تأليف: د. ناصر عبد الله عودة عبد الجواد

بسم الله الرحمن الرحيم


شكر وتقدير
بداية لا بد من تقديم عظيم شكرنا وعرفاننا وتقديرنا لزملائنا وإخواننا الأسرى في سجون الاحتلال، فك الله أسرهم، الذين كان لهم الفضل الأكبر، بإلحاحهم وتشجيعهم لإنجاز هذا العمل ، ثم بحرصهم على توفير ما أمكن من أدوات وأجواء للبحث والدراسة داخل السجن، رغم قلتها.
ثم الشكر الجزيل للأساتذة الأفاضل:الأستاذ الدكتور: حسام الدين عفانة. والدكتور عودة عبد عودة. والدكتور خالد علوان. الذين كان لتوجيهاتهم وملاحظاتهم أكبر الأثر في إغناء هذا الكتاب، جزاهم الله كل خير.

تقديم
الحمد لله حمد الشاكرين الصابرين، الحمد لله على السراء والضراء في كل وقت وحين،الحمد لله على قضائه وقدره، المكتوب على الخلق أجمعين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين وقائد الغر المحجلين، سيدنا محمد النبي الأمين، ابتلاه الله فكان من الصابرين، وجاهد أعداءه فكان من المنتصرين، وأوصانا بالثبات والصبر على المصائب والبلايا حتى يأتي اليقين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجه وهديه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن عقوبة السجن تعدّ من أقسى العقوبات التي يمكن أن يعاقب بها الإنسان، لأن السجن يُفقِدُ الإنسان عنصراً أساسياً من عناصر تكوينه، وهي الحرية والاختيار. وهي عقوبة شنيعة بكل المقاييس، ينفر منها الطبع الإنساني، بل والحيواني. وعقوبة السجن (خاصة إذا كانت ظلماً) مصيبة كبيرة، وكارثة حقيقية تحل بالنفس البشرية. فالسجين من الناحية الشخصية يموت كل يوم، ويعيش طوال فترة سجنه في هم وغم ومعاناة. وفيه مصيبة أخرى كبيرة تحل بأهله وأولاده ومن يعول، فالأم تحرم من ولدها، والزوجة تحرم من زوجها، وقد تتعرض للضياع والاستغلال، والأولاد يحرمون من والدهم سنوات طويلة، دون ذنب اقترفوه، أو جريمة فعلوها. ولا يتسع المجال هنا لذكر تفاصيل المعاناة والمحن والشدائد التي يتعرض لها الأسير وأهله طوال فترة سجنه.
ولهذه الأسباب وغيرها حارب الإسلام ظاهرة السجن، بشكل عام، ولم يلجأ لهذه العقوبة إلا عند الضرورة القصوى كما سنرى. فمن يقرأ القرآن الكريم والسنة النبوية لا يكاد يجد فيهما عقوبة السجن على أية جريمة من الجرائم التي يرتكبها الإنسان في المجتمع الإسلامي. فنجد في القرآن الكريم والسنة النبوية عقوبة الجلد، والرجم، وقطع اليد، والنفي من الأرض ، وقطع الأيدي والأرجل من خلاف، ونجد عقوبات القصاص والدية، وعقوبات مالية وبدنية متنوعة، ولا نجد من بينها عقوبة السجن.
ونعتقد جازمين أن السبب في ذلك يعود إلى كون السجن بشكل عام عقوبة لاإنسانية، ولا تنسجم مع آدمية الإنسان التي كرّمها الله تعالى. فالقرآن والسنة يتعاملان مع البشر بهذه الروح وبهذا الاحترام، حتى المجرمين من الناس، فإنه يعاقبهم بعقوبات مناسبة تليق بهم كبشر أكرمهم الله وخلقهم في أحسن تقويم. ولا يلجأ إلى عقوبة السجن إلا عند الضرورة، وحين لا يكون هناك بديل عنها، كمطل المدين الغني حتى يؤدي دَيْنَه، وكالموقوف في التهم حتى تثبت إدانته أو براءته… ونحو ذلك.
وأما ما ورد في القرآن الكريم بخصوص الأسرى، فهو يتعلق بأسرى الحرب الذين يقعون في الأسر بعد معركة عادلة، كضرورة حربية لا بد منها، كقوله تعالى: “وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ” سورة التوبة5. وقوله تعالى: “فَشُدُّوا الْوَثَاقَ” محمد4. وهو كناية عن الأسر.
وأما الآية: “وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً” النساء15. والتي تأمر بحبس الزانية في البيوت حتى الموت، أو حتى تجد مخرجاً ما، فالراجح أنها منسوخة، قال ابن الجوزي: لا يختلف العلماء في نسخ هذا الحكم عن الزانية . كما أن الإمساك في البيوت يختلف عن الحبس في السجون بالمفهوم المتعارف عليه اليوم، لذلك فليس في هذه الآية دلالة على حرص القرآن الكريم على العقوبة بالسجن وتحبيذه لها.
وما ورد في السنة النبوية في ذلك (عدا أسرى الحرب)، فهو نادر جداً، ومعظمه لا يصح إسناده، ولا يشبه بحال السجن بالمفهوم المعاصر، كحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: “أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة ثم خلّى عنه” رواه أبو داود والترمذي والنسائي . وفي رواية لأبي هريرة: “أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة يوماً وليلة” رواه الحاكم . ويظهر من نص الحديث أن هذا الرجل لم يمكث في الحبس إلا مدة بسيطة. وفي رواية (ساعة من نهار) .
وحديث الهرماس بن حبيب عن أبيه عن جده قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بغريم لي، فقال لي: الْزَمْهُ؟ ثم قال: يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك” رواه أبو داود وابن ماجة . وهذا ليس سجناً بالمفهوم المعروف للسجن، وإنما هو مرافقة الغريم ومراقبته حتى لا يفر بمال الرجل.

قصة هذا الكتاب:
كنت أثناء إعدادي لرسالة الدكتوراه في سجون الاحتلال (حيث كنت أقضي عقوبة بالسجن اثنتي عشرة سنة) حول التسامح الإسلامي مع غير المسلمين، كنت أجمع في نفس الوقت المعلومات عن أحكام وشئون الأسرى والسجون في أوراق خاصة، حتى تجمعت لدي معلومات كثيرة ومهمة وموثقة حول هذا الموضوع، تصلح لأن تكون كتاباً قيماً، ولكن هذه الأوراق مع الأسف حرقت في سجن مجدو في شهر آب عام 2003م، أثناء الهجوم الذي شنته إدارة السجن على الأسرى، والذي أدى إلى احتراق قسم 5 بالكامل.
وكانت الخسارة كبيرة للأسرى جميعاً، وخسارة لي شخصياً لا يمكن تعويضها، حيث ضاع مني جهد أكثر من خمس سنوات من البحث والدراسة حول موضوع الأسرى والسجون. بالإضافة إلى حرق أرشيف السجن الكبير الذي تجمع معي طوال الاثنتي عشرة سنة من أوراق شخصية ورسائل وصور وذكريات… وفقدت الأمل في إمكانية العودة للكتابة في هذا الموضوع، الذي يحتاج إلى جهود كبيرة لاستدراك ما ضاع وما حرق بالنار الصهيونية…
وبعد عودتي إلى السجن مرة أخرى ظلماً وعدواناً، مع العشرات من الزملاء النواب والوزراء في الحكومة الفلسطينية العاشرة، على خلفية فوزنا في الانتخابات التشريعية عام 2006م، بعد أقل من سنة ونصف فقط من الإفراج عني بعد انتهاء فترة السجن الأولى، عادت فكرة البحث إلى الذاكرة من جديد، حيث وجدت وقتاً مناسباً لاستئناف الكتابة في الموضوع. مستفيداً من الخبرة السابقة في الموضوع، ومستفيداً من الخبرة الطويلة في هذه السجون، التي مكثت فيها خمسة عشر عاماً.
وبدأت بإعادة جمع المعلومات المتعلقة بالموضوع، تحت ضغط المطالب المتكررة من الزملاء الأسرى، الذين رأوا أن المكتبة تفتقر لكتاب في هذا الموضوع، وأنهم بحاجة ماسة لحل الكثير من الإشكاليات التي تعترض الأسرى في السجون خلال المراحل المتعددة التي يعيشونها، في ظروف استثنائية تختلف عن الحياة العادية التي يعيشها الناس في الحرية، مما يجعلهم بحاجة ماسة لما أسموه )فقه السجون(.
ووفقنا الله تعالى من جديد لإعادة جمع الكثير من المعلومات الضرورية لهذا الموضوع، رغم الظروف الصعبة داخل السجن، مع الاعتراف أن ما ضاع في سجن مجدو لا يمكن تعويضه بالكامل، ولكن ما لا يدرك جله لا يترك كله، فقد بذلت جهدي في هذا البحث، الذي كان إعداد المادة الأولية فيه في سجن النقب الصحراوي عام 2008-2009م. وبعد الإفراج عنا في شهر أيلول عام 2009م، بدأت الصياغة النهائية بفضل الله تعالى وكرمه، مستفيداً من وقت الفراغ الذي توفر لنا بسبب منعنا من ممارسة عملنا النيابي في المجلس التشريعي، ومستفيداً من المعلومات التي تمكنا من جمعها وتهريبها من السجن. سائلين الله تعالى العون والتوفيق.

الجهود السابقة في هذا الموضوع:
أول من بسط الكلام في السجون هو القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم تلميذ أبي حنيفة المتوفى سنة 182ه. في كتابه القيم ( الخراج)، ذكر فيه فصلاً: (في الدعارة والتلصص والجنايات، وما يجب فيه من الحدود)، تحدث عن الحبس وشروطه والسجان، وما يجب أن يتحلى به من خير وصلاح، وما يجري على السجناء من صدقة مال وكساء وأكل وغير ذلك.
وكتب الجاحظ أبو عثمان بن بحر المتوفى سنة 255ه. باباً عن الحبس في كتابه (المحاسن والأضداد). وكذا ابن قتيبة المتوفى سنة 276ه. في كتابه (عيون الأخبار). وكذلك إبراهيم بن البيهقي في كتابه (المحاسن والمساوئ). وهذه كتب ألفت في الأدب وليس في الفقه.
وابن أبي الدنيا المتوفى سنة 281ه. في كتابه (الفرج بعد الشدة)، معظمه عن السجون. ومحسن بن علي التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدة) أيضاً. ذكر فيه أحوال السجون ابتداءً من ارتكاب المخالفة والجرم، ثم تحدث عن استجواب المتهمين، وانتزاع الأدلة، ومن ثم قصص السجون وحوار أصحابها، والأحاديث التي تقال، ثم انفراج الضيق وسهولة الحزن بفضل من الله وكرمه .
وحديثاً كتب عباس محمود العقاد كتابه (عالم القيود والسدود) ذكر فيه تجربته في سجن (قرة ميدان) عام 1930م. وكذلك أحمد صافي النجفي نظم ديوان (حصاد السجن) عام 1941م.
ومن الكتب والمصنفات عن السجون والاعتقال :
-بريق الزرجون في الترويح عن المسجون. لأحمد بن محمد الحيمي.
-تأنيس المسجونين، لإدريس بن علي السناني .
-تهذيب النفس في أخبار الحبس، لابن طولون.
-جمع المقال في الاعتقال، لابن أبي حاتم المالقي (مخطوط).
-الحبس في التهمة والامتحان على طلب الإقرار وإظهار المال، لابـن الـديـري .
-حكم الحبس في الشريعة الإسلامية، لمحمد بن عبد الله الأحمد.
-الدر الثمين في جواز حبس المتهمين ،للعرضي.
-السجن والمسجون والحزن والمحزون، لعبد الملك الخشني .
-السجون وأثرها في الآداب العربية، لواضح الصمد .
-شجون المسجون، لجمال الدين الصفوي.
وحديثاً كتب الدكتور حسن أبو غدة كتابه: (أحكام السجن ومعاملة السجناء في الإسلام). ومحمد راشد العمر كتابه: (أحكام السجناء وحقوقهم في الفقه الإسلامي- دراسة مقارنة). والدكتور عبد اللطيف عامر رسالته للدكتوراه: (أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الإسلامية). والدكتور هشام عبد القادر آل عقدة رسالته للماجستير: (ضوابط الحبس وآثاره في الشريعة الإسلامية) في حوالي ألف صفحة. والباحث نائل إسماعيل رمضان رسالته للماجستير بعنوان: (أحكام الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي).
ولم يتسن لي الإطلاع على معظم هذه المصنفات، نظراً لفقدانها، أو لأن موضوعها يختلف عما نقصده في بحثنا هذا، فهي في غالبيتها العظمى تتحدث عن الأسرى الجنائيين في سجون المسلمين، وليس أسرى المسلمين في سجون الكافرين والظالمين، الذي نقصده في بحثنا هذا. والله ولي التوفيق.

وقد قسمت مواضيع هذا البحث في أربعة فصول:
الفصل الأول: تحدثت فيه عن مقدمات لا بد منها: تتعلق بتعريف الأسير والسجن، وتاريخ السجون، ومشروعية اتخاذ السجون، وعن قسوة السجون  وشدتها، وفضل الأسر في سبيل الله، وعن الابتلاء في الدعوات.
الفصل الثاني: تحدثت فيه عن حقوق الأسرى، وواجب تحريرهم، وجوب الإحسان إليهم، وإعطائهم كامل حقوقهم، وحقهم في رعاية أهلهم وأبنائهم.
الفصل الثالث: تحدثت فيه عن واجبات الأسرى وأخلاقهم: وقسمناه لعدة مباحث، تتعلق بواجبات الأسرى على المستوى الشخصي والجماعي، وعن أهدافهم ووسائل تحقيق هذه الأهداف. وعن الإضراب المفتوح عن الطعام. وعن الأخلاق الضرورية للأسير.
الفصل الرابع: تحدثت فيه عن أهم الأحكام التي تخص الأسرى في سجونهم: وفيه عدة مباحث، تناولت تأصيلات لا بد منها، وعن عبادات الأسير، وعن الأسير وأحكام الزواج. ثم عن أحكام فقهية عامة تهم الأسير. وأخيراً تحدثت عن تقرير مصير الأسرى غير المسلمين (أي إنهاء حالة الأسر)، لأهمية هذا الموضوع وعلاقته المباشرة بتحرير الأسرى المسلمين، وما يترتب عليه من أحكام.

الفصل الأول
مقدمات لا بد منها

الفصل الأول
مقدمات لا بد منها
تعريف الأَسْر لغة:
يقال: أَسره يأسره أسراً: شدَّه بالإسار، والإسار ما يُشَدُّ به. وجمعه أُسُر… والإسار: القيد، ومنه سُمي الأسير، وكانوا يشدونه بالقِدّ، فسمي كل أخيذ أسيراً وإن لم يُشَدُّ به. ويقال أَسرتُ الرجل أَسْراً وإِساراً، فهو أسير ومأسور. والجمع أَسْرى وأُسارى. والأسير الأخيذ. وكل محبوس في قَدٍّ أو سجن أسير. وقال مجاهد: الأسير المسجون. والجمع أُسَراء وأُسارى وأَسارى وأَسْرى. ويقال للأسير من العدو: أسير لأن آخذه يستوثق منه بالإسار، وهو القِدّ لئلا يفلت. وقال أبو إسحاق: … أُسارى جمع الجمع، يقال: أسير أَسْرى أُسارى… واستأسره: أخذه أسيراً. واستأسر له: استسلم لأسره .
وقال الطبري: اختلف القراء في قوله:” وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ ” البقرة 85. فقرأه بعضهم: “أَسْرى تفادوهم”. وبعضهم: “أُسارى تُفْدوهم”. وبعضهم: “أَسْرى تفادوهم”. فقراءة أَسْرى: جمع أسير إذ كان على فعيل، على مثال جمع أسماء ذوي العاهات، التي يأتي واحدها على تقدير (فعيل). إذ كان الأسر شبيه المعنى في الأذى والمكروه الداخل على الأسير ببعض معاني العاهات… فقيل أسير وأسرى، كما قيل مريض ومرضى، وكسير وكسرى، وجريح وجرحى. وأما الذين قرؤوا (أُسارى) فإنهم أخرجوه على مخرج جمع فعلان، كما قالوا: سكارى وسكرى، وكسالى وكسلى. فشبهوا أسيراً وجمعوه مرة (أُسارى) ومرة (أَسْرى) بذلك. وكان بعضهم (منهم أبو عمرو) يزعم أن معنى (الأَسْرى) مخالف معنى ( الأُسارى)، ويزعمان معنى الأَسْرى: استئسار القوم بغير أسر من المستأسرين ، وأن معنى الأُسارى مصير القوم المأسورين في أيدي الآسرين بأسرهم وأخذهم قهراً وغلبة. قال: وذلك ما لا وجه له يفهم في لغة أحد من العرب، ولكن ذلك على ما وصفت من جمع الأسير مرة على فعلى لما بينت من العلة ، ومرة على فعالى لما ذكرت من تشبيههم جمعه بجمع سكران وكسلان وما أشبه ذلك. وأولى بالصواب في ذلك قراءة (أَسْرى) لأن فُعالى في جمع فعيل غير مستفيض في كلام العرب … والمستفيض الفاشي فيهم جمع ما كان من الصفات التي بمعنى الآلام والزمانة، وواحدة على تقدير فعيل على فَعْلى ، كالذي وصفنا قبله . وقريب من ذلك قال القرطبي ..

تعريف الأسير اصطلاحاً:
قال القرطبي: الأسير الذي يؤسر فيحبس. وقال ابن عباس: الأسير من أهل الشرك يكون في أيديهم، وقاله قتادة. وقال مجاهد: الأسير هو المحبوس. وقال سعيد بن جبير وعطاء: هو المسلم يحبس بحق .
وقال محمد رواس قلعه جي: الأسر هو وقوع العدو المحارب حياً في يد عدوه أثناء القتال .
وفي موسوعة السياسة: أسرى الحرب: هم الذين يقبض عليهم من قبل العدو في حالة الحرب، ويكونون عادة من أفراد القوات المسلحة النظامية، أو الأفراد الذين يرافقون القوات المسلحة في مهمات معينة، كملاحي الطائرات والبواخر والمراسلين الحربيين، أو أفراد المليشيا وأفراد الوحدات المتطوعة. أو سكان الأراضي غير المحتلة الذين يحملون السلاح باختيارهم لمقاومة العدو عند مداهمته لأرضهم، شرط أن يحملوا السلاح بشكل علني، وأن يحترموا قوانين الحرب وتقاليدها. أو الأشخاص الذين كانوا تابعين للقوات المسلحة في الأراضي المحتلة قبل احتلالها، وذلك إذا رأت دولة الاحتلال ضرورة لاعتقالهم .
والسِّجْن: الحبس، والسَّجْن بالفتح المصدر، سجنه يسجنه سَجْناً: أي حبسه. والسّجّان صاحب السجن، ورجل سجين: مسجون، وكذلك الأنثى بغير هاء، وقيل (سجينة) بالهاء. والجمع سجناء وسَجْنى . ومن نظائر السجن في القرآن: الحصر، قال تعالى: “وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً” الإسراء8. أي سجنا وحبسا.
والسبي: يطلق على الأسر والأسرى. يقال: سبى العدو سبياً إذا أسره، وكذلك الأنثى بغير هاء . لكن غلب إطلاق مصطلح (السبي) على النساء والأطفال والزمنى (المقعدين) ورجال الدين غير المحاربين ونحوهم، إذا ظُفِر بهم أحياء .

قال ابن تيمية: اعلم أن الحبس الشرعي ليس هو الحبس في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه حين يشاء، سواء في بيت أو مسجد، أو كان بتوكيل نفس الخصم أو وكيله عليه أو ملازمته له، ولهذا سماه الرسول صلى الله عليه وسلم أسيراً كما في سنن أبي داود وابن ماجة… “أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بغريم لي فقال لي: الْزَمْهُ…. وهذا هو الحبس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، (أي مراقبة المتهم في تحركاته، حتى لا يفر). ولم يكن لهما حبس معد لسجن الناس، ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر ابتاع داراً بمكة وجعلها سجناً يسجن فيها . وجاء أنه اشترى داراً من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم وجعلها سجناً. وفي هذا دليل على جواز اتخاذ السجن .

تاريخ الأسر والسجون:
كان الأسرى في الحروب القديمة قبل مجيء الإسلام (خاصة عند الفرس والإغريق) يُقتلون أو يقدمون قرابين للآلهة، ثم رُئِي بعد ذلك الانتفاع بهم، فحل الاسترقاق محل القتل، فيتصرف بهم الآسر كما يشاء، سواء بالقتل أو البيع، أو بأي شكل شاء. وقد كثر الرقيق في عهد الرومان، حتى ذكر بعض مؤرخيهم: أن الأرقاء في الممالك الرومانية يبلغون ثلاثة أمثال الأحرار. وعند عرب الجاهلية كان الأسير بمثابة الرقيق، وكان زعيم القبيلة يختار من الأسرى من يشاء ليكونوا عبيداً له، ويباع الباقون في سوق النخاسة، أو يقتلوا أحياناً. إلى أن جاء الإسلام وشرع عتق الرقاب، وحث على معاملة الأسير بالحسنى، أو العفو عنه .
أما عند اليهود فقد تعاملوا مع أسراهم بطريقة وحشية حسب ما تنص عليه توراتهم ففيها: “… وحين تقترب من مدينة لكي تحاربها، استدعها للصلح، فإن أجابتك إلى الصلح، وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير، ويُستعبد لك، وإن لم تسالمك، بل عملت معك حرباً، فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، فتغتنمها لنفسك… وأما مدن هؤلاء الشعوب، التي يعطيك الرب إلهك نصيباً، فلا تستبق منها نسمة ما، بل تحرمها تحريم الحثيين والأموريين والكنعانيين…..”
وفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم رأينا أنه لم يكن له سجن خاص، وكذلك في زمن أبي بكر رضي الله عنه. ومن المعلوم أن أسرى بدر تم توزيعهم على الصحابة الكرام في بيوتهم كما سنرى. وقد مر معنا حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة ثم خلى عنه. ورأينا أن هذا الرجل لم يسجن إلا يوما وليلة، أو ساعة من نهار. ولذلك اختلفت الآثار هل سجن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أحداً أم لا . والراجح أنه لم يكن له صلى الله عليه وسلم ولا لأبي بكر سجن.
وفي زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثبت أن نافع بن عبد الله (عامل عمر على مكة)، اشترى من صفوان بن أمية داراً للسجن . وورد أن عمر سجن (الحطيئة) على الهجو. وسجن (صبيغاً) على سؤاله عن الذاريات والمرسلات والنازعات وشبههن، وضربه مرة بعد مرة ونفاه إلى العراق . وحبس معن بن زائدة، وضربه مائة سوط لتزويره خاتم بيت المال، وقبض الأموال به منه .
قال ابن حجر: “حديث شراء نافع داراً للسجن رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي، وهو الذي يقال له (سجن عارم). وهذا السجن هو الذي استخدمه عبد الله بن الزبير بمكة، كما روى الفاكهي وخليفة بن خياط عن الحسن بن محمد بن الحنفية قال: أخذني ابن الزبير فحبسني في دار الندوة في سجن عارم، فانفلت منه، فلم أزل أتخطى الجبال حتى سقطت على أبي في منى. وفي ذلك يقول كثيِّر عزة:
تخبر من لاقيت أنك عابد بل العابد المظلوم في سجن عارم
قال الفاكهي: وكان السجن في دبر دار الندوة” .
وقيل: أول من بنى السجون في الإسلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
وسَجَنَ عثمان صابئ بن الحرث، وكان من لصوص بني تميم وفتّاكهم حتى مات في السجن. وسَجَن عليٌّ رضي الله عنه في الكوفة. وسَجَن عبدُ الله بن الزبير .
وكان بإمكان القاضي في زمن عمر وعثمان وعلي حبس المتهم للتأنيب واستيفاء الحقوق. وكانت الدولة تهيئ السجون في مراكز المدن . وفي سنة 26ه، كان هناك رجل نصراني تولى إدارة السجن قرب الكوفة، عندما كان الوليد بن المغيرة عاملاً عليها .
وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر، سن بعض القادة والسياسيين قوانين، أمثال القانوني الهولندي (هوغو غروشيوس) الذي يرى في كتابه (قانون الحرب والسلم) أن باستطاعة الآسر أثناء الحرب استعباد الأسير، لكن دون أن يقتله. كما له أن يحرره، ولكن بعد دفع الفدية. وفي عام 1648م أقرت معاهدة (وستفاليا) تحرير الأسير دون فدية. وكانت هذه المعاهدة بداية التشريع القانوني الملزم، الذي وضع نهاية لاستعباد أسرى الحرب. وأتت كتابات (مونتسكيو) و(روسو) ، ثم المعاهدات التي وقعت بين الولايات المتحدة وبروسيا عام 1785م، وبريطانيا 1831م، والمكسيك 1848م، لتدفع أكثر باتجاه حسن معاملة الأسرى .
اتفاقيات جنيف:
بعد الحرب العالمية الثانية جاءت ما يسمى ب(اتفاقية جنيف الرابعة): حيث انكبت اللجنة الدولية للصليب الأحمر على تحسين الدفاع عن الأسرى في النزاعات، وعلى مراجعة ثلاث اتفاقيات دولية سابقة هي: (اتفاقيتين وقعتا في جنيف عام 1929م: الأولى: معاملة أسرى الحرب، والثانية عن المقاتلين الجرحى والمرضى. أما الثالثة: فكانت اتفاقية لاهاي الخامسة لعام 1907م).
وانصرفت اللجنة الدولية في حينه إلى وضع اتفاقية لحماية المدنيين في زمن الحرب. حيث التقت 63 دولة عام 1949م في جنيف، وتبنت أربع اتفاقيات: الأولى: حول تحسين مصير الجرحى والمرضى في القوات المسلحة. والثانية: حول القوات البحرية. والثالثة: حول معاملة أسرى الحرب. والرابعة: حول حماية المدنيين.
هذه الاتفاقية الرابعة التي صادقت عليها دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1951م تمنع التعدي على حياة المدنيين أو إيذاءهم، وكذلك التعدي كرامتهم، كما تمنع أخذ الرهائن، والإبعاد، والإعدام، من دون محاكمة.
ومن أبرز المناطق الخاضعة حالياً لمبادئ اتفاقية جنيف الرابعة هي الضفة الغربية التي احتلها الكيان الصهيوني عام 1967م .
من بنود اتفاقيات جنيف:
نصت اتفاقات لاهاي وجنيف (الخاصة بمعاملة الأسرى): أن الآسر عليه أن يعامل الأسرى كما يعامل جنده، وأن لا يقوم الأسرى بأعمال إلا وفق إرادتهم ومقابل أجر.
ونصت أيضاً: أن أسرى الحرب يُعْتَبَرون تابعين لسلطة دولة العدو، وليس لسلطة الأفراد أو الوحدات العسكرية التي أسرتهم. وعلى هذه الدولة أن تعاملهم دون تمييز للون أو العنصر أو العقيدة الدينية أو السياسية، وعلى أن لا تنزل بهم تعذيباً بدنياً أو معنوياً، وأن لا تجردهم من شارات رتبهم وأوسمتهم ونقودهم، وأن تتوافر في معسكراتهم الشروط الصحية اللازمة، وأن يقدم لهم الغذاء واللباس اللازمان، وأن يكون لكل معسكر مستوصف. كما يحق لأسرى الحرب ممارسة نشاطهم الفكري والثقافي والرياضي، ويسمح لهم بإرسال الرسائل والبطاقات واستلامها. ولكن تحت الرقابة.
ويحاكم أسرى الحرب أمام المحاكم العسكرية فقط، إلا إذا كانت قوات الدولة الآسرة قد سمحت للمحاكم المدنية بمحاكمة أحد أفراد القوات المسلحة لذنب اقترفه تجاه أحد الأسرى. أما أسرى الحرب الذين يحاولون الهرب فيكونون عرضة لعقوبات تأديبية، ويسلمون إلى السلطة العسكرية المختصة. ولا يجوز إصدار حكم على أسير دون إعطائه فرصة الدفاع عن نفسه ، والاستعانة بمحام أو مستشار قانوني. ويفرج عن أسرى الحرب ويعادون إلى أوطانهم لدى وقف الأعمال العدائية…
هذه بعض بنود اتفاقات جنيف ولاهاي، إلا أن أياً من الدول الفاشية والعنصرية لم تطبق القانون الخاص بالأسرى، بل اعتمدت في تعاملها معهم الحرب النفسية، وغسيل الدماغ، والتعذيب الجسدي. ودولة الاحتلال الإسرائيلي في تعاملها مع الأسرى الفلسطينيين والعرب، أوضح مثال على ذلك. وقد ظهر التعذيب في سجون الاحتلال الإسرائيلي في التحقيقات التي أجرتها اللجان الدولية منذ عام 1948م .

الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني:
وفي العصر الحديث تعدّ تجربة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، تجربة متميزة وفريدة من نوعها، لا نجد لها مثيلاً في التاريخ، حتى أصبحت مثالاً ونموذجاً يحتذى لدى أحرار العالم. هذه التجربة التي بناها هؤلاء الأسرى بتضحياتهم ودمائهم وحريتهم ومعاناتهم، خاصة الإضرابات المفتوحة عن الطعام، والتي سقط فيها العديد من الشهداء والجرحى، هي التي أجبرت سلطات الاحتلال على تقديم بعض الامتيازات للأسرى الفلسطينيين، حتى يتمكنوا من العيش في سجون الاحتلال بشيء من الكرامة.
فقد انتزعوا هذه الامتيازات انتزاعاً بالتضحيات، وليس بسبب التزام الاحتلال بالاتفاقيات الدولية، فقد ضربت سلطات الاحتلال بهذه الاتفاقيات عرض الحائط، وتعاملت مع الأسرى الفلسطينيين على أنهم مجرد مخربين وإرهابيين خارجين عن القانون، وليسوا أسرى حرب يدافعون عن حقوقهم وأرضهم ووطنهم ضد احتلال بغيض.
لقد دخل سجون الاحتلال منذ عام 1967م أكثر من (800) ألف أسير. حسب الإحصائيات التي أعدتها جميع مؤسسات حقوق الإنسان في الأرض المحتلة، واستطاع هؤلاء خلال سنوات الأسر الطويلة أن يفرضوا على سلطات الاحتلال تنظيم حياتهم الاعتقالية بأنفسهم بطريقة فريدة ورائعة، شهد لها العدو قبل الصديق، وأفرزوا قيادات منتخبة خاصة بكل فصيل من الفصائل، وتعاونت هذه القيادات مع نظرائها في نفس السجن ومع باقي القيادات في السجون الأخرى، وأداروا شؤونهم الثقافية والنضالية والأمنية والمالية والرياضية والخارجية…. بكل كفاءة واقتدار، ووفرت للأسرى الهدوء والاستقرار اللازم للارتقاء في الجوانب الإدارية والثقافية والسياسية والدينية.
وخَرَّجَت هذه السجون نتيجة لذلك المئات من القيادات والكفاءات المؤهلة في هذه الجوانب، والعديد من الشهادات العلمية والأكاديمية، ابتداءً من البكالوريوس مروراً بالماجستير وانتهاءً بالدكتوراه. وخرَّجت الآلاف من شهادات التجويد والتحفيظ والأسانيد للقرآن الكريم….
ولا نريد هنا الدخول في تفاصيل أوضاع الأسرى في سجون الاحتلال، فهذا يحتاج إلى دراسة خاصة، يمكن أن تستوعب مجلداً كاملاً. وليس هذا البحث مخصصاً لذلك. وقد كُتِب في هذا الموضوع العديد من الكتب والدراسات والرسائل الجامعية، مما يغني عن الدخول في تفاصيله. ولكن سيجد القارئ العديد من الإشارات إلى واقع هذه السجون في ثنايا فصول ومباحث هذا البحث بإذن الله تعالى.

