خاص هيئة علماء فلسطين

    

22/5/2025

د. محمد سعيد بكر نائب رئيس هيئة علماء فلسطين

*******  

نفحات ذي الحجة: موسم الخيرات العظيم والرباط على العمل الصالح

تتجدد المواسم المباركة في رحاب الإسلام، وتطل علينا نفحات ذي الحجة بأيامها العشر الأوائل، لتغمر العالم الإسلامي بأجواء روحانية عميقة وفرص عظيمة للتقرب إلى الله تعالى. إنها أيام فريدة ومباركة، وهبة إلهية خالصة للمؤمنين، تمثل فرصة لا مثيل لها للتجديد الروحي وتحصيل الأجور المضاعفة ورفع الدرجات عند الخالق عز وجل.

يهدف هذا التقرير إلى تسليط الضوء على الفضائل الاستثنائية للأعمال الصالحة خلال هذه الأيام المباركة، وتقديم إطار عملي للمؤمنين لاغتنام هذه الفرصة الروحية العظيمة من خلال مفهوم “الرباط على العمل الصالح”.  

فضل الأيام العشر الأولى من ذي الحجة: قمة العمل الصالح

تتمتع الأيام العشر الأولى من ذي الحجة بمكانة عظيمة في الإسلام، فهي فترة زمنية خصها الله تعالى بفضائل لا تضاهيها أيام أخرى من العام. يُعد العمل الصالح فيها في قمة الأعمال وأفضلها على الإطلاق.

يؤكد النبي محمد صلى الله عليه وسلم هذا الفضل العظيم في قوله: “مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ. قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ، قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ “.  هذا الحديث النبوي الشريف يضع معيارًا استثنائيًا لفضل العمل الصالح في هذه الأيام، حيث يرفعها فوق كل الأعمال الأخرى، بما في ذلك الجهاد في سبيل الله، إلا في حالة الجهاد الذي ينتهي بالشهادة وفقدان النفس والمال.  هذا التفضيل النبوي يشير إلى أن هذه الأيام هي بمثابة “موسم الذروة الروحية” للمؤمن، حيث تتضاعف العوائد على الاستثمار الروحي بشكل كبير، مما يدعو المؤمنين إلى تكثيف جهودهم العبادية بوعي واستراتيجية.     

ما يميز هذه الأيام العشر بشكل فريد هو اجتماع “أمهات العبادة” فيها. يوضح الحافظ ابن حجر العسقلاني أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة هو اجتماع أمهات العبادة فيها، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، وهذا لا يتأتى في غيرها من الأيام.  هذا التلاقي الفريد لأركان الإسلام الأساسية يجعل من هذه الفترة ميدانًا تدريبيًا روحيًا شاملاً، حيث يمكن للمسلم أن يجمع بين مختلف أنواع الطاعات البدنية والمالية والروحية، مما يتيح نموًا روحيًا متكاملًا.  

إن هذه الأيام هي حقًا من “أيام الله تعالى”، وهي فترات تنزل فيها رحمات الله وبركاته على عباده في صورة “نفحات” إلهية. خلال هذه النفحات، تتضاعف الأجور بشكل كبير، وتغمر نفوس المؤمنين بهجة وسرورًا خاصين. هذا المفهوم يشير إلى أوقات محددة إلهيًا تتجلى فيها كرم الله وعطاياه بشكل مكثف، مما يحث المؤمنين على اليقظة والاجتهاد لاغتنام هذه اللحظات الثمينة.     

تتزامن هذه الأيام المباركة مع ركن الحج العظيم، وتظلله روحيًا. فالحج نفسه هو عبادة مركبة تجمع بين أعمال البدن والروح، وبين العبادات المالية والبدنية على حد سواء، مما يجعل الجسم مشدودًا والروح متوقدة تنتظر إذن الله تعالى في كل حين.   هذا الارتباط العميق بالحج يسمح للمسلم، حتى وإن لم يكن يؤدي الفريضة جسديًا في مكة، بأن يشعر بارتباط روحي عميق بالرحلة الإيمانية العالمية للحجاج، مما يعزز الشعور بالوحدة والهدف المشترك داخل الأمة.     

العمل الصالح: مفهومه الشامل وارتباطه بالإيمان والجهاد

يُعد “العمل الصالح” مفهومًا واسعًا وشاملاً في الإسلام، يتجاوز مجرد العبادات الشعائرية ليغطي كل جوانب حياة المسلم. يُعرف العمل الصالح بأنه كل أمر مشروع يصدر عن العبد المسلم بنية التقرب إلى الله تعالى، سواء كان ذلك نية يضمرها في طاعة لله، أو بذل الجهد، أو الوقت، أو المال، أو حتى النفس في سبيل الله عز وجل. هذا التعريف الجوهري يوسع فهم المسلم للأعمال الصالحة، ليشمل مجموعة واسعة من الأنشطة والنوايا الحياتية. فمن خلال نية التقرب إلى الله، يمكن للأفعال اليومية العادية، مثل العمل في المهنة، أو طلب العلم، أو حتى الراحة، أن تتحول إلى أعمال عبادية عظيمة الأجر. هذا يمنح المؤمن شعورًا دائمًا بالارتباط بالله في كل تفاصيل حياته، ويجعل النمو الروحي متاحًا في كل لحظة.     

