خاص هيئة علماء فلسطين

         

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد؛

يصدر هذا العدد من مجلتنا العلمية المحكمة في سياق تاريخي بالغ الحساسية، حيث تتكاثف التحديات حول المقدسات الإسلامية، وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومسرى النبي ﷺ ومعراجه. إن الوعي العلمي الرصين بموضوع حماية المقدسات، وتأصيل الواجبات الشرعية للأمة، واستحضار أدوات الاجتهاد الجماعي، وتحليل العقيدة القتالية في الفكر الإسلامي، وفهم أثر «العمليات النفسية» في الصراع على الرِّواية والشرعية كل ذلك يلتقي في هذا العدد ليقدم رؤية مركبة، تزاوج بين التأصيل المنهجي والدراسة التطبيقية، وتستهدف خدمة الحق والعدالة وصيانة الحرمات والدماء، على هدي مقاصد الشريعة الغراء.

ينبثق هذا البناء المعرفي من خمسة بحوث نافذة، يجتمع فيها عمق النظر الشرعي، ورصانة التحليل الفكري، ودقة الاستقراء لواقع ملتبس ومتغير؛ وهي: «حماية المقدسات في الإسلام: دراسة تطبيقية على المسجد الأقصى المبارك» للأستاذ المشارك الدكتور مجاهد جمال الحوت، و«الواجب الشرعي للأمة الإسلامية تجاه تهويد المسجد الأقصى: دراسة تأصيلية مقاصدية» للدكتور محمد العامري، و«دور الاجتهاد الجماعي في حماية المسجد الأقصى» للدكتور أحمد الإدريسي، و«العقيدة القتالية في الفكر الإسلامي: دراسة تأصيلية تحليلية» للدكتور رمضان مطاريد، و«العمليات النفسية وأثرها في هزيمة المشروع الصهيوني» للدكتور خالد عبد الجابر الصليبي. وهي بحوث تتعاضد لتشكل منظورا كليا، لا يكتفي بالتوصيف، بل ينهض إلى اقتراح آليات عملية، منضبطة بالقيم والشروط الشرعية والقانونية.

أولا: حماية المقدسات وحقوقها الثابتة

يناقش بحث الأستاذ المشارك الدكتور مجاهد جمال الحوت الأسس النصية والفقهية لحماية المقدسات، مؤكدا أن المسجد الأقصى يدخل في دائرة الضرورات التي يحافظ عليها بوجوه متعددة: حماية الحرمة، وصيانة المكان والشعائر، وحماية الوصول والعبادة، والدفاع عن هويته التاريخية من محاولات المحو أو التحريف. ويبرز البحث-من خلال الدراسة التطبيقية- أن واجب الحماية لا ينحصر في البعد الرمزي؛ بل يمتد إلى دعم المؤسسات العلمية والثقافية العاملة في القدس، وتحصين الرِّواية التاريخية بالبحث والتوثيق، وإسناد المواقف القانونية في المحافل الدولية بما يحقق صيانة الحق ويكشف الاعتداء. إن حماية المقدسات-كما يقرر البحث- هي تكليف شرعي عام، يتوزع على الأفراد والدول والمؤسسات، ويتحول في لحظات الخطر إلى «فرض كفاية» قد يترقى إلى «فرض عين» بقدر القدرة والاستطاعة.

ثانيا: الواجب الشرعي تجاه محاولات التهويد

يقدم الدكتور محمد العامري تأصيلا مقاصديا دقيقا لواجب الأمة في مواجهة سياسات «التهويد»، فيبين أن حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال- بوصفها كليات- يتداخل في قضية الأقصى تداخلا وثيقا؛ فحفظ الدين يتبدى في حماية شعائره ومشاهده، وحفظ النَّفَس في رد الاعتداء على المدنيين، وحفظ العقل في مقاومة التزييف المعرفي، وحفظ النسل والمال في حماية المجتمع المقدسي من الإفقار والاقتلاع. ويرصد البحث سلم الواجبات الشرعية من «البيان» إلى «الإنكار» إلى «الدعم» إلى «الدفاع» بالوسائل المشروعة، مع ضبط ذلك كله بفقه الميزان والمآلات، وحسن ترتيب الأولويات، وتقدير المصالح والمفاسد على نحو يمنع الاندفاع غير الراشد، ويرسخ العمل الجماعي المؤسسي القادر على الاستمرار والتأثير الإيجابي.