مشروعية السجون:
السجن للمجرمين والعصاة ضرورة لا يستغنى عنها في كثير من الأحيان، لذلك اضطر إليها الخلفاء الراشدون كما رأينا، ولا زالت السجون قائمة على مدار التاريخ، قبل الإسلام وبعده، ولا زالت حتى الآن. لكن مع التذكير بما قلناه مراراً، من أن الأصل في الإنسان هو الحرية، وليس السجن، ولا يلجأ لهذه العقوبة إلا عند الضرورة، ولأقصر مدة ممكنة، كما يظهر ذلك في مقاصد الشريعة الإسلامية كما رأينا. والإسلام رغم حرصه على حرية الإنسان إلا أنه لم يلغ السجون من قاموسه، خاصة بعد اتساع الدولة الإسلامية، وكثرة الجرائم الجنائية فيها.
يقول القرطبي في الآية: “وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ…” النساء15. قال: هذا الإمساك والحبس في البيوت كان في صدر الإسلام قبل أن يكثر الجناة، فلما كثروا وخشي قوتهم اتخذ لهم السجن. قاله ابن العربي .
وقال القرطبي أيضاً: “عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً” الكهف94. في هذه الآية دليل على اتخاذ السجون، وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدونه، ولا يتركون وما هم عليه .
وقال أيضاً: “تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ” المائدة 106. هذه الآية أصل في حبس من وجب عليه الحق… وإذا كان الحق بدنياً لا يقبل البدل كالحدود والقصاص ولم يتفق استيفاؤه معجلاً، لم يكن فيه إلا التوثق بسجنه، ولأجل هذه الحكمة شرع السجن. كما في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة ثم خلى عنه”. رواه أبو داود والترمذي والنسائي . قال الترمذي: حديث حسن.
وجاء في الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لَيُّ الواجد ظلم يُحِلُّ عِرْضَه وعقوبته” رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي والحاكم وصححه . وإسناده حسن. قال العلماء: اللَّي: هو المطل، والواجد: هو الغني، ويحل عرضه: أي وصفه بالظلم، وعقوبته: حبسه . وقد استدل به العلماء على جواز حبس من عليه دَيْن حتى يقضيه إذا كان قادراً على القضاء، تأديباً له وتشديداً عليه… أما المعسر فلا يحل عرضه ولا عقوبته. والى جواز الحبس للواجد ذهبت الحنفية، وقال الجمهور: يبيع عليه الحاكم . أي أنه يشترط عند أبي حنيفة ظهور المماطلة مع القدرة على الأداء حتى يحل سجن الدائن المماطل.
وكذلك قوله تعالى: “إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ” المائدة33. قال الحنفية: معنى أن (ينفوا من الأرض) أي أن يسجنوا، لأن نفيهم حقيقة من الأرض لا يُعْقَل، فإن أي مكان يرسلون إليه هو من الأرض، وقريب من ذلك قال الشافعي. لكن قال الجمهور: أن النفي من الأرض هو تشريدهم عن الأمصار والبلدان، فلا يتركون يأوون بلداً. وقال مالك وابن سريج: يحبس في البلد الذي ينفى إليه .
ويقول حماد بن أبي سليمان: إن الحبس أفضل لأن التغريب لا يؤدي إلى المقصود منه من الإصلاح. فرأى أن قاطع الطريق الذي أخاف السبيل، ولم يَقْتُلْ، ولم يأخذ مال أحد، يوجعُ عقوبةً ويحبس بدلاً من أن يُنْفى ، حتى يُحْدِث خيراً . وكذلك ابن تيمية رحمه الله يرى أن الحبس يقوم مقام التغريب، لكنه أوصى أن لا يُقيَّد في الحبس، ولا يوضع في مكان مظلم .
قال الشوكاني: وندب اتخاذ سجن للتأديب واستيفاء الحقوق، لفعل عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهما، ولم ينكر. وكذلك الدرة والسوط لفعل عمر وعثمان .
وقد بين العلماء أن عقوبات التعزير يمكن أن تكون بالضرب، أو بالتوبيخ، أو بالحبس، ونحوها بحسب ما يراه ولي الأمر رادعاً للشخص. يقول إمام الحرمين الجويني: “لست أرى للسلطان اتساعاً في التعزير إلا في إطالة الحبس. وقد منع بعض الفقهاء تبليغ مدة الحبس في التعزير سنة، نظراً إلى مدة التغريب في حد الزنا، وهذا فاسد عندي، وليس للتغريب حد كامل فينقص عليه، وإنما هو جزء من حد، فليتفطن لذلك الناظر” .
وقد بين الفقهاء أن السجن له فائدتان مهمتان: الأولى: ردع أهل الفساد والدُّعّار حتى ينتهوا ويكفوا أذاهم عن الناس. والثانية: حماية المجرم نفسه من إضرار الحاكم به إذا عاقبه عند غضبه، فإن الحاكم ممنوع شرعاً من معاقبة المجرم وقت غضبه، لئلا يجاوز في عقوبته الحد الكافي لزجره، بل يرفعه إلى الحبس ريثما يسكن غضبه فيعاقبه بما يستحقه .
لكن ينبغي التذكير هنا أن المقصود من ذلك كله هو عقوبة السجن للجرائم الجنائية التي تجري في المجتمع، كضرورة لا بد منها لمواجهة هذه الجرائم، ذكرناه للفائدة. وليس المقصود السجن لأسرى الحرب، الذين يقعون في أيدي أعدائهم، كما هو الشأن في الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال مثلاً، فهؤلاء هم الذين نقصدهم في بحثنا هذا.

مدة السجن:
اختلف العلماء في مقدار الحبس في التهمة، هل هو مقدَّر؟ أو مرجعه إلى اجتهاد الإمام؟ على قولين ذكرهما القاضي أبو يعلى، والقاضي الماوردي، وغيرهما. فقيل: هو مقدر بشهر، وهو قول أبي عبد الله الزبيري. وقيل: هو غير مقدر، وهو اختيار الماوردي .
وذهب الإمام مالك إلى أن السجن لمدة سنة واحدة أشد العقوبات، وجعلها عقوبة لمن يمسك الرجل للرجل فيقتله، فعلى القاتل القصاص، وعلى الممسِك سجن سنة، وهي أشد العقوبة . وقال الشافعية والحنفية والعترة: إن مدة السجن تعود إلى الإمام في طولها أو قصرها، لأن الغرض تأديبه وليس المقصود استمراره إلى الموت .

قسوة السجون وشدتها:
من عايش السجون وخبرها، واكتوى بنارها يعلم كم هي قاسية، وكم هي شديدة الوطأة على النفس، تنفر منها النفوس، وتعافها الطبيعة البشرية. والإسلام تفطَّن مبكراً لهذه القسوة وهذه الشدة للسجون، ومما يدل على ذلك ما ورد في القرآن الكريم من تقديم عقوبة السجن على القتل، عند حديثه عن تآمر مشركي قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة، كما في قوله تعالى: ” وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ …” الأنفال30. فجعل التثبيت (وهو السجن) مقدماً على القتل، وفي ذلك إشارة واضحة إلى قسوة السجن وعظم عقوبته.
والله تعالى وصف نار جهنم بالسجن فقال تعالى: “وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً” الإسراء8. حصيرا: أي سجناً ومحبساً للكافرين. وقوله تعالى: “إنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ. فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَة” الهمزة 8-9.أي مغلقة ومطبقة عليهم، وهم مقيدون في السلاسل والأغلال. وقوله تعالى: “إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً ” الإنسان4. وقوله تعالى: “إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ” غافر71…. ونحوها، وهذا وصف دقيق للسجون وما يحدث فيها، مع الاختلاف في طبيعة الأشياء بين الدنيا والآخرة.
وحين أدخل يوسف عليه السلام السجن قال لصاحبه: “اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ”. يوسف 42. طلباً للخلاص من آلام السجن ومعاناته. وبعد خروجه من السجن قال حامداً لله: “وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ” يوسف 100. فعَدَّ الانطلاق من السجن إحساناً.
ويروي الطبري حديث أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قالها، لما لبث في السجن ما لبث” قال الطبري: أي قوله لصاحبه: “اذكرني عند ربك” .
وقد أوعد فرعون موسى عليه السلام بقوله: “لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ” الشعراء29.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “… ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي” رواه البخاري . قال ابن حجر: “أي لأسرعت الإجابة في الخروج من السجن، ولما قدمت طلب البراءة، فوصفه بشدة الصبر حيث لم يبادر بالخروج”. وهذا يعني قسوة السجون والحرص على الخلاص منها.
وفي رواية عبد الرزاق عن عكرمة مرفوعاً: “لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره، حتى سئل عن البقرات السمان والعجاف، ولو كنت مكانه ما أجبت الداعي حتى أشترط أن يُخرجوني. ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول – يعني ليخرج إلى الملك – فقال ارجع إلى ربك، ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة ولبادرت الباب، وما ابتغيت العُذْر” .
وقد تأول بعض العلماء قوله تعالى: ” قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” يوسف25 . أن السجن من العقوبات البليغة، لأنه سبحانه وتعالى قرنه مع العذاب الأليم. وقال الخليفة مروان بن الحكم: أول من اتخذ السجن كان حليماً . وذلك لأنه عقوبة رادعة، كما يبدو.
ومن الأدلة العجيبة التي تساوي بين القتل والسجن قوله تعالى: ” أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ…” آل عمران 165. والغريب أن هذه الآية شبهت الأسر بالقتل لأن الذي أصابه المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً. وما أصاب المسلمين في أحد هو سبعين شهيداً، فكيف أصاب المسلمون من المشركين مثليها، إلا إذا كان المقصود هو الأسرى السبعين من المشركين في بدر. وهي إشارة لطيفة لتشبيه السجن بالقتل.
قال الطبري: المصيبة التي أصابت المسلمين هي القتلى الذين قتلوا منهم يوم أحد، والجرحى الذين جرحوا منهم يوم أحد، وكان المشركون قتلوا منهم يومئذ سبعين نفراً. وقوله تعالى: “قد أصبتم مثليها”. أي قد أصبتم أنتم أيها المؤمنون من المشركين مثلي هذه المصيبة التي أصابوا هم منكم، وهي المصيبة التي أصابها المسلمون من المشركين في بدر، وذلك أنهم قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين… وعلى هذا إجماع أهل التأويل . وقال عكرمة: قتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين، وقتل المشركون يوم أحد سبعين، فذلك قوله: ” قد أصبتم مثليها” . وهذا يعني أن مصيبة السبعين أسيراً تساوي مصيبة السبعين قتيلاً.
ولأجل ذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “ليس الرجل بأمين على نفسه إذا سُجن أو أوثق أو عُذب”. وفي رواية: “أربع كلهن كره ( أي إكراه): السجن والضرب والوعيد والقيد”. رواه عبد بن حميد، وإسناده صحيح .
وبالإجمال فإننا لم نجد عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديثاً صحيحاً يثبت أنه أقر السجن على أحد من الناس لمدة طويلة (سنوات أو حتى شهورا).
وقد اعتبر الشافعي الإكراه على السجن كالإكراه على القتل، وساوى بين القتل والسجن في أحكام الإكراه، لأن في السجن ضرراً كالقتل . وسبق قول الإمام مالك أن السجن لمدة سنة واحدة أشد العقوبات، وجعلها عقوبة لمن يمسك الرجل للرجل فيقتله، فعلى القاتل القصاص، وعلى الممسك سجن سنة، وهي أشد العقوبة . (فكيف حال من يقضي في السجن سنوات طويلة تزيد أحياناً عن العشرين أو الثلاثين سنة، كما هو الحال في سجون الاحتلال في فلسطين).
وعد ابن عابدين السجن كالهلاك عند حديثه في حاشيته عن عدم وجوب الزكاة على المدين فقال: “فإن المدين يحتاج في قضاء دينه بما في يده من المال ليدفع عن نفسه الحبس الذي هو كالهلاك” .
ويصف الشاعر صالح بن عبد القدوس حاله بعد مكثه في السجن مدة:
إلى الله فيما نابنا نرفع الشكـــــــــــــــــــــوى ففي يده كشف المصيبة والبلــــــــــــوى
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلهـــــــــــــــــــا فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا دخل السجان يوماً لحـاجـــــــــــــــــــــــــــــــة فرحنا وقلنا: جاء هذا من الدنـيـــــــــــا
ونفرح بالرؤيا فجــــــــــل حديثنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
فإن حسنت لم تأت عجلى وأبطأت وإن قبحت لم تحتبس وأتت عجلى
طوى دوننا الأخبار سجن ممنـــــــــــــــــــــــع له حارس تهذا العيون ولا يهـــــــــــــــــــذا
قُبِرْنــــا ولم ندفــــــــن فنــــــحن بمعـــــــــــــــــــــــــــزل من الناس لا نُخشى فنُغشى ولا نَخشى
ألا أحـــــــــد يأوي لأهـــــــــــــل محلــــــــــــــــــــــــة مقيمين في الدنيا وقد فارقوا الدنيـــــــــــــا

وحين حبس عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشاعر الحطيئة بسبب هجائه، قال الحطيئة:
ماذا تقول لأفراخ بذي مَـــــــــــــرَخٍ حُمْرُ الحواصل لا ماء ولا شجــــــر
ألقيت كاسبهم في قَعْرِ مظلمة فارحم عليك سلام الله يا عمر
ويقول البحتري الحلبي:
ما حل بالسجن امــــــــــــرؤٌ إلا وكانت بالأذى ألف عام
ولا غدا ألفاً أخو غبطة إلا وكانت غبطة كالمنـــــــــــــــــــام

ومن الأقوال في بيان قسوة السجون ومحنتها قول الشيخ عمر بن الشحنة الموصلي (وقد حبس إلى أن مات): 
الحبس أصبح مثل النار مضرمةً     والحر فيه إذا فكرت كالذهب
يصلى بنار هموم في جوانبـــــــــــــــــــــه       تنفي المآثم من جد ومن لعب 
  وقال آخر: "السجن قبر الأحياء، ومنزل أهل البلوى، وشماتة الأعداء، وتجربة الصديق" 
  وقال آخر: "إن السجن محك العقول، وتجربة المأمول، به يمتحن الصبر من الأحرار، ويكشف مكنون العقل والوقار" .
 وقال الشاعر أبو فراس الحمداني في أَسْرِهِ، وقد سمع حمامة تهتف على شجرة:
أقولُ وقد ناحَتْ بقربي حمامـــــــــــــــةٌ        أَيا جارتي هلْ باتَ حالُكِ حالي
معاذَ الهوى ما ذُقْتِ طارِقَةَ النَّوى      ولا خَطَرَتْ منك الهمومَ ببـــــــــــــالِ
أيحمل محزونَ الفؤاد قــــــــــــــــــــــــــــــوادمٌ        إلى غُصُنٍ نائي المسافة عـــــــــــــــــالي
أيا جارتي ما أنْصَفَ الدهرُ بيننا       تعالي أُقاسِمْكِ الهمومَ تعــــــــــــــــــــالي
تعالي تَرَيْ روحاً لديّ ضعيفـــــــــــةً       تردَّدُ في جسمٍ يعذَّبُ بــــــــــــــــــــــــــالِ
أيضحكُ مأسورٌ وتبكي طليقــــةٌ      ويسكتُ محزونٌ ويندبُ ســـــــــــالِ
لقد كنتُ أَوْلَى منكِ بالدمع مقلةً      ولكن دمعي في الحوادث غالي 

فضل السجن والأسر في سبيل الله:
وبسبب هذه القسوة والشدة لهذه السجون، فإن على المسلم المجاهد إذا وقع في أسر الأعداء، أن يعلم أن صبره على آلام السجن وثباته، يعني أن له الأجر العظيم، والثواب الجزيل. وأن له المنزلة الرفيعة والمكانة العالية في الدنيا والآخرة. وأن له أجر المجاهدين في سبيل الله طوال فترة سجنه، لأن الأجر على قدر المشقة، وأن الغنم بالغرم.
ولأنه وقع في محنة السجن رغماً عنه، وقد كان قبل أسره مجاهداً يسعى لنصرة دينه وإعزاز أمته. فهو يستحق كل الثناء والفضل، فهو من الذين ضحوا بأموالهم وأنفسهم وزهرة شبابهم وحريتهم في سبيل الله، وبالتالي تصدق عليه كل الآيات والأحاديث التي تبين فضل المجاهدين والمرابطين. بشرط أن يصبر على محنة السجون ومعاناتها وآلامها، ويحتسبها عند الله تعالى.
يقول الله تعالى: “فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ” آل عمران195. والأسرى من أَوْلى الناس بوصف: الذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم، وأوذوا في سبيل الله.
وقد ذكر البخاري في صحيحه ترجمةً بعنوان: (باب الأسارى في السلاسل)، ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل” . قال ابن حجر: قيل: يحتمل أن يكون المراد المسلمين المأسورين عند أهل الكفر، يموتون على ذلك أو يقتلون، فيحشرون كذلك. وقال آخرون: معناه: أن أسرى الكفار أسروا وقيدوا، فلما عرفوا صحة الإسلام دخلوه طوعاً، فدخلوا الجنة. واستشهدوا على ذلك بحديث أبي هريرة: “خير الناس يأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام” .
وقد ورد في فضل الجهاد في سبيل الله وفضل المجاهدين، والصبر على البلاء الذي يصيب المسلم في هذه الدنيا (خاصة السجن) العديد من الآيات والأحاديث الصحيحة، منها:
قوله تعالى: “لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً” النساء95.
وقوله تعالى: “أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ….” التوبة 19-20.
ورد في سبب نزول هذه الآية حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: “كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله عز وجل: “أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ…” إلى آخر الآية .
والرسول صلى الله عليه وسلم فضل الجهاد على الحج كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: “سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل ثم ماذا؟ قال: ثم جهاد في سبيل الله. قيل ثم ماذا؟ قال: ثم حج مبرور” رواه البخاري .
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق” رواه مسلم .
وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يا أبا سعيد من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ نبياً، وجبت له الجنة ، فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها عليَّ يا رسول الله؟ ففعل، ثم قال: وأخرى يُرْفعُ بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. قال وما هي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله” رواه مسلم .
وحديث ابن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف” رواه البخاري ومسلم .
وحديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما أحد من المسلمين يصاب ببلاء في جسده إلا أمر الله الحفظة الذين يحفظونه، فيقول: اكتبوا لعبدي كل يوم وليلة مثل ما كان يعمل من الخير ما دام محبوساً في وثاقي” رواه الإمام أحمد وإسناده صحيح .
يقول الإمام الشوكاني: والأحاديث في فضل الجهاد كثيرة جداً لا يتسع لبسطها إلا مؤلف مستقل . ولذلك أجمع العلماء على أن المقام في ثغور المسلمين أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة (المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى).
ويقول ابن قيم الجوزية: لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقبته، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة،كما لهم الرفعة في الدنيا، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة…. وأكملُ الخلق عند الله من كَمَّلَ مراتب الجهاد كُلَّها، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله تفاوتهم في مراتب الجهاد، ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله خاتم أنبيائه ورسله، فإنه كمل مراتب الجهاد، وجاهد في الله حق جهاده…. .
والأسرى الذين جاهدوا في سبيل الله ثم ابتلاهم الله تعالى بمحنة السجن، تصدق عليهم جميع هذه الأدلة، وقد اكتملت عندهم مراتب الجهاد. بل هم في المقدمة من ذلك، لأن جهادهم وتضحياتهم ومعاناتهم ليست كالذي يذهب للجهاد مدة لا تطول غالباً، ثم يرجع إلى أهله معززاً مكرماً. فهم (الأسرى) أولاً: جاهدوا في سبيل الله وضحوا، ثم هاجروا، وأخرجوا من ديارهم، وأوذوا في سبيل الله، وصبروا على أعظم الابتلاءات والمحن، وفارقوا الأهل والأولاد والأحبة…

الرباط في سبيل الله:
ويصدق على الأسير كذلك صفة المرابط في سبيل الله تعالى. وورد في فضل الرباط أحاديث كثيرة، منها حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جَرَى عليه عَمَلُه الذي كان يعمله، وأُجْرِيَ عليه رزقُه ، وأَمِنَ الفُتّان” رواه مسلم . والفتان: أي الشيطان أو منكر ونكير . قال النووي: هذه فضيلة ظاهرة للمرابط، وجريان عمله عليه بعد موته، فضيلة مختصة به لا يشاركه فيها أحد. وقد جاء صريحاً في رواية غير مسلم: “كل ميت يختم على عمله إلا المرابط، فإنه ينمَّى له عمله إلى يوم القيامة”.
وحديث سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها” رواه البخاري ومسلم . قال ابن دقيق العيد: هذا من باب تنزيل الغائب منزلة المحسوس، تحقيقاً له في النفس، لكون الدنيا محسوسة في النفس مستعظمة في الطبع، ولذلك وقعت المفاضلة بها، وإلا فمن المعلوم أن جميع ما في الدنيا لا يساوي ذرة مما في الجنة .
وحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل” رواه الترمذي والنسائي وأحمد . قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: “لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود” .
وفضائل الرباط في سبيل الله كثيرة. ولا شك أن الأسير المحتسب يُعَدّ مرابطاً في سبيل الله، من عدة نواحي، منها: أنه على نية الجهاد طوال فترة سجنه، وهو في كل وقته متحفز للمواجهة مع الأعداء الآسرين، ولا يأمن على نفسه من غدر الأعداء ومكرهم، فهو كالمرابط الذي ينتظر المواجهة مع الكفار في كل وقت، فهو على ثغرة من ثغور الإسلام. بل إن وضع الأسير أصعب كثيراً من المرابط على الحدود، الذي يتمتع بحريته، وذهابه وإيابه، ورجوعه إلى أهله متى شاء، ويتمتع بطعامه وشرابه، خلافاً للأسير الذي يفقد كل ذلك…
سنة الابتلاء في الدعوات:
من المعلوم أن الابتلاء للمؤمن من سنن الله في هذه الحياة الدنيا، والمسلم إذا وقع أسيراً بيد الأعداء فينبغي له أن يعتبر ذلك بلاءً من الله تعالى، أراده الله تعالى له وقدَّره عليه لحِكَم كثيرة، وفوائد عظيمة تعود لهذا الأسير في دينه ودنياه وآخرته. وتعود لأمته كذلك، فقد جرت سنة الله تعالى أن لا يمكِّن لأمَّة إلا بعد أن تمر بمراحل الاختبار المختلفة…، وهي سنة جارية على الأمة الإسلامية لا تتخلف، فقد شاءت إرادة الله تعالى أن يبتلي المؤمنين ويختبرهم، ليمحص إيمانهم ثم يكون لهم التمكين في الأرض بعد ذلك .
سأل رجل الشافعي فقال: يا أبا عبد الله أيهما أفضل للرجل أن يُمَكَّن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكَّن حتى يبتلى، فإن الله ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكَّنَهم، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة .
فليعلم هذا الأسير أن سجنه كان بسبب جهاده في سبيل الله، الذي هو ذروة سنام الإسلام، وأن وجوده في هذه السجون هو استمرار لجهاده وتضحيته، فوقوعه في محنة السجن لا تعني نهاية المطاف. فهو بعد سجنه لا زال مجاهداً مرابطاً، له أجر المجاهدين والمرابطين المذكور سابقا، بل قد يفوق ذلك، بإخلاصه وصدقه واحتسابه.
فالمؤمن يواجه البلاء بالصبر والثبات واليقين، وطمأنينة النفس، ويستحضر معنى قوله تعالى: ” أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ” البقرة214. وقوله تعالى: “الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ” العنكبوت 1-11.
وقوله تعالى: ” لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ” آل عمران 186.
وقوله تعالى: ” وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ” البقرة155.
وقوله تعالى: ” الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ” الملك 2.
وقوله تعالى: “إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ” الإنسان2.
ويلاحظ في هذه الآيات أنها جزمت وأكدت وقوع الابتلاء على المسلمين بآيات كثيرة وواضحة، مما يؤكد أن سنة الابتلاء للمؤمنين قضية راسخة ولا بد منها، وأنها ضرورية للتمكين.
ومن الأحاديث الواردة في سنة الابتلاء:
حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: “قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة” رواه الترمذي وأحمد والدارمي . قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه الألباني . وله شواهد كثيرة.
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط” رواه الترمذي وابن ماجة . قال الترمذي: حسن غريب.
وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمن كمثل الزرع، لا تزال الريح تُميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء. ومثل المنافق كمثل شجرة الأَرْز لا تهتز حتى تَسْتَحْصِد” رواه مسلم .
ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ابْتُلِيَ بلاءً عظيماً، في نفسه ودعوته وأهله وأصحابه، وتعرض لمحاولات القتل والاغتيال، والحملات الإعلامية، والإشاعات الكاذبة، واتهم بالكذب والسحر والجنون والشعر والكهانة…، وحوصر حصاراً شديداً هو وصحابته الكرام ثلاث سنوات في شعب أبي طالب… ولكنه صبر حتى أتاه اليقين. والصحابة الكرام كذلك تعرضوا للبلاء والمحن المتواصلة، وقصص عمار بن ياسر ووالديه وبلال وعبد الله بن مسعود وعامر بن فهيرة وأبي ذر وزِنّيرة … وغيرهم مشهورة، ولا داعي لذكر تفاصيلها هنا . من الذين صبروا واحتسبوا حتى أكرمهم الله بنصره وفرجه.
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وهم خير هذه الأمة وسادتها، تعرضوا لكل هذه الأصناف من الابتلاءات والمحن، فغيرهم أولى بذلك، خاصة في فترة ما قبل التمكين. وفي هذا العصر كانت محنة السجن والاعتقال والتعذيب في أقبية التحقيق، هي السمة الأساسية التي أصابت الدعوة والدعاة إلى الله، منذ ظهور الصحوة الإسلامية في بدايات القرن العشرين حتى الآن.
ولكن رغم الألم والمعاناة التي تصيب هذا المؤمن المبتلى في سجنه، إلا أنه يستعذب هذا الألم المؤقت، ويعلم أنه سينتهي يوماً ما، مهما طالت مدة الأسر، لأنه ينتظر رضوان الله تعالى، ويرجو الراحة والسعادة الأبدية إذا صبر واحتسب.
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: “ولما كان الألم لا محيص منه ألبتة، عزّى الله سبحانه من اختار الألم اليسير المنقطع (يقصد ألم الدنيا)، على الألم العظيم المستمر (يقصد عذاب الآخرة)، بقوله تعالى: “مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ” العنكبوت 5. فضرب لمدة هذا الألم أجلا، لا بد أن يأتي، وهو يوم لقائه، فيلتذُّ العبد أعظم اللذة بما تحمَّل من الألم من أجله وفي مرضاته، وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمَّل من الألم في الله ولله، وأكد هذا العزاء والتسلية برجاء لقائه، ليحمل العبد اشتياقه إلى لقاء ربه ووليه على تحمل مشقة الألم العاجل، بل ربما غيبه الشوق إلى لقائه عن شهود الألم والإحساس به….. .
ثم يقول: “والمقصود أن الله سبحانه اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها، فيظهر بالامتحان طَيِّبَها من خَبيثِها، ومن يصلح لموالاته وكراماته، ومن لا يصلح، وليُمَحِّصَ النفوس التي تصلح له ويخلصها بكير الامتحان، كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه إلا بالامتحان…” .
وهذا حال الأسير المسلم الصابر المحتسب، يبتليه الله سبحانه بالسجن والمعاناة والألم ليخلصه من أدرانه وسيئاته، ويرفع درجاته ومنزلته، فيخرج من سجنه كالذهب الخالص، صفحته بيضاء نقية، كالحاج الذي لم يرفث ولم يصخب يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
أخي أنت حر وراء السدود أخي أنت حر بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصـــــــــــــماً فماذا يضيرك كيد العبيـــــــــــــد

يقول سيد قطب رحمه الله وقد جرب السجون والتعذيب مدة طويلة عند حديثه عن قوله تعالى: ” أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ….” العنكبوت1: إن الإيمان ليس كلمة تقال، إنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال. فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا… حتى يتعرضوا للفتنة، فيثبتوا عليها، ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم، كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به… هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت وسنة جارية في ميزان الله سبحانه… ومن هذه الفتن أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله، ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه، ولا يجد النصرة لنفسه ولا المنعة، ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان… فإن طال الأمد، وأبطأ النصر، كانت الفتنة أشد وأقسى، وكان الابتلاء أشد وأعنف، ولم يثبت إلا من عصمه الله. وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان، ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى… وما بالله – حاشا لله- أن يعذب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة. ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة، فهي بحاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة الحقيقية للمشاق، وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام، وإلا بالثقة الحقيقية بنصر الله أو في ثوابه، على الرغم من طول الفتنة وشدة البلاء…فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية، فأمر تكفل الله به، وما يشك مؤمن في وعد الله. فإن أبطأ فلحكمة مقدرة، فيها الخير للإيمان وأهله. وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله. وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة ويقع عليهم البلاء، أن يكونوا هم المختارين من الله ليكونوا أمناء على حق الله، وأن يشهد الله بأن في دينهم صلابة، فهو يختارهم للبلاء .

فوائد الابتلاء:
ألف العز بن عبد السلام (سلطان العلماء) رسالة قصيرة رائعة في فوائد المصائب والمحن والبلايا والرزايا. ذكر فيه سبع عشرة فائدة للابتلاء، هذا ملخصها:

  • معرفة عز الربوبية وقهرها…
  • معرفة ذلة العبودية…
  • الإخلاص لله تعالى…
  • الإنابة إلى الله…
  • التضرع والدعاء…
  • الحلم عمن صدرت عنه المصيبة…
  • العفو عن جانيها…
  • الصبر عليها…
  • الفرح بها لأجل فوائدها. عن أبي سعيد الخدري قال:قال صلى الله عليه وسلم عن الصالحين: “….والذي نفسي بيده إن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء” …
  • الشكر عليها لما تضمنته من فوائدها…
  • تمحيصها للذنوب والخطايا…
  • رحمة أهل البلاء، ومساعدتهم على بلواهم…
  • معرفة قدر نعمة العافية والشكر عليها، فإن النعم لا يعرف مقدارها إلا بعد فقدها…
  • تحصيل ثواب الآخرة…
  • ما في طيها من الفوائد الخفية: “وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ” البقرة216. وكما قال الشاعر:
    كم نعمة مطويــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة لك بين أثناء المصائب
  • أن المصائب والشدائد تمنع الأشر والبطر، والفخر والخيلاء، والتكبر والتجبر. قال تعالى: “وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ” الشورى27.
  • الرضا الموجب لرضوان الله تعالى…
    وغيرها من الفوائد والحكم، التي لا تخفى على عاقل، والتي ليس من أقلها التمحيص للصف، والتمييز بين الصادقين والكاذبين، وبين المؤمنين والمنافقين….. كما سيأتي تفصيله في غير هذا الموضع.

الفصل الثاني
حقوق الأسرى

الفصل الثاني
حقوق الأسرى
في هذا الفصل نتحدث عن حقوق الأسرى، وبخاصة أهم قضية تشغل بال الأسير في سجون الظالمين، وهي حقه في الانعتاق من القيود والأغلال، والخروج من السجن، والعودة إلى أهله سالماً. وواجب الأمة تجاههم في تحقيق هذا الهدف. نظراً لكون هؤلاء الأسرى خرجوا من ديارهم للجهاد من أجل إعزاز أمتهم، وتحرير أوطانهم، ومقاومة الظلم والعدوان، وصيانة الأعراض، وحفاظاً على هيبة الأمة وكرامتها. ولكن شاءت الأقدار أن يقع أسيراً في أيدي الأعداء، يسومونه سوء العذاب، ويتفننون في قهره وجعله عبرة لكل من يعمل أو يفكر في مقاومة ظلم الاحتلال وقهره.
ونتحدث أيضاً عن كيفية معاملة الأسرى، ووجوب الإحسان إليهم، ومعاملتهم بطريقة تليق بالكرامة الإنسانية، مستندين إلى حقيقة التعامل الإسلامي مع الأسرى، وتقديم نماذج رائعة للعالم في هذا الزمان، الذي كثر فيه الحديث نظرياً عن حقوق الإنسان، والقوانين الدولية المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب.
وكذلك الحديث عن رعاية وحماية أهل الأسرى وعائلاتهم في فترة غيابهم، وواجب الأمة أفراداً وجماعات وحكومات وأحزاب ومؤسسات… تجاه عائلات هؤلاء الأسرى، وتأمين احتياجاتها. وعدم تمكين الأعداء وأذيالهم من استغلال غياب الأسرى عن أهلهم، والمس بها أو استهدافها، حتى يعودوا إلى أهلهم سالمين.

المبحث الأول: وجوب تحرير الأسرى
دعا الإسلام بكل حرص واهتمام، إلى تحرير الأسرى المسلمين وغير المسلمين من مواطني الدولة الإسلامية، ولا يقبل الإسلام أن يبقى مسلم واحد أو ذمي أسيراً بيد أعداء المسلمين في أي مكان في العالم. فقد أجمع الفقهاء على وجوب تحرير جميع هؤلاء الأسرى وبكل الوسائل الممكنة.
يقول الإمام ابن العربي: “إن الأسرى المستضعفين الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة حتى لا تبقى منا عين تطرف، حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا لإطلاقهم حتى لا يبقى لأحد منا درهم. كذلك قال الإمام مالك وجميع العلماء” .
وقال ابن قدامة: “ويجب فداء أسرى المسلمين إذا أمكن، وبهذا قال عمر بن عبد العزيز وأحمد ومالك وإسحاق وغيرهم” .
وقال ابن بطال: “فكاك الأسير واجب على الكفاية، وبه قال الجمهور” .
وقال الكمال بن الهمام: “إن إنقاذ الأسير واجب على جميع أهل المشرق والمغرب. ومن التعابير المشهورة: “امرأة سبيت بالمشرق وجب على أهل المغرب تخليصها من الأسر ما لم تدخل دار الحرب” .
وقال ابن تيمية رحمه الله: “إذا وقع المسلمون أسرى بيد الكفار وجب فكهم من الأسر…”
وقال ابن حجر الهيتمي: “ولو أَسَروا مسلماً (أي الكفار) فالأصح وجوب النهوض إليهم فوراً على كل قادر” .
وذكر الإمام النووي: أنه إذا أسر الأعداء مسلماً أو مسلمين، فالراجح أن المسألة كدخول العدو ديار الإسلام، لأن حرمة المسلم أعظم من حرمة الدار، فيجب العمل على استخلاص الأسير أو الأسرى .
أدلة الوجوب:
والأدلة على هذا الوجوب كثيرة منها قوله تعالى: “وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً” النساء75. يقول ابن العربي في تفسيره: “أوجب الله سبحانه في هذه الآية القتال لاستنقاذ الأسير من يد العدو مع ما في القتال من تَلَف النفس، فكان بذل المال في فدائهم أوجب، لكونه دون النفس وأهون منها” .
ويقول القرطبي: “في هذه الآية حض على الجهاد، وهو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب، ويفتنونهم عن دينهم، فأوجب الله تعالى الجهاد لإعلاء كلمته وإظهار دينه، واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده، وإن كان في ذلك تلف النفوس. وتخليص الأسرى واجب على جماعة المسلمين إما بالقتال وإما بالأموال… قال مالك: واجب على الناس أن يفادوا الأسرى بجميع أموالهم، وهذا لا خلاف فيه” .
وقوله تعالى: “فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ” البلد 11-13. قال القرطبي: قوله تعالى: (فك رقبة) فكُّها خلاصها من الأسر. وقيل من الرق… والفك هو حل القيد، والرق قيد، وسمي المرقوق رقبة لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته، وسمي عتقها فكاً لأنه كفك الأسير من الأسر .
ومن الأحاديث الواردة في وجوب تحرير الأسرى: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”فُكّوا العاني – يعني الأسير – واطعموا الجائع وعودوا المريض” رواه البخاري ومسلم. وترجم البخاري له بقوله (باب وجوب فكاك الأسير من أيدي العدو) . قال ابن حجر: الفكاك: التخليص.
وحديث أبي جحيفة قال: “قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يخص به المسلمين؟ فقال: لا، إلا كتاب الله أو فهم أُعْطِيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة. قلت: فما في هذه الصحيفة ؟ قال: العقل – أي الدية – وفكاكُ الأسير، وأن لا يُقْتَلَ مسلمٌ بكافر” رواه البخاري . قال الشوكاني: فكاك الأسير: أي أحكام تخليص الأسير من يد العدو والترغيب فيه .
وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ” أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم، وأن يفدوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين” رواه أحمد . وإسناده صحيح. والعاني هو الأسير كما سبق.
وحديث حبان بن أبي جبلة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن على المسلمين في فيئهم أن يفادوا أسيرهم ويؤدوا عن غارمهم” رواه سعيد بن منصور .