يؤكد القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا على الارتباط الوثيق بين “الإيمان” و”العمل الصالح”. قال تعالى: “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوَةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” [النحل: ٩٧]. ليس في ذلك عجب، إذ الإيمان اعتقاد يرسخ في الصدر يصدقه عمل صالح ويثبته. هذا الربط القرآني يرسخ حقيقة أن الإيمان ليس مجرد تصديق قلبي سلبي، بل هو قناعة عميقة يجب أن تتجلى وتتأكد من خلال السلوك القويم والأعمال الصالحة المستمرة. إن الوعد بـ “حياة طيبة” في الدنيا وأجر عظيم في الآخرة لمن يجمع بين الإيمان والعمل الصالح، يُعد حافزًا قويًا للمؤمنين على السعي الدائم لتحقيق هذا التوازن.  

وقد يندهش البعض من ربط العمل الصالح بالجهاد في سبيل الله، كما حدث مع الصحابة الكرام عندما تعجبوا من قول النبي صلى الله عليه وسلم في فضل العمل في ذي الحجة: “ولا الجهاد في سبيل الله؟!”. لكن هذا التعجب يتلاشى عندما يتأمل المسلم في كتاب الله، حيث يربط القرآن الكريم بين الجهاد في سبيل الله تعالى وبين العمل الصالح. قال تعالى: “مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَا وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَعُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدْوَةٍ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ” [التوبة: ١٢٠] .  هذه الآية توضح أن أي مشقة أو جهد أو كدح يُبذل في سبيل الله يُسجل كعمل صالح. هذا التفسير يوسع مفهوم “الجهاد” ليشمل ليس فقط القتال، بل كل كفاح وجهد صادق في سبيل الله، بما في ذلك الكفاح الداخلي ضد النفس الأمارة بالسوء، والكفاح الخارجي من أجل إقامة الحق والعدل في الحياة اليومية. فالرباطات المذكورة في هذا التقرير (مثل الثبات على الصلاة، وطلب العلم، والصدقة) هي في جوهرها أشكال من “الجهاد” الروحي.     

إن النتيجة الأعظم التي يتحصل عليها المجاهدون والعاملون للصالحات هي التمكين في الأرض والاستخلاف فيها. قال تعالى: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا” [النور: ٥٥]. هذا الوعد الإلهي يربط بشكل مباشر بين الحالة الروحية والأخلاقية للمجتمع، المتمثلة في إيمان أفراده وأعمالهم الصالحة، وبين نجاحهم واستقرارهم ونفوذهم في الدنيا. هذا يعني أن قوة المجتمع المسلم وأمنه واستخلافه في الأرض يعتمدان بشكل أساسي على مدى التزام أفراده بالإيمان الصادق والعمل الصالح. إنه دعوة قوية للإصلاح الروحي والأخلاقي الداخلي كشرط لا غنى عنه لتحقيق النجاح الخارجي والدعم الإلهي.     

برنامج الرباط على العمل الصالح في ذي الحجة: دليل عملي للمؤمن

يقدم مفهوم “الرباط على العمل الصالح” إطارًا عمليًا ومنظمًا للمؤمنين لتعظيم أعمالهم الصالحة وتحقيق أقصى قدر من المكاسب الروحية خلال هذه الأيام المباركة. يمكن اعتبار هذه الرباطات بمثابة “برنامج يومي” شامل مصمم للنمو الروحي المتكامل.

دروس من الصحابة: الاقتداء بالقدوات الصالحة

للمؤمنين الراغبين في تعميق عبادتهم واغتنام هذه الأيام المباركة على أكمل وجه، تُعد ممارسات صحابة النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم قدوة حسنة ومصدر إلهام لا ينضب. لقد ضربوا أروع الأمثلة في الاجتهاد والتقوى.

