويلحظ إخراج المصدر على غير لفظه، إذ القياس (فَتَقَبَلَها رَبُّها بِتَقَبُّلٍ)، والعـرب تأتي بالمصـادر على أصـول الأفعـال, وإن اختلفـت ألفاظهـا في الأفعال بالزيادة.[95] وقد ذكر الزمخشري في (قَبول) وجهان: أحدهما أن يكون اسم ما تقبل به الشيءَ كالسَّعُوط لما يُسْعَطُ به؛ والثاني: أن يكون مصدرًا على تقدير حذف المضاف، أي: فتقبلها بذي قبول أي بأمرٍ ذي قبول، في كلا الوجهين يكون المعنى الاختصاص، وهو: إقامتها مقام الذكر في النذر.[96] والصحيح أن (قَبَول) مصدر (قَبِل) وهو مذهب سيبويه في أَنَّ هناك خمسة مصادر جاءت على وزن (فَعُول) وهي: قًبُول، وطَهُور، ووَضُـوء، ووَقُود، ووَلوُغ. ولكنّ الراجح أنه عدول عن المصدر المقيس (تقبُّل) إلى مصدر الثلاثي (قَبِـل) لإرادة الإشـارة إلى معنـى صيغتي (تَفَعَّل) و (فَعَل)، ففي معنى (التفعّل) دلالة على شدة اعتناء الفاعل بإظهار الفعل، يقال: تصبّر أي: جَدّ واجتهد في إظهار الصبر، وكذلك (التقبُّل) يدل على المبالغة في إظهار القبول.[97] قال الرازي: “فإن قيل لِمَ لَمْ يقل: فتقبلها ربُّها بتقبّل حَسَنٍ حتى تصير المبالغة أكمل؟ والجواب أن لفظ التقبّل وإن أفاد ما ذكرنا إلاّ أنه يفيد نوع تكلف على خلاف الطبع، أما القبول فإنّه يفيد معنى القبول على وفق الطبع، فذكر التقبّل؛ ليفيد الجد والمبالغة، ثم ذكر القبول؛ ليفيد أنّ ذلك ليس خلاف الطبع بل على وفق الطبع، وهذه وإن كانت ممتنعة في حق الله تعالى، إلاّ أنها تـدل من حيث العناية على حصول العناية العظيمة في تربيتها”[98] هـذا فضلًا عن ما فـي صيغة (التفعّل) من معنى التَدرُّج والتتابع، ففي استعمال صيغة (التفعّل) : إشعار في معنى التدرج والتطور، والزيادة في كل طور تتطور إليه، فضلًا عن معنى التواصل والتتابع، حتى ظل بركة تحريرها متجددًا لها في نفسها وعائدًا بركته على أُمّها حتّى ارتقت إلى العلـوّ المحمدي فكانت من أزواجه، ومن يتصل به.[99] قال أبو السعـود : “وإنما عـدل عن الظاهر للإيذان بمقارنة التقبُّل لكمال الرضا وموافقته للعناية الذاتية.”[100]
3 ـ الانزیاح عن التَقُوّلات إلى الأَقاويل :
قال تعالى: { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقه: 44- 47) .
قال الزمخشري: “التقـوّل: افتعال القول، كأن فيه تكلفًا من المُفْتَعِل، وتسمى المتقولة (أقاويل) تصغيرًا لها وتحقيرًا، كقولك: الأعاجيب والأضاحيك، كأنّها جمع أفعولة من القول والمعنى لو ادّعى علينا شيئًا لم نقله لقتلنـاه صبرًا، كما يفعل الملوك بمن يتكذّب عليهم معالجة بالسخط والانتقام”.[101] والمقصود بالخطاب النبي -صلی الله علیه وآله وسلم- أَنّهُ لو تقوّل على الله شيئًا من غير القرآن لعاقبه[102], ومعنى (تقوّل): تكلّف وأَتى بقول من قبل نفسه[103], أي افتراه “وسُمّي الافتراءُ تقوّلًا؛ لأنّه قول مُتكلَّف وكل كاذب يتكلّف ما يكذبه”[104], ولما كان التقوّل بمعنى (الكَذِب) عُدّي بـ (على).[105]
وأمّا (الأقاويل) المعدولة عن القياس وهو (التقوّلات) فقد قيل: إنّها جمع الجمع [106]؛ وهو (أقوال) التي هي جمع (قول)، وقد رجّحه البقاعي؛ “لأنه يلزم أن لا يعاقب بما دون ثلاثة أقوال”[107] على اعتبار دلالة (الأقاويل) على الكثرة، قال ابن عاشور: “الأقاويل: جمع أقوال الذي هو جمع قول، أي بعضًا من جنس الأقوال التي هي كثيرة فلكثرتها جيء لها بجمع الجمع الدال على الكثرة، أي: لو نسب إلينا قليلًا من أقوالٍ كثيرة صادقة؛ يعني لو نسب إلينا شيئًا قليلًا لم نُنزّله لأخذنا منه باليمين”.[108]