ويمكن الاستشهاد على فضل العمل على تحرير الأسرى بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أيما رجل أعتق امرأً مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً من النار” رواه البخاري . فكيف بمن يطلق العشرات بل المئات من الأسرى المسلمين الذين يعانون كل المعاناة في سجون الظالمين، فينهي معاناتهم ومعاناة أهلهم وأقاربهم.
وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لأن أستنقذ رجلاً من المسلمين من أيدي الكفار أحب إلي من جزيرة العرب” .
ومن المعلوم في صلح الحديبية أن الرسول صلى الله عليه وسلم بايع أصحابه بيعة الرضوان على القتال حتى الموت، أو على عدم الفرار من القتال، عندما احتبست قريش عثمان بن عفان رضي الله عنه في مكة، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً إليها يفاوضهم على الصلح، وقيل أنه قد قتل . وفي ذلك دلالة على أهمية نصرة الأسير المسلم.
وحين أسر المسلمون خمسين من المشركين الذين نزلوا على المسلمين من التنعيم للقتال، وبعد انتهاء الصلح، جاء سهيل بن عمرو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يخاطبه في شأنهم، فقال له صلى الله عليه وسلم: إني غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي (ومنهم عثمان). فقال سهيل: أنصفتنا، وأرسلت قريش من كان عندها من أسرى المسلمين .

نصرة المظلوم:
هذا بالإضافة إلى النصوص الكثيرة التي توجب على المسلمين نصرة إخوانهم المظلومين في كل مكان، كما قال تعالى: “وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ” الأنفال72. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره” رواه مسلم في صحيحه . قال النووي: (لا يخذله): الخذل ترك الإعانة والنصر، ومعناه إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه ولم يكن له عذر شرعي.
وحديث سهل بن حنيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من أُذِلَّ عنده مؤمن فلم ينصره، وهو قادر على أن ينصره، أذَلَّه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة” رواه أحمد . وحسنه السيوطي في الجامع الصغير . قال المناوي: (عنده) أي بحضرته أو بعلمه…. فخذلان المؤمن حرام شديد التحريم، مثل أن يقدر على دفع عدو يريد أن يبطش به فلا يدفعه…
وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تأمر بنصرة المظلومين، ورفع الظلم، وإقامة العدل. ولا شك أن الظلم الذي يعانيه الأسرى في سجون الظالمين من أكبر وأفظع أنواع الظلم، والذل الذي يعيشونه من أشد أنواع الذل كما رأيناه بأم أعيننا. لذلك فالواجب رفع هذا الظلم وهذا الذل عن هؤلاء الأسرى، ونصرتهم. ولا يكون ذلك إلا بتحريرهم وتخليصهم من الأسر.

شواهد تاريخية:
ومن الشواهد التاريخية الدالة على اهتمام المسلمين بتحرير الأسرى، ونصرتهم، ورفع الظلم عنهم ما رواه صالح بن جبير: أن عمر بن عبد العزيز أعطى رجلاً مالاً يخرج به لفداء الأسرى. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، إنا سنجد ناساً فروا إلى العدو طوعاً، أفنفديهم؟ قال: نعم. قال: وعبيداً فروا طوعاً وإماء؟ فقال : افدوهم. قال: ولم يذكر له صنف من الناس من جند المسلمين إلا أمر بفدائهم .
وكذلك ما رآه رسول عمر بن عبد العزيز حين بعثه إلى الروم، فمرّ وهو خارج من عند الملك برجل مسلم أسره الروم وعرضوا عليه النصرانية فأبى ذلك. فسحلوا عينه وألقوا به في موضع يرسلون إليه فيه بحنطة يطحنها وبخبزة يأكلها. فلما علم عمر بأمر الرجل كتب إلى ملك الروم بفك أسر الرجل، وإلا قاتله بجيش يكون أوله عند الملك وآخره عند عمر … ولم يطلقه ذلك الملك إلا بعد مماطلة طويلة .
ومن الشواهد الدالة على اهتمام علماء الإسلام بقضية فكاك الأسرى من أيدي أعداء المسلمين في عام 331هـ، عندما ورد كتاب من ملك الروم إلى الخليفة العباسي (المتقي بالله) يطلب فيه منديلاً بكنيسة الرها كان المسيح قد مسح بها وجهه فصارت صورة وجهه فيه ، وأنه متى وصل هذا المنديل يبعث من أسارى المسلمين خلقاً كثيراً. فأحضر الخليفة العلماء فاستشارهم في ذلك، فمن قائل: نحن أحق بعيسى منهم، وفي بعثه إليهم غضاضة على المسلمين ووهن في الدين. فقال علي بن عيسى الوزير: يا أمير المؤمنين إنقاذ أسارى المسلمين من أيدي الكفار خير وأنفع من بقاء ذلك المنديل بتلك الكنيسة. فأمر الخليفة بإرسال ذلك المنديل إليهم وتخليص أسرى المسلمين من أيديهم .
ويروى أن الوزير الأندلسي المنصور بن أبي عامر أجبر ملك (نافار) إحدى ممالك الأسبان النصرانية شمالي الأندلس، على أن يجثو أمامه ذليلاً على ركبتيه، لأن هذا الوزير علم أن امرأة مسلمة مأسورة بمملكة (نافار)، فأطلقت في الحال مع كثير من ضروب الذلة والاعتذار من ذلك الملك .
وسيأتي المزيد من هذه الشواهد في سياق هذا البحث.

حكم عقد الصلح دون اشتراط فك الأسرى:
وينبغي التذكير هنا أن الكثير من الفقهاء قالوا إنه لا يصح عقد صلح أو معاهدة مع الكفار، إذا لم تتضمن هذه الاتفاقية أو الصلح الإفراج عن جميع الأسرى المسلمين الذين عندهم. وقد أشار ابن جماعة إلى أن الهدنة التي يعقدها المسلمون مع غير المسلمين ولا يشترط فيها إطلاق سراح الأسرى أنها هدنة غير صحيحة .
وقال الخطيب الشربيني عندما عدَّد الشروط التي ينبغي أن يخلو منها عقد الهدنة بين المسلمين والكافرين: “ويشترط خلو عقد الهدنة من كل شرط فاسد… كأن يشترط منع فك أسرانا منهم، أو ترك مالِنا الذي استولوا عليه لهم… أو نحو ذلك من الشروط الفاسدة… والأصل في منع ما ذُكِر قوله تعالى: ” فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ” محمد35. وفي اشتراط ذلك إهانة ينبو عنها الإسلام…” .
وهذه إشارة هامة لحكام المسلمين، إذا أرادوا توقيع معاهدة أو صلح مع الأعداء، بأن لا يتركوا أسرى مسلمين عند هؤلاء الأعداء، وأن يكون إطلاق سراح هؤلاء الأسرى شرطاً أساسياً من شروط تلك المعاهدة أو الصلح. وإلا كان ذلك خيانة عظيمة لهؤلاء الأسرى الذين يعانون في سجون الظالمين، ومرتكباً للإثم بسبب مخالفته لجميع تلك الأدلة التي توجب تحرير أسرى المسلمين .

تبادل الأسرى:
سيأتي الحديث تفصيلاً عن فداء الأسرى وكل ما يتعلق بذلك في نهاية الفصل الأخير من هذا البحث، ولكننا نركز هنا على موضوع تبادل الأسرى بين المسلمين والأعداء، بسبب علاقته المباشرة بموضوع وجوب تحرير الأسرى، لأن هذا الأسلوب هو الأسلوب الأكثر فاعلية، والذي أثبت نجاعته وجدارته في مثل ظروفنا في هذا الزمان، من أجل إنهاء معاناة أسرانا، وتخليصهم مما هم فيه.
وقد بين الفقهاء أنه يجوز أخذ الكافر الحربي رهينة، وأسره لأجل تخليص من أسره الكفار من المسلمين. وأن على المسلمين إمساك هذا الأسير حتى يرد الكفار أسرانا .

قال ابن حجر: “ولو كان عند المسلمين أسارى وعند المشركين أسارى واتفقوا على المفاداة تعينت (أي وجبت)، ولم تجز عند ذلك مفاداة أسارى المشركين بالمال” . وقال الشوكاني: “وقد ذهب إلى جواز فك الأسير من الكفار بالأسير من المسلمين جمهور أهل العلم” .
ومن الأدلة على ذلك حديث عمران بن حصين في قصة ذلك الرجل من عقيل الذي أسره المسلمون، وأخذوه رهينة، وفداه رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين من المسلمين اللذين أسرتهما ثقيف (وهم حلفاء بني عقيل). رواه مسلم والترمذي وأحمد الدارمي وأبو عبيد والشافعي . (وسيأتي تفصيله في موضوع الإحسان إلى الأسرى). وفيه دلالة واضحة على جواز أخذ الرهينة من الكفار المحاربين، من أجل إطلاق أسرى المسلمين عند أولئك الكفار، بل ويجوز أخذ رهائن من حلفاء أولئك الكفار من أجل هذه الغاية، كما في هذا الحديث.
ومن الأدلة كذلك على تبادل الأسرى بين المسلمين والكفار، حديث سلمة بن الأكوع:”…. أنه سبى امرأة من فزارة، فلقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا سلمة هب لي المرأة؟ فقلت يا رسول الله والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوباً. ثم لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق، فقال لي: يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك؟فقلت: هي لك يا رسول الله، فوالله ما كشفت لها ثوباً، فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، ففدى بها ناساً من المسلمين، كانوا أُسِروا بمكة” رواه مسلم في الصحيح . قال النووي: في الحديث جواز المفاداة، وجواز مفاداة الرجال بالنساء. وفيه جواز استيهاب الإمام أهل جيشه بعض ما غنموه ليفادي بهم مسلمًا…
وقال الإمام أحمد: “فداؤه بالرؤوس (أي بتبادل الأسرى)، وأما بالمال فلا أعرفه، ولو كان عند المسلمين أسارى وعند المشركين أسارى، واتفقوا على المفاداة تعيَّنَت” . وهذا من فقه الإمام أحمد البارع الذي جرب مرارة السجن سنوات، وعلم حقيقة المعاناة التي يلاقيها الأسرى في سجون الظالمين.
أما إذا لم يكن هناك أسرى من المسلمين بأيدي الأعداء فيمكن مفاداة أسرى الأعداء بالمال، فقد ذكر البخاري باباً عنوانه:(باب فداء المشركين- أي بالمال) ذكر فيه أحاديث فداء أسرى بدر بالمال كما فعل العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وغيره .
وقال أبو عبيد: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فادى الرجال من المسلمين بالرجال والنساء من المشركين. وهذه سنة قائمة عنه” .
ويقول: أما المسلمون فإن ذراريهم ونساءهم مثل رجالهم في الفداء، يجب على الإمام والمسلمين فكاكهم واستنقاذهم من أيدي المشركين، بكل وجه وجدوا إليه سبيلا، إن كان ذلك برجال أو مال. وهو شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم على المهاجرين والأنصار (يقصد صحيفة المدينة وفيها: … يتعاقلون بينهم، ويفكون عانيهم – يعني أسيرهم – بالمعروف والقسط بين المؤمنين …) في حديث طويل.
وكان المسلمون الأوائل يكرهون بيع الأسرى من الرجال أو مفاداتهم بالمال ويفضلون أن يفادى بهم أسرى المسلمين .
قال الدكتور أحمد نجيب: “ولتحقيق ذلك يُندَبُ المسلمون إلى الإثخان في العدو، وأسر من يمكن أسره من رجالهم لمفاداة أسرى المسلمين بهم، فإذا وقع في أيدي المسلمين أسير من أهل الحرب، وأمكن أن يفادى به أسير مسلم أو أكثر تعيَّن العمل على ذلك، ولا مندوحة عنه” .
وهذا ما تفعله فصائل المقاومة الفلسطينية أحياناً بجنود الاحتلال في فلسطين من أسر واحتجاز، ويتحملون في سبيل ذلك الكثير من التضحيات والآلام، حتى يخلصوا إخوانهم وزملاءهم الأسرى. وهي وسيلة هامة لإغاظة الكفار، والإثخان فيهم، وكسر معنوياتهم. والتأثير في قراراتهم السياسية، وخضوعهم لإرادة المجاهدين…

تكاليف فكاك الأسرى:
وتكاليف فداء الأسير تكون من بيت مال المسلمين (أو من خزينة الدولة) . فعن ابن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “كل أسير كان في أيدي المشركين من المسلمين ففكاكه من بيت مال المسلمين” .
وذلك لأنه من أبناء المجتمع الإسلامي وكان يدافع عن المجتمع كله، وواجب الأمة تجاه أبنائها أن من وقع منهم في الأسر بسبب دفاعه عنها فحقه عليها أن تنقذه من محنة السجن ومعاناته.
ويقول عمر بن عبد العزيز: إذا خرج الأسير المسلم يفادي نفسه فقد وجب فداؤه على المسلمين، ولا يجوز رده إلى المشركين، لأن الله تعالى يقول: “وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ” البقرة85 .
وقال ابن رشد: واجب على الإمام أن يفتكَّ أسرى المسلمين من بيت مالهم، فما قصر عنه بيت المال تعين على جميع المسلمين في أموالهم، على مقاديرها، روى أشهب: ولو بجميع أموالهم….
وسئل الحسن بن علي: على من فكاك الأسير؟ فقال: على الأرض التي يقاتِل عنها .
وإذا اضطر المسلم للسفر إلى بلاد الكفار من أجل فكاك الأسرى، تعين ذلك. فقد كان الصحابة يسافرون في فك الأسرى إلى بلاد الكفار، وذلك واجب .

فكهم من أموال الزكاة:
وأجاز بعض الفقهاء صرف أموال الزكاة في فكاك الأسرى، وهو من سهم (وفي الرقاب) في آية مصارف الزكاة في قوله تعالى: “إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” التوبة60. يقول ابن حبيب: لأن الأسير يعتبر رقبة مُلِكَت بملك الرق، فهي تخرج من رق إلى عتق، بل ذلك أحق وأولى من فكاك الرقاب الذين في أيدينا، لأنه إذا كان فك المسلم عن رق المسلم عبادة وجائزاً من الصدقة، فأحرى وأولى أن يكون ذلك في فك المسلم عن رق الكافر وذله . وكذا قال د. يوسف القرضاوي في كتابه القيم (فقه الزكاة)، حيث أجاز إعطاء الزكاة لمن يعمل على إطلاق سراح الأسرى .
واعتبر بعض الفقهاء أن الأسرى داخلون في سهم (والغارمين)، ومنهم ابن قدامة. وقد يجوز أن يكون فداء الأسرى من سهم (وفي سبيل الله). وعلى أي حال فإن روح الشريعة تتسع لفداء الأسرى من أموال الزكاة، تحت أي باب من هذه الأبواب .
وإذا لم تُجْدِ هذه الوسائل في تحرير الأسرى (تبادل الأسرى أو المال أو التفاوض) فإن إعلان الحرب يصبح واجباً لتحريرهم، لأن الحرب إذا كان من أهدافها تحرير الإنسان، فالمسلم الأسير أولى بهذا التحرير. وإذا شرعت الحرب لحماية الدعوة الإسلامية، فأحرى بها أن تعلن لفك القيود عن رقاب المسلمين.
ولا شك أن هذا الاهتمام الإسلامي بتحرير الأسرى له ما يبرره، فمن يتعرض للأسر، ويكتوي بنار السجون ومعاناتها وآلامها، يدرك حقيقة هذا الاهتمام الإسلامي بإطلاق سراح الأسرى، ويدرك معنى اتفاق الفقهاء على عدم جواز إبقاء أسير مسلم واحد خلف القضبان. ويدل أيضاً على اهتمام الإسلام بكرامة الإنسان وحريته، وتمييزه عن الدواب والحيوانات، فهي التي تحشر وتسجن في مثل هذه السجون، وليس الإنسان الذي كرمه الله، وخلقه في أحسن تقويم.

تحرير الأسرى في شريعة اليهود:
ورد في ذلك قوله تعالى مخاطباً بني إسرائيل: “وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ. ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.” البقرة 84-85.
وهي آية تدل على حرص اليهود على فداء أسراهم بأي ثمن، وأن هذا شأنهم منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فهم لا يحتملون وجود أسير منهم بأيدي أعدائهم.
يقول الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآيات: “حرم الله عليهم في التوراة سفك دمائهم، وفرض عليهم فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم من بني قينقاع حلفاء الخزرج، والنضير وقريظة حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنوا قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة يعرفون منها ما عليهم وما لهم… فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة، يفتدي بنو قينقاع ما كان أسراهم في أيدي الأوس، وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم…فأنَّبَهم الله تعالى على ذلك بقوله: “أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ “. أي تفادون الأسير بحكم التوراة، وتقتلونه وفي التوراة أن لا يُقْتل ولا يخرج من داره… .
وقال السدي: إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة ألا يقتل بعضكم بعضاً، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل أسيراً فاشتروه بما قام ثمنه فأعتقوه. فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب سُمَيْر، فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها، والنضير مع حلفائها. وكانت النضير تقاتل حلفاءها وقريظة، فيغلبونهم فيخربون بيوتهم، ويخرجونهم منها. فإذا أُسِرَ الرجل من الفريقين كليهما، جمعوا له حتى يفدوه، فتُعَيِّرُهم العرب بذلك، ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدوهم؟ قالوا: إنا أُمِرْنا أن نفديهم، وحرم علينا قتالهم. قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحي أن تُسْتَذَلَّ حلفاؤنا .
وبمثل ذلك قال قتادة: “…والله إن فداءهم لإيمان، وإن إخراجهم لكفر. فكانوا يخرجونهم من ديارهم، وإذا رأوهم أسارى في أيدي عدوهم افتكّوهم”. وكذا قال ابن عباس وابن جريج . وقال أبو العالية: إن عبد الله بن سلام مرَّ على رأس الجالوت (وهو من زعماء اليهود) بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليه العرب، فقال له عبد الله بن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك: أن فادوهن كلهن .
بل قال الطبري: إن الذي على اليهود في دينهم فداء أسراهم في كل حال، سواء فدى الآسرون أسراهم منهم أم لم يفدوهم .
قال الطبري: وبلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في قصة بني إسرائيل هذه: إن بني إسرائيل قد مضوا، وإنكم أنتم تُعْنَوْنَ بهذا الحديث . أي وجوب تحرير الأسرى كما يبدو.
وفي تفسير القرطبي بعد أن ذكر قصة بني إسرائيل السابقة قال: قال علماؤنا: فداء الأسرى واجب وإن لم يبق درهم واحد، قال ابن خويزمنداد: تضمنت الآية وجوب فك الأسرى، وبذلك وردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فك الأسرى وأمر بفكهم، وجرى بذلك عمل المسلمين وانعقد به الإجماع. ويجب فك الأسرى من بيت المال، فإن لم يكن فيه فهو فرض على كافة المسلمين، ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين…ثم قال: ولعمر الله لقد أعرضنا نحن عن الجميع بالفتن، فتظاهر بعضنا على بعض، ليس بالمسلمين بل بالكافرين! حتى تركنا إخواننا أذلاء صاغرين يجري عليهم حكم المشركين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وهو يتكلم عما كان يحدث في الأندلس (وفي قرطبة بالذات) من أحداث جسام أدت في النهاية إلى زوال حكم المسلمين عن الأندلس بعد ثمانية قرون من الفتح.

تحرير الأسرى الذميين:
يلاحظ أن الفقهاء لم يفرقوا بين أسرى المسلمين وأسرى أهل الذمة في وجوب العمل على تحريرهم وإطلاقهم من الأسر. فكل الأدلة والأحكام السابقة تشمل أسرى أهل الذمة إذا وقعوا أسرى في أيدي أعداء الدولة الإسلامية، دون أي تمييز لهم عن أسرى المسلمين. وهذا بلا شك من مظاهر التسامح الإسلامي مع غير المسلمين مواطني الدولة الإسلامية، الذين أفتى الفقهاء بقولهم:” لهم ما لنا وعليهم ما علينا “. وهي قاعدة فقهية اتفق عليها الفقهاء على الإجمال، وقد روي أنها نص حديث مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ذلك لم يصح . ورغم كونه لم يصح مرفوعاً إلا أن معناه مقبول عند الفقهاء .
وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا” وفي رواية:” من كان له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا” رواه البيهقي والدارقطني والإمام زيد ورواه الشافعي في المسند .قال البيهقي : فيه أبو الجنوب وهو ضعيف.
وبخصوص أسرى أهل الذمة يقول ابن قدامة: إن أهل الحرب إذا استولوا على أهل ذمتنا فسبوهم وأخذوا أموالهم، ثم قُدِرَ عليهم وجب ردهم إلى ذمتهم، ولم يجز استرقاقهم في قول عامَّة أهل العلم، منهم الشعبي ومالك والليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق، ولا نعلم لهم مخالفاً. وذلك لأن ذمتهم باقية ولم يوجد منهم ما يوجب نقضها. وحكم أموالهم حكم أموال المسلمين في حرمتها… فمتى عُلِم صاحبها قبل قسمها وجب ردها إليه. وإن عُلِمَ بعد القسمة فعلى روايتين: إحداهما: لا حق له فيه. والثانية: هو له بالثمن، لأن أموالهم معصومة كأموال المسلمين. أما فداؤهم(يعني تخليصهم بالمال)، فالظاهر أنه يجب فداؤهم سواء كانوا في معونتنا أو لم يكونوا. وهذا قول عمر بن عبد العزيز والليث، لأننا التزمنا حفظهم بمعاهدتهم وأخذ جزيتهم، فلزمنا القتال من ورائهم والقيام دونهم. فإذا عجزنا عن ذلك وأمكننا تخليصهم لزمنا ذلك… .
وسُئل الإمام أحمد عن النصراني أو اليهودي يغزو مع المسلمين يقاتل معهم فأسره العدو؟ فقال: يفادى به . وقال الإمام أحمد: إذا أغار العدو على المسلمين فأخذوا أهل الذمة وعيالهم، ثم أغار المسلمون على العدو وخلصوا أهل الذمة، فهؤلاء لهم حرمة الإسلام ويخلى عنهم، لأنهم يؤدون الجزية .
وقال أبو عبيد (بعد حديثه عن وجوب إطلاق أسرى المسلمين): وكذلك أهل الذمة يجاهد من دونهم، ويفتكّ عناقهم (أي أسرهم)، فإذا استنقذوا رجعوا إلى ذمتهم وعهدهم أحراراً. وورد في ذلك أحاديث … منها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “أوصي الخليفة من بعدي بكذا وكذا… وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم خيراً أن يوفّى لهم بعهدهم، وأن يقاتَل من ورائهم، ولا يُكَلَّفوا فوق طاقتهم” رواه البخاري . وقال الليث: أرى أن يفدوهم من بيت مال المسلمين ويقروا على ذمتهم .
ويقول الإمام الشافعي: إن على المسلمين حماية أهل الذمة من أن يقتلهم العدو، أو يؤذيهم ورد ظلمه لهم، وأن يستنقذوهم من عدوهم لو أصابهم أو أصاب أموالهم التي تحل لهم”
ويقول الشيرازي عن أهل الذمة: “ويجب على الإمام الذب عن أهل الذمة، ومنع من يقصدهم من المسلمين والكفار، واستنقاذ من أُسر منهم، واسترجاع ما أخذ من أموالهم، سواء كانوا مع المسلمين أو منفردين عنهم في بلد لهم، لأنهم بذلوا الجزية لحفظهم وحفظ أموالهم… والإجماع منعقد على ذلك” .
والنتيجة أن الأسير المسلم أو الذمي إذا وقع في يد العدو فيجب على المسلمين ممثلين في ولاة أمورهم أن يبذلوا كل مجهود لتخليص أسيرهم (دون تفريق بين المسلم والذمي) إما بالقتال فإن عجزوا عن القتال وجب عليهم الفداء بالمال … وهذه الأحكام متفق عليها بين أئمة المذاهب من حنفية ومالكية وشافعية وحنابلة وشيعة .
يقول د. الزحيلي: والدليل على أنه يجب فك الأسير الذمي عند عامة أهل العلم هو: أن أسره كان بسبب الحرب عن الدولة بكاملها، وقد استعان به الإمام، فلا يصح أن يترك بدون المحافظة على حقه في الحرية والحياة .
يروى أن (قازان) ملك التتار وقائدهم عند إغارتهم على دمشق في آخر القرن السابع الهجري، قد أسر من المسلمين بالشام عدداً كبيراً، ومعهم بعض أهل الذمة من اليهود والنصارى، فذهب ابن تيمية مع بعض العلماء ليفك إسار هؤلاء الأسرى. فأجابه قازان في أسرى المسلمين ولم يجبه في أسرى اليهود والنصارى، ولكن ابن تيمية رحمه الله لم يتركه حتى فك أسرى الذميين كما فك أسرى المسلمين. وكان يقول لهم: لا نرضى إلا بإطلاق جميع الأسرى من اليهود والنصارى، فهم أهل ذمتنا. ولا ندع أسيراً لا من أهل الذمة ولا من أهل الملة .
ولا شك أن هذا الاهتمام بإطلاق سراح الأسرى الذميين ينسجم مع قاعدة التسامح الإسلامي المعروفة مع أهل الذمة، ووجوب الإحسان إليهم والبر بهم، ووجوب حمايتهم، التي ورد فيها العديد من النصوص الشرعية الصحيحة من الكتاب والسنة وتؤيدها جميع الأحكام الفقهية. فمن هذه الحماية المطلوبة: تخليصهم من الأسر والاعتقال إذا وقعوا فيه، لأن هذا من أعظم الأذى الواجب رفعه عنهم. وهذا أمر متفق عليه بين العلماء لم نجد فيه خلافاً .

النتيجة:
لأجل ذلك كله فإننا ندعو المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بأن لا يتركوا أخاً لهم (مسلماً أو ذمياً) يعاني مرارة السجن في أي مكان في العالم، وأن يبذلوا كل جهودهم من أجل تخليصه من الأسر، بكل الوسائل والأساليب، ومهما كلف ذلك من ثمن. فهذا من أوجب الواجبات لا يسقط عن المسلمين حتى يتم. والأمة كلها آثمة حتى يتم إطلاق سراح جميع هؤلاء الأسرى في كل مكان.
وهذا وإن كان من فروض الكفاية كما قال كثير من الفقهاء، إلا أن فرض الكفاية كما هو معلوم يبقى متعيِّناً حتى يقوم به من يكفي للقيام بالواجب. يقول الإمام الشاطبي رحمه الله (عن فرض الكفاية): … وقد يصح أن يقال إنه واجب على الجميع على وجه التجوز، فبعضهم قادر عليه مباشرة ، وهم من كان أهلاً له. والباقون وإن لم يقدروا عليه فهم قادرون على إقامة القادرين … .
وفي الختام ننقل قول فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله (وقد جرب سجون الظالمين سنوات طويلة) حيث يقول: “يجب على المسلمين أن يبذلوا كل ما يستطيعون من أجل فك أسراهم، وتحريرهم من الأسر، وتَحَكُّم الأعداء الكفار في رقابهم، فإذا كان الأمر يتطلب فداء بالأسرى من العدو فادوهم وبادلوا أسرى المسلمين بأسرى العدو. وإن كانوا يحتاجون إلى الفداء بالمال، دفعوا لهم ما يخلصهم… ويجب على أمراء المسلمين أن يسلكوا كل سبيل تؤدي إلى فكاك الأسرى من أيدي الأعداء، ومن ذلك المفاوضة معهم. وإن كان تحريرهم يتوقف على إعلان الجهاد جاهدوا من أجل إنقاذهم، ولا سيما إذا كانوا يعانون من الإيذاء والتضييق والتعذيب. قال تعالى: ” وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا” النساء75. والمهم أن من فرض الكفاية على الأمة أن تخلص أسراها، ولا تدعهم فريسة لأعدائهم… فإذا لم يجد المسلمون وسيلة لاستنقاذ أسراهم فالواجب عليهم أن يدعوا الله تعالى لهم في صلواتهم وقنوتهم وخلواتهم، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه للنفر الذين أسرتهم قريش دبر كل صلاة” .
تنبيه هام:
هذا الاهتمام الإسلامي بإطلاق سراح الأسرى المسلمين والذميين ينبغي أن لا نسمح باستغلاله من قبل الكفار ليكون سيفاً مسلطاً على رقابنا، فيلووا به ذراعنا لتحقيق مكاسب كبيرة على حساب هذا الاهتمام بقضية الأسرى. يقول الأستاذ محمد أحمد الراشد: يجوز التصلب تجاه حكومة عندها رهائن من الدعاة في السجن، وقد تعدمهم.. قياساً على تترس الكفار بأسرى المسلمين، ولو أن الدعوة تستطرد في الانسحاب ومداراة الظلمة كلما وجدت بعض دعاتها بيد الظالم لما بقي للدعوة معنى، ولوجد الظالمون في ذلك لعبة سهلة: أن يعتقلوا بعض الدعاة ليستجدي البقية العفو عنهم، فيكون اشتراط السكوت وهدر المطالب الدعوية، ولكن الدعوة مطالبة بمواقف الإنكار الصلبة، وبأن يكون لها غرام بالحرية، ولو أدت المواقف إلى بعض التلف وتقديم الضحايا، فإن الغايات الإيمانية الحضارية هذا شأنها، وحركة الحياة تستدعي أن نبذل الأرواح ليكون التمكين .
ولا شك أن تقدير الموقف المناسب في هذا الشأن ليس سهلاً، لأن الاختيار بين إبقاء أسرانا في سجون الظالمين، وبين رد كيد الأعداء إلى نحورهم، وعدم استغلالهم لوجود أسرى المسلمين عندهم، أو تحقيق مصلحة كبيرة للإسلام والمسلمين، يحتاج إلى حكمة وخبرة وإخلاص والتجاء إلى الله تعالى، ويحتاج إلى قيادة واعية وحازمة وصادقة وحكيمة.
ونحن اليوم نشهد حيرة اليهود في التعامل مع حركات المقاومة الفلسطينية، بخصوص أسيرها (جلعاد شليط) منذ حوالي خمس سنوات، لأنها تشترط دفع ثمن غال للإفراج عنه، رغم ما ذكرناه من حرص اليهود على تحرير أسراهم، سواء في شريعتهم أو في قوانينهم وأعرافهم السياسية في التعامل مع هذا الملف، وذلك بسبب الثمن الكبير الذي تطالب به المقاومة مقابل إطلاق سراح شليط.
والمقصود أن العمل على إطلاق سراح الأسرى المسلمين ليس بأي ثمن، كما أن إبقاءهم في الأسر لا يكون لأي سبب، والمطلوب الموازنة الصادقة بين المصالح والمفاسد في هذا الشأن، مع ترجيح كفة إطلاق سراح الأسرى مهما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