ثالثا: الاجتهاد الجماعي كآلية مؤسسية للحماية

يستأنف الدكتور أحمد الإدريسي بحثا مهما في دور «الاجتهاد الجماعي» بوصفه أداة لتوليد الحكم الشرعي في النوازل المركبة ذات الامتدادات السياسية والقانونية والحقوقية، ومنها قضية الأقصى. ويحاج البحث بأن الاجتهاد البرلماني والمؤسسي-عبر المجامع الفقهية والهيئات العلمية- أقدر على موازنة المصالح ودرء المفاسد، وتقديم تصورات تشغيلية قابلة للتنفيذ تراعي تعدد الأطراف والأنظمة القانونية، وتقلل من أثر التسييس والتجزئة. ومن ثم، يدعو البحث إلى إحياء آليات الاجتهاد الجماعي: توحيد المرجعيات، وتكامل الاختصاصات (الفقه، الأصول، القانون الدولي، دراسات الأمن والسياسة العامة)، وبناء منصات للمتابعة والتقويم الدوري؛ بحيث تتحول الفتاوى والبيانات إلى سياسات وتدخلات واقعية، تحرك وعي الأمة وتسند حقوق المقدسيين.

رابعا: العقيدة القتالية بين الضوابط الشرعية والواقع الميداني

يفتح الدكتور رمضان مطاريد ملف «العقيدة القتالية في الفكر الإسلامي» مقاربا بين التأصيل النصي والقراءة التحليلية لسير التنزيل التاريخي، فيظهر أن الجهاد -بما هو منظومة تشريعية- محكوم بحدود وقيم صارمة: تحريم الاعتداء على غير المحاربين، وصيانة الممتلكات العامة، والتزام العَدل حتى في حال الاشتباك، واعتبار السِّلْم مقصدا أصيلا يرجح عند إمكانه مع حفظ الحقوق ورفع الظلم. ويستخلص البحث أن أي مقاربة معاصرة لقضايا الصراع لا بد أن تبقي «العقيدة القتالية» في إطار الدفاع المشروع، وأن تسندها إلى المؤسسات الشرعية المخولة، وإلى القوانين الدولية التي تحمي المدنيين وتجرم تغيير الهوية الدينية بالقوة أو فرض الأمر الواقع بالاستيطان غير المشروع. هذه القراءة تسهم في تصحيح تصور الجمهور، وتحصن الخطاب من الانزلاق إلى غير المشروع، وتقدم حجة أخلاقية وقانونية متماسكة.

خامسا: «العمليات النفسية» وصراع السرديات

يستكشف بحث الدكتور خالد عبد الجابر الصليبي مفهوم «العمليات النفسية»، بوصفها أدوات للتأثير الإدراكي والوجداني لدى الخصوم والجمهور، محللا بنيتها وآلياتها ووسائل مقاومتها في الفضاء العام: من توظيف الرمز والصورة، إلى صناعة الخبر، إلى الانحيازات المعرفية في وسائل الإعلام وشبكات التواصل. ويجادل البحث بأن هزيمة المشروع الظالم تبدأ بهزيمة «الرِّواية» التي تبرره، عبر تفكيك أساطيره، وفضح انتهاكاته، وبناء رواية بديلة تؤسس للحق وتستند إلى وقائع موثقة ولغة أخلاقية جامعة. ومن هنا تأتي أهمية المعركة المعرفية الهادئة: إنتاج المحتوى الأكاديمي الرصين، تدريب النخب الإعلامية على أخلاقيات السرد والاتصال، وتعزيز شبكات الترجمة والنشر التي تنقل حقائق القدس بلغات العالم وتخاطب ضمائر البشر.