كان سعيد بن جبير، وهو من كبار التابعين الذين رووا الحديث عن ابن عباس، إذا دخلت الأيام العشر من ذي الحجة، اجتهد في العبادة اجتهادًا شديدًا حتى يكاد لا يقدر عليه. وقد روي عنه قوله: “لا تطفئوا سرُجُكم ليالي العشر”. هذه الصورة الحية تظهر مدى الإخلاص والاجتهاد الروحي الذي أظهره السلف الصالح خلال هذه الأيام المباركة، مما يلهم المؤمنين المعاصرين لتجاوز حدودهم في العبادة. عبارة “لا تطفئوا سرجكم” رمزية للغاية، فهي تدعو إلى اليقظة الروحية المستمرة والعبادة المتواصلة طوال ليالي هذه الأيام الفضيلة. هذا المستوى من التفاني يضع معيارًا عاليًا للجهد الروحي، ويشجع القارئ على تجاوز مجرد أداء الفرائض والاجتهاد بصدق، مدركًا أن الأجور تتناسب مع الجهد والإخلاص، خاصة في هذه الأوقات المباركة الفريدة.  

كما كان من هدي الصحابة الكرام إظهار شعائر الله والتكبير في هذه الأيام. فقد كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما. هذه الممارسة تسلط الضوء على الجانب الجماعي للعبادة وأهمية إظهار الشعائر الدينية علنًا، مما يخلق بيئة روحية مشتركة. هذا يشير إلى أن المؤمنين لا ينبغي أن يخجلوا من التعبير عن تقواهم علنًا (ضمن الضوابط الشرعية) خلال هذه الأيام. فمثل هذه الأعمال العلنية يمكن أن تكون مصدر إلهام قوي للآخرين، وتعزز الروابط المجتمعية، وترفع الأجواء الروحية للمجتمع ككل. إنها تحول العبادة الفردية إلى ظاهرة جماعية مرئية تعزز وحدة الأمة وهدفها المشترك.    

رباطات خاصة بيوم العيد: ختام العشر بعبادة وشكر

يوم عيد الأضحى المبارك هو تتويج لهذه الرحلة الروحية العظيمة التي بدأت مع الأيام العشر الأولى من ذي الحجة. إنه ليس مجرد يوم احتفال وفرح، بل هو أيضًا يوم شكر عميق لله تعالى، واستمرار للعبادة والتقرب إليه.

إن إدراج رباطات محددة ليوم العيد يشير إلى أن الزخم الروحي والتقوى المتزايدة التي بُنيت خلال الأيام العشر الأولى من ذي الحجة يجب أن تستمر وتتوج في يوم العيد نفسه. هذا يتحدى التصور الشائع بأن العيد هو مجرد يوم للاسترخاء والاحتفالات، ويقترح بدلاً من ذلك أنه يوم للنشاط الروحي المكثف والتعبير عن الشكر. هذا يوجه القارئ إلى رؤية العيد كامتداد لا يتجزأ لرحلته الروحية وعبادته، يوم للتعبير عن الامتنان العميق لله من خلال أعمال محددة مثل صلاة الجماعة وذبح الأضحية، ولتعزيز الروابط الاجتماعية من خلال صلة الأرحام. إنه يشجع على نهج متوازن وشامل للاحتفال، حيث تظل العبادة في صميم الاحتفالات المبهجة.

تُعد “صلة الأرحام” و”ذبح الأضحية” من أبرز رباطات العيد ، وتتضمن الأضحية بطبيعتها مشاركة اللحم مع الفقراء والمحتاجين والأقارب. هذه الأعمال تحمل دلالات اجتماعية قوية، حيث تعزز التماسك المجتمعي، والرحمة، والتضامن. هذا يبرز أن عبادة العيد ليست فردية بحتة، بل لها بعد مجتمعي واجتماعي كبير. إنه تذكير قوي بأن التقرب إلى الله يتضمن أيضًا تقوية الروابط مع العائلة والمجتمع، والوفاء بالالتزامات الاجتماعية مثل الصدقة والرحمة. هذا يؤكد أن الفوائد الروحية للعيد تمتد إلى ما وراء الفرد لترتقي بالمجتمع بأكمله وتوحده.      

الخاتمة: اغتنام الفرصة الإلهية:

في الختام، تُعد الأيام العشر الأولى من ذي الحجة فرصة إلهية استثنائية لا تقدر بثمن، وموسمًا فريدًا للنمو الروحي الهائل، والمغفرة، وتحصيل الأجور المضاعفة. إنها أيام معدودة، سريعة الزوال، تحمل في طياتها من الخير والبركة ما لا يمكن حصره.

لذا، يُحث كل مسلم على اغتنام هذه الهدية الإلهية الثمينة بأقصى درجات الإخلاص والتفاني. فليلتزم المؤمن بالرباطات والأعمال الصالحة المذكورة، وليحول هذه الأيام إلى فترة من الاتصال العميق والهادف مع الله تعالى. حتى الجهود الصغيرة والمستمرة يمكن أن تثمر بركات هائلة في هذه الأيام المباركة.

نسأل الله العلي القدير أن يتقبل منا ومن جميع المسلمين صالح الأعمال في هذا الموسم المبارك، وأن يمن علينا بالتحول الروحي العميق والقرب منه الذي نطمح إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.