هرب الأسير:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجوز للأسير المسلم، إذا كان في أيدي العدو، وقدر على أن يخلص نفسه منهم، فله أن يتخلص منهم ويهرب بأية وسيلة، ولو أدى ذلك إلى قتل بعض الأعداء، أو كسر القيود والأغلال، أو أخذ بعض الأموال…. وإن أدركوه ليعيدوه للأسر فله أن يدافع عن نفسه، وإن قتل بعضهم .
يقول الخطيب الشربيني: ولو قدر الأسير في أيدي الكفار على الهرب لزمه، للخلاص من قهر الأسر، سواء أمكنه من إظهار دينه أم لا .
وذكر البخاري في صحيحه ترجمةً بعنوان: (باب هل للأسير أن يَقْتُلَ ويَخْدَع الذين أسروه حتى ينجو من الكفرة) . ذكر فيه حديث أبي بصير الآتي.
واستدل القائلون بجواز هرب الأسير بقصة أبي بصير (عتبة بن أسيد)، والذي كان ممن حُبس في مكة، وبعد صلح الحديبية جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مهاجراً، وأرسلت قريش في طلبه رجلين يريدان إعادته إلى مكة، تطبيقاً لبنود الصلح. فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم معهما، فلما بلغ ذي الحليفة تمكن أبو بصير من قتل أحدهما وفرَّ الآخر إلى المدينة، وجاء أبو بصير متوشِّحاً سيفه… فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ويل أمه مِسْعَر حرب لو كان معه رجال”. ثم ذهب أبو بصير إلى ساحل البحر، وانضم إليه العديد ممن أسلم من أهل مكة وتمكنوا من الهرب كأبي جندل وغيره، يقطعون الطريق على قوافل مكة… في قصة معروفة. رواها البخاري في صحيحه .
ووجه الاستدلال أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر أبا بصير على قتله لرسول قريش وهربه من الأسر، ولم ينكر عليه ذلك الفعل، بل شجعه عليه، وألمح لغيره من المسلمين خارج المدينة للانضمام إليه، لأنهم غير داخلين في الصلح.
وحتى لو عاهدهم الأسير المسلم على عدم الهرب فله أن يهرب لأن عهده لهم كان بالإكراه. لكن ذهب بعض الفقهاء إلى أن الأسير المسلم إذا عاهد الآسرين الأعداء على عدم الهرب من الأسر، فيجب عليه الوفاء بذلك العهد. يقول ابن حجر: إن ائتمنوه يف لهم بالعهد، حتى قال مالك: لا يجوز أن يهرب منهم. وخالفه أشهب فقال: لو خرج به الكافر ليفادي به فله أن يقتله. وقال أبو حنيفة والطبري: إعطاؤه العهد على ذلك باطل، ويجوز له أن لا يفي لهم به. وقال الشافعية: يجوز أن يهرب من أيديهم، ولا يجوز أن يأخذ من أموالهم. قالوا وإن لم يكن بينهم عهد جاز له أن يتخلص منهم بكل طريق، ولو بالقتل وأخذ المال وتحريق الدار وغير ذلك .
ويقول الإمام الشافعي: إذا أُسر المسلم فكان في بلاد الحرب أسيراً موثقاً أو محبوساً أو مخلى في موضع يرى أنه لا يقدر على البراح منه أو موضع غيره، ولم يؤمنوه ولم يأخذوا عليه أنهم أمنوا منه، فله أخذ ما قدر عليه من ولدانهم ونسائهم . … فإن أَمَّنوه وخلّوه وشرطوا عليه أن لا يبرح بلادهم أو بلداً سموه، وأخذوا عليه أماناً أو لم يأخذوا، فقد قال بعض أهل العلم: يهرب. وقال بعضهم: ليس له أن يهرب.
ثم قال الشافعي: وإن أسر العدو الرجل من المسلمين فخلوا سبيله وأمنوه، وولّوه من ضياعهم أو لم يولوه فأمانهم له أمان لهم منه، فليس له أن يغتالهم ولا يخونهم، وأما الهرب بنفسه فله الهرب، فإن أُدْرِكَ ليؤخذ فله أن يدفع عن نفسه وإن قتل الذي أدركه، لأن طلبه غير الأمان، فيقتله إن شاء ويأخذ ماله ما لم يرجع عن طلبه .
وقال أيضاً: إذا أُسِر المسلم فأحلفه المشركون أن يثبت في بلادهم ولا يخرج منها على أن يخلوه، فمتى قدر على الخروج منها فليخرج، لأن يمينه يمين مكره، ولا سبيل لهم على حبسه… ولكن ليس له اغتيالهم في أموالهم وأنفسهم، لأنهم إذا أمَّنوه فهم في أمان منه، ولا نعرف شيئا يُروى خلاف ذلك .
وقال ابن قدامة: إن الأسير إذا خلاه الكفار واستحلفوه على أن يبعث إليهم بفدائه أو يعود إليهم، نظرت: فإن أكرهوه بالعذاب لم يلزمه الوفاء لهم برجوع ولا فداء، لأنه مكره… وإن لم يكره عليه وقدر على الفداء الذي التزمه، لزمه أداؤه. وبهذا قال عطاء والحسن والزهري والنخعي والثوري والأوزاعي وهو قول الإمام أحمد. وقال الشافعي: لا يلزمه لأنه حر لا يستحقون بدله. ولنا (الحنابلة والجمهور) قوله تعالى: “وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ ” النحل91. ولما صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية على رد من جاءه مسلما وفّى لهم بذلك، وقال: “إنا لا يصلح في ديننا الغدر” . ولأن في الوفاء مصلحة للأسرى، وفي الغدر مفسدة في حقهم، لأنهم لا يُؤَمّنون بعده، والحاجة داعية إليه، فلزمه الوفاء به .
فإن أطلقوه وآمنوه صاروا في أمان منه فلا يغدر بهم، لأن أمانهم له يقتضي سلامتهم منه. فإن أمكنه المضي إلى دار الإسلام لزمه، وإن تعذر عليه أقام وكان حكمه حكم من أسلم في دار الحرب. فإن أخذ بالخروج فأدركوه وتبعوه قاتلهم وبطل الأمان، لأنهم طلبوا منه المقام وهو معصية. وأما إن أطلقوه ولم يؤمنوه، فله أن يأخذ منهم ما قدر عليه ويسرق ويهرب، لأنه لم يؤمنهم ولم يؤمنوه. وإن أطلقوه وشرطوا عليه المقام عندهم لزمه ما شرطوا عليه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “المؤمنون عند شروطهم” . وقال أصحاب الشافعي: لا يلزمه ذلك .
وكل هذا يؤكد اهتمام الإسلام بالوفاء بالعهود والعقود التي يعطيها المسلم لأعدائه، حتى من أجل الخلاص من الأسر الذي رأينا قيمته في الفصل السابق. حتى بلغ الحرص بالوفاء بهذه العقود إلى حد قول الإمام الشافعي: إذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بأمان فالعدو منهم آمنون إلى أن يفارقوهم، أو يبلغوا مدة أمانهم، وليس لهم ظلمهم ولا خيانتهم. حتى وإن أسر العدو أطفال المسلمين ونساءهم لم أكن أحب لهم الغدر بالعدو، ولكن أحب لهم لو سألوهم أن يردوا إليهم الأمان وينبذوا إليهم، فإذا فعلوا قاتلوهم عن أطفال المسلمين ونسائهم .
وقال السرخسي: لا بأس أن يرشو الأسير المسلم بعض أهل الحرب ليتركه حتى يخرج إلى دار الإسلام، لأنه يجعل ماله وقاية لنفسه، وبه أُمر… والأصل فيه حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عندما حُبس في الحبشة، فرشاهم دينارين حتى خلوا سبيله… .
وقد أفتى النووي فيمن حُبِسَ ظلماً فبذل مالاً لمن يتكلم في خلاصه بجاهه وغيره، بأنها جُعالة مباحة ، وأخذ عوضها حلال. ونقله عن جماعة، ثم قال: وفي ذلك كلفة تقابل بأجرة عرفاً . وفي تحفة المحتاج ذكر ابن حجر الهيتمي بعض ما يباح فيه الجُعل، ومما قاله: وكقول من حُبِسَ ظلماً لمن يقدر على خلاصه: إن خلصتني فلك كذا، بشرط أن يكون في ذلك كلفة تقابل بأجرة عرفاً .
والنتيجة أنه يجوز للأسير المسلم الهرب من الأسر إذا تمكن من ذلك، بل إن ذلك قد يكون واجباً، لأنه استكمال لدوره الجهادي. وعدونا لا يقلقه شيء مثلما يقلقه هرب أسير من الأسرى من سجونه الظالمة. فقد لاحظنا ارتباكه وعجزه عند محاولات المجاهدين الفرار من سجونهم الظالمة، مثل محاولة الهرب من سجن (كفار يونا) عام 1996م، ومحاولة الفرار من سجن عسقلان عام 1997م، ومن سجن شطة عام1999م وغيرها. ورأينا كيف عاقبونا نتيجة لذلك عقوبات جماعية شديدة، وقمعوا كل من شارك أو ساعد في محاولات الفرار. ورأينا كيف شكلوا اللجان الخاصة لدراسة هذه المحاولات، واستخلاص الدروس والعبر حتى لا تتكرر في المستقبل. ورأينا كيف عاقبوا المسئولين في هذه السجون بالطرد من وظائفهم أو تخفيض رتبهم، وكيف خسروا ملايين الدولارات من أجل إعادة تحصين هذه السجون…..
وقضية العهد على عدم الفرار، والتي ذكرها الشافعي وابن قدامة وابن حجر وغيرهم، لم يعد لها وجود هذه الأيام. فمن خلال الخبرة التي رأيناها في سجون الاحتلال، فإن عدونا لا يمكنه أن يعاهد الأسرى على عدم الفرار، وهذا غير وارد في حساباتهم، ولا يعولون عليه في شيء.
أما في القانون الدولي فقد اعتبر أن محاولة هرب الأسير مجرد إخلال بالنظام، ونجاحه بالهرب لا يعتبر فعلاً يستحق عليه العقاب، بحيث إذا وقع في الأسر مرة ثانية فلا يجوز عقابه على هربه الأول. ولكنه يعاقب إذا اقترن هربه بعمل يعد في حد ذاته جريمة كقتل الحارس، أو سرقة مهمات أو غير ذلك . وهذا قريب من رأي الشريعة الإسلامية، فقد نص الفقهاء على أن الأسير إذا انفلت والتحق بدار الحرب فإنه يعود حراً كما كان .

شواهد ووقائع في تحرير الأسرى :

  • قصة المنصور بن أبي عامر أحد أعظم ملوك المسلمين في الأندلس، عندما عاد من جهاد الفرنجة وانتصر عليهم، واضطر الفرنجة إلى طلب الصلح معه، فتلقته امرأة مسلمة، وقالت له: أنت والناس يفرحون، وأنا باكية حزينة. قال: لماذا؟ قالت ولدي أسير عند الفرنجة. فلم يذهب المنصور إلى قصره، وإنما سير الجيوش فوراً، وأمرهم أن يقاتلوا الفرنجة حتى يخلصوا ابنها الأسير، حتى جاءوا به حراً .
  • وقصة المرأة المسلمة الأسيرة من عمورية، التي لطمها أحد علوج الروم فصاحت: وامعتصماه!! ولما سمع المعتصم باستغاثتها جهز جيشاً كبيراً وتوجه نحو عمورية، وحارب الروم، وأنقذ المرأة المسلمة من الأسر .
  • عندما أخذ الصليبيون خمسمائة أسير من المسلمين، وسجنوهم في مدينة الرها. غزا السلطان عماد الدين زنكي مدينة الرها، ونصره الله، وخلص المسلمين الأسرى .
  • وذكر العماد الكاتب أن السلطان صلاح الدين الأيوبي انتصر على الصليبيين في معركة حطين، وخلص أكثر من عشرين ألف أسير من المسلمين. وأسر من الصليبيين مائة ألف أسير .

المبحث الثاني: وجوب الإحسان إلى الأسرى
تمهيد ومقارنة لا بد منها:
رغم كراهية الإسلام لظاهرة الأسر والسجون، واعتباره إياها مخالفة للفطرة والكرامة الإنسانية، وعمله للحد منها وتقليصها قدر الإمكان، ودعوته لإنهاء حالة الأسر بالسرعة الممكنة؛ إلا أن وجود الأسرى يبقى أمراً واقعاً في الدولة الإسلامية، كما هو أمر واقع في الدول والحضارات الأخرى، كضرورة لا بد منها، نتيجة للصراع المستمر والمتواصل بين الدول والمجتمعات، وبين الحق والباطل.
ولا يمكن تحميل الإسلام المسئولية عن هذا الصراع المتواصل، لأن الصراع بين البشر موجود منذ الأزل، وقبل مجيء الإسلام بآلاف السنين. وعندما جاء الإسلام ما لبث أعداؤه يحاربونه ويبادرونه بالاعتداء، منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم وحتى العصر الحاضر، ولا مفرّ للمسلمين حينها إلا أن يدافعوا عن أنفسهم، ويحموا مجتمعهم. وهذا يقتضي وجود أسرى مسلمين عند الأعداء، ووجود أسرى من الأعداء عند المسلمين.
فكيف ينبغي أن تكون معاملة هؤلاء الأسرى منذ احتجازهم وحتى يتم تقرير مصيرهم وإنهاء حالة أسرهم؟ لقد أوضحت الشريعة الإسلامية طريقة معاملة هؤلاء الأسرى قبل أربعة عشر قرناً، وسبقت كل الاتفاقيات الدولية الخاصة بالأسرى، في وجوب الإحسان إليهم، وتلبية كل احتياجاتهم ومعاملتهم معاملة حسنة، مما يصلح لأن يكون مرجعاً هاماً لكل المتعاملين والمهتمين بقضية الأسرى.
إن المعضلة التي كانت تواجه قضية الأسرى، أن هؤلاء كانوا قبل قليل من أسرهم أعداء محاربين، يجتهدون في القتل والقتال، وتدمير الحرث والنسل، ويعملون بكل قوتهم للقضاء على خصمهم (الذي وقعوا في قبضته)، مما يوقع الحيرة بطريقة التعامل معهم كأعداء محاربين يستحقون الانتقام أو العقاب.

نظرة تاريخية:
وقد كان غير المسلمين من الدول والحضارات عبر التاريخ يتعاملون مع مثل هؤلاء الأسرى بكل قسوة ووحشية، ويتفننون في تعذيبهم وقتلهم واستعبادهم وتسخيرهم دون رحمة أو شفقة. (وقد مضى الحديث عن تاريخ السجون في الفصل الأول من هذا البحث).
كان الأسرى في القديم يذبحون أو يقدمون قرابين للآلهة، ثم صاروا يستعبدون ويتخذون رقيقاً للبيع والشراء. والفرس عاملوا أسراهم بقسوة شديدة، فكانوا ضحية التنكيل والتعذيب والقتل والصلب. وكذلك فعل الإغريق بأسراهم . ومن أراد أن يعرف كيف تعامل اليهود مع أسراهم فليقرأ التوراة خاصة سفر يشوع . وكذلك ما فعلته النازية في القرن العشرين.
وعندما جاء الإسلام عامل الكفارُ أسرى المسلمين عبر التاريخ الإسلامي بكل قسوة ووحشية، لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، ولم تتوقف هذه القسوة وهذه الوحشية حتى في العصر الحاضر، وفي ظل القوانين الدولية وإشراف لجان حقوق الإنسان، وأمام وسائل الإعلام في أحيان كثيرة:

ومن الأمثلة على ذلك ما تذكره المصادر التاريخية: أنه في عام 241هـ في عهد المتوكل دخل الروم مدينة (عين زربا) … وبلغ عدد الأسرى المسلمين عشرين ألفاً، كانوا يلاقون كل ألوان التعذيب، حتى أن كثيراً منهم اضطروا للدخول في المسيحية. ويقال أن (تيودورا) والدة (ميشيل الثالث) ملك الروم، عرضت على هؤلاء الأسرى الارتداد عن الإسلام، فتنصر بعضهم وكانوا أكثر من سبعة آلاف، وأبى الآخرون، فقتلت منهم اثني عشر ألفاً، ولم يبق من المسلمين سوى تسعمائة رجل وامرأة .

وفي عام 617هـ وصل التتار في زحفهم على البلاد الإسلامية إلى مدينة مرو، وحاصروا المدينة خمسة أيام، واستنزلوا نائبها خديعة، ثم غدروا بها وبأهل البلد فقتلوهم وغنموهم وسلبوهم، وعاقبوهم بأنواع العقاب حتى أنهم قتلوا في يوم واحد سبعمائة ألف إنسان، ثم ساروا إلى نيسابور ففعلوا فيها ما فعلوه بأهل مرو، ثم إلى مدينة طوس ففعلوا مثل ذلك .

وفي الحروب الصليبية:
وهي الحروب التي تبنتها البابوية في الفاتيكان (مركز النصرانية الكاثوليكية في العالم)، والتي دعت إليها في (مجمع كليرمونت) بفرنسا عام 1095م. واستخدمت الدعاة النصارى من أمثال (بطرس الناسك) للدعوة إلى هذه الحروب العدوانية الظالمة من أجل القضاء على المسلمين الكفرة وإعادة القدس .
وحين دخلت الجيوش الصليبية بيت المقدس عام 492هـ _ وهي تحمل شارة الصليب المقدس، والإنجيل الذي يأمر بالإحسان إلى الأعداء _ فعاثوا في بيت المقدس فساداً، وأقاموا المذابح والمجازر في ساحات المسجد الأقصى لمن وقع في أيديهم من المسلمين، فقتلوا أكثر من سبعين ألفاً من المسلمين، (وهم في حكم الأسرى حينئذ)، منهم الكثير من العلماء والعباد والزهاد، وحولوا قبة الصخرة إلى كنيسة سموها (هيكل السيد…) .
ولم يسلم حتى اليهود من هذه المذابح، فقد جمعهم الصليبيون في كنيستهم وأحرقوهم أجمعين .
ويقول المؤرخ (ميشو): “إنه لم يسمع في تلك الساعة الرهيبة غير أنين الجرحى وحشرجة الموتى. وقد وطئوا بخيولهم الجثث المكدسة أثناء مطاردة الهاربين، وأحرقوا البعض أحياء … ولم تكن تجدي في ذلك الموقف الدامي دموع النساء ولا صراخ الأطفال، ولا منظر البلد الذي صفح فيه السيد المسيح عن جلاديه، فإن هذه المناظر كلها ما كانت لتلين قلوبهم القاسية … وقد استمرت هذه المذابح أسبوعاً، والذي نجى من سكان بيت المقدس عومل معاملة الأرقاء”. ثم يقول: “إنه بعد هذه المذابح بعثوا رسالة تهنئة إلى البابا يهنئونه بفتح بيت المقدس قائلين: إذا أردت أن تعلم بما جرى لأعدائنا، فثق أنه في إيوان سليمان ومعبده كانت خيلنا تخوض في بحر من دماء المسلمين إلى ركبتيها” .
وفي عام 616هـ دخل الفرنجة (الصليبيون) مدينة دمياط المصرية بالأمان، فغدروا بأهلها، وقتلوا رجالها، وسبوا نساءها وأطفالها، وفجروا بالنساء، وبعثوا بمنبر الجامع والربعات ورؤوس القتلى إلى الجزائر وجعلوا الجامع كنيسة .

أين هذا مما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما فتح بيت المقدس؟! ومما فعله صلاح الدين الأيوبي بعد ذلك حين أعاد فتح بيت المقدس، وخلصه من هؤلاء الصليبيين المجرمين بتاريخ 29 رجب 583هـ عام 1187م، وما تخلق به من تسامح فريد وعفو كريم مع الأسرى الصليبيين، ومن أخلاق سامية شهد لها المؤرخون الغربيون أنفسهم .

والعجيب أن البابا (يوحنا بولص الثاني) أثناء زيارته لبيت المقدس بتاريخ 12 مارس 2000م اعترف بالفظائع التي ارتكبتها الكنيسة الكاثوليكية ضد مخالفيها من المذاهب والعقائد المسيحية واليهودية. وخص اليهود بطلب العفو والمغفرة عن جميع الجرائم التي تعرضوا لها على يد الكاثوليك. حتى أن صحيفة (معاريف) الإسرائيلية وفي صباح اليوم التالي وضعت لها عنواناً كبيراً في صدر صفحتها الأولى تقول:" بعد ألفي سنة البابا يطلب المغفرة من الشعب اليهودي" . 

ولكنه في زيارته للمسجد الأقصى في نفس الرحلة – ورغم الترحيب الحار من المسلمين ومظاهر الاحتفال والاستقبال الكبيرة – لم يطلب العفو والمغفرة من المسلمين عن الجرائم البشعة التي ارتكبها الصليبيون بحق الأسرى المسلمين في ساحات المسجد الأقصى!!
استمرار الأحقاد الصليبية:
ولا يحسبن أحد أن هذه المآسي والمذابح كانت في مرحلة مؤقتة من التاريخ انتهت عندها، بل إن هذه الأحقاد وألوان الاضطهاد الديني، خاصة في حق الأسرى، لم تتوقف حتى في أوروبا نفسها إلا في فترات بسيطة من التاريخ، خاصة على يد محاكم التفتيش الرهيبة، فقد قام البعض بحساب ضحايا هذه المحاكم في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا، فبلغ عدد القتلى خمسة وعشرين مليوناً من المسلمين واليهود والمخالفين في المذهب، ومعظمهم كانوا أسرى وقعوا في سجون هذه المحاكم .
وكذلك ما فعلته فرنسا بالجزائر في بداية الاستعمار الفرنسي، ونذكّر هنا فقط بما فعلوه بالمساجد وروادها، الذين وقعوا في أيدي الفرنسيين. فحين دخل الفرنسيون مدينة الجزائر في صباح 5 تموز 1830 م إيذاناً ببداية الاستعمار الفرنسي على الجزائر، وقف الجنرال (روفيجو) يشير إلى الفرنسيين باختيار مسجد من مساجد الجزائر ليصير كنيسة، فأشاروا عليه بجامع (القشاوة) وهو من أجمل مساجد البلاد وأروعها. وكان في المسجد أربعة آلاف مسلم، انقض عليهم الفرنسيون وذبحوهم عن آخرهم، وهم معتصمون في بيت من بيوت الله .

في إسبانيا:
وفي الأندلس كانت المأساة أكبر وأخطر، فمن يتابع ما فعله الأسبان بالمسلمين هناك – خاصة بعد 1499 م – يجد أنها أكبر مأساة تتعرض لها الحريات الدينية في التاريخ، حيث يحدثنا المؤرخ الغربي (ستانلي بول) باختصار عن هذه المرحلة فيقول:
“عندما سلم المسلمون مدينة غرناطة آخر قلاع المسلمين في الأندلس، كان من شروط معاهدة التسليم: أن يكون للمسلمين حرية العبادة وإقامة أحكام الإسلام … ولكن بعد قليل من التسليم بدأت عمليات إكراه المسلمين على التنصر … فقد تنصر في يوم واحد ثلاثة آلاف من المسلمين عمّدهم المطارنة … وأغرى الكاردينال (شيمينيس) الملكة (إيزابيلا) من أجل إصدار مرسوم لتخيير المسلمين بين التنصر أو مغادرة البلاد … وبعد هذا المرسوم أغلق الكاردينال المساجد وأحرق المخطوطات والكتب النفيسة التي هي عصارة الفكر العربي في عدة قرون … وعذب المسلمين أشد العذاب ليدخلوا في دين الرفق والرحمة … وبهذه الوسائل خضعت جمهرة من المسلمين، لأنهم آثروا أن يتركوا دينهم على الشرود في بقاع الأرض بلا أهل ولا مأوى … وهدم صاحب (سيرين) مسجداً على جماعة من النساء والأطفال، كانوا التجأوا إليه من ويلات الحرب وكوارثها. وتلا ذلك نصف قرن والمسلمون في غيظ مكتوم. فقد أدّوا مكرهين مرائين أقل ما يستطيعون أداءه من أمور الدين الذي فرض عليهم، ولكنهم كانوا إذا خلوا إلى أنفسهم جهدوا في غسل الماء المقدس الذي عُمِّدَ به أطفالهم في الكنيسة. وإذا زوَّجهم القسيس أسرعوا إلى منازلهم فأعادوا عقد الزواج على سنن شريعة الإسلام … وأكرهوهم على أن يخلعوا أزياءهم الوطنية، ليستبدلوا بها قبعات النصارى وسراويلهم، وعلى أن يهجروا سنة الغسل والاستحمام، اقتداء بغالبيتهم في الصبر على تراكم الأقذار، ثم أن ينبذوا لغتهم وعاداتهم وأسماءهم وأن يعملوا كما يعمل الأسبان …” .
وفي عام 1609م بدأت الحملة لطرد المسلمين من أسبانيا، والتي استمرت أكثر من مائة سنة، تم فيها نفي أكثر من ثلاثة ملايين مسلم، عدا عن الذين قتلوا أو استعبدوا، وكان معظم الاضطهاد والتعذيب تقوم به محاكم التفتيش الرهيبة، التي يصعب وصفها في مثل هذا البحث .
وأقر (جوستاف لوبون) أن الأسبان ذبحوا وحرقوا وهجروا أكثر من ثلاثة ملايين من المسلمين، وأن الراهب بليدا أبدى ارتياحه لقتل مائة ألف مهاجر مسلم من قافلة واحدة مؤلفة من مائة وأربعين ألف مهاجر، حين كانت متجهة إلى أفريقيا .
وكذلك ما فعله (نابليون بونابرت) – معلن حقوق الإنسان في الثورة الفرنسية – مع أسرى مدينة عكا عام 1799م فإنه أباد ما يزيد على أربعة آلاف منهم بعد تسليمهم .

والأمثلة والشواهد التاريخية على هذه القسوة وهذه الشدة في التعامل مع أسرى المسلمين من رجال ونساء وأطفال حين يقعون بأيدي أعدائهم أكثر من أن تحصر .
    ومما يدل على سوء معاملة الأسرى المسلمين الذين وقعوا في أيدي غير المسلمين، تلك الرسالة المطولة التي بعثها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى (سراجون) ملك قبرص، بخصوص الأسرى المسلمين الذين وقعوا في قبضته (وسميت فيما بعد بالرسالة القبرصية) يقول فيها :" … أما يعلم الملك أن بديارنا من النصارى أهل الذمة والأمان ما لا يحصي عددهم إلا الله، ومعاملتنا فيهم معروفة؛ فكيف تعاملون أسرى المسلمين بهذه المعاملات التي لا يرضى عنها ذو مروءة ولا ذو دين؟! أليس الأسرى في رعية الملك ؟! أليست عهود المسيح وسائر الأنبياء توصي بالبر والإحسان فأين ذلك  ….؟!" .
وهذه الرسالة المطولة تدل على سوء المعاملة التي كان يتعرض لها الأسرى المسلمون على يد القبارصة النصارى.

وفي العصر الحاضر لم تختلف الصورة في معاملة أسرى المسلمين مع الأسف الشديد في أماكن مختلفة من العالم:
فمن ذلك ما فعلته روسيا بأسرى الشيشان، فقد نقلت معظم وسائل الإعلام بتاريخ 27 – شباط 2000م تقارير عن قيام القوات الروسية بقتل عدد كبير من الأسرى الشيشان بعد اعتقالهم في معسكرات روسية وتعذيبهم بصورة قاسية، ونشرت وسائل الإعلام صوراً لأسرى شيشان مقتولين بعد أن رُبطت أيديهم وأرجلُهم وقطعت آذانهم وأنوفهم، ونشرت صوراً لعربات عسكرية تجر مواطنين شيشان مقتولين بطريقة وحشية.
وما فعله الصرب بأسرى المسلمين في البوسنة والهرسك وكوسوفا في التسعينيات من القرن العشرين، مما رآه العالم كله من تعذيب وتجويع وقتل وتشريد لعشرات الآلاف من هؤلاء الأسرى (والذي سمي بالتطهير العرقي)، ولا يتسع المجال هنا لذكر تفاصيله.
وما فعله اليهود الصهاينة بالأسرى المصريين بعد العدوان الثلاثي عام 1956م، وبعد حرب حزيران 1967م حيث قتلوا بصورة وحشية الآلاف من هؤلاء الأسرى، وتم تعذيب الكثير منهم، ووضع المئات في غرف مزدحمة لا تصلح للعيش الإنساني، وحين سئل بعض القادة اليهود (مثل الوزير أفرايم سنيه) عن هذه الأحداث والمآسي اعتذروا عن الإجابة وقالوا إن هذا الملف سري وهو ملف مغلق. علماً بأنه تم ترقية جميع الذين شاركوا في هذه الجرائم إلى رتب عسكرية عالية .
ومثل ذلك ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية بأسرى الطالبان والقاعدة بعد حرب أفغانستان عام 2002م خاصة في قاعدة (غوانتنامو) من قسوة وسوء معاملة وحرمان من كل الحقوق، وعدم اعتبارهم أسرى حرب، حتى لا يحصلوا على حقوق الأسير التي نصت عليها قوانين الأمم المتحدة (رغم اعتراف العديد من خبراء القانون الدولي من أمثال “د. كريس يانو” بأن هؤلاء الأسرى تنطبق عليهم شروط أسرى الحرب). ثم وضع هؤلاء في جزيرة قرب كوبا، بعيداً من لجان حقوق الإنسان، وعن الرقابة الدولية، وعن قوانين الولايات المتحدة المتعلقة بحقوق السجناء. وكذلك فضائح سجن أبو غريب في بغداد في نفس الفترة، من تعذيب وإذلال ومعاملة وحشية على يد الجنود الأمريكيين، والذي شاهده العالم كله عبر وسائل الإعلام….
وأما أوضاع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، فحدث ولا حرج مما يحتاج إلى مجلدات لبيان وتوضيح هذه المآسي والجرائم وهذه المعاناة التي يلاقيها هؤلاء الأسرى، مما يندى له جبين الإنسانية. فالأسير في هذه السجون يعامل على أنه عدو مجرم، يجب الانتقام منه وتأديبه، وتلقينه درساً لا ينساه، حتى إذا ما خرج من السجن لن يجرؤ على مقاومة الاحتلال من جديد، ويتعرض الأسرى طوال فترة اعتقالهم إلى مختلف أنواع التعذيب والتضييق والحرمان، حتى ليخيل إلينا أنهم يريدون إحصاء كمية الهواء التي يتنفسها هؤلاء الأسرى. وتزداد المأساة إذا علمنا أنه دخل هذه السجون أكثر من 860000 أسير منذ عام 1967 . واستشهد أكثر من مائتي أسير فلسطيني ، عدا عن الأسرى الذين اعتقلوا منذ عام 1948. وبعض هؤلاء الأسرى أمضى في السجون أكثر من ثلاثين سنة متواصلة.
ومن العبارات المشهورة للجنرال الإسرائيلي (موشيه ديان): سوف نجعل هذه السجون تُخَرِّج معاقين وعجزة ليكونوا عبئاً على المجتمع الفلسطيني.
ولا نريد هنا أن نتعرض للتفاصيل فهي أكثر من أن يستوعبها مثل هذا البحث . ولكننا نذكر بعض العناوين الدالة على أوضاع الأسرى الفلسطينيين في هذه السجون الظالمة:
] قتل الأسرى بعد اعتقالهم. التحقيق الميداني. التعذيب في أقبية التحقيق. الازدحام الشديد في الغرف والزنازين. العزل الرهيب في زنازين انفرادية. التفتيش العاري المهين للأسرى. الأحكام التعسفية. قلة الطعام ورداءة نوعيته. التفتيش المتكرر للغرف وقلب محتوياتها رأساً على عقب. التفتيش العاري للنساء الزائرات يوم الزيارة. انقطاع زيارة الأهل لأكثر من خمس سنوات أحياناً. الإجراءات القمعية والمرافقة لرش كميات كبيرة من الغاز والضرب بالهراوات. الحرمان من التنقل بين الأقسام والغرف. السجن الإداري دون محاكمة وتجديده لسنوات أحياناً. مشاكل المرضى والمصابين وإهمالهم. معاناة الأسيرات الفلسطينيات والأطفال الأسرى. عدم اعتبار الأسرى الفلسطينيين أسرى حرب، حتى لا تنطبق عليهم الحقوق التي تنص عليها القوانين الدولية. التمييز الواضح بين الأسرى الفلسطينيين والسجناء اليهود. النقليات بين السجون وما يرافقها من معاناة وقسوة. سحب الإنجازات (التي حققها الأسرى بنضالاتهم الطويلة) لأتفه الأسباب ….[ .

 هذه بعض الأمثلة والعناوين والشواهد التاريخية الدالة على طريقة المعاملة التي يلقاها الأسرى (وخاصة المسلمون) بشكل عام حين يقعون بأيدي أعدائهم وخصومهم عبر التاريخ، مما يصلح لأن يكون موضوعاً لكتاب كبير، أو أطروحة للدراسات العليا، أحببنا أن نمر عليها سريعاً، ليس من أجل المقارنة (فليس هناك أي وجه للمقارنة مع معاملة المسلمين للأسرى) وإنما من أجل أن نطلع على كيفية معاملة الإنسان لعدوه وخصمه، حين يقع في قبضته ويتمكن منه، بعيداً عن التوجيهات الدينية والأخلاقية، قبل البدء في عرض أحكام معاملة الأسير في الإسلام.
والآن نبدأ الحديث عن الموقف الإسلامي من معاملة الأسرى غير المسلمين، الذين يقعون في أيديهم من أسرى الحرب، حتى إيجاد الحل المناسب لإنهاء حالة الأسر عنهم، كي نعرف كيف ينبغي معاملة الأسرى بشكل عام، وحتى نعرف أن الشريعة الإسلامية سبقت القوانين الدولية المتعلقة بهذا الموضوع بأكثر من ألف عام، لتكون نبراساً تهتدي بها البشرية في كل مكان.
بل وحتى نعرف أن الدول الغربية التي تتغنى بهذه القوانين، لا تطبقها عملياً، والواقع خير دليل على ذلك، خاصة إذا كان الأسير مسلماً. بينما كانت هذه القوانين في التاريخ الإسلامي واقعاً معاشاً، وليس مجرد كلام نظري.
كما أنه يمكن الاستفادة من هذه الأخلاق الإسلامية في التعامل مع الأسرى، في دعم قوانين حقوق الإنسان في العالم وتطويرها، أو توقيع عهود واتفاقات إقليمية أو دولية في هذا الشأن.