تكامل الموضوعات ومنهج العدد

ينسج هذا العدد خيطا واحدا يربط بين المقاصد والضوابط والآليات: حماية المقدسات مقصد كلي، يؤطره الواجب الشرعي ويفعله الاجتهاد الجماعي، ويقوم على عقيدة قتالية أخلاقية تحرس الحدود الشرعية في أقسى ظروف الصراع، ثم تستكمل أدواته بإدارة المعركة المعرفية ومقاومة «العمليات النفسية» التي تسعى إلى شرعنة الاعتداء وإسكات صوت الضحية. إن هذا التكامل يقدم طريقا عمليا لإعادة صياغة الجهد العلمي والحقوقي حول القدس، فيتحول من ردود فعل متفرقة إلى بناء مؤسسي طويل النَّفَس، يتحرك على مسارات متوازية: البحث، والتعليم، والسياسة العامة، والقانون الدولي، والإعلام.

نحو برنامج عمل علمي

استنادا إلى ما تطرحه بحوث هذا العدد، يمكن اقتراح معالم برنامج عمل علمي ومهني لخدمة قضية المسجد الأقصى:

١. التوثيق والبحث المفتوح: إنشاء قواعد بيانات محكمة للوثائق التاريخية والحقوقية المتعلقة بالأقصى، وتيسير الوصول إليها للباحثين والهيئات الحقوقية، مع سياسات صارمة للجودة والتحقق.

٢. الاجتهاد الجماعي التخصصي: تشكيل لجان شرعية مشتركة تضم فقهاء وأصوليين وقانونيين وخبراء في دراسات الأمن والإعلام، تصدر توصيات دورية تترجم إلى مبادرات قابلة للتنفيذ.

٣. التمكين القانوني والحقوقي: دعم المسارات القضائية التي تجرم الاعتداءات على أماكن العبادة وتحاسب على انتهاكات حقوق الإنسان، مع بناء شراكات دولية تعزز أثر العمل الحقوقي.

٤. استراتيجيات الاتصال والسرد: تطوير خطاب إعلامي مهني متوازن، قائم على الحقائق والوثائق، يحسن مخاطبة الرأي العام ويقاوم التضليل دون انزلاق إلى خطاب كراهية أو تبرير عنف خارج القانون.

٥. التربية والوعي: إدماج موضوع حماية المقدسات في المناهج والأنشطة الجامعية، على نحو يخرج أجيالا تمتلك أدوات الفهم والتحليل والعمل الرشيد.

كلمة شكر وخاتمة

تشكر هيئة التحرير السادة الباحثين على ما بذلوه من جهد علمي متين، يجمع بين أمانة النقل وعمق التحليل وحسن التوظيف للمناهج والمقاصد. إن القضية-على جسامتها وتعقيدها- تظل عندنا قضية «علم وعدل» قبل كل شيء: علم يبين الحق ويكشف الزيف، وعدل يحفظ الكرامة الإنسانية ويصون حُرمة الدماء والأماكن المقدسة. وليس من رسالة الفكر الإسلامي إلا أن يظل وفيا لمقاصده العليا: رعاية الحياة، وإقامة القسط، وطلب السِّلْم الحق، والدفاع عن المظلوم بالوسائل المشروعة، تحت رقابة الضمير الشرعي والقانوني.

نأمل أن يجد القارئ في بحوث هذا العدد ما يغذي العقل ويوقظ الضمير، ويعين المختصين وصناع القرار والمهتمين على بناء سياسات ومبادرات راشدة؛ تحمل قضية المسجد الأقصى المبارك من دائرة الانفعال إلى دائرة الفعل المسؤول، وتنتصر للحق بالحجة والبرهان والعمل المؤسسي المتزن. والله الموفق إلى سواء السبيل.