وقيـل: إنّ (الأقاويـل) جمع (أقوولـة) على مثال أُضحوكة مفرد أضاحيك؛ “وسمّى الأقوال المتقوّلة (أقاويل) تصغيرًا لها وتحقيرًا”[109], فيكون المعنى: أنه لو نسب إلينا قولًا صَغيرًا في القرآن لَمْ نًقُلْهُ، ولم نأذن في قوله؛ لأخذنا منه باليمين، أي بالقـوة.[110]
نتائج البحث
إن العدول من الظواهـر الأسلوبية التي شاعت في اللغة العربية، ووردت الإشارة إليها في مباحث علماء العربية الأقدمين من دون البحث في هذه الظاهرة على نحو منفصل ومحدد، ولقد تبين أنّ دلالات العدول عن أصل تختلف عن دلالات العدول عن القياس؛ إذ لكل نوع منها دلالاته الخاصة به يحتمها طبيعة كل سياق ورد فيه العدول بناءً على المعنى المقصود الذي يُراد تحقيقه في النص القرآني، فأحيانًا يراد الجمع بين دلالتي الصيغتين من خلال المجيء بالفرع عدولًا عن الصيغة الأَصل، على نحو المجيء باسم المصدر معدولًا إليه عن المصدر للدلالة على الحَدَث الذي هو معنى المصدر باللفظ الدال على معنى الحدث الذي هـو اسم المصدر فيكون المصـدر بذلك جامعًا المعنيين الحدث واللفظ المسمّى به، وأحيانًا أخرى يراد الإشارة إلى دلالة دقيقة تتحقق في الصيغة المعدول إليها على نحو العدول عن المصدر إلى المصدر الميمي الذي يتحقق فيه دلالته على الحدث مقترنًا بعنصر الذات المتلبسة بالحدث، فضلًا عن دلالة جديدة يُرجّحها السياق كالمبالغة ونحوها.
المراجع
ابن الأنباري، لأبی البرکات.(2202) فی مسائل الخلاف بین البصریین والکوفیین، القاهرة، مکتبه الخانجی.
ابن الجزري، أبو محمد.(2009) النشر في القراءات العشر، بیروت، المطبعة التجارية الكبرى.
ابن مالک، محمد بن عبدالله. ( 1389) شرح الكافية الشافية، بیروت، دار الکتب العلمیة.
ابن خالويه،عبد العال سالم مكرم.(1399) الحجة في القراءات السبعة، بیروت، دار الشروق.
ابن عاشور، محمد الطاهر(1969) تفسیر التحرير والتنوير، تونس، الدار التونسیة للنشر.
ابن عطیة، عبدالحق بن غالب.( 1380) المحرر الوجیز فی تفسیر الکتاب العزیز، القاهرة.
ابن قتيبة الدينوري، عبد الله بن مسلم.(1398) تفسير غريب القرآن، بیروت، دار الكتب العلمية.
ابن مجاهد، أحمد بن موسي.(1429) كتاب السبعة في القراءات، بطنطا، دار الصحابة.
ابن منظور، محمد بن مکرم، (1363ش)، لسان العرب، نشر أدب الحوزة، قم.
أبو السعود، محمد بن محمد.( 1983) تفسير أبي السعود، بیروت، دار إحياء التراث العربي.
أبو حیان، محمد بن یوسف.( 1420) البحر المحيط، الریاض، مکتبه الرشد.
أحمد مختار، عمر عبدلعال سالم مکرم.(1412) معجم القراءات القرآنية، تهران، أسوه.
الأخفش، سعید بن مسعدة.( 1422) معاني القرآن، بیروت، دار الکتب العلمیة.
الآلوسی، محمود بن عبدالله.( 1997) روح المعاني، بیروت، دار الکتب العلمیة.
الأندلسي، أبو حيان (1328) البحر المحيط في التفسير ، مصر، مطبعة السعادة.
البيضاوي عبد الله بن عمر (1330). تفسير البيضاوي وبهامشه حاشية الكازروني، مصر، دار الكتب العربية الكبرى.
المناوي، زين الدين عبد الرؤوف .( 1409) الفتح السماوي بتخریج أحادیث تفسیر القاضي البیضاوي، الریاض، دار العصمة.
الجرجانی، علی بن محمد.( 1998) التعريفات، بیروت، مکتبة لبنان.
الدمیاطی البنا، أحمد بن محمد.(1407) إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية.
الراغب الأصفهاني، حسين بن محمد.(1412) المفردات في غريب القرآن، تهران، مرتضوی.
السامرائي، فاضل صالح .( 1429) التعبير القرآني، قم، مؤسسة العطار الثقافیة.