معاملة الأسير في الإسلام :
من الثابت أن المسلمين عاملوا أسراهم من غير المسلمين بشكل عام بكل رحمة وإنسانية، ولم يعاملوا أعداءهم بالمثل في ذلك. فلم تعرف البشرية في تاريخها معاملة حسنة ورحيمة للأسرى كما عرفها الإسلام، سواء كان ذلك من الناحية النظرية التي تفرضها الشريعة الإسلامية، من خلال الكتاب والسنة والأحكام الفقهية، أو من الناحية التطبيقية العملية على أرض الواقع عبر التاريخ الإسلامي.
وحتى السجناء الجنائيين فقد مرَّ معنا قول ابن تيمية رحمه الله: “اعلم أن الحبس الشرعي ليس هو الحبس في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه حين يشاء، سواء في بيت أو مسجد، أو كان بتوكيل نفس الخصم أو وكيله عليه أو ملازمته له” . وهذا يعني أن الأصل في السجن أنه ليس للعقوبة أو الانتقام، وإنما الهدف منه هو منع الشر أو الضرر من هؤلاء المحبوسين، أو إجبارهم على أداء الحقوق لأصحابها.
وقد قال بعض الفقهاء: الحبس على ضربين: حبس عقوبة، وحبس استظهار. فالعقوبة لا تكون إلا في واجب، وأما ما كان في تهمة فإنما يستظهر بذلك ليستكشف به ما وراءه. وقال ابن سيرين: كان شريح إذا قضى على رجل بحق أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم، فإن أعطاه حقه وإلا أمر به إلى السجن .
وقيل أن الهدف من السجن هو العقوبة على الجنايات، وممن قال بذلك ابن المنذر .
(وهذا طبعاً في السجناء الجنائيين، الذين ارتكبوا الجرائم المدنية في المجتمع الإسلامي، كما هو واضح، وليس لأسرى الحرب الذين نقصدهم في هذا البحث، والذين لهم وضع خاص مختلف، كما سنرى).
والذي نرجحه أن الهدف من شرعية السجون في الإسلام وفق المقاصد الشرعية التي ذكرناها والأدلة التي سقناها، والأدلة التي ستأتي، ليس مجرد العقوبة أو الانتقام، فلم تكن السجون في الإسلام أداة قهر وتعذيب، بل هي أقرب ما تكون إلى المدارس الاجتماعية، أو المؤسسات الأخلاقية، أو هي مستشفيات للأمراض النفسية والعصبية والفكرية والسلوكية… .
كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمراء الأجناد: “وانظر من في السجون ممن قام عليه الحق، فلا تحبسنه حتى تقيمه عليه، ومن أشكل أمره فاكتب إليَّ فيه، واستوثق من أهل الدعارات، فإن الحبس لهم نكال، ولا تعد في العقوبة، وتعاهد مريضهم ممن لا أحد له ولا مال، وإذا حبست قوماً في دَيْن فلا تجمع بينهم وبين أهل الدعارات… وانظر من تجعل على حبسك ممن تثق به، ومن لا يرتشي، فإن من ارتشى صنع ما أمر به” . أي من العقوبة.
أما أسرى الحرب، فنستطيع أن نقول وبكل جرأة، إن الإسلام سبق مواثيق الأمم المتحدة والقوانين الدولية في الانتباه إلى ضرورة معاملتهم معاملة إنسانية تليق بالإنسان وتأمين جميع احتياجاتهم. نعرف ذلك من خلال التفصيل التالي:

(1) تلبية الاحتياجات الضرورية للأسرى:
ورد الإجماع عند الفقهاء على عدم جواز تعذيب الأسير بالجوع والعطش أو بغير ذلك . ومن المبادئ التي أقرها الإسلام في التعامل مع الأسرى عدم التعامل بالمثل. فلو أجاع غير المسلمين أسرى المسلمين، فلا يجوز للمسلمين إجاعة أسراهم .
وورد في ذلك قوله تعالى:” وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً ” الدهر:8-9. يقول ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: “ولم يكن الأسرى يومئذ إلا من المشركين” . وهذه الآية تحث على الإحسان إلى الأسير وإطعامه، خاصة وأنها قرنت الأسير بالمسكين واليتيم، وذلك يدل على ضرورة معاملة الأسير مثل معاملة المسكين واليتيم.
وواضح من هذه الآية القرآنية أنها تمدح إطعام الأسرى وعدم تركهم جوعى حتى وإن لم يكونوا مسلمين. فهذه الآية اعتبرت أن الإحسان إلى الأسير غير المسلم من البر والتقوى، وهو عبادة يتقرب بها المسلم من الله تعالى، والله تعالى يثني على المسلمين بتمسكهم بهذا الخلق العظيم، وهذا لا نجده في أي دين أو شريعة أو قانون آخر غير الإسلام.
أما ما ورد من أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وأن الأسير يجب قتله على كل حال (كما روي عن سعيد بن جبير) فقد رد عليه ابن الجوزي وغيره قائلاً: إن إطعام الأسير فيه ثواب بالإجماع . كما أن هذه الآية لا يجوز أن تنسخ لأنها خبر جاء في معرض الثناء على الأبرار بذكر صفاتهم . قال قتادة: “لقد أمر الله بالأسرى أن يحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذ لمن أهل الشرك”. وقال عطاء: “الأسير من أهل القبلة وغيرهم” .
وورد في بعض التفاسير عن قوله تعالى مخاطباً ذا القرنين: ” قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً….” الكهف86. معناها: أن تأسرهم فتعلمهم الهدى . وهذا يعني حسن معاملة ذي القرنين للأسرى الذين وقعوا في أسره.
ومما يدل على احترام الأسير غير المسلم ووجوب الإحسان إليه وإطعامه حديث ثُمامة بن أثال الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً قِبَلَ نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثُمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه في سارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال سَلْ تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم … وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله”. وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم:”أحسنوا إساره . وقال: اجمعوا ما عندكم من طعام فابعثوا إليه، فكانوا يقدمون إليه لبن لقحة الرسول صلى الله عليه وسلم غدواً ورواحاً” متفق عليه .
وفي هذا الحديث دليل على ضرورة الإحسان إلى الأسير، وتأليف قلبه، وملاطفته بلين الكلام، وعدم الغلظة عليه، وعدم إكراهه على الإسلام، ومنحه فرصة للتدبر والتفكير في أمر الدعوة، وإمكان المن عليه والعفو عنه مع القدرة على قتله أو مفاداته. وقد كان لكل ذلك أثر كبير في إسلام ثمامة .
وورد في ذلك أيضاً حديث وهب بن منبه في أسرى بدر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى فَرَّقَهم في أصحابه وقال:”استوصوا بالأسارى خيراً” وفي رواية “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسرى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم في الطعام وغيره” .
ومن ذلك قصة عدي بن حاتم الطائي وأخته رضي الله عنهما يقول عدي: لما قدمت رايات رسول الله صلى الله عليه وسلم احتملْتُ أهلي وولدي ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام … وخلفت أختي في الحاضر، فقُدِمَ بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا طيّء، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشام … فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أختي وهي في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا تحبس فيها، فقالت – وكانت امرأة جزلة – : يا رسول الله هَلَكَ الوالد وغاب الرافد، فامْنُنْ عليَّ منّ الله عليك؟ قال: من رافدك؟ قالت: عدي بن حاتم … وفيه: فقال صلى الله عليه وسلم: قد فعلت، فلا تعجلي بالخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني … قالت: فقمت حتى قدم وفد من قضاعة، فجئت فقلت: يا رسول الله قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ. قالت: فكساني وحملني وأعطاني نفقة فخرجت معهم حتى قدمت الشام …” .

وقال أبو عزيز بن عمير: “مرّ بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال له: شد يدك به، فإن أمه ذات متاع. قال: وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر ، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما يقع في يد رجل منهم كسرة من الخبز إلا نفحني بها. قال: فأستحي، فأردها على أحدهم فيردها علي ما يمسها ” .
وقال الحسن البصري:” إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين ويقول له: أحسن إليه. فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه” .
وورد في ذلك أيضاً حديث عمران بن حصين قال: “كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عقيل، فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق، فقال يا محمد؟ فأتاه فقال: ما شأنك؟ فقال: يا محمد علام أُخِذْتُ؟ فقال: أُخذتَ بجريرة حلفائك من ثقيف، ثم انصرف عنه. فناداه: يا محمد يا محمد، فقال له: ما شأنك؟ فقال: إني مسلم. فقال: لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداه يا محمد يا محمد؟ فأتاه فقال: ما شأنك؟ إني جائع فأطعمني وظمآن فاسقني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هذه حاجتك. ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم فداه بالرجلين عند ثقيف” رواه مسلم والدارمي وأبو عبيد والشافعي، وأصله عند الترمذي وأحمد باختصار .
قال الشوكاني: في هذا الحديث مشروعية إجابة الأسير إذا دعا، وإن كرر ذلك مرات، والقيام بما يحتاج إليه من طعام وشراب. ومعنى قوله:(هذه حاجتك): أي حاضرة يؤتى بها إليك الساعة .
وفي حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار: أن امرأة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام، فلما وضع يده فيه قال: أجد لحم شاة أُخذت بغير إذن أهلها. فسأل المرأة فقالت: إني أرسلت إلى امرأة فأرسلت إلي بها، فقال صلى الله عليه وسلم: “أطعميه الأسارى” رواه أبو داود وأحمد والطبراني . وإسناده صحيح .
وعندما طَعَنَ عبدُ الرحمن بن ملجم الخارجي عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه، لم يمت علي حتى أوصى بقاتله خيراً قائلاً: “إنه أسير فأحسنوا نزله وأكرموا مثواه، فإن بقيت قتلت أو عفوت، وإن مت فاقتلوه قتلتي، ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين” .
وقال عمر بن عبد العزيز أيضاً: “أما بعد: فاستوص بمن في سجونك وأرضك حتى لا تصيبهم ضيعة، وأقم لهم ما يصلحهم من الطعام والأدم” .

ويروي الشيعة عن جعفر الصادق قوله:” إطعام الأسير حق على من أسره وإن كان يراد من الغد قتله. فإنه ينبغي أن يُطْعَمَ ويُسْقى ويُظَلَّ ويُرْفق به كافراً كان أو غيره” .
وبخصوص تأمين الكسوة والثياب للأسرى: فقد مضى حديث أخت عدي بن حاتم وقولها: “فكساني وحملني وأعطاني نفقة”. وورد في ذلك أيضاً ما رواه البخاري في صحيحه بعنوان (باب الكسوة للأسارى) ذكر فيه حديث جابر بن عبد الله قال: “لما كان يوم بدر أُتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم له قميصاً، فوجدوا قميص عبد الله بن أُبَيّ يُقْدَر عليه، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه” .
وبعد غزوة حنين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في سبايا الطائف بأن تتخذ لهم حظائر يستظلون بها من الشمس، وأمر بشر بن سفيان أن يقدم مكة فيشتري للسبي ثياباً يكسوهم، فكساهم كلهم .

وتأمين الطعام والشراب واللباس والنفقة للأسرى الواردة في هذه الأدلة الصحيحة والواضحة، ما هي إلا أمثلة لتأمين هؤلاء الأسرى بجميع الضروريات والحاجيات التي يحتاجها الإنسان: من علاج، وتدفئة في الشتاء، وتبريد في الصيف، وتهوية، ورؤية الشمس يومياً، وتوفير أماكن صحية بعيداً عن الرطوبة والروائح الكريهة، وتوفير الحركة البدنية، وتزويدهم بالمياه الدافئة، وإعطائهم حرية العبادة والشعائر الدينية، والسماح لهم بزيارة أهلهم أو الاتصال بهم، والسماح لهم بالتفاعل والاختلاط بباقي زملائهم الأسرى، وعدم وضعهم في زنازين انفرادية، وعدم تعريضهم للتعذيب والاضطهاد، أو وضعهم في أماكن مزدحمة، وعدم التفريق بين الأقارب والأرحام، وتأمين المرأة الأسيرة باحتياجاتها الخاصة…
وغير ذلك من الضروريات والحاجيات التي لا بد منها لكرامة الإنسان وحاجاته الأساسية، التي لا يستغني عنها أحد من الناس. وهي تختلف باختلاف الزمان والمكان والبيئة والعادات والتقاليد. فهذه كلها ينبغي توفيرها لهؤلاء الأسرى ، حتى وإن كانوا قبل أسرهم أعداء محاربين. فهذا ما يمكن أن نفهمه من جملة النصوص والأحكام السابقة.
والإسلام قرر هذه الأحكام قبل أن يكون هناك قانون دولي لحقوق الأسرى، وقبل أن يكون هناك اتفاقيات جنيف ولاهاي، أو غيرها، والتزم بها الإسلام عملياً على أرض الواقع، ولم تكن مجرد كلامٍ نظريّ. فقد نصت اتفاقيات جنيف لعام 1929م مثلاً على أن: “طعام الأسرى ولباسهم وسكناهم يجب أن تكون في نفس المستوى المتبع بالنسبة لجيوش الدولة الآسرة… ” .
ولكن أين هذا من الواقع الذي عشناه في سجون الاحتلال مثلاً؟!! فهذا كلام نظري فقط، لم تلتزم به الدول (خاصة الدول الغربية ودولة الاحتلال) إلا بالنسبة لمواطنيها من أصحاب الجرائم الجنائية. أما أسرى الحرب، وخاصة حين يكونون من المسلمين، فلا يعرفوه إلا في الكتب والدعايات والشعارات فقط.

(ولا يعرف قيمة هذه الأخلاق الإسلامية إلا من جرَّب السجون، حين يوضع مثلاً في زنزانة منفردة، وليس فيها شيء، وينادي بأعلى صوته السجان الشرطي لكي يحضر له شربة ماء، ويبقى ينادي لساعات طويلة دون أن يجيبه أحد كما حصل معنا مرات عديدة) .
 إن الإسلام يحث أتباعه في حالة الحرب على القتال والاستشهاد والإثخان في العدو المعتدي، حتى لا تقوم له قائمة، أما إذا وقع بعض الأفراد من هذا العدو في الأسر ليصبحوا أفراداً مستضعفين، لا حول لهم ولا قوة، فإن الأخلاق الإسلامية والسماحة الإسلامية والقيم الدينية تفرض على المسلمين حينئذ معاملتهم بهذه السماحة، وهذه المعاملة الطيبة، التي لا يراها الأسرى عند أحد من غير المسلمين.
فليس المقصود من الأسر والسجن في الإسلام الانتقام من الأسير وتعذيبه والتضييق عليه أو جعله عبرة، فلم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم سجن يحبس فيه الأسرى، وكذلك في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وإنما كان الأسرى يوزعون على المساجد أو بيوت المسلمين، واحتجازهم فيها مؤقتاً حتى يتم تقرير مصيرهم. فلما جاء عمر بن الخطاب وكثر الناس ابتاع داراً بمكة من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم وجعلها سجناً يحبس فيها .
ومن الأحكام الفقهية الرائعة في هذا المجال: ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من عدم جواز قتل الأسير الذي لا يستطاع حمله، إذا كان ممن نهي عن قتله في الحرب كالمرأة والطفل والشيخ. فقد سئل الإمام الأوزاعي عن القوم يكونون في السرية فيصيبون المرأة فلا تقدر على المشي معهم، ولا يكون معهم محل لها، ويخافون إن تركوها أن تدل عليهم، أو الغلام لم يحتلم أو الشيخ الكبير كذلك؟ فقال: لا يُقْتَل من نُهِيَ عن قتله بالظن. وكذا قال الثوري .
وفي حالة ترك هؤلاء الأسرى ممن لا يستطاع حملهم فإن المالكية ترى أن يترك المسلمون لهم ما يحتاجون إليه من طعام ولباس وغيره قبل تركهم، حتى لا يموتوا بسبب الجوع أو البرد .
وكان أحمد بن طولون يجري على المسجونين (500) دينار في كل شهر لإصلاح أوضاعهم، وتأمين احتياجاتهم .

(2) عدم التفريق بين الأسرى الأقارب:
ومن مظاهر التسامح الإسلامي مع الأسرى الذين يقعون في أيديهم: عدم جواز التفريق بين المرأة وولدها أو الوالد وولده أو بين الأخوة الأسرى، وأن يبقوا معاً طوال مرحلة الأسر، وذلك من أجل منع تشتت الأسرة، وحفاظاً على أبناء العائلة الواحدة من الضياع والفراق والحزن … خاصة بين الوالدة وولدها.
فقد أجمع الفقهاء على عدم جواز التفريق بين الأم وولدها الطفل، وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والأوزاعي والليث وأبي ثور وغيرهم. وكذلك قال الجمهور (أحمد وأبو حنيفة والشافعي): لا يفرق بين الوالد وولده . لحديث أبي أيوب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة” رواه أبو داود والترمذي وأحمد والدارمي . وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
وحديث علي رضي الله عنه قال:” أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين، فبعتهما ففرقت بينهما. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أدركهما فارتجعهما، ولا تبعهما إلا جميعاً” رواه أبو داود .
وحديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لعن الله من فرق بين الوالدة وولدها والأخ وأخيه” رواه ابن ماجة والدارقطني بإسناد ضعيف .
وحديث فاطمة بنت حسين قالت: “بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى مدينة (مَقْناص) فأصابوا منهم سبايا، منهم ضميرة مولى علي، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيعهم وهم أخوة، فخرج إليهم وهم يبكون، فقال: ما لهم يبكون؟ فقالوا: فرقنا بينهم. قال: لا تفرقوا بينهم بيعوهم جميعاً” .
وهناك أحاديث أخرى تؤكد هذا المعنى ، وكلها يشهد لهذا الحكم الشرعي، وهذا الخلق الإسلامي العظيم مع هؤلاء الأسرى.
ويبقى هذا المنع من التفريق حتى البلوغ عند الجمهور. وقال الإمام أحمد: بل يبقى حتى بعد البلوغ، وكذا قال الخرمي، لأن الأم تتضرر بمفارقة ولدها الكبير، ولهذا حرم عليه الجهاد بدون إذنها. وقال الشافعي: حتى سن السابعة أو الثامنة. وقال الأوزاعي: حده فوق عشر سنين، لأنه عندئذ ينفع نفسه ويستغني عن أمه .
وحتى لو رضيت الأم بالتفريق بينها وبين ولدها لم يزل التحريم على المذهب الصحيح رعاية لحق الولد. ثم لأن المرأة قد ترضى بما فيه ضررها، ثم يتغير قلبها بعد ذلك فتندم . والجد والجدة في تحريم التفريق بينهما وبين ولد ولدهما كالأبوين ، لأن الجد أب والجدة أم … فاستووا في ذلك .
ورغم أن هذا الحكم يتعلق في ظاهره بالسبي الذي يؤدي غالباً إلى الرق والعبودية، عندما كان ذلك مشروعاً في الزمان الماضي قانوناً وعرفاً وشرعاً، إلا أننا نعتقد أن هذا الحكم لا يتغير حين يتم إلغاء نظام الرق والعبودية، ويستعاض عن ذلك بالسجون والمعتقلات، فينبغي جمع الأسرى الأقارب في سجن واحد، وعدم تشتيتهم وتفريقهم في سجون بعيدة عن بعضها، مما يسبب حرجاً كبيراً لهؤلاء الأسرى الأقارب، ولأهلهم الذين يضطرون لزيارتهم مراراً وتكراراً. وذلك لأن الأحاديث في ذلك عامة كما هو واضح، كما أن الحكمة التي مُنِع لأجلها هذا التفريق موجودة أيضاً في هذه السجون والمعتقلات، بل إن وجودها في هذه السجون المعاصرة أوضح وأظهر.
ولا يعرف قيمة هذا الخلق الإسلامي في منعه للتفرقة بين أعضاء الأسرة الواحدة الذين وقعوا في الأسر، إلا من يرى على أرض الواقع مثل هذه المآسي، حين يقع أخوان أو ثلاثة (أو حتى خمسة) أخوة من العائلة الواحدة في الأسر والاعتقال، كما هو الحال في سجون الاحتلال (وما أكثر هذه الحالات في هذه السجون) حيث يتم تفريق هؤلاء الأخوة بين عدة سجون في مناطق بعيدة عن بعضها، لتبدأ رحلة العذاب لهؤلاء الأسرى وأهلهم.
خاصة بالنسبة للوالدين عندما يضطران لزيارتهم كلاً على حده، ففي كل زيارة يحتاجان إلى يوم كامل من الصباح الباكر حتى المساء، في رحلة عذاب مضنية، يتعرضون خلالها للتفتيش المهين والانتظار الطويل، من أجل أن يروا ابنهم من خلف الزجاج أو القضبان والشباك الحديدية لمدة 45 دقيقة فقط. لينتظروا زيارة ابنهم الثاني في السجن الآخر في اليوم التالي لتتكرر المأساة من جديد. ويستمر هذا الحال سنوات طويلة دون أي مبرر لهذا التفريق إلا الحقد والظلم وحب الانتقام من هؤلاء الأخوة وعائلاتهم.
وتزداد المأساة والمعاناة حين تعتقل الأم ويكون لها طفل، لتعيش بعيدة عنه مدة طويلة، كما حصل مع الأم (لمياء معروف) وزوجها (توفيق عبد الله) عندما تم اعتقالهما وتركا ابنتهما الصغيرة )لبنى( وعمرها أقل من سنة، حيث فرقت هذه السجون بين جميع أفراد هذه العائلة مدة إحدى عشرة سنة، دون رأفة أو رحمة، لتخرج هذه الأم وتجد ابنتها في الصف السادس الابتدائي بعد أن تركتها وعمرها سبعة أشهر فقط!!!
مما يؤكد قيمة هذا الخلق الإسلامي الذي يحرِّم هذا التفريق بين أبناء الأسرة الواحدة إذا وقعت في الأسر، اعترافاً من الإسلام بقيمة الكرامة الإنسانية، ومراعاة لصلات القربى والرحم، حتى لهؤلاء الأسرى من غير المسلمين الذين حاربوا المسلمين وقصدوا تدمير المجتمع الإسلامي.

(3) النهي عن تعذيب الأسرى أو إيذائهم:
في ضوء عموم الأدلة السابقة، التي توصي بالإحسان إلى الأسرى بشكل خاص، والأدلة التي تدعو إلى الرحمة والبر والعدل والتسامح بشكل عام، كقوله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ” الأنبياء107. وقوله تعالى: “وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” المائدة8. وقوله تعالى: ” وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ” البقرة 237. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَم” . وفي رواية: “من لا يرحم من في الأرض لا يرحمه من في السماء”. نؤكد على عدم جواز تعذيب الأسير لأي سبب كان، فقد رأينا أن السجون ليست للانتقام من الأسير، وإنما هي للضرورة، كي نعالج هذا الأسير نفسيا وخلقياً واجتماعياً، أو لمنع الضرر المتوقع منه، خاصة أسرى الحرب من الجنود المدربين والمؤهلين…
حتى وإن كان هذا التعذيب من أجل انتزاع اعتراف منه عن الأسرار العسكرية لدولته . فقد مر معنا قول الإمام مالك عندما سئل: أيعذب الأسير إن رجي أن يدل على عورة العدو؟ فقال: ما سمعت بذلك.
وروى ابن جرير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بدر حين وقع سهيل بن عمرو أسيراً بيد المسلمين: “يا رسول الله انتزع ثَنِيَّتَيْ سهيل بن عمرو السفليين يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أُمَثِّل به فيمثّل الله بي وإن كنتُ نبيا” .
فلا يجوز تعذيب الأسرى وتعريضهم للاضطهاد والمعاناة، كما يحدث في هذا الزمان في سجون الظالمين، تحت سمع العالم وبصره، مما شاهده العالم كله عبر شاشات التلفاز والإنترنت والصحف والإذاعات… رغم وجود القوانين الدولية، واتفاقات جنيف ولاهاي، التي تحرِّم ذلك. فقد نصت اتفاقية جنيف لسنة 1949: ” لا يجوز للدولة المحاربة استعمال الضغط على الأسير للحصول على معلومات تفيدها في عملها العسكري ضد دولته”. ثم حددت المعلومات التي يمكن أن تطلبها الدولة الآسرة من الأسير وهي: “الإدلاء باسمه ولقبه، ورتبته العسكرية، ورقم تحقيق شخصيته في الجيش، وتاريخ ميلاده” فقط. فهل هذا الذي يجري حقيقة في سجون الظالمين؟! خاصة في سجون الاحتلال الصهيوني؟!
ومن هذا الباب عدم جواز إكراه الأسرى على اعتناق دين معين، وضرورة إعطائه الحرية للتعبد حسب دينه وشعائره. يقول القرطبي في قوله تعالى: “لَا إِكْرَاهَ فِيْ الدِّيْن” البقرة256. قيل: وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب، لا يجبروا على الإسلام إذا كانوا كباراً… .
ويدخل في هذا الموضوع وجوب علاج مرضاهم وجرحاهم، لأن الأمر بالإحسان إلى الأسرى يتناول علاجهم من الأمراض والجراح. وقد نهى الإسلام قتل غير المقاتلة، والجرحى والمرضى غير مقاتلين، فلا يجوز قتلهم، أو الإجهاز عليهم.
ففي فتح مكة منًّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل مكة وقال لهم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ألا لا يجهزن على جريح، ولا يتبعن مدبر، ولا يقتلن أسير، ومن أغلق بابه فهو آمن” .

 والخلاصة أن الإسلام – بشكل عام – أعطى الأسرى أثناء اعتقالهم وأسرهم جميع الحقوق والامتيازات، وأمن لهم كل الضروريات والحاجيات، وتعامل معهم بكل رحمة ورأفة وسماحة، فهم يتمتعون بجميع الحقوق الإنسانية، ويوجب توفير جميع الضروريات والحاجيات التي يحتاجونها، وأن يعيشوا في نفس الأجواء والظروف التي يعيشها المسلمون الأحرار، بل أحياناً نجد المسلمين يؤثرون هؤلاء الأسرى على أنفسهم كما فعل الصحابة الكرام بأسرى بدر.
دون أن يحتاج هؤلاء الأسرى إلى نضال أو فعاليات أو صراعات، أو سقوط عدد من القتلى والجرحى بسبب مطالبتهم بحقوقهم، أو إضرابات مفتوحة عن الطعام. لأن الإسلام يلزم المسلمين إعطاءهم هذه الحقوق تديُّناً وإيماناً وابتغاءً لمرضاة الله :”إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا” الدهر: 8. مما لا نجد له مثيلاً، ولا يمكن أن يتصور مثله عند أية أمة من الأمم أو دين من الأديان.

 هذه هي المعاملة التي يتلقاها الأسرى عند المسلمين، وهي التي نوصي بانتهاجها في التعامل مع قضية الأسرى في كل مكان، وأن يصاغ على ضوئها قانون متكامل يخص الأسرى، وأن يتبناه مجلس الأمن الدولي ومنظمات حقوق الإنسان. ليس في الجانب النظري فقط، كما هو الحال الآن، وإنما في الجانب العملي والتطبيقي أيضاً، مع المراقبة المستمرة لأحوال السجون والسجناء، خاصة في المناطق الساخنة، التي تشهد توترات واحتجاز لآلاف الناس في ظروف غاية في الشدة والقسوة. وأن تعاقب الدول والأفراد الذين ينتهكون هذه الحقوق مهما كانوا وأينما كانوا.

المبحث الثالث: رعاية أهل الأسرى وعائلاتهم
الأسير بحاجة ماسة إلى من يرعى شئون أهله وأولاده، لأن معظم همِّ الأسير وقلقه في سجنه يكون على أهله الذين انتزع من بينهم، ولا يدري ما حل بهم بعد الأسر. ويبقى في قلق وهم وحزن حتى يسمع أخبارهم، ويطمئن أنهم لم يضيعوا بعده، خاصة إذا كان هو المعيل لهم والقائم بشؤونهم قبل اعتقاله.
وهذا الموضوع في غاية الأهمية، لأن العدو لا يرحم، وقد يستهدف أهل المجاهد بعد اعتقاله حتى يحطم نفسيته، ويجعله عبرة لمن يسير على نهجه الجهادي المقاوم. فلا بد من الاهتمام الكامل بأهل الأسير وأسرته، والقيام بكل احتياجاتهم، وعدم تعريضهم للضياع أو الاستهداف.
وهذا بلا شك جزء من المواساة الواجبة تجاه الأسرى والمعتقلين المسلمين، كما قال الفقهاء، والمواساة لهم هي دون المفاداة ، فإذا لم نستطع مفاداتهم والإفراج عنهم فلا أقل من مواساتهم في أنفسهم وأهليهم.
ورد في حديث زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خَلَفَهُ في أهله بخير فقد غزا” رواه البخاري ومسلم . وترجم له البخاري بقوله: (باب فضل من جهز غازياً أو خلفه بخير). قال ابن حجر: خلفه بخير: أي قام بحال من يتركه خلفه.
وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً إلى بني لحيان من هذيل، فقال: لينبعث من كل رجلين أحدهما، والأجر بينهما” وفي رواية لمسلم: ” ثم قال للقاعد: أيكم خَلَفَ الخارج في أهله وماله بخير، كان له مثلُ نصف أجر الخارج” رواه مسلم وأبو داود . قال النووي: وهذا الأجر يحصل بكل جهاد، سواء قليله وكثيره، ولكل خالف له في أهله بخير، من قضاء حاجة لهم، وإنفاق عليهم، أو مساعدتهم في أمرهم. ويختلف قدر الثواب بقلة ذلك أو كثرته.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى المسلمين الأسرى في القسطنطينية: ” أما بعد: فإنكم تُعِدون أنفسكم الأسارى، معاذ الله، بل أنتم الحبساء في سبيل الله. واعلموا أني لست أقسم شيئاً بين رعيتي إلا خصّصت أهلكم بأكثر من ذلك وأطيبه. وإني قد بعثت إليكم فلان بن فلان بخمسة دنانير، ولولا أني خشيت أن يحبسها عنكم طاغية الروم لزدتكم عليها. وقد بعثت إليكم فلان بن فلان يفادي صغيركم وكبيركم، وذَكَرَكم وأنثاكم، وحركم ومملوككم، بما يسأل عنه. فأبشروا ثم أبشروا. والسلام” .
رضي الله عنك يا ابن عبد العزيز ما أعظمها من كلمات، وما أعمقه من فهم، وكأنه يشعر بما يشعر به الأسرى أنفسهم، فيعرف همومهم وأحزانهم، وجميع احتياجاتهم، ويعرف تعلقهم بأهلهم وقلقهم عليهم. فهذه الكلمات تلخص معظم ما يحتاجه الأسرى، وتلبي مطالبهم وطموحاتهم.
يقول الدكتور القرضاوي حفظه الله: “على المسلمين أن يساندوا أهالي إخوانهم الذين قتلوا في سبيل الله، وضحوا بأرواحهم من أجل دينهم وأمتهم، والذين تحملوا الأذى ومحنة الأسر أو السجن في سبيل الله. وأن يكونوا أهلاً بعد أهلهم، فيكونوا للصغار آباء، وللكبار أبناء أو إخوانا. والمفروض أن تكون أسر هؤلاء الشهداء أو الأسرى في كفالة الجماعة المسلمة وفي رعايتها، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته” .
أما الجهة التي تقوم بهذا الواجب، فهي عامة تشمل الأفراد والجماعات والحكومات والأحزاب والمؤسسات الحقوقية والإنسانية والاجتماعية، بمعنى أن كل الأمة ينبغي أن تهب لحماية ومساعدة أهل الأسير وعائلته، وعدم تعريضهم للضياع، أو الاستهداف من قبل الأعداء وعملائهم، أو من أصحاب النفوس المريضة، الذين لا يعرفون قيمة هؤلاء الأسرى ودورهم في حماية الأمة وأعراضها وكرامتها.
ومن هذا الباب ضرورة أن يكون هناك راتب خاص للأسرى وأهلهم، يعينهم على نوائب الحق، ويمنعهم من الضياع والتسول على الأبواب. وذلك لأن غياب معيلهم عنهم كان من أجل الدفاع عن حرمات الأمة وحدودها وكرامتها، فلا أقل من أن يكون لأهله من بعده حق على هذه الأمة على شكل راتب شهري مناسب. وإذا كان هذا الأسير موظف حكومي أو عامل في مؤسسة، قبل اعتقاله، ويتقاضى عليه راتباً معيناً، أن يستمر هذا الراتب بعد اعتقاله، وأن يظل محفوظاً في حسابه، أو أن يدفع إلى أهله من خلال وكالة خاصة منه، أو يدفع لورثته من بعده إن قُتل أو مات في سجنه.
وهذا يمكن استنباطه من قول جمهور الفقهاء من أن الأسير له حق في الغنيمة، حتى وهو في الأسر، وتحفظ له الغنيمة حتى يعود، أو تعطى لأهله . خاصة وأن مفهوم الغنيمة هذه الأيام اختلف كثيراً عن مفهوم الغنيمة في الزمن السابق.

حفظ زوجة الأسير:
والويل كل الويل لمن يستغل غيبة هذا المجاهد الأسير عن أهله، فيتعرض لأهله بسوء أو أذى، فهذه خيانة عظيمة، وجريمة شنيعة، ينبغي أن لا تحدث، وأن يعاقب أشد العقاب كل من يتجرأ على الاعتداء على أهل الأسير خاصة زوجه وأولاده. وفي صحيح مسلم باب كامل ترجمته: (باب حرمة نساء المجاهدين وإثم من خانهم فيهن) . قال النووي: هذا في شيئين أحدهما: تحريم التعرض لهن بريبة، من نظر محرم وخلوة وحديث محرم وغير ذلك. والثاني: في بِرِّهِنّ والإحسان إليهن، وقضاء حوائجهن التي لا يترتب عليها مفسدة، ولا يتوصل بها إلى ريبة ونحوها.
وجاء في حديث بريدة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم. وما من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم، إلا وُقِف له يوم القيامة فيأخذ من عمله ما شاء. فما ظنكم؟” رواه مسلم في الصحيح .
ولا شك أن زوجة الأسير وأولاده هم أكثر المتضررين من غياب الزوج والأب، (وسيأتي الحديث عن أحكام زوجة الأسير وما يتعلق بها، في فصل الأحكام القادم إن شاء الله). ولكننا نؤكد هنا على حفظ هذه الزوجة التي ضحت مع زوجها المجاهد، وآثرت أن تبقى على ذمته، فهي امرأة مجاهدة مثل زوجها، ولها أجر المجاهدين بالنية الصادقة، فأحرى أن تصان هذه الزوجة المجاهدة، وأن يخفف عنها فيما هي فيه من محنة وشدة، وأن يعاقب كل من يقصدها وأولادها بسوء بعقوبة رادعة تتناسب مع عظم هذه الجريمة، حتى يمن الله على زوجها بالفرج.

العلاقة بين الأسير وزوجه:
وهنا نود أن نذكِّر بأن على هذه الزوجة المجاهدة الصابرة واجب كبير تجاه زوجها، والتخفيف عنه فيما هو فيه، خاصة أن معظم همّ هذا الأسير واشتياقه هو لزوجه وأولاده. وهو أيضاً بدوره عليه واجب كبير تجاه زوجته التي لا تقل معاناتها عن معاناته.
يقول الدكتور القرضاوي حين سئل عن المرأة الذي حكم على زوجها بالمؤبد أو أكثر، هل يجوز لها أن تطلب الطلاق من زوجها الأسير؟
فأجاب: الأولى بالزوجة في مثل حالة الأخوة في فلسطين وجهادهم مع العدو الغاصب، أن تصبر الزوجة على زوجها، وتنتظر عودته إليها بأذن الله، مكايدة للعدو، وإشعالاً لناره، وغيظاً له، فالمعركة يخوضها الشعب كله برجاله ونسائه، ومن نصيب المرأة في الجهاد الصبر على الزوج الأسير والسجين، ولا سيما إذا كان معها أولاد منه. فإذا لم يكن معها أولاد، أو كانت الزوجة شابة في أوائل الحياة الزوجية، فلا بأس أن تطلب الطلاق من الزوج الذي حكم عليه بالمؤبد أو نحو ذلك، كما في بعض المذاهب الإسلامية، إذا غاب الزوج عن زوجته أربع سنين فأكثر، بسجن أو غيره. والأفضل في هذه الحالة: أن يبادر الزوج فيمنحها الخيار، ويجعل أمرها بيدها، دون أن تضطر إلى طلب الطلاق في المحكمة. وهذا هو الأكرم للعلاقات بين المسلم والمسلمة، وخصوصاً إذا كان من أهل الدعوة والجهاد. وهذا ما أعلمه من تصرف الإخوة الصادقين، وقد عرفت في مصر أخوات صبرن على أزواجهن حتى خرجوا من السجن بعد عشر سنين، أو بعد عشرين سنة، ورفضن طلب الطلاق ليتزوجن، برغم ضغط أهليهن وأقاربهن عليهن .
وأضيف أننا عرفنا في سجون الاحتلال عشرات الزوجات الشابات صبرن على فراق أزواجهن سنوات طويلة، وبعضهن لم تمكث مع زوجها إلا شهراً أو شهرين فقط قبل الأسر، وشاءت الأقدار أن يعتقل أزواجهن، ويحكم عليهم بالمؤبدات، ومكثوا في السجن بعد ذلك أكثر من عشر أو عشرين سنة، ولا زالوا في الأسر حتى الآن، وزوجاتهم ينتظرن تحريرهم من السجون، صابرات محتسبات، جزاهن الله كل خير، وعجّل في تفريج كربتهن.
وهنا ينبغي لهذا الزوج الأسير بعد أن يخيِّر زوجته، ويجعل أمرها بيدها، ثم ترضى أن تبقى على ذمته رغم ذلك، أن يحرص على التواصل معها قدر الإمكان، وأن يشعرها بأنه يحبها كثيراً، وأنه يريدها، ويثني عليها دائماً، وذلك من خلال الزيارات، أو الرسائل إن أمكن، وأن يعمل لها بعض الهدايا الرمزية حسب ما هو متوفر من ذلك. وأن لا يمل من ذلك مهما طالت الأيام والسنون. وأن يوصيها دائماً بالصبر والثبات، وأن الأمل بفرج الله قريب.
وعليه أن يقوي عزيمتها بالإيمان بقضاء الله وقدره، وأن لها الأجر العظيم على هذا الصبر والفراق وهذه الآلام والأحزان. وهو بذلك يخفف عنها ما هي فيه من ألم الفراق، ويحصنها من التفكير في غيره، أو التفكير في الانفصال عنه. وإذا كان بينهما أولاد فإن هذا الاهتمام وهذه الوصايا تنعكس إيجاباً عليها وعلى الأولاد وعلى علاقتها بهم، وتربيتهم التربية الصالحة.

الفصل الثالث
واجبات الأسرى وأخلاقهم

الفصل الثالث
واجبات الأسرى وأخلاقهم
تمهيد:
ما ذكرناه في الفصل السابق هو واجب الأمة تجاه أسراها الذين وقعوا في أسر أعدائها بسبب دفاعهم عن حقوق هذه الأمة ومقدساتها وثقافتها، وكذلك حقوق هؤلاء الأسرى وأهلهم وعائلاتهم على هذه الأمة، على اختلاف جهاتها الرسمية والشعبية، والحزبية والمؤسساتية… فما هو واجب الأسرى أنفسهم تجاه أنفسهم وتجاه زملائهم وتجاه أمتهم؟ وما هي الصفات والأخلاق التي ينبغي أن يتحلوا بها أثناء وجودهم في سجونهم وبعد الإفراج عنهم؟ وكيف ينبغي أن يقضوا أوقاتهم ويشغلوا طاقاتهم في فترة أسرهم؟
هذا ما سأحاول الإجابة عليه في هذا الفصل بإذن الله تعالى، مستفيداً من التجربة الطويلة التي قضاها الباحث في سجون الاحتلال، ومستفيداً من عمل الباحث كمنسق للبرامج الثقافية لعدة سنوات في هذه السجون. علماً بأن هذا الموضوع فريد في موضوعه، ولم يتطرق إليه أحد من الذين كتبوا في موضوع الأسرى وأحكامهم ومواساتهم، حسب علمنا.
فلم نجد أحداً تناول هذا الموضوع رغم أهميته، وحاجة الأسرى إليه. خاصة في مثل ظروفنا في بلادنا فلسطين، التي دخل مئات الآلاف من قياداتها ومجاهديها ومناضليها السجون، ويبدو أنه سيدخلها المزيد من خيرة أبناء هذا الشعب، ما دام الاحتلال جاثماً على أرضه. فكيف يمكن الاستفادة من فترة وجود هؤلاء في السجن؟ حتى لا تضيع سنوات أسرهم هدراً؟.
وبداية نقول: إن الأسرى بشكل عام، والأسرى الفلسطينيين بشكل خاص، لهم احترامهم وتقديرهم عند الناس، لأنهم يمثلون أشرف وأعدل قضية في العصر الحديث، فهم قدوة وأسوة لأمتهم ولشعبهم وللأجيال القادمة. فكما أن الشهيد له أثر عظيم على الناس وعلى الأجيال بتضحياته ودمائه، التي ترسم الطريق وتضيء المسير نحو الأهداف الكبيرة للأمة، فكذلك الأسير الذي ضحى بحريته وشبابه وراحته، وكان يتمنى الشهادة قبل اعتقاله، فهو مثل الشهيد، إذا عرف طريقه وعرف قيمته وتأثيره على الناس وعلى الأجيال. والناس ينظرون إلى هذا الأسير بهذا المنظار، فهو في أعينهم رمز وبطل ونموذج مثالي، يتمتع بمكانة عالية ومنزلة مرموقة بينهم. هذه المكانة التي تظهر عند استقبال الناس له بعد الإفراج عنه بفرحة عارمة، واحتفاء كبير، يعرفها شعبنا الفلسطيني جيداً.
وهذا مع كونه شرفاً ومكرمة كبيرة، إلا أنه يشكل في نفس الوقت مسؤولية أكبر على هذا الأسير، حتى يكون عند حسن ظن أمته به، ويستغل هذه القيمة المعنوية وهذه المكانة، ليكون قدوة وأسوة لأمته وللأجيال من بعده، فيكون متميزاً في إيمانه وثقافته وفكره ودينه وأخلاقه وعباداته ومعنوياته. وبالتالي يستكمل دوره الريادي والجهادي والنضالي المقاوم. فالمطلوب منه ابتداءً أن يكون قوياً في إيمانه وإخلاصه وثقته بالله ، وأن يرتقي باهتماماته وتصوراته وثقافته، وأن يترفع بسلوكه وعلاقاته عن الدنايا والأهواء، وأن يكون شهما شجاعاً كريماً، يتمتع بمعنويات عالية، وأخلاق رفيعة……
وعندئذ يمكن أن يحقق هذا الأسير معنى قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ”الأنفال65.
وأمتنا اليوم بحاجة ماسة لأمثال هؤلاء الرجال، الذين يقابل الواحد منهم عشرة من أعداء الله وينتصر عليهم، ولا يكون ذلك إلا بتوافر عناصر القوة في هؤلاء الرجال، وأهمها قوة الإيمان والإخلاص واليقين بالله تعالى، والتوكل الحقيقي عليه، وقوة الصبر والثبات، ثم قوة الرابطة الداخلية والأخوة والمحبة بينهم، وقوة العقل والثقافة والعلم والفكر، ثم قوة البدن والإعداد العسكري والأمني.
لقد لاحظنا بعض زملائنا الأسرى، خاصة أصحاب الأحكام العالية والمؤبدات، يعتقدون أنهم قد عملوا كل ما عليهم، وأن تضحياتهم الكبيرة وإنجازاتهم الهامة قد انتهت عند لحظة الاعتقال… وهذا منزلق خطير قد يستغله الشيطان الرجيم للوسوسة، من أجل إبطال الأجر الكبير والإنجاز العظيم الذي حققه هؤلاء الإخوة الأبطال، لأن العُجْبَ والغرور كما هو معلوم يحبط العمل.
وأحياناً يتطور هذا النهج عند البعض، ويصبح هذا الأخ يمُنُّ على إخوانه بأفعاله وإنجازاته. وقد يتطور أكثر ليصل إلى انتقاد القادة والتقليل من شأنهم، وانتقاد الأسرى الآخرين أو الدعاة في الخارج، الذين يعتقد أنهم لم يضحوا مثلما ضحى، ولم ينجحوا في عملهم مثلما نجح هو في عمله، وأنه أولى منهم في مسؤولياتهم ومناصبهم… وغير ذلك من الأفكار والوساوس المدمرة.
وهذا بلا شك منزلق خطير يقع فيه بعض الأسرى ولا أقول كلهم، (فمعظمهم بفضل الله تعالى يمتازون بالإخلاص والصدق والتفاني في خدمة دينهم ودعوتهم وقضيتهم)، ولكننا نحذر هنا من انتشار هذه الظاهرة الخطيرة، ومن تداعياتها السلبية على الحركة الأسيرة أولاً وعلى هؤلاء الإخوة أنفسهم ثانياً، وعلى الدعوة بشكل عام، لأنها بداية لسلسلة من السلبيات والانحرافات الخطيرة.
إننا في هذه الأرض المقدسة المباركة شئنا أم أبينا أصبحنا محط أنظار أمتنا العربية والإسلامية، بل محط أنظار العالم كله، أصبحنا قدوة وأسوة، ينظر إلينا نظرة المجد والفخار، وذلك كله بسبب تضحيات الشهداء والمجاهدين ومعاناة الأسرى والجرحى، والذين قاوموا الظلم والاحتلال بكل قوة وصبر وثبات. لقد أصبحنا نشكل النموذج والمثال في العصر الحاضر، هذا النموذج الذي افتقدته أمتنا منذ زمن طويل، والتي كانت بحاجة ماسة إليه، كي تجتمع الأمة من جديد حول منهجها ودينها، وتحقق أسباب القوة، لتعيد حقوقها السليبة، وهيبتها المفقودة… وهذا بلا شك مسؤولية كبيرة تقع علينا في هذه البلاد بشكل عام، وعلى الأسرى والمحررين بشكل خاص.
وهذا ما نقصد توضيحه في هذا الفصل، فبعد الحديث عن واجب الأمة تجاه أسراها، ينبغي أن نعرف واجب الأسرى أنفسهم، تجاه أنفسهم، وتجاه أمتهم، سواء وهم في السجن أو بعد الإفراج عنهم، كي يكتمل دور المجاهد أو المناضل فلا يكون اعتقاله نهاية المطاف، فيساهم بطرق وأساليب أخرى في تحقيق الأهداف التي ضحى من أجلها، حتى يحقق وعد الله تعالى: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ” العنكبوت69.

وهذه الصفات والأخلاق تفيد الأسرى أنفسهم من ناحية أخرى، فيمكن بذلك أن ندعم تلك الجهود التي تبذل من أجلهم، ومن أجل تحريرهم وتخليصهم من الأسر. فكم ضحى إخوانهم في الخارج، وكم من شهداء سقطوا من أجلهم، وكم من مجموعة كشفها الأعداء كانت تخطط وتعمل للإفراج عن الأسرى، سقطوا شهداء أو أسرى، دون أن يحققوا أهدافهم. وهنا يصدق معنى قوله تعالى:”فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ” الأنعام 43. أي أن من أصابته البأساء والضراء، عليه أن يتضرع إلى الله، وأن يبذل جهده في طاعة الله ومرضاته، وحينئذ يكون الله معه ويحقق آماله وأمنياته، ويوفقه في جهاده وأعماله…
إن التضرع والإنابة إلى الله، والبعد عن المعاصي والآثام يمكن أن توفر المزيد من الجهد والوقت، لتحقيق الهدف الكبير وهو تخليص الأسرى مما هم فيه من محنة وآلام ومعاناة. فالذنوب والمعاصي، أو التقصير في التضرع والصلة بالله تعالى لها آثار مدمرة، وتفوِّت الكثير من المصالح، وقد تكون سبباً في فشل تلك الجهود المبذولة من أجل الأسرى لا سمح الله. فكم من معصية فوتت مصلحة، وكم من ذنب أحبط جهوداً، وكم من تقصير في حق الله أخَّر رحمة الله وفرجه: “وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ” الطلاق 3-4.
وبهذه الأخلاق أيضاً وهذه المعنويات يستطيع الأسير أن يغيظ عدوه الذي يأسره، والذي يهدف من أسره إلى تحطيم معنوياته وإيمانه وروحه المعنوية، ويحاول أن يقتل فيه روح الجهاد والنضال، كي يكون عبرة للناس وللأجيال، فلا يفكر أحد في مقاومة ظلمه وبطشه ومخططاته الاستعمارية، وبالتالي يفرض إرادته على الأمة والوطن. فإذا اجتهد هذا الأسير في هذه الصفات المتميزة، والأخلاق السامية والمعنويات العالية، فإنه يحبط كل هذه المؤامرات، ويفشل جهود هذا العدو وخططه للنيل من الأسرى والمقاومين. وهذا يشجع الأمة والأجيال على السير في طريقه الجهادي والنضالي.
إن هناك فرقاً كبيراً بين أسيرٍ صابرٍ محتسبٍ، متوكلٍ على الله، معنوياته عالية، يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن محنة السجن هي بقضاء الله وقدره، وفق حكمته سبحانه، وأن في هذه المحنة خيراً كثيراً، متمسك بالأخلاق الفاضلة، ومستغل لوقته في السجن بما فيه فائدة وبما ينفعه في الدنيا والآخرة… وبين أسير محبط يائس من روح الله، معنوياته محطمة، يظن أن سجنه مصيبة وكارثة حلت به، وهو ينتظر الإفراج عنه في كل ساعة وفي كل دقيقة، همه فقط الخلاص مما هو فيه، يضيع وقته وسنوات سجنه في أمور لا فائدة حقيقية منها، ولا تنفعه لا في الدنيا ولا في الآخرة… ثم يظن بعد ذلك أنه مجاهد وبطل، يمنُّ على زملائه وإخوانه بصبره وتضحياته… ولا يصحو من غفلته إلا حين يُفْرَجُ عنه، وقد وجد نفسه قد خسر من عمره سنوات طويلة في غير فائدة، فتكون الحسرة والندم، ولات حين مندم.

في قصة يوسف عبرة:
ويمكن أن نفهم هذه المعاني من قوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام على لسان صاحبي السجن: “نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ” يوسف 36. فالآية تشير إلى أن يوسف عليه السلام وهو في سجنه كان مستمراً على الإحسان. والإحسان كما عرفه الرسول صلى الله عليه وسلم: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك” متفق عليه. وهذا يعني أن يوسف عليه السلام يعطينا المثل الأعلى للأسير المؤمن، في كل الميادين الإيمانية والدعوية والثقافية والعلاقة مع الزملاء الأسرى.فالإحسان صفة راسخة في النفس تدفع صاحبها للالتزام التام بأوامر الله تعالى، والثبات والصبر والتضحية…
وهذا كله يمكن أن نفهمه من قولهم: “إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ”. بهذا اللفظ المضارع الدال على الدوام والاستمرارية. كما أن الإحسان يعني الإتقان وبلوغ القمة في كل المجالات: فلا شك أن إيمان يوسف كان في القمة، وهذا لا شك فيه، وكذلك كانت معنوياته ونفسيته وثقته بالله، وبالتالي فلا مجال للإحباط واليأس أن يتسللا إلى قلبه. وكذلك كان محسناً في عباداته وطاعاته لله، فلا يكفي للمحسن أن يفعل الواجبات ويترك المحرمات، وإنما يضيف إلى الواجبات الحرص على النوافل والسنن، ويضيف إلى ترك المحرمات تجنب المكروهات والشبهات، وهذا ما يمكن أن نفهمه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك” . فيوسف عليه السلام كان في القمة في كل ذلك.

وفي مجال علاقته مع زملائه الأسرى، فإنه من خلال تعامله مع صاحبيه يتضح أنه كان يعاملهما بالاحترام والبر والإحسان، رغم أن أحدهما كان من أعوان الظلمة، لكن ذلك لم يمنع يوسف عليه السلام أن يعامله بالإحسان، فكيف لو كان زملاؤه من المسلمين الموحِّدين؟! هذا التعامل هو الذي جعل يوسف عليه السلام أسوة وقدوة ومرجعية لهم، يرجعون إليه في حل مشاكلهم، والإفادة من علمه وحكمته، حتى في تفسير الرؤى.
وأما في المجال الدعوي، فلا شك أن سياق الآيات يدل على حرصه على إيصال الدعوة إلى كل من حوله. كما في قوله تعالى على لسانه: "وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ. يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ " يوسف38-40.  

فقد استغل عليه السلام فرصة وجود هؤلاء الزملاء معه داخل السجن، وثقتهم به، وانبهارهم بأخلاقه وسلوكه، من أجل إيصال هذه الدعوة إليهم، وبيان حقائق الإيمان، وإعادة الحكم لله تعالى، وضرورة العبادة للإنسان التي من أجلها خلق. بهذه الحجج القوية، وهذا التودد لهم، والحرص على مصلحتهم…
وكذلك في المجال العلمي والثقافي، فقد كان يوسف عليه السلام في القمة من ذلك، ولا ندري هل كان عنده مكتبة في سجنه يستغلها في القراءة والتعلم أم لا، ولكننا نفهم من قوله تعالى: “وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ” يوسف22، أنه كان يتمتع بثقافة عالية وحكمة بالغة وعلم كبير. وهذه صفة هامة للأسير، تنفعه في سجنه وبعد الإفراج عنه.
وفي هذه الآية الأخيرة ربط هذه الحكمة والعلم بالإحسان، كما هو واضح من السياق، مما يدل على أن كل هذه القضايا مرتبطة بعضها ببعض، وأن الإحسان بالمفهوم الشرعي الذي عرفناه، يساعد في تحقيق كل هذه الإنجازات.
المبحث الأول
الواجبات على المستوى الشخصي والجماعي

هذا كله يقتضي من الأسير أن يجاهد نفسه وهو في الأسر من أجل تحقيق الأمور التالية:

أولاً:على المستوى الشخصي:

  • الارتقاء في المجال الروحي: بأن يجتهد في تزكية نفسه، وزيادة إيمانه، وتعميق صلته بالله تعالى. وذلك بالإكثار من قراءة القرآن بتدبر، وبقراءة كتب التزكية المعروفة، خاصة كتب أبي حامد الغزالي وابن قيم الجوزية وسعيد حوى والراشد وغيرهم. وأن يستغل وقته بالإكثار من النوافل، كقيام الليل وقراءة القرآن أو حفظه، وصيام التطوع، والإكثار من الذكر والاستغفار والدعاء، وتحصيل الخشوع…. كما سيأتي تفصيله قريباً.
  • الارتقاء في المجال الثقافي: أن يجتهد في استغلال وقته الطويل في زيادة معارفه، ورفع مستواه الثقافي والفكري والعلمي. فوجوده في السجن فرصة قد لا تتكرر، خاصة وأن في السجون العديد من المكتبات لا بأس بها، والتي يمكن الاستفادة منها….. وسيأتي مزيد بيان لهذا الموضوع المهم أيضاً.
  • الارتقاء في الجانب السياسي: ومن ذلك الاستماع إلى نشرات الأخبار والتحاليل السياسية، ومتابعة أوضاع العالم الإسلامي. فهو أسير سياسي يمثل أعدل قضية سياسية في العصر الحاضر، يفترض أن يكون واعياً في السياسة، قادراً على التحليل السياسي، وربط الأحداث السياسية بعضها ببعض… وأن يناقش ذلك مع زملائه الأسرى، في أجواء هادئة وإخلاص، دون تعصب للرأي، مع الالتزام بآداب وأخلاق الحوار والنقاش.
    ويستطيع التنظيم أو الفصيل (من خلال اللجنة الثقافية أو السياسية) عقد دورات ومحاضرات في مبادئ العلوم السياسية، وتحليل الأحداث السياسية، وإعداد مجلة شهرية أو نصف شهرية في هذا المجال، وعقد جلسات للحوار السياسي، وتعميم البيانات السياسية، والترجمات الهامة من الصحافة الصهيونية وغيرها. ويمكن استغلال فرصة وجود قادة العمل الوطني والإسلامي في السجن، وما أكثرهم، في هذه التوعية السياسية.
  • الارتقاء في المجال الرياضي والصحي: فعلى الأسير أن يحافظ على صحته وبدنه وقوته، من خلال الرياضة والحركة، واستغلال ساعة الرياضة الصباحية، أو ساعات التنفس اليومية في الساحة (الفورة)، والابتعاد عن آفة التدخين. وعدم البقاء على البرش (السرير) مدة طويلة، خاصة أصحاب المحكوميات العالية والمؤبدات. فقد ثبت بالتجربة أن هذا الجلوس الطويل يسبب العديد من الأمراض المعروفة في السجون، ليس من أقلها: أمراض الضغط والسكري والبواسير والقلب وآلام الظهر والمعدة…
    كما أن هذه الحركة وهذا النشاط البدني يخفف عن الأسير الكثير من الضغوط النفسية والعصبية، والهموم والأحزان ، الذي يعيشه نتيجة لفقدان الحرية وبعده عن الأهل والأوطان.
    وكذلك عليه أن يعتني قدر الإمكان ببرنامجه الغذائي، (رغم معرفتي بصعوبة ذلك داخل السجن بسبب إهمال إدارة السجون لهذا الموضوع، وتحديدها لكمية ونوعية الطعام المقدمة للأسرى). ولكن رغم ذلك يمكن للأسير أن ينظم برنامجه الغذائي قدر الإمكان، كالتقليل من شرب القهوة والكولا والمنبهات، والمعلبات التي تحوي مواد حافظة، والاعتماد على الكانتينا (بقالة السجن) في شراء الأغذية الصحية، خاصة الحليب والتمور والعسل وزيت الزيتون والزعتر، ونحو ذلك..

آفة التدخين:
وبمناسبة الحديث عن المجال الصحي للأسرى، لا بد من التذكير بآفة التدخين، التي تعتبر آفة العصر. ونحن نعلم أن هناك محاولات في كل دول العالم اليوم لمحاربة هذه الآفة، والتخفيف من أخطارها وأضرارها. أما الأسرى فإن لهذه الآفة وضعاً خاصاً عليهم يختلف عن الوضع في الحرية خارج السجون.
فمع كون التدخين حراماً من الناحية الشرعية، ولم يخالف ذلك عالم أو فقيه معتبر في عصرنا ، نظراً للأضرار الخطيرة والآثار السيئة المترتبة عليه، مما يصدق عليه قوله تعالى: “وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ” الأعراف 157. وقوله تعالى: “وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً” الإسراء 26. وقوله تعالى:” وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ” النساء 29. وقوله تعالى: “يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ” البقرة 185…
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار” رواه ابن ماجة ومالك وأحمد عن عبادة بن الصامت وابن عباس وعمرو بن يحيى المازني عن أبيه. ومع أن في أسانيد هذا الحديث ضعفاً إلا أن مجموع أسانيده يقوي بعضها بعضاً، والعلماء اتفقوا على صحة معناه، وجعلوا نصه قاعدة من القواعد الفقهية المتفق عليها.
وكذلك حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم “نهى عن كل مسكر ومفتر” رواه أحمد وأبو داود. وصححه السيوطي في الجامع الصغير ووافقه المناوي. وقال العراقي: إسناده صحيح . … وغير ذلك من الأدلة الشرعية. فضلاً عن القياس، وحكم العقل، والعادات والتقاليد، وحرمة إيذاء الآخرين، وحرمة الإسراف والتبذير بغير حق……الخ.
وفوق كل ذلك، فإن الأسير له وضعه الخاص في وجوب محاربة هذه الآفة، والابتعاد عنها، أو التخفيف من حدتها، وذلك من عدة جوانب:
أولاً: إن التدخين في غرف وزنازين السجن يسبب مشكلة كبيرة وإيذاءً شديداً لغير المدخنين. خاصة أن الأسرى ملزمون بالبقاء داخل هذه الغرف والزنازين المحكمة الإغلاق أكثر من عشرين ساعة يومياً، ولا يسمح لهم بالخروج منها إلا قليلاً، ويبقى على الأسير غير المدخن أن يتحمل هذا الأذى طوال اليوم. وفي هذا أذى كبير للزملاء الأسرى. والله تعالى يقول: “وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً” الأحزاب58.
وهذا الذي يسمى (التدخين السلبي)، الذي أجمع الأطباء أنه لا يقل ضرراً وخطورة عن التدخين العادي.
ثانياً: إلى جانب هذا الأذى والضرر الذي يسببه التدخين للأسرى، فإن عدونا السجان يستفيد فوائد كثيرة من تدخين الأسرى. ففضلاً عن شماتته وفرحه وسعادته حين يرى خيرة أبناء الأمة ينزلقون لهذه الآفة المدمرة، ويهلكون أنفسهم وأموالهم. وهذا خلاف لما هو مطلوب منهم شرعاً وعرفاً كمناضلين ومجاهدين من إغاظة الأعداء. فبالإضافة إلى ذلك فإن عدونا يكسب مكاسب مادية كبيرة بسبب تدخين الأسرى، دون عناء أو جهد منه.
أذكر أننا مرة عندما كنا في سجن عسقلان المركزي، قمنا بعمل إحصائية تقريبية لعدد الأسرى الفلسطينيين المدخنين في سجون الاحتلال، وكم ينفقون على هذه الآفة، (وهذه الأموال مع الأسف تذهب مباشرة إلى ميزانية الدولة، أو إلى ميزانية وزارة الدفاع). وجدنا أن الأسرى ينفقون حوالي 25 مليون شيكل في السنة (حوالي 5.5 مليون دولار)، كلها تذهب إلى ميزانية الأمن عندهم. لأن السجون تابعة إما للجيش أو للشرطة.
وهذا يفسر رفض إدارات السجون إدخال الدخان عن طريق الأهل من الضفة أو من غزة، وتشترط شراء الدخان من كنتينة السجن (البقالة الخاصة بالسجون)، أو من بوابة السجن وقت زيارة الأهل. ومن المعلوم أن نفقات السجون معفية من الضرائب، لأنها تابعة لمؤسسة الدولة مباشرة. ورغم ذلك فإن الأسير يدفع ثمن الدخان مع الضريبة الباهظة على الدخان التي تصل أكثر من أربعة أضعاف سعر التكلفة؟!
ثالثاً: كما أن المخابرات الصهيونية تستغل قضية المدخنين للضغط عليهم أثناء التحقيق في الزنازين، أو في حالة معاقبة الأسير في زنازين السجن. فتمنع عنهم الدخان عدا سيجارة واحدة في اليوم، فتستغل ذلك للضغط على هذا الأسير المدخن، من أجل انتزاع الاعتراف منه، أو من أجل إسقاطه أمنياً أو أخلاقياً. وقد رأينا قصصاً مؤلمة في هذا المجال، سواء في زنازين التحقيق، أو زنازين العقوبة.
وهذا لا يعني أن جميع المدخنين سقطوا في التحقيق، أو اعترفوا عند المحققين، أو أنهم سقطوا أمنياً أو أخلاقياً، ولكننا نقصد أن المدخن وضعه أصعب من غير المدخن، وقدرته على مواجهة المخابرات وإدارة السجون أضعف، وهو يعاني بسبب هذه الآفة كثيراً ، حيث كان يمكنه تلافي ذلك بمجاهدة نفسه للخلاص من هذه العادة السيئة.
رابعاً: أن الأضرار الناجمة عن التدخين في السجن تزيد عن الأضرار التي يسببها التدخين لغير السجين، وذلك لأن السجين يقضي غالب وقته وهو جالس على البرش (السرير)، وحركته بشكل عام قليلة، وحتى لو مارس الرياضة فلا يتعدى وقتها داخل السجن الساعة يومياً في أحسن الأحوال. وهذه لا تكفي للتخفيف من أضرار التدخين. وهذا بلا شك يزيد نسبة الأضرار الصحية الناتجة عن التدخين. وهذا يفسر سرعة انتشار الأمراض لدى الأسرى المدخنين، خاصة أمراض القلب والرئة والضغط والسكري وأمراض المعدة…
وقد شهدنا استشهاد اثنين من زملائنا الأسرى بسبب أمراض القلب الناتجة عن التدخين، وهما: الشهيد يوسف العرعير_ أبو رزق (المعروف بالخال) من غزة. ومحمد أبو هدوان_ أبو الحسن من القدس رحمهما الله. وكانا مدخنين حتى استشهادهما.
وتزداد الخطورة إذا علمنا أن هناك إهمالاً متعمداً في العلاج المقدم للأسرى في سجون الاحتلال، فهناك إهمال كبير من إدارات السجون في علاج الأسرى المرضى، فإذا سبب التدخين مرضاً للأسير فإن هذا الإهمال يتحول إلى كابوس يلاحقه طوال فترة سجنه. علماً أن إدارات السجون لا تفرج عن الأسرى بسبب الأمراض، حتى وإن أدت إلى الوفاة.

ثانياً: على المستوى الجماعي والعلاقة مع الزملاء:
من المعلوم أن الأسرى الفلسطينيين استطاعوا عبر تاريخهم الطويل تحقيق العديد من الإنجازات والمكتسبات. فما يتمتع به الأسرى الآن من بعض الامتيازات الإيجابية ما جاء إلا بعد سلسلة طويلة من التضحيات، والفعاليات النضالية والوطنية، خاصة الإضرابات المفتوحة عن الطعام، التي سقط فيها العديد من الشهداء والجرحى والعاهات المستديمة، وعوقب الكثيرون من الأسرى بسببها بالعزل والزنازين الانفرادية لسنوات طويلة.
هذه الإنجازات بحاجة ماسة للمحافظة عليها، وعدم السماح لإدارات السجون المتعاقبة أن تتلاعب بها، أو أن تسحبها بالتدريج. كما ينبغي للأسرى أن يحافظوا على كرامتهم، التي من أجلها ضحوا وجاهدوا وناضلوا وأُسروا. وأن تبقى صورتهم مشرقة أمام شعبهم وأمام العالم، وحتى أمام سجانيهم.
إن كرامة الأسرى والإنجازات التي حققوها عبر تاريخهم الطويل مسؤولية كبيرة، وتعتبر من أكبر المصالح الشرعية. والسماح بسحبها أو التفريط فيها، أو تغيير الصورة الإيجابية المعهودة للأسرى، هو خيانة لتضحيات الأسرى السابقين، وهو من أعظم المفاسد، التي ينبغي درؤها، ومنع كل من يستهدفها. فهذا من المقاصد الشرعية والوطنية التي يجب حفظها ومراعاتها.
هذا الأمر بحاجة ماسة ودائمة للتذكير به، حتى لو احتاج ذلك إلى تضحيات، فلا بد من هذه التضحيات، فكما أن الأسرى السابقين ضحوا من أجل هذه الإنجازات والمكتسبات، فعلى الأسرى اللاحقين أن يواصلوا المشوار، من أجل من سيأتي إلى هذه السجون في المستقبل. فمن الواضح أنه ما دام هناك احتلال ومقاومة فلا بد أن يبقى هناك أسرى ومعتقلون في هذه السجون، وينبغي أن نضمن كرامة وحقوق هؤلاء الذين سيأتون إلى هذه السجون، وكما قال المثل: “غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون”.
إن إدارات السجون تعمل جاهدة لسحب كل الإنجازات التي حققها الأسرى عبر تاريخهم الطويل، وإعادة السجون إلى ما كانت عليه في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، حين كانت السجون مراكز للتعذيب والانتقام، وجعلها عبرة لكل من تسول له نفسه بمقاومة الاحتلال. وفي سبيل ذلك تعمل على تنفيذ العديد من الإجراءات العدوانية، بهدف التأثير في نفسيات ومعنويات الأسرى.
ومن هذه الإجراءات:
العزل الانفرادي في الزنازين الضيقة.
الحرمان من زيارة الأهل.
الحرمان من الاتصال بالأهل في مناسبات الأفراح والأتراح.
إهانة الأهل وقت الزيارة.
منع الأهل من إدخال أي شيء معهم يوم الزيارة عدا السجائر.
إبعاد الأسير عن مكان سكناه.
وضع العديد من الأسرى السياسيين مع الأسرى الجنائيين من عصابات الإجرام.
الازدحام الشديد في الغرف والزنازين.
الإهمال الطبي.
منع البرامج الثقافية والإدارية.
منع إدخال الكتب من خلال الزيارة.
المنع من الالتحاق بالجامعات.
الحرمان من تقديم امتحانات الثانوية العامة.
الحرمان من الكانتينا (بقالة السجن). أو التقليل من قائمة المبيعات فيها.
الحرمان من الأجهزة الكهربائية.
الحرمان من الفورة الصباحية والمسائية (فترة التنفس في ساحة السجن).
التفتيش للأسرى عند خروجهم للفورة وعند عودتهم منها.
الحرمان من لقاء المحامي.
تقييد الأيدي والأرجل عند زيارة الأهل أو المحامي.
التفتيش العاري الكامل بحجج واهية.
النقليات القمعية بين السجون.
الإهانة والإجراءات القمعية في البوسطة (وسيلة النقل بين السجون) ويوم المحاكمة.
المنع من صلاة الجمعة في ساحة السجن.
منع الزيارة بين أقسام السجن الواحد.
الاعتداء الممنهج على الأطفال الأسرى.
رداءة الطعام كماً ونوعاً.
تعيين طباخين جنائيين لطبخ الطعام بدل الأسرى السياسيين.
عدم استقرار السجين، ونقله بشكل دائم بين السجون، خاصة القيادات منهم.
التفتيش شبه اليومي للغرف والزنازين، وخلط كل مقتنيات الأسرى بعضها ببعض.
العقوبات الجماعية بسبب خطأ من أسير واحد.
رش الغرف والزنازين بالغاز المسيل للدموع، والضرب الشديد بالهراوات لجميع الأسرى، في حالات القمع لأتفه الأسباب……

والمطلوب تجاه هذه الإجراءات العدوانية هو التالي:

  • المشاركة في الفعاليات النضالية التي تقررها التنظيمات داخل السجن وخارجه.
  • التواصل مع مؤسسات حقوق الإنسان والمؤسسات التي تعنى بشؤون الأسرى والمحامين، لكشف هذه الجرائم، واتخاذ الإجراءات اللازمة.
  • رفع بعض القضايا إلى المحاكم الدولية، وفضح كل الممارسات العدوانية بحق الأسرى.
  • رفع العديد من هذه التجاوزات إلى المحاكم الصهيونية وغيرها، وبشكل جماعي، وإشغال هذه المحاكم بالعديد من القضايا، والتي تشكل وسيلة ضغط كبيرة لانتزاع الحقوق والحفاظ على الإنجازات.
  • رفض التفتيش العاري وبكل قوة، لأنه يشكل انتهاكاً كبيراً لكرامة الأسير، حتى ولو تم معاقبة الرافض لذلك بالضرب أو الزنازين الانفرادية، فهذا الرفض من مجموع الأسرى أو العديد منهم، يشكل عامل ضغط على إدارة السجن، ويلزمها في النهاية وقف هذه الإهانة.
  • مواجهة حالات القمع والاعتداء على الأسرى بكل قوة، حتى ولو استخدموا القوة والغاز المسيل للدموع والهراوات والرصاص المطاطي، لأن هذا آخر سهم في كنانتهم، وإذا دفعوا ثمناً غالياً بسببه فإنهم يضطرون للرضوخ لمطالب الأسرى مكرهين.