السامرائي، فاضل صالح.( 1428) معاني الأبنية في العربية، بیروت، دار عمار.
سلیمان بن عمر بن منصور.( 1417) حاشية الجمل على شرح المنهج، بیروت، دار الکتاب.
السيوطي، عبد الرحمن جلال الدين. ( 1422) أسباب النزول المسمى لباب النقول في أسباب النزول، بیروت، مؤسسة الكتب الثقافية.
صدیق حسن خان، محمد صدیق بن حسن.( 1429) فتح البیان فی مقاصد القرآن، بغداد، دار الکتاب العربي.
ضاحي عبد الباقي. ( 2008) شرح ديوان رؤبة بن العجاج، القاهرة، إدارة العامة للمعجمات وإحياء التراث.
الطبری، محمد بن جریر(2002) جامع البيان، بیروت، دار المعرفة.
عبد القادر الرازي، محمد بن أبي بكر بن.(1953) مختار الصحاح، دمشق، دار الفيحاء ودار المنهل.
العزاوي، خالد حمودي محيي. (1424) الأساليب البلاغية في تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات و السور، بغداد، کلية التربية.
الفخر الرازی، محمد بن عمر.( 1415). التفسير الكبير، بیروت، دار إحیاء التراث العربي.
الفراء، يحيى بن زياد.( 2010) معاني القرآن للفراء، مصر، دار المصرية للتأليف والترجمة.
الفراهیدي، خلیل بن أحمد.(1410). کتاب العین، تهران، هجر.
القرطبي، محمدبن أحمد.(1372) الجامع لأحكام القرآن، قم، نشر أدب.
القيسي، عودة الله منيع.( 1416) سر الإعجاز في تنوع الصيغ المشتقة من أصل لغوي واحد في القرآن، دار البشير، مؤسسة الرسالة.
المالكي الخلوتي، أحمد بن محمد. ( 1421) حاشية الصاوي على تفسیر الجلالين، المدینة، الحجر.
ملا حویش، عمر.(1390) البلاغة فی تفسیر الکشاف، بغداد، وزاره التربیة والتعلیم.
النسفي، عبدالله بن أحمد.( 1408) تفسير النسفي، بیروت، دار الکتاب العربي.
النيسابوري، محمد بن حسين.(1416) غرائب القرآن ورغائب الفرقان، بیروت، دار الكتب العلمية.
هلال. علی محمود.(2000) . اختلاف صيغ الفعل المشتقة من جذر واحد في القرآن الكريم، رسالة ماجستير تقدم بها هلال علي محمود إلى كلية الآداب ـ جامعة الموصل.
هنداوی، عبدالحمید .(1424) الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم، بیروت، المکتبه العصریة.
- ابن الأنباري، لأبي البرکات- فی مسائل الخلاف بین البصریین والکوفیین، القاهرة، مکتبه الخانجی،2002م،1 /235مسألة 28
- الطبری، محمد بن جریر- جامع البيان، بیروت، دار المعرفه، 2002م، 9 / 278 ؛ الدمیاطی البنا، أحمد بن محمد- وإتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، 1407 ه، 194؛ الطبری، محمد بن جریر- جامع البيان 5 / 260؛ أحمد مختار، عمر عبدلعال سالم مکرم- معجم القراءات القرآنية، تهران، أسوه، 1412 ه، 2 / 167
- الفخر الرازی، محمد بن عمر- التفسير الكبير، بیروت، دار إحیاء التراث العربي، 1415ه، 1 / 571؛ النسفي، عبدالله بن أحمد- تفسير النسفي، بیروت، دار الکتاب العربی، 1407 ه، 1 / 252
- المناوي، زين الدين عبد الرؤوف- الفتح السماوی بتخریج أحادیث تفسیر القاضی البیضاوی، الریاض، دار العصمة، 1409 ه، 2 / 120؛ البيضاوي، عبد الله بن عمر- تفسير البيضاوي وبهامشه حاشية الكازروني، مصر، دار الكتب العربية الكبرى،1330 ه، 2 / 120
- العزاوي، خالد حمودي- الأساليب البلاغية في تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، بغداد، کلية التربية، 1424 ه، / 422
- السامرائي، فاضل صالح- التعبير القرآني، قم، مؤسسة العطار الثقافیة، 1429، 2 / 589؛ السامرائي، فاضل صالح- معاني الأبنية في العربية، بیروت، دار عمار، 1428، 36
- الفخر الرازی، محمد بن عمر- التفسير الكبير 3 / 448؛ صدیق حسن خان، محمد صدیق بن حسن- فتح البیان فی مقاصد القرآن، بغداد، دار الکتاب العربي 1429ه، 10 / 179