وسائل الوصول للأهداف:
ولا بد هنا من التركيز على أهم الوسائل التي تساعد على النجاح في تحقيق تلك الأهداف الواردة أعلاه، ومن ذلك:

  1. العلاقة الأخوية بين الأسرى:
    والمقصود توطيد العلاقة الأخوية، وتقوية المحبة والوئام بين الأسرى، سواء على مستوى الفصيل الواحد، بما يسمى (الصف الداخلي)، أو على صعيد العلاقة بين الفصائل المختلفة جميعاً، على اختلاف توجهاتها الفكرية والسياسية، وعدم السماح لإدارة السجن بالاستفراد بفئة معينة من الأسرى. وترسيخ مبدأ العقل الجمعي، بحيث يعرف الجميع أن الاعتداء على أسير واحد هو اعتداء على مجموع الأسرى. وبذلك يتمكنون من مواجهة خطط سجانيهم المتربصين بهم دائماً.
    إن العلاقة الأخوية القوية بين الأسرى هي رأسمالهم، وهي القوة التي تفرض احترامهم وهيبتهم على أعدائهم. وإن الخلل في هذه العلاقة، ووجود الشحناء أو البغضاء، أو ظهور الخلاف بينهم أمام الأعداء، تفقدهم هذه القوة وهذه الهيبة، فيصبحوا لا وزن لهم، وتتمكن إدارة السجون منهم، بالتلاعب على وتر هذا الخلاف، وتحقق أهدافها الخبيثة…
    وهنا نستذكر معنى قول الله تعالى: “وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” الأنفال46.. وقوله تعالى: “مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً “الفتح29.
    وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” رواه البخاري ومسلم .
    ومن المعلوم أن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة النبوية إلى المدينة، كانت من أعظم عوامل قوة المسلمين وانتصاراتهم، والتمكين لهم في الأرض. ونحن اليوم بحاجة ماسة لمثل هذه الأخوة بين المسلمين بشكل عام، وبين الأسرى بشكل خاص، الذين تجمعوا في هذه السجون من مختلف المحافظات والبلدات والقرى الفلسطينية. وذلك بسبب الظروف الصعبة التي يعيشونها داخل هذه السجون، وقلة الإمكانات، وبعد السجان عن معاني الرأفة، وانتزاع الرحمة من قلبه. ومن سنن الله تعالى أن المعاناة المشتركة والهموم والأحداث الصعبة تجمع أصحابها ولا تفرقهم، وتوحد صفهم، في مواجهة عدوهم حتى يتخلصوا منه.
    ولقد لاحظنا أهمية هذه الأخوة على أرض الواقع مراراً وتكراراً على مدار السنين. خاصة في فترات الفعاليات النضالية التي كنا نخوضها من أجل المطالبة بحقوقنا الأساسية، أو من أجل مواجهة محاولة إدارات السجون سحب هذه الحقوق التي حصَّلْناها بالدماء والشهداء والأمعاء الخاوية.
    وكان يظهر ذلك جلياً وواضحاً في أيام الإضرابات المفتوحة عن الطعام. فعندما توحدت الصفوف، وقويت معاني الأخوة والإيثار بين الأسرى، على اختلاف تنظيماتهم وتوجهاتهم السياسية في هذه الإضرابات، وصمدوا في مواجهة إدارات السجون، عندئذ نجح الأسرى في إضراباتهم، وانتزعوا حقوقهم منها، واستفادوا من ذلك كل الفائدة، واستفاد كذلك من جاء بعدهم إلى هذه السجون.
    وهذا ظهر جلياً وواضحاً في إضراب عام 1976م في عسقلان والذي استمر 45 يوماً، وإضراب عام 1980م في نفحة ، و1984م في سجن الجنيد ،1987م في معظم السجون الذي أعاد الكرامة للأسرى، و1992م في معظم السجون والذي سمي (أم المعارك)، و2000م الذي حقق العديد من الانجازات… وغيرها من الإضرابات.
    وكانت المصيبة عندما استفردت إدارات السجون ببعض السجون المضربة عن الطعام مثلاً، ولم تلتزم بالقرار الجماعي المعهود، وحصل خلاف مع الأسرى في باقي السجون، ولم تكن كلمتهم موحدة، فقد فشلت هذه الإضرابات، كما حصل في الإضراب المفتوح عن الطعام عام 2004م، الذي لم يتمكن من تحقيق أيٍّ من أهدافه الرئيسية، رغم أنه من أصعب الإضرابات في تاريخ السجون، وأكثرها تضحية ومعاناة. وأدى ذلك إلى ضعف العلاقة بين الأسرى في السجون، وتبادل الاتهامات عن سبب فشل الإضراب. ولا زالت السجون تعاني من آثار فشل هذا الإضراب حتى كتابة هذه السطور. كما أنه بهذه الأخوة، وهذه العلاقة الحسنة بين مجموع الأسرى، يستطيع الأسرى التخفيف من محنتهم ومصيبتهم التي يعيشونها، وبها يتعاونون ويتواسون، بعيداً عن الخلافات والعصبيات والتشنجات، التي ترهق النفوس، وتزيد الهموم والأحزان، فوق ما هم فيه من سجن وقهر وحرمان. عن أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” رواه البخاري ومسلم .
    ومن المعلوم أن هذا الإيمان يولد في القلب السكينة والطمأنينة، والسعادة القلبية، وما أحوج الأسير لهذه السعادة وهذه الطمأنينة، التي من أهم أسبابها أن يحب الأسير لإخوانه ما يحب لنفسه. يقول الله تعالى: “فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً” طه 123-124.
    يقول د. الصلابي: إن الأخوة قوة إيمانية تورث شعوراً عميقاً بعاطفة صادقة ومحبة وود واحترام، وثقة متبادلة، مع كل من تربطنا بهم عقيدة التوحيد، ومنهج الإسلام الخالد، يتبعها ويستلزمها تعاون وإيثار ورحمة وعفو وتسامح، وتكافل وتآزر، وهي ملازمة للإيمان، قال تعالى : “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ…” الحجرات10. وهذه الأخوة هي من أهم الأسباب التي تعمل على الصمود في وجه أعتى المحن التي تنزل بالمسلمين، كما أن الفهم المتبادل والكامل للأخوة في الله من أسباب تماسك صفوف المسلمين وقوتهم، ومن أسباب شموخهم والتمكين لهم .
  2. طاعة الأمير أو ممثلي الأسرى المنتخبين:
    وهذه أيضاً من أهم واجبات الأسرى في السجون. فمن المعلوم أن الأسرى في سجون الاحتلال استطاعوا بجهودهم وتضحياتهم أن يعيشوا داخل السجون تحت إدارة فصائل وطنية وإسلامية، فرضت نفسها على إدارات السجون. والأسرى ينتخبون كل فترة قيادة لهم، تدير شؤونهم، وتضبط علاقتهم مع الإدارة، ومع الفصائل الأخرى، وتتابع الشؤون الخارجية مع السجون الأخرى، ومع المؤسسات الرسمية والحقوقية خارج السجون، وتنظم الشؤون الثقافية والدينية والروحية والإدارية والأمنية للأسرى، وتتابع قضايا الكانتينا والاحتياجات الضرورية للأسرى، وتقود الفعاليات النضالية والوطنية… .
    وقد استطاعت بعض الفصائل وبعد جهود كبيرة تشكيل هيئة قيادية عليا لأسراها في كافة السجون، تعمل على رسم السياسات العامة لأسرى فصيلها، وتقرر في القضايا المشتركة في كل السجون، في الأمور التي تهم مجموع الحركة الأسيرة، وتحسم الخلاف بين السجون إذا حصل هناك خلاف. واستفاد هذا الفصيل من تشكيل هذه الهيئة القيادية العليا فوائد كبيرة، لا مجال هنا لتفاصيلها.
    والمطلوب هنا من مجموع الأسرى حماية هذه القيادات واحترامها، وطاعتها فيما تأمر به، والالتزام بقراراتها وتوجيهاتها… وهذا من الفروض الشرعية والواجبات الأكيدة، التي يأثم من يخالفها، كما أنها ضرورة وطنية وإدارية وأخلاقية.

والأدلة على هذا الوجوب كثيرة ومتنوعة، نذكر منها:
قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ” النساء 59. وهذه الآية نزلت في عبد الله بن حذافة السهمي أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم في سرية . أي نزلت في وجوب طاعته. ومن المعلوم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
والبخاري وضع باباً في صحيحه ترجمته: (باب قوله تعالى: “أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”) . قال ابن حجر: في هذا إشارة من المصنف إلى ترجيح القول الصائر إلى أن الآية نزلت في طاعة الأمراء، ورجح ذلك أيضاً الطبري وغيره، وقيل إنها نزلت في العلماء .
وطاعة أولي الأمر من المسلمين تنطبق على الأسرى في السجون بشكل واضح، خاصة أن قيادة السجون جاءت نتيجة انتخابات شارك فيها الأسرى أنفسهم، وفازت فيها بأغلبية الأصوات.
ومن الأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك: حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني” رواه البخاري ومسلم .
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال: ألستم تعلمون أن من أطاعني فقد أطاع الله، وأن من طاعة الله طاعتي؟ قالوا: بلى نشهد. قال: فإن من طاعتي أن تطيعوا أمراءكم” وفي رواية: (أئمتكم). رواه أحمد وابن حبان وأبو يعلى والطبراني . قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح . وسكت عليه ابن حجر في الفتح، وسكوته علامة على صحته أو حسنه، كما هو معلوم من منهجه رحمه الله.
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية” رواه البخاري ومسلم .
حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: “بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان” رواه البخاري ومسلم .
حديث أم الحصين رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة وهو يقول: “ولو استعمل عليكم عبدٌ يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا” رواه مسلم .
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عليك بالسمع والطاعة، في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك” رواه مسلم .
وحديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله تعالى” رواه الترمذي والبزار . قال الترمذي: حسن غريب.
وقال بعض الصحابة: “إذا عدلت الأئمة في الرعية كان الشكر على الرعية، والأجر للأئمة. وإذا جارت الأئمة على الرعية كان الصبر على الرعية والوزر على الأئمة” .
وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة التي تحث وتوجب طاعة أولي الأمر بشكل عام، فلا يجوز مخالفة أمر القيادة (خاصة إذا كانت مُنتخبة) في جميع قراراتها، حتى وإن خالفت هواك، أو خالفت رأيك الشخصي، فأنت تستطيع أن تقول رأيك بكل قوة، وأن تدافع عن رأيك، وتحاول إقناع القيادة بصواب رأيك قبل اتخاذ القرار، فإذا اتُّخِذ القرار فما عليك إلا التنازل عن رأيك، وتسمع وتطيع، بل وأن تنظِّر للقرار النهائي وتدافع عنه وكأنه رأيك.
لكن ينبغي التذكير أن هذه الطاعة ينبغي أن تكون بالمعروف، بمعنى أنها طاعة مبصرة، فلا طاعة في معصية الله تعالى، فإذا أمر الأمير بأمر فيه معصية فلا سمع ولا طاعة. وورد في ذلك أحاديث صحيحة منها:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة” رواه البخاري ومسلم .
وحديث علي رضي الله عنه قال: “بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريةً واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطباً؟ فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا لي ناراً؟ فأوقدوا. ثم قال: ألم يأمركم الرسول صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى. قال: فادخلوها؟ قال: فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار،فكانوا كذلك وسكن غضبه وطفئت النار. فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة بالمعروف”. وفي رواية : ” لا طاعة في معصية الله” رواه البخاري ومسلم .

قال الشوكاني: هذه الأحاديث تقيد ما أطلق من الأحاديث القاضية بطاعة أولي الأمر على العموم، والقاضية بالصبر على ما يقع من الأمير مما يكره، والوعيد على مفارقة الجماعة. وقوله: "إنما الطاعة بالمعروف" فيه بيان ما يطاع فيه من كان من أولي الأمر، وهو الأمر بالمعروف لا ما كان منكراً، والمراد بالمعروف ما كان من الأمور المعروفة في الشرع، لا المعروف في العقل والعادة، لأن الحقائق الشرعية مقدمة على غيرها على ما تقرر في الأصول .

الطاعة الشرعية والطاعة الأدبية:
من خلال النصوص الصحيحة السابقة وغيرها كثير، نخلص إلى أن طاعة أولي الأمر سواء داخل السجن أو خارجه، واجبة وجوباً شرعياً لا مرية في ذلك . ولكن ظهرت بدعة عند بعض الإخوة تقول: إن طاعة أولي الأمر في هذا الزمان هي طاعة أدبية، وليست طاعة شرعية. بمعنى أن المخالف لرأي القيادة أو الأمير لا يأثم عند الله تعالى. وإنما هو محاسب أمام التنظيم نفسه، أو أمام الأمير أو القائد. مدعين أن النصوص السابقة مختصة فقط بطاعة الخليفة المسلم أو أمير المؤمنين في الدولة الإسلامية، أو من ينوب عنه، عندما تقوم هذه الدولة!!
وهذا الادعاء بعيد عن القياس الصحيح، وبعيد عن المقاصد الشرعية، لأن النصوص الواردة في ذلك مفهومها عام، ومن المعلوم في أصول الفقه أن العام يبقى على عمومه حتى يرد دليل خاص يخصص هذا العموم. ولم نجد دليلاً يخصص كل هذه الأدلة، التي تصل بمجملها حد التواتر المعنوي. فأين الدليل على أن هذه الطاعة الواردة في كل هذه النصوص هي مختصة فقط بالخليفة أو نائبه؟
وماذا يحصل لو أن الدولة الإسلامية تأخر قيامها مئات السنين هل سيبقى المسلمون دون طاعة ملزمة شرعا لأولي الأمر؟ وهل يمكن أصلاً أن تقوم الدولة الإسلامية أو الخلافة دون هذه الطاعة؟ ودون التزام فعلي برأي الجماعة؟ فإذا لم تكن هناك قدسية لقرارات التنظيم والتزام حقيقي بها، فهل يستطيع هذا التنظيم أن يحقق أهدافه في إقامة الدولة وإعادة الحكم بما أنزل الله؟ إن العقل يقول: إن هذه الطاعة ضرورية، وبدونها سيفتح باب للشر، وباب للشيطان يدخل من خلالها للتفريق بين أبناء الجماعة، وإضعاف قوتها، وخلخلة بنيانها، وبالتالي تمكُّن أعدائها منها. وصدق الله تعالى حين قال: “ولاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” الأنفال46.
ثم نقول: إن الأسير أو العضو في الحركة حين قَبِلَ أن يكون عضواً في هذه الحركة الإسلامية، وبايع على الالتزام والطاعة لها ، هل يجوز له أن ينقض هذه البيعة وهذا العقد بقوله إن طاعتها ليست شرعية؟! وماذا سيفعل بكل تلك النصوص الشرعية التي تأمر بالوفاء بالعقود والعهود، وتحرم الغدر أو النكث بالعهد، وتعتبر ذلك من علامات النفاق؟! هل يمكن أن يقال إن من يفعل ذلك ليس آثماً عند الله تعالى؟!

  1. الإضراب المفتوح عن الطعام:
    وبخصوص المشاركة في الفعاليات النضالية التي تقررها قيادة الفصائل في السجون لا بد من التذكير بأهمية الإضرابات المفتوحة عن الطعام، والتي كانت السبب في تحسين أوضاع سجون الاحتلال بشكل كبير. فرغم صعوبة هذه الخطوة وتأثيرها الكبير على صحة الأسرى، مع احتمال سقوط الشهداء بين الأسرى المضربين، أو بين المواطنين المتضامنين معهم في خارج السجون.
    وهنا يبرز سؤال عن حكم هذا الإضراب المفتوح عن الطعام من الناحية الشرعية؟ خاصة أنه فعل سلبي، بمعنى أن الأسير يمتنع فيه عن الطعام لمدة طويلة، وهذا قد يؤثر على صحته وقد يودي بحياته.
    والذي يظهر أن هذه الإضرابات جائزة للضرورة، ولا بأس بها، خاصة عندما يستنفد الأسرى كل الوسائل والأساليب المتاحة للوصول إلى حياة كريمة داخل السجون، ولمنع إدارات السجون من الاعتداء عليهم، وسحب إنجازاتهم ، والتحكم بهم وفق أهوائهم، ونحو ذلك.
    سئل الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله عن الإضراب عن الطعام؟ فأجاب: لا بأس للأسير باللجوء إلى هذا الإضراب، ما دام يرى أنه الوسيلة الفعالة والأكثر تأثيراً لدى الآسرين، وأنه الأسلوب الذي يغيظ الاحتلال وأهله، وكل ما يغيظ الكفار فهو ممدوح شرعاً، كما قال الله تعالى: “وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ “التوبة120. فإذا كان هذا الأسلوب يغيظ الكفار، ويسمع صوت الأسرى المظلومين والمهضومين والمنسيين في العالم، ويحيي قضيتهم، ويساعدهم على نيل حقوقهم، فهو أمر مشروع، بل محمود. بشرط ألا ينتهي إلى الهلاك والموت، فالمسلم هنا يتحمل ويصبر إلى آخر ما يمكنه من الصبر والاحتمال، فإذا أشرف على الهلاك بالفعل، فعليه أن ينجي نفسه من الموت، فإن نفسه ليست ملكاً له. وقد قال تعالى: “وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً”النساء29.
    ونضيف أن أساليب الجهاد والنضال تتنوع من عصر إلى عصر، ومن زمن إلى زمن، حسب الظروف والإمكانات والأحوال. وموضوع الإضراب عن الطعام لم يكن مجدياً بل لم يكن معروفاً في السابق، ولكنه الآن أصبح من الأساليب الفعالة في تحقيق الانجازات، والمحافظة على الحقوق، وتحقيق الكرامة الإنسانية والعيش الكريم، خاصة للأسرى الضعفاء الذين لا يملكون إلا هذا الأسلوب في مواجهة سلطة القهر والقوة لإدارات السجون الظالمة، ووحداتها العسكرية من أمثال (وحدة نحشون)، و(وحدة متسادا) وغيرها، التي لا تعرف الرأفة ولا الرحمة.
    ومن المعلوم شرعاً أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ومن خلال التجربة الطويلة تبين لنا أن إدارات السجون ومن ورائها وزارة الداخلية ووزارة الدفاع للاحتلال، لا تخشى شيئاً كما تخشى الإضرابات عن الطعام داخل السجون، لأنهم يعلمون أنه يتزامن مع هذه الإضرابات تضامن الناس وأهل الأسرى في الخارج معها، وتنظم من أجلها المظاهرات والاعتصامات والإضرابات، وتظهر الصورة البشعة للاحتلال عبر وسائل الإعلام في كل العالم، وكذلك تزداد وتيرة العمليات الجهادية التضامنية مع الأسرى المضربين، وخاصة محاولات خطف الجنود من أجل تبادل الأسرى…
    وبالتالي فهم يحاولون وبكل جهد ممكن منع هذه الإضرابات المفتوحة عن الطعام في السجون. وهذا هو سر تمتع الأسرى في سجون الاحتلال بنوع من الكرامة، وبعض الانجازات، وليس ذلك بسبب كرمهم أو إنسانيتهم، أو حرصهم على الالتزام بقوانين حقوق الإنسان أو الاتفاقات الدولية بهذا الشأن!!
    وممن أجاز هذه الإضرابات عن الطعام للضرورة: الشيخ فيصل مولوي، نائب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، والدكتور محمد محروس المدرسي الأعظمي، رئيس لجنة الإفتاء بهيئة علماء المسلمين بالعراق، والشيخ ناصر بن سليمان العمر، والشيخ صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة السعودية … بشرط عدم الإضرار بالنفس عمداً وقت الإضراب، وأن لا يؤدي ذلك إلى الهلاك.
    توضيح:
    وهنا لا بد من التأكيد على أن مسألة الإضرار بالنفس والهلاك، التي اشترطها بعض الفقهاء المعاصرين لجواز الإضراب، تحتاج إلى توضيح وبيان. فمن المعلوم، ومن خلال التجربة، أن الأسير المضرب عن الطعام لا بد أن يتضرر بشكل أو بآخر نتيجة لهذا الإضراب، لأنه كما قلنا يعتبر أصعب خطوة تصعيدية يضطر إليها الأسرى، بعد استنفاد كل الطرق والأساليب الأخرى لتحصيل حقوقهم والدفاع عن أنفسهم. ولكن ولأن النتائج والثمار المرجوة من هذه الخطوة كبيرة، فإن الأسرى يستسهلون هذه الأضرار، ويضحون بها من أجل تلك الثمار. فهم في ذلك كالمجاهد في سبيل الله، الذي يضحي بنفسه ودمه وحياته، ويعرض نفسه للأخطار من أجل المصلحة العامة.
    وحتى لو أدى هذا الإضراب إلى الموت، فإن من النتائج الطبيعية للجهاد في سبيل الله استشهاد بعض المجاهدين في ساحة المعركة. وواضح أن الأسير المضرب عن الطعام لا يقصد بإضرابه الانتحار عمداً. فهو أولاً يقصد جهاد الأعداء وإغاظتهم، والتضحية في سبيل الله، وتحقيق المصالح ودرء المفاسد.
    ثم ما الفرق بين خوض هذا الإضراب وبين العمليات الاستشهادية، التي أفتى معظم العلماء (ومنهم الدكتور القرضاوي حفظه الله) بجوازها، إذا أدت إلى الإثخان في العدو وإغاظتهم، ولم نجد أسلوباً آخر لتحقيق هذا الهدف. فالاستشهادي والمضرب عن الطعام يلتقيان في النية والهدف والنتيجة، ويختلفان في الأسلوب فقط. بل إن الاستشهادي يغلب على ظنه الهلاك والموت أكثر من المضرب.
    وقد لاحظنا في كل الإضرابات عن الطعام التي خضناها في سجون الاحتلال أنه لم يمت واحد من الأسرى نتيجة للإضرابات المتكررة والمفتوحة عن الطعام. والذين استشهدوا فيها كان نتيجةً للتعذيب المرافق للإضراب، وليس بسبب الإضراب نفسه، وهذا يعني أن احتمال الضرر والهلاك من العمليات الاستشهادية أكبر من احتمالها نتيجة للإضراب عن الطعام، فلماذا نبيح العمليات الاستشهادية، ونشترط عدم حصول الضرر أو الهلاك بسبب هذا الإضراب، رغم المصالح الكبيرة المتحققة من الإضراب؟

المبحث الثاني
أخلاق ضرورية للأسير
أهم الأخلاق التي يحتاجها الأسير في محنته هي: الإخلاص والتقوى، والصبر، والثقة بالله، والأمل، والعزيمة، والسمو الروحي، والاجتهاد. وفق التفصيل التالي:

أولاً: الإخلاص والتقوى:
والإخلاص هو الأساس لقبول الأعمال عند الله تعالى، خاصة في مثل حالة الأسير عند الأعداء، الذي خرج من بيته مجاهداً في سبيل الله، مضحياً بحياته وحريته، وشاءت الأقدار أن يقع في أسر الأعداء. وهو يعاني عندهم معاناة كبيرة، وبالإخلاص والصبر والثبات يمكنه أن يحقق الأجر العظيم، وإذا فقد الإخلاص لا سمح الله فستكون الخسارة كبيرة، لأنه يخسر الدنيا والآخرة. يخسر الدنيا لأن السجن كالموت كما رأينا، ويخسر الآخرة لأن الإخلاص شرط لقبول العمل، فإذا فقد الأسير الإخلاص فلا شيء له في الآخرة.
وهنا نذكِّر بقوله تعالى: “وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء” البينة5.
وقوله تعالى: “إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ …” التوبة 111. فالقتال ينبغي أن يكون في سبيل الله، وليس في سبيل أي أمر دنيوي، وهذا هو الإخلاص، أي أن يريد بعمله وجه الله تعالى.
ومن ذلك حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: “جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل رياءً فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله” متفق عليه .
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “انتدب الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسولي، أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة” رواه البخاري .
وحديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: “جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا شيء له. فأعادها ثلاث مرات يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شيء له. ثم قال: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً، وابْتُغِيَ به وجهه” رواه أبو داود والنسائي . قال الحافظ ابن حجر: إسناده جيد.
وبالإضافة إلى الإخلاص تأتي أهمية تقوى الله تعالى بالنسبة للأسير، المحتاج لرحمة الله وفرجه. ورحمة الله وفرجه مرتبط بالتقوى والإخلاص. يقول الله تعالى: “وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ” الطلاق2-3.
ويقول سبحانه: “ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً” الطلاق4.
ويقول أيضاً: “بلى من أوفى بعهده واتقى، فإن الله يحب المتقين” آل عمران76.
ويقول: ” واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين”البقرة194.
وماذا يحتاج الأسير وهو وحيد في زنزانته أكثر من أن يحبه الله، وأن يكون الله معه، وأن ييسر عليه السجن وأحزانه، ثم يمنُّ الله عليه بالفرج، فهذه كلها يمكن تحقيقها بالتقوى والإخلاص والعمل الصالح. ولا شك أن السجن فرصة فريدة لتحصيل التقوى، فكل ما في السجن معين على التقوى والطاعة، كما أن مغريات الحياة غير موجودة عند الأسير، وهو بحاجة فقط إلى قليل من الاجتهاد والهمة والإرادة لتحقيق هذه التقوى.

ثانياً: الصبر والاحتساب والرضا بقدر الله:
منزلة الصبر من أهم المنازل التي يحتاجها الأسير في سجنه، نظراً للظروف الصعبة التي يمر بها الأسير منذ بداية اعتقاله وحتى لحظة الإفراج عنه، لأنه في كل لحظة يشعر بالضيق والمعاناة وفقدان الحرية، والشوق إليها، وهو بعد ذلك معرَّض في كل وقت لإجراءات قمعية من إدارة السجون الظالمة، كالتعذيب، والنقل التعسفي بين السجون، أو بين أقسام السجن الواحد، والعقوبات الجماعية، والعزل في الزنازين الانفرادية، والحرمان من زيارة الأهل…..
فالسجين في هذه المنزلة ينبغي أن يستشعر حقيقة الصبر وأجر الصابرين، ومقامهم عند الله تعالى. وأن يعلم أن هذه الدنيا دار ابتلاء وامتحان، سواء كان سجيناً أو حراً. وهو يعلم أن المصائب والمحن هي من سنن الله تعالى في هذه الحياة، ولذلك فهو دائم الاستعداد لها قبل وقوعها، فكيف وقد وهب نفسه لله، وجاهد أعداء الله، الذين لا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمة. كما يقول المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكـــــــــارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
وقول الشاعر:
وإذا كانت النفوس كبـــــــــــــــــــــــــــاراً تعبت في مرادها الأجســــــــــــــــــــام
وقوله:
ومن تكن العلياءُ همةَ نفســــــــــــــــــــــــــــه فكل الذي يلقاه فيها محبــــــــــــــــب
وينبغي أن يعلم أن الفرج يأتي بعد الشدة، وأن عدم الصبر لا يرد البلاء، وأن الجزع واليأس والإحباط لن يخرجه مما هو فيه، بل قد يزداد بذلك وتشتد وطأته. ولذلك فعليه أن يلجأ إلى الله تعالى بالدعاء الصادق موقناً بقوله تعالى: ” أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ” النمل 62.
قيل: “لن يبلغ المرء ما يأمل إلا بالصبر على ما يكره” . وفي الحديث: “انتظار الفرج بالصبر عبادة” رواه الترمذي والطبراني والبيهقي .
وعليه أن يستذكر حكمة البلاء وثماره، (وقد مضى ذكر الكثير من هذه الثمار في الفصل السابق). ونضيف هنا: أن فيها تكفير للسيئات، ورفع للدرجات. وهي تجعل القلب موصولاً بالله. كما أن فيها التمحيص للمؤمنين، وفضح المنافقين، والانتهازيين، والضعفاء في التزامهم وانتمائهم، حتى يميز الخبيث من الطيب. وفيها تذكير وتنبيه للمؤمن حتى لا يبقى غافلاً عن ربه. كما أن في هذا البلاء صقلاً لشخصيته وإعداداً لها لمواجهة الحياة بكل خطوبها وهمومها، ليكون مؤهلاً للقيادة والإدارة، وليكون له مكانة رفيعة في مجتمعه .
والآيات والأحاديث الواردة في الصبر كثيرة، يصعب حصرها في مثل هذا البحث، ولكننا نذكِّر بأهمها:

  • قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ” البقرة 153.
  • قوله تعالى: “وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ” البقرة 176.
  • “وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ” النحل96.
  • “وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ. سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ” الرعد23.
  • “وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ” سورة العصر1-3.

ومن الأحاديث النبوية الهامة:

  • حديث صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابه ضرّاء صبر فكان خيراً له، ” رواه مسلم وأحمد .
  • حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من مصيبة تصيب عبداً فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله في مصيبته وخلف له خيراً منها…” رواه أبو داود وأحمد والنسائي وابن ماجة . وإسناده صحيح.
  • حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “… ومن يتصبَّر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر” رواه البخاري ومسلم
  • حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء. قلت يا رسول الله ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر، حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها، وإن كان احدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء” رواه ابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي . وقال البوصيري في مصباح الزجاجة: إسناده صحيح رجاله ثقات.
    ومن الحكم الرائعة في ذلك قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه للأشعث بن قيس: “إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور” .
    وهنا نستذكر صبر الرسول صلى الله عليه وسلم على أذى الكفار والمنافقين سواء في مكة أو المدينة، وصبر صحابته الكرام، خاصة وهم تحت الحصار في شعب أبي طالب. وصبر أمثال بلال بن رباح، وعمار بن ياسر ووالديه، وصبر خباب بن الأرت حين وقع في الأسر….. وقد مر معنا بعض هذه الشواهد.
    وعلى الأسير أن يستشعر الأجر العظيم على هذا الصبر وهذا الرضا بقضاء الله وقدره. قال الله تعالى: “وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ. أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ” البقرة 155-157.
    يقول ابن حجر العسقلاني: قال بعض أهل العلم: الصبر على الأذى جهاد النفس، وقد جبل الله الأنفس على التألم بما يفعل بها ويقال فيها… والصابر أعظم أجراً من المنفق، لأن حسنته مضاعفة إلى سبعمائة، والحسنة في الأصل بعشر أمثالها، إلا من شاء الله أن يزيده. أما الصابرون فإنهم يوفون أجرهم بغير حساب. يقول سبحانه وتعالى: “إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ” الزمر10 .
    وحكي عن زوجة فتح الموصلي (أحد الأولياء الأتقياء) أنها عثرت، فانقطع ظفرها، فضحكت، فقيل لها: ويحك أما تجدين ألم الوجع؟ وأنت تضحكين؟ فقالت: إن لذة الثواب أزالت عني مرارة الوجع . رضي الله عنها.
    والأسير إذا كانت معنوياته عالية، ونفسيته مطمئنة، موقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أصابه هو بقدر الله تعالى ومشيئته، فإنه يقضي فترة سجنه مرتاح البال مطمئناً، سعيداً سعادة لا يعرف قدرها إلا من ذاقها. رغم ما هو فيه من سجن وقهر وحرمان… ولكنها سعادة يقذفها الله في قلبه لا تقدر بثمن، يدرك فيها معنى قول أحد العلماء وهو في سجنه: “إننا لفي سعادة لو علمها الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف”.
    وهذه النفسية المرتاحة والمطمأنة، تنعكس على روحه وعلى جسده، وعلى علاقاته بإخوانه وزملائه في السجن، وحتى في علاقته بإدارة السجن، فتجده عزيزاً أبياً، له هيبة ووقار، يفرض احترامه حتى على أعدائه. وبذلك تقل أمراضه، ولا تظهر عليه آثار الشيخوخة المبكرة التي رأيناها على العديد من الأسرى. قال تعالى: “فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً” الشرح 5-6. ولن يغلب عسر يسرين…
    قال الحسن البصري: “الخير الذي لا شر فيه: الصبر على النازلة، والشكر على النعمة” .
    أقوال في الصبر:
    قال الماوردي: اعلم أن حسن التوفيق وإمارات السعادة: الصبر على الملمات، والرفق عند النوازل. قال الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” آل عمران 200.
    وقال عبد الحميد: لم أسمع أعجب من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لو أن الصبر والشكر بعيران ما باليت أيَّهما ركبت”. وقال ابن عباس: “أفضل العدة الصبر عند الشدة” .
    وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بار الجسم، ثم رفع صوته فقال: إنه لا إيمان لمن لا صبر له. وقال: الصبر مطية لا تكبو .
    وقال سليمان بن القاسم: كل عمل يُعْرَف ثوابه إلا الصبر، قال تعالى: “إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ” الزمر10. قال: كالماء المنهمر .
    وقال علي بن أبي طالب: عليكم بالصبر، فإنه لا إيمان لمن لا صبر له.
    وقيل: الصبور يدرك أحمدَ الأمور، والصبر على المصيبة مصيبة الشامت بها .
    وقيل : أن صوفياً خرج من بغداد مسافراً، فلقيه صوفي قد ورد من بلخ. فقال البلخي للبغدادي: كيف خلفت إخوانك في بغداد؟ فقال: إن أُعطوا شكروا، وإن مُنعوا صبروا. فقال: كذا خلفت الكلاب ببلخ. فقال: فكيف خلفت إخوانك في بلخ؟ فقال: إن أُعطوا آثروا، وإن مُنِعوا شكروا .
    ويقول المتنبي:
    رماني الدهرُ بالأَرْزاء حــــــــــــــــتى فؤادي في غشاءٍ من نبــــــــــــــــــــالِ
    فصرت إذا أصابتني سهـــــــــــــــامٌ تَكَسَّرَت النصالُ على النصالِ
    فعشْتُ ولا أُبالي بالرزايــــــــــــــــــــــــا لأني ما انتفعت بأن أُبــــــــــــــــــــــالِ
    انتظار الفرج وقربه:
    أُلِّفَتْ في هذا الموضوع العديد من الكتب الهامة ننصح بقراءتها منها: كتاب (الفرج بعد الشدة) لأبي علي الحسن بن أبي القاسم التنوخي. وكتاب (الفرج بعد الشدة) لأبي الحسن علي بن محمد المدايني. وكتاب ( الفرج بعد الشدة) لابن أبي الدنيا. وكتاب (الفرج بعد الشدة) للقاضي أبو حسين عمر بن أبي عمرو القاضي.
    وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية هذا الموضوع، ومكانته عند العلماء، وضرورة التذكير الدائم به، لأنه مما يغفل عنه الناس عادة، رغم كونه سنة ثابتة من سنن الله تعالى…
    وفي ذلك يقول الله تعالى: “حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ” يوسف110.
    ويقول سبحانه: “وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ” القصص5.
    ويقول: “قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ” الأنعام64.
    ويقول سبحانه: “فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً” الشرح5-6.
    وورد في الحديث: عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “سلوا الله من فضله ، فإن الله يحب أن يُسْأَل ، وإن أفضل العبادة انتظار الفرج من الله” رواه الترمذي والطبراني والبيهقي . وله شواهد عن أنس وابن عمر وابن عباس .
    أنشدت امرأة من العرب :
    أيها الإنسان صـــــــــــــــــبراً أن بعد العسر يســـــــــرا
    كم رأينا اليوم حــــــــــــــراً لم يكن بالأمس حرا
    ملك الصبر فأضحـــــــــــــــى مالكاً خيراً وشرا
    اشرب الصبر وإن كـــــــــــــــــا ن من الصبر أمرّا
    وقال أبو الفرج الببغاء:
    صبرت ولم أحمد على الصبر شيمتي لأن مآلي لو جزعت إلى الصبر
    ولله في أثناء كل مُلِمَّة وإن آلمَـــــــــــــتْ لُطْفٌ يحض على الشكــــــــــــــــــــــــــــر
    وأنشد ابن دريد عن أبي حاتم :
    إذا اشتملتْ على اليأس القلوبُ وضاق لما به الصدرُ الرحيبُ
    وأوطنت المكارهُ واطمأنــــــــــــــــــــــــــتْ وأرست في مكانتها الخطوبُ
    ولم تر لانكشاف الضُّرِّ وجهــــــــــاً ولا أغنى بحيلته الأريـــــــــــــــــــــــــبُ
    أتاك على قنوطٍ منك غــــــــــــــــــوثٌ يمنُّ به اللطيفُ المستجيـــــــــــبُ
    وكل الحادثات إذا تناهــــــــــــــــــــــــــتْ فموصولٌ بها الفرج القريـــــــــبُ
    وقال علي بن الجهم :
    سهِّل على نفسك الأمـــــــــــــــــــــــــــورا وكن على مُــــــــــــرِّها صبـــــــــــورا
    وإن ألمَّت صروف دهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرٍ فاستعن الواحــــــــــــدَ القــــــديرا
    فكم رأينـــــــــــــــــا أخـــــــــــــــا همـــــــــــــــــــــــــــومٍ أعقب من بعدها ســـــــــــــرورا
    وربَّ عســـــــــــــــــــــــــــــرٍ أتى بيســـــــــــــــــــرٍ فصار معســــــــــــــورُه يســـــــــــــــيرا
    وقال الماوردي: يحكى أن أبا أيوب الكاتب حُبس في السجن خمس عشر سنة، حتى ضاقت حيلته وقلَّ صبره. فكتب إلى بعض إخوانه يشكو طول حبسه، فرد عليه جواب رقعته بهذا:
    صبراً أبا أيوبَ صـــــــــــــــــبرٌ مُــــــــــــــبرِّحٌ فإذا عجزْتَ عن الخطوب فمن لها
    إن الذي عقد الذي انعقدتْ له عُقَدُ المكاره فيك يملك حلَّــــــــــــــــــــها
    صبراً فإن الصبر يعقب راحــــــــــــــــةً لعلهــــــــــــا أن تنجــــــــلي ولعلـهــــــــــــــــــــــــــــــا
    فأجابه أبو أيوب يقول:
    صبَّرتني ووعظتني وأنا لهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا وستنجلي بل لا أقول لعلها
    ويحلها من كان صاحب عقدها كرماً به إذ كان يملك حلها
    فلم يلبث بعد ذلك في السجن إلا أياماً حتى أُطْلِق مكرما.
    لذلك ينبغي للمبتلى (وخاصة الأسير) أن يعلم أن الصبر على المصائب، والثبات عند الشدائد، والاستعانة بالله تعالى، تؤدي في النهاية إلى الفرج، ونهاية الشدة والمحنة بإذن الله تعالى، مهما طالت مدة السجن، وازداد البلاء، والله سبحانه وتعالى بكرمه يعوضه بعد ذلك عن صبره وبلائه بالخير العظيم في الدنيا والآخرة…
    وروى ابن عباس رضي الله عنهما: أن سليمان عليه السلام لما استكدَّ شياطينه في البناء شكوا ذلك إلى إبليس لعنه الله، فقال: ألستم تذهبون فَرْغاً وترجعون مشاغيل؟ قالوا: بلى. قال: ففي ذلك راحة. فبلغ ذلك سليمان، فشغلهم ذاهبين وراجعين. فشكوا ذلك إلى إبليس لعنه الله، فقال: ألستم تستريحون بالليل؟ قالوا: بلى. قال: ففي ذلك راحة لكم نصف دهركم. فبلغ ذلك سليمان عليه السلام، فشغلهم بالليل والنهار. فشكوا ذلك إلى إبليس لعنه الله، فقال: الآن جاءكم الفرج، فما لبث أن أصيب سليمان عليه السلام ميّتاً على عصاه .
    وقيل: كتب بُزَرْجُمْهر (من حكماء الفرس ووزير الملك) إلى أَبْرَويز الملك (كسرى) لما سخط عليه وحبسه: أمّا إذ كان معي الجدّ فقد كنت أنتفع بثمرة عقلي، وأما الآن إذ لا جِدّ معي فقد أنتفعُ بثمرة الصبر، وإن فقدْتُ كثيراً من الخير لقد استرحت من كثير من الشر .
    وهذا من الحكم الباهرة، فالسجين وإن فقد الكثير من أمور الدنيا ومتاعها وشهواتها، إلا أنه استراح وهو في سجنه من الكثير من الشرور والآثام التي يلاقيها الناس خارج السجن. وقد لمسنا هذه الحقيقة أثناء وجودنا في السجن، فكم من شر، وكم من فتنة حدثت في الخارج أثناء وجودنا في السجن، كنا على يقين لو أننا شهدناها لتأثرنا بها، أو انزلقنا في نارها، أو على الأقل لأصابنا من غبارها، ولكنها رحمة الله…