- الطبری، محمد بن جریر- جامع البيان 15 / 270؛ الدمیاطی البنا، أحمد بن محمد- وإتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر 292؛ ابن خالويه، عبد العال سالم مكرم- والحجة في القراءات السبعة، بیروت، دار الشروق، 1399ه، 227؛ ابن مجاهد، أحمد بن موسي، كتاب السبعة في القراءات، بطنطا، دارالصحابة، 1429ه، 393؛ ابن الجزري، أبو محمد- والنشر في القراءات العشر، بیروت، المطبعة التجارية الكبرى، 2009م، 2 / 311؛ عمر، أحمد مختار، عبد العال سالم مکرم- معجم القراءات القرآنية 3 / 378- 379
- المناوي، زين الدين عبد الرؤوف- الفتح السماوی بتخریج أحادیث تفسیر القاضی البیضاوی 3 / 146؛ سلیمان بن عمر بن منصور- حاشیه الجمل علی شرح المنهج، بیروت، دار الکتاب، 1417ه، 3 / 32
- ملا حویش، عمر- البلاغة فی تفسیر الکشاف، بغداد، وزارة التربیه والتعلیم، 1390ه، 2 / 331؛ الفخر الرازی، محمد بن عمر- التفسير الكبير 17 / 51
- ابن عاشور، محمد الطاهر- تفسیر التحرير والتنوير 7 / 113؛ صدیق حسن خان، محمد صدیق بن حسن- فتح البیان فی مقاصد القرآن 6 / 24
- (6) الأخفش، سعید بن مسعدة – معاني القرآن، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1422ه، 2 / 525؛ الطبری، محمد بن جریر- جامع البيان، 30 / 16
- الفراء، يحيى بن زياد- معاني القرآن للفراء، مصر، دار المصرية للتأليف والترجمة، 2010م، 3 / 229؛ الطبری، محمد بن جریر- جامع البيان 30 / 16؛ ابن عاشور، محمد الطاهر- تفسیر التحرير والتنوير 15 / 290
- القرطبي، محمد بن أحمد- الجامع لأحكام القرآن 19 / 118؛ صدیق حسن خان، محمد صدیق بن حسن- فتح البیان فی مقاصد القرآن 15 / 39
- هلال، علی محمود- اختلاف صيغ الفعل المشتقة من جذر واحد في القرآن الكريم، رسالة ماجستير تقدم بها هلال علي محمود إلى كلية الآداب ـ جامعة الموصل، 2000م، 228
- السيوطي، عبد الرحمن جلال الدين- أسباب النزول المسمى لباب النقول في أسباب النزول، بیروت، مؤسسة الكتب الثقافية، 1422ه، 1 / 217
- أبو حیان، محمد بن یوسف- البحر المحيط 8 / 288؛ الآلوسی، محمود بن عبدالله- روح المعاني، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1997م، 28 / 148
- ابن عاشور، محمد الطاهر- تفسیر التحرير والتنوير 1 / 412؛ الآلوسی، محمود بن عبدالله- روح المعاني 1 / 324؛ أبو السعود، محمد بن محمد- تفسير أبي السعود 1 / 135
- الأخفش، سعید بن مسعدة- معاني القرآن 1 / 189؛ ملا حویش، عمر- البلاغة فی تفسیر الکشاف 1 / 324؛ ضاحي عبد الباقي- شرح ديوان رؤبة بن العجاج، القاهرة، إدارة العامة للمعجمات وإحياء التراث، 2008م، 79
- القرطبي، محمد بن أحمد- الجامع لأحكام القرآن 6 / 46؛ ابن عاشور، محمد الطاهر- تفسیر التحرير والتنوير 2 / 500
- الطبری، محمد بن جریر- جامع البيان 3 / 243؛ صدیق حسن خان، محمد صدیق- فتح البیان فی مقاصد القرآن 2 / 146
- المناوي، زين الدين عبد الرؤوف- الفتح السماوی بتخریج أحادیث تفسیر القاضی البیضاوی 1 / 269؛ أبو السعود، محمد بن محمد- تفسير أبي السعود 1 / 269
- العزاوي، خالد حمودي محيي- الأساليب البلاغية في تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات و السور 11 / 422- 423
- عبد القادر الرازي، محمد بن أبي بكر بن- مختار الصحاح، دمشق، دار الفيحاء ودار المنهل، 1953م، 700؛ ابن منظور، محمد بن مکرم- لسان العرب، نشر أدب الحوزة، قم، 1363ش، 4 / 478
- القيسي، عودة الله منيع- سر الإعجاز في تنوع الصيغ المشتقة من أصل لغوي واحد في القرآن، دار البشير، مؤسسة الرسالة، 1416ه، 192
- ملا حویش، عمر- البلاغة فی تفسیر الکشاف 4 / 607؛ الفخر الرازی، محمد بن عمر- التفسير الكبير 30 / 118