الصبر والثبات في فترة التحقيق:
تعدّ فترة التحقيق من أصعب وأقسى المراحل التي يمر بها الأسير، ومن خلالها يتقرر مصيره ومستقبله، وطبيعة الحكم الذي سيصدر عليه بعد ذلك في المحاكم الظالمة، لذلك فإن الصمود والوعي بطبيعة التحقيق وأساليبه، ومعرفة ألاعيبه وخبايا زنازينه ودور العملاء (العصافير) فيه……. ضروري لمن يود السلامة والأمان، والخروج من هذه المرحلة بأقل الخسائر. والصبر والثبات وصون اللسان وعدم الاعتراف مهما كانت الظروف، هو صمام الأمان للنجاح في هذه المرحلة، والطريق للعزة في الدنيا والفوز برضوان الله تعالى في الآخرة: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ” الأنفال45…
وهنا ينبغي التفريق بين حالين: (1) بين اعتراف الأسير في التحقيق على نفسه تحت الضغط والإكراه، فلا يضر إلا نفسه، ولا يتعدى هذا الضرر لسلامة إخوانه أو حركته أو أمته… فالخطب في هذه الحالة يسير، فهو وحده يتحمل المسؤولية عن اعترافه، رغم نصيحتنا له بعدم الاعتراف حتى عن نفسه مهما وجد إلى ذلك سبيلاً، لأن نفسه ليست ملكاً له بل هي ملك لله تعالى، ثم هي ملك للدعوة وللأمة، ولا يجوز أن يسبب الضرر لها. (2) وبين اعترافه على إخوانه أو بعضهم، أو اعترافاً يلحق ضرراً بدعوته أو تنظيمه، خاصة إذا أدى إلى هلاك نفس، أو تأبيد أحد إخوانه في السجون… فهذه مصيبة المصائب، التي ينبغي فيها أن يصمد المعتقل صمود الأبطال، وأن يبذل كل حيلة لدفع الضرر عن إخوانه، حتى ولو ألحق بسبب ذلك ضرراً بنفسه.
سئل د. القرضاوي حفظه الله : عن صمود الأسير ورفضه الاعتراف، أو كشف معلومات قد تؤدي إلى اعتقال بعض إخوانه أو الإضرار بهم، قد يتسبب في حدوث أذى بالغ له، وتكثيف العذاب عليه، وربما أدى به ذلك إلى الاستشهاد تحت وطأة التعذيب القاسي. فما حكم الشرع في ذلك؟
فأجاب: لا شك أن هذا الصمود، وتحمل الأذى والصبر على العذاب الشديد من الأسير، بغية إنقاذ إخوانه من الأسر والاعتقال والمحاكمة، يعد من دلائل صدق إيمانه، وهو من أعظم الأعمال التي يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى، فهو يفدي إخوانه بنفسه، ويتعرض لكل هذا البلاء من أجلهم. وربما يعلم أنهم أضعف طاقة منه، وأعجز عن احتمال ما يحتمل من الأذى، فقد يعرضهم لفتنة في دينهم، فالأسير الذي يصبر على كل هذا لله وحده، ولدفع الأذى والضرر عن إخوانه في الله، لهو من المؤمنين الذين: “يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ” الحشر9. ولا يصبر على مثل هذا إلا أولو العزم من الرجال، وقليل ما هم….إن هذا لمن أعلى درجات الإيثار، وأعظمها عند الله تعالى، وأهل هذه الدرجة من أهل الفلاح والفوز برضوان الله تعالى وجناته إن شاء الله. وقد عرفت هؤلاء من سقطوا صرعى، واستعذبوا الموت في سبيل الله في السجن الحربي، ولا يكشفوا ستر إخوانهم. فلا نملك إلا أن ندعو الله لهم أن يكرمهم ويعزهم أحياء، ويغفر لهم ويرحمهم أمواتاً. فهم أحق بهذه الآية: “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً” الأحزاب 23-24.
ويقول الأوزاعي وسفيان الثوري: لا رخصة للأسير في أن يدل على عورة، وإن قُتِل .
لكن ينبغي التأكيد هنا على أن اعتراف أحد المجاهدين في التحقيق تحت أساليب الضغط الرهيبة، والأساليب الإجرامية التي يستخدمها الأعداء لا يعني نهاية المطاف، ولا يعني أن هذا المجاهد ارتكب جريمة دينية أو وطنية، فإن الله تعالى رفع عن الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، والله تعالى يقول: “لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا” البقرة286. وهذا بلا شك من الإكراه الملجئ الذي قد يعذر صاحبه في كثير من الأحيان. وكل أسير يعلم من نفسه هل هو مكره حقاً على الإدلاء بهذه الاعترافات أم لا.
وحين يقع المجاهد تحت سيف الإكراه فعليه أن يرشِّد اعترافه، بحيث يقلل قدر الإمكان من الخسائر الناتجة عن ذلك، وبعد خروجه من زنازين التحقيق عليه أن يبادر إلى إصلاح الخلل والأضرار الناتجة عن اعترافه. وأن يصارح إخوانه بحقيقة ما حصل معه. ولا يخجل من الإفصاح عما جرى معه لإخوانه.
وعليه أن يعلم أن الكثير من خيرة إخوانه تعرضوا لما تعرض له، واضطروا للاعتراف بسبب الإكراه الملجئ، ولكنهم رشدوا اعترافاتهم، وحين عادوا إلى إخوانهم صارحوهم بما حصل معهم، وتم تدارك الكثير من الأخطار الناتجة عن ذلك، فهذا أفضل ألف مرة من التمادي في الادعاء بأنه لم يعترف بشيء ذي قيمة، وأنه صمد في التحقيق صمود الأبطال… والحقيقة غير ذلك.

الصبر على محنة السجن طريق للقيادة الناجحة:
كما أن الصبر على المصائب هو الطريق إلى الإمامة والرياسة والقيادة الناجحة. كما قال تعالى: “وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ” السجدة24.
وقوله تعالى: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ” العنكبوت69.
وقوله سبحانه: “وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” الحج54.
وقال صلى الله عليه وسلم: “…والصبر ضياء…” رواه مسلم والنسائي وابن ماجة وأحمد . يعني أنه يكشف ظلمة الحيرة، ويوضح حقائق الأمور . وبهذا تتميز القيادات، وتنفتح أمامها الحلول لمعضلات الأمور.
قال الماوردي: فالصبر على البلاء تنفتح به وجوه الآراء، وتستدفع مكائد الأعداء، فإن من قلَّ صبره غرب رأيه، واشتد جزعه، فصار صريع همومه، وفريسة غمومه. قال بعض الحكماء: بمفتاح الصبر تعالج مغاليق الأمور .
وقال معاوية رضي الله عنه: لا حليم إلا ذو تجربة . وتجربة الصبر على آلام السجن ومعاناته من أعظم التجارب التي تشحذ صاحبها وتصقله، كي ينجح في مواجهة التحديات، وإدارة الأزمات، والنجاح في المهمات.
ويقول عبادة البحتري يخاطب محمد بن يوسف الثغري وهو محبوس:
أما في رسول الله يوسفَ أســـــــــــــــوةٌ لمثلك محبوساً على الظلم والإفك
أقام جميلَ الصبر في السجن برهةً فآلَ به الصبرُ الجميلُ إلى الُملْكِ
والأمثلة العملية على هذه الحقيقة كثيرة يصعب حصرها: مثل سيدنا يوسف عليه السلام، والفقهاء الأربعة، وابن تيمية الذي كتب معظم فتاويه وهو في السجن، والسرخسي، الذي ألف كتابه (المبسوط) خمسة عشر مجلداً، وهو محبوس في الجب … وفي بلادنا فلسطين قلَّ قائد أو مسئول ذاع صيته واشتهر، ونجح في قيادته، إلا وجرب سجون الاحتلال، وقضى فيها دهراً من عمره… وهؤلاء كثيرون يصعب حصر أسمائهم في مثل هذا البحث.
ونجد الزعيم الهندي الشهير (المهاتما غاندي) قد تعرض للسجن والاعتقال في السجون الانجليزية، سنوات من عمره، قبل أن يتمكن من تحرير بلاده من الاحتلال، ويصبح الزعيم الأوحد لشبه القارة الهندية.
وفي زماننا نجد الزعيم الجنوب إفريقي الشهير (نيلسون مانديلا)، يقضي في سجون حكومة التمييز العنصري في جنوب إفريقيا 27 سنة، ثم يخرج من السجن ليصبح الزعيم الأكبر لجنوب إفريقيا، والشخصية العالمية الأكثر شهرة…. وغيرهم كثير.

اجتناب الغضب:
كل إنسان عنده طاقة أودعها الله فيه، بها يحرك جوارحه، ويُشْغِل وقته، ويكد ويعمل، ويذهب ويأتي… وما دام الإنسان في الحرية والعمل والنشاط، فإنه يستنفد معظم هذه الطاقة. أما عندما يسجن هذا الإنسان، ويفقد حريته، ويحشر بين الجدران، فإن هذه الطاقة تكمن وتخزن في جسده وكيانه، وتصبح متحفزة للانطلاق عند أية فرصة، أو أية مناسبة، وخاصة عند الغضب.
والأسير إذا لم ينفِّس هذه الطاقة في الأمور النافعة، كالعبادة، والرياضة، والقراءة والتعلم والتعليم، والعمل في مرافق السجن… ونحو ذلك، فإنه سينفِّسها في أمور أخرى لا نفع فيها، بل أحياناً ينفسها في أمور ضارة، كقضاء معظم وقته في مشاهدة التلفاز، وخاصة متابعة البرامج الرياضية والأفلام، أو يقضيها في لعب الشطرنج أو النرد أو الدومينو… أو غير ذلك مما لا منفعة حقيقية فيه.
وأحياناً يقضيها في افتعال المشاكل الإدارية مع زملائه، فتجده دائم العمل على استفزاز إخوانه، وإشغالهم عما يفيدهم وينفعهم، فهو يغضب لأي فعل يصدر من إخوانه، ويعترض على كل صغيرة وكبيرة، فيتركه زملاؤه مخافة شرِّه، وينكِّد عليهم حياتهم فوق ما هم فيه من سجن وهم وغم. فيقع نتيجة لذلك في الكبائر والآثام وهو لا يعلم، ويظن أنه يحسن بذلك صنعاً، ويدعي أنه صابر محتسب. وليس كذلك الصبر والاحتساب.
وهنا لا بد من التذكير بالوصايا الربانية بهذا الخصوص، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى في وصف المؤمنين: “وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ” الشورى 37. ويقول سبحانه: “الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” آل عمران 134.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب” متفق عليه . وفي رواية أحمد : “الصرعة كل الصرعة –كررها ثلاثاً- الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه فيصرعُ غضَبَه”. حسنه الألباني وصححه المنذري . قال ابن حجر: الصرعة أي الذي يصرع الناس كثيراً بقوته. قال ابن بطال: في الحديث أن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو، لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الذي يملك نفسه عند الغضب أعظم الناس قوة .
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني؟ قال: لا تغضب. فردد مراراً، قال: لا تغضب” رواه البخاري . زاد أحمد وابن حبان في رواية عن رجل لم يسم قال: “تفكرت فيما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله”.
قال الخطابي: معنى قوله : (لا تغضب): أي اجتنب أسباب الغضب، أما نفس الغضب فلا يتأتى النهي عنه، لأنه أمر طبيعي لا يزول من الجبلّة. وقيل: معناه: لا تفعل ما يأمرك به الغضب.
وقال النووي: إن الغضب من نزغات الشيطان، ولهذا يخرج به الإنسان عن اعتدال حاله، ويتكلم بالباطل، ويفعل المذموم، وينوي الحقد والبغض وغير ذلك من القبائح المترتبة على الغضب. لذلك ينصح الغاضب بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.
ومن الوصايا النبوية الأخرى لإطفاء نار الغضب: الوضوء أو الاغتسال، ذكر الله تعالى وقراءة القرآن، الجلوس إذا كان واقفاً، والاضطجاع إذا كان جالساً، وأن يسكت فلا يتكلم إذا غضب، لأن الكلام عندها يزيد الغضب أو يتكلم بالباطل….
وبهذه المناسبة ننصح إخواننا وزملاءنا الأسرى أن يفهموا هذه الحقيقة، وأن لا يُنَفِّسوا غضبهم وطاقتهم المكبوتة بإخوانهم وزملائهم، الذين لا تقل معاناتهم وهمومهم عن معاناتهم وهمومهم، وأن تكون أخلاق الحلم والعفو والصبر والمغفرة واستيعاب الآخر، هي الأساس في تعاملاتهم بعضهم مع بعض.
وحين يظهر من أحد الزملاء شيء من الغضب أن نبادر إلى تهدئته والتخفيف عنه وحل مشكلته، وأن لا نزيد النار اشتعالاً. وبذلك نحافظ على الهدوء والاطمئنان، والأجواء الهادئة السعيدة. وإلا فإن الحياة في السجن تصبح جحيماً لا يطاق، حين يُسْتَفزَّ كل أسير لمجرد غضب بسيط، أو لأي موقف لا يروق له، فتراه تنتفخ أوداجه ويحمر وجهه ويرتفع صوته، فيضفي على الزنازين أو الغرف في السجن أجواء مكهربة ومشحونة، فترى الوجوه عابسة، والقلوب واجفة، والأحلام في حيرة.
كل ذلك فوق ما هم فيه من سجن وحشر وهموم ومعاناة، مع عدم القدرة على الهرب أو الخروج من هذا المشهد الكئيب، لأن الأبواب مغلقة، والعدو المتربص على الأبواب يزهو ويفرح لهذا الحال الذي يتمنى له الدوام والاستمرار…
معينات على الصبر:
قال الماوردي: ولتسهيل المصائب وتخفيف الشدائد، إذا قارنت حزماً وصادفت عزماً هان وقعها وقلَّ تأثيرها وضررها:
منها: إشعار النفس بفناء الدنيا، وأن لها آجالاً منصرفة ومُدداً منقضية، إذ ليس للدنيا حالٌ تدوم، ولا لمخلوق فيها بقاء….
ومنها: أن يتصور انجلاء الشدائد، وانكشاف الهموم، وأنها تقدَّر بأوقات لا تنصرم قبلها، ولا تستديم بعدها، فلا تقصر بجزع ولا تطول بصبر.
ومنها: أن يعلم أن النعم زائرة، وأنها لا محالة زائلة، وأن السرور بها إذا أقبلت مشوبٌ بالحذر من فراقها إذا أدبرت، وأنها لا تفرح بإقبالها فرحاً حتى تعقب بفراقها ترحاً، فعلى قدر السرور يكون الحزن. وقال بعض الحكماء: من علم أن كل نائبة إلى انقضاء حَسُنَ عزاؤُه حين حصول البلاء… .
ومن المعينات على الصبر: الإيمان بالقضاء والقدر. فحين يعلم المبتلى أن ما أصابه كان بقدر الله تعالى، ويؤمن بقوله تعالى: “إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ” القمر49. وقوله تعالى: “وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً” الفرقان2. وقوله تعالى: “وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً” الأحزاب 38. وقوله تعالى: “قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ” التوبة51. وقوله تعالى: “مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ” الحديد22.
وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “…وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لَوْ تفتح عمل الشيطان” رواه مسلم …
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، واعلم أن الخلائق لو اجتمعوا على أن يعطوك شيئا لم يرد الله أن يعطيك لم يقدروا عليه ، ولو اجتمعوا أن يصرفوا عنك شيئا أراد الله أن يصيبك به لم يقدروا على ذلك ، فإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا ، واعلم أن القلم قد جرى بما هو كائن » رواه الترمذي والحاكم وأحمد . قال الترمذي: حسن صحيح. وله شواهد كثيرة. وهو من الأحاديث التي يدور عليها الإسلام، كما قال النووي في الأربعين النووية.
وغير ذلك من الآيات والأحاديث الصحيحة.
وحين تستقر هذه العقيدة في قلب الأسير أو المبتلى، فإنها تعطيه طاقة عظيمة وقدرة كبيرة على الصبر والاحتساب، وقوة التحمل ومواجهة الصعاب، وتولد شجاعة وإقدام…، كما أنها تؤدي إلى التوكل الحقيقي على الله تعالى، والرضا وعدم اليأس، وتمنحه الطمأنينة وسكون القلب وراحة البال، فمن يرضى عن الله فإن الله يرضيه يقول الله تعالى: “رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” المجادلة22…
ويقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر” . ويقول ابن تيمية رحمه الله حين اقتيد إلى السجن: “ما يصنع بي أعدائي: أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما رحلت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، ونفيي سياحة”. وقال رحمه الله أيضاً: “إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة” .
وقال بعض الصالحين: إني لأصاب بالمصيبة فأشكر الله عليها أربع مرار: شكراً إذ لم تكن أعظم مما هي، وشكراً إذ رزقني الصبر عليها، وشكراً لما أرجوه من زوالها، وشكراً إذ لم تكن في ديني .
“فلا تضق ذرعاً فمن المحال دوام الحال، وأفضل العبادة انتظار الفرج، والأيام دول، والدهر قُلَّب، والليالي حبالى، والغيب مستور، والحكيم سبحانه كل يوم هو في شأن، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، وإن مع العسر يسراً” .
استحضار قيمة الدنيا الفانية:
ومما يعين الأسير على الصبر والثبات استحضار قيمة الدنيا، وأن يعلم أنه لا قيمة لها ، وأنها مزرعة للآخرة، وأن ما هو فيه من سجن وقهر وحرمان يهون إذا ما قورن بما أعده الله له في الآخرة من نعيم مقيم وجنة عرضها السماوات والأرض… كما قال تعالى: “اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور”ِ الحديد20.
وقوله تعالى: “إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” يونس24.
وقوله تعالى: “قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى” النساء 75.
وقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ” فاطر5.
ونعيم الجنة ينسي كل تعب ومرارة في الدنيا، وكذلك عذاب النار ينسي كل راحة وحلاوة في هذه الدنيا، قال تعالى: ” أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ. مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ” الشعراء205-207.
ومن الأحاديث: حديث سهل بن سعد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ” رواه الترمذي والحاكم وصححه والطبراني . قال الترمذي: حديث صحيح غريب. وله شواهد عن أبي هريرة وابن عمر وأبي الدرداء وابن عباس والحسن بن علي .
وحديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها” رواه البخاري . قال القرطبي: إنما هذا على سبيل التمثيل والتقريب، وإلا فلا نسبة بين المتناهي وما لا يتناهى…
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: “أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل” رواه البخاري .
وقال الماوردي: قال بعض البلغاء: “الدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة، ولا تخلي محنة، فأعرض عنها قبل أن تعرض عنك، واستبدل بها قبل أن تستبدل بك، فإن نعيمها يتنقل، وأحوالها تتبدل، ولذّاتها تفنى، وتبعاتها تبقى”. وقيل لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه: صف لنا الدنيا فقال: “أولها عناء، وآخرها فناء، حلالها حساب، وحرامها عقاب، من صحّ فيها أمن، ومن مرض فيها ندم، ومن استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، ومن ساعاها فاتته، ومن قعد عنها أتته، ومن نظر إليها أعمته، ومن نظر بها بصرته” .
وقال بعض الحكماء: “الدنيا إما نقمة نازلة، وإما نعمة زائلة”. وقال صاحب كليلة ودمنة: “طالب الدنيا كشارب ماء البحر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً” .
وقيل لأعرابي: صف الدنيا؟ فقال: جمّة المصائب، سريعة النوائب، كثيرة العجائب. وذكر المدائني قال: كتب مطرّف إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أما بعد، فإن الدنيا دار عقوبة،لها يجمع من لا عقل له، وبها يغتر من لا علم له، فكن فيها كالمداوي جرحه، واصبر على شدة الدواء لما تخاف من عاقبة الداء. وقيل للحسن البصري: كيف ترى الدنيا؟ فقال: شغلني توقع بلائها عن الفرح برخائها .
وقال ابن الرومي:
أرى طالب الدنيا وإن طال عمره ونال من الدنيا سروراً وأَنْعُما
كبانٍ بنى بيتــــــــاً لــــــــــــــــــه فأتمــــــــــــــــــــــــه فلما استوى ما قد بناه تهدما
وقال أبو فرج الساوي:
هي الدنيا تقول بملء فيها حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركم حسن ابتسامي فقوْلي مُضْحِكٌ والفعل يُبكـــــــــــي
“إن عمر الدنيا قصير وكنزها حقير، والآخرة خير وأبقى، فمن أصيب هنا كوفئ هناك، ومن تعب هنا ارتاح هناك. أما المتعلقون بالدنيا العاشقون لها الراكنون إليها، فأشد ما على قلوبهم فوت حظوظهم منها، وتنغيص راحتهم فيها، لأنهم يريدونها وحدها، فلذلك تعظم عليهم المصائب، وتكبر عندهم النكبات، لأنهم ينظرون تحت أقدامهم فلا يرون إلا الدنيا الفانية الزهيدة الرخيصة. أيها المصابون ما فاتكم شيء وأنتم الرابحون… فعلى المصاب الذي ضُرِبَ عليه سُرادق المصيبة، أن ينظر ليرى أن النتيجة: “فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ” الحديد13. وما عند الله خير وأبقى وأهنأ وأمرأ وأجل وأعلى” .

ثالثاً: الأمل والثقة بالله:
والأسير بلا شك يعيش في بلاء عظيم ومحنة كبيرة، لا يعرفها إلا من ذاقها وعاناها واكتوى بنارها. وهذا البلاء سنة من سنن الله تعالى في الدعوات وفي أهل الإيمان، ولكنه البلاء الذي فيه المصلحة الحقيقية للمؤمن، لأنه بذلك يرفع درجاته، ويكفر سيئاته، وتصقل شخصيته، ويؤهل للقيادة، ويمحص فيه الصف المسلم، ويظهر الصادق في إيمانه وولائه من الكاذب…
والأسير المؤمن يوقن أن قضيته عادلة، وأنه على الحق، والحق يحتاج إلى صبر وتضحية. ولكنه الصبر الجميل الذي ينتظر فيه رحمة الله تعالى وفرجه، وتبديل عسره يسرا، لأن دوام الحال من المحال: “وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ” آل عمران 139-140 .
ولذلك يبقى الأمل بالله تعالى كبيراً، والثقة بنصره سبحانه عظيمة، وتوكله على الله لا يتزعزع، لأن ما أصابه لم يكن ليخطئه: ” قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ” التوبة51.
فالأسير يعلم أن ما أصابه في سجنه فيه خير عظيم، قد لا ندركه بعقولنا القاصرة وحكمتنا المحدودة، ولكن الله العلي العظيم يعلمه ويدركه، وفق حكمته المطلقة اللامحدودة. فالبلاء لا يخرج المؤمن من ثقته بالله تعالى، ومن طمأنينته وسكينته. فهو ما دام مؤمناً متبعاً سبيل الهداية، فلن يشقى ولن يضل، كما قال تعالى: “فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ” طه123. والمقصود هنا الشقاء الحقيقي وهو شقاء الروح وشقاء القلب وشقاء النفس، وليس الشقاء الجسدي أو المادي الذي يصيب البشر جميعا…
والعرب تقول: إن في الشر خياراً. قال الأصمعي: معناه: أن بعض الشر أهون من بعض. وقال أبو عبيدة: معناه: إذا أصابتك مصيبة فاعلم أنه قد يكون أجلّ منها، فلتهن عليك مصيبتك. وقال بعض الحكماء: عواقب الأمور تتشابه في الغيوب، فربَّ محبوب في مكروه، ومكروه في محبوب، وكم مغبوط بنعمةٍ هي داؤه، ومرحوم من داء هو شفاؤه… وقال إسحاق العابد: ربما امتحن الله العبد بمحنةٍ يخلصها بها من الهلكة، فتكون تلك المحنة أَجَلَّ نعمة… وكان عبد الله بن مسعود يقول: الصبور يدرك أحمد الأمور .
وما دام الله سبحانه يقدِّر لعبده المؤمن الخير دائماً، وأن هذا السجن بما فيه من شدائد ومحن ومعاناة وهموم، وأحزان فيه خير عظيم في علم الله. لذلك فإن ثقة هذا المؤمن بالله عظيمة، وأمله بنصر الله وفرجه كبير. يقول الله تعالى: “وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ. الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ” النحل41.
فلا يأس ولا قنوط من رحمة الله تعالى: “إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ “يوسف87. “قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ “الحجر56. ويقول سبحانه: “الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ” آل عمران173-174.
وفي المقابل توعد الله الظالمين المجرمين الذين يسيمون المؤمنين والمجاهدين والأسرى صنوف الأذى والعذاب، توعدهم بالنهاية المؤلمة الوخيمة، كما قال الله تعالى: “وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ” الشعراء227. وقوله تعالى: “وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ…” إبراهيم 42-52. وقوله تعالى: “فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ. فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ” غافر45. وقوله تعالى: “سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ” آل عمران151.
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ”) هود102. متفق عليه .
والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة .
هذا الإيمان وهذا اليقين يعطي الأسير طمأنينة وسكينة وسعادة قلبية لا يعلمها إلا من ذاقها وعايشها. ولعل هذا هو المقصود بالنفس المطمئنة الواردة في قوله تعالى: ” يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ….” الفجر27. فنفسه مطمئنة سعيدة رغم الأغلال والقيود وضيق الزنازين وبعده عن الأهل والأحباب.
خاصة أن الله تعالى وعد عباده المؤمنين بالنصر والتمكين مهما طالت الأيام والسنون كما قال تعالى: “أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ” الحج39. ويقول سبحانه وتعالى: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” النور55.
وقوله تعالى: ” وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً” الطلاق 2-3. وقوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ “الحج38.
ويقول صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس” متفق عليه . وفي رواية: “قالوا: أين هم يا رسول الله؟ قال: في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس”.وفي رواية: “هم بالشام”.
وانتظار الفرج من الله تعالى من أفضل العبادات، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يُسْأَل، وأفضلُ العبادة انتظارُ الفرج من الله تعالى” رواه الترمذي والطبراني والبيهقي . وله شاهد من حديث أنس بن مالك.
وفي ذلك يقول الشاعر إبراهيم بن المدبر (وقد جرّب السجن):
تَسَلَّ فليس طولُ الحبس عـــارُ وفيه لنـــــا من الله الخيــــــــــــــــارُ
فلولا الحبسُ ما بُلِيَ اصطبـــــارٌ ولولا الليل ما عُرف النهارُ
فما الأيـــــــــــــام إلا معقبـــــــــــــــــــاتٌ وما السلطان إلا مستعــــــــــارُ
وعن قَدَرٍ حُبستَ فلا تراعـــي فما يُغْني من القدر الحــــذارُ
سيُفْرَجُ ما ترى عما قليـــــــــــــــــــلٍ معقبه وإن طال الإســــــــــــــــارُ
وقال عيسى بن البحتري لما حبس مخدومه:
إذ يحجبوك عن الأبصار فلا عجبٌ اللؤلؤُ الرطب قد تَكْتَنُّهُ الصدف
أو يظلموك فصبراً وانتظارَ غــــــــــــــــــــــــدٍ فإن رب الورى لا شك ينتصفُ
وقال سعيد بن بيضاء الأسدي:
فما نوب الحوادث باقيــــــــــــات ولا البوسا تدوم ولا النعيم
كما يمضي سرورك وهو جمٌّ كذلك ما يسوؤك لا يدوم
فلا تهلك على ما فات وجداً ولا تعروك بالأسف الهموم
وقال رجل وهو ذاهب إلى السجن:
عسى فرجٌ يأتي به الله إنــــــــــــــــــــه له كلَّ يوم في خليقته أمــــــــــــــــــــــــــرُ
إذا اشتد عسرٌ فارج يسراً فإنه قضى الله أن العسرَ يتبعه يسرُ

رابعاً: العزيمة وعلو الهمة:
ومن الصفات التي ينبغي أن يتصف بها الأسير: العزيمة وعلو الهمة، والاهتمام بعزائم الأمور، والابتعاد عن السفاسف والمحقرات والأمور التافهة… لأن الأسير إذا لم يكن له اهتمام بمعالي الأمور فإنه يضيع وقته وجهده وعقله وأعصابه في أمور لا قيمة حقيقية لها. وهو يمكن بهذه الهمة العالية والعزيمة الصادقة أن يحول السجن (رغم ما يظهر من قسوته وشدته ومحنته) إلى نعمة كبيرة، إذا تعامل معه برباطة جأش، ومعنويات عالية، ويقين بأن هذه فرصة سانحة لبناء نفسه، والارتقاء بإيمانه وعقله وروحه…
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإن العزيمة وعلو الهمة ضرورية لمستقبل هذا الأسير، ودوره الريادي في تغيير حال الأمة، وتحقيق الأهداف الكبيرة، والغايات السامية لها. فالأمة تعول عليه كثيراً في هذا التغيير كما قلنا مراراً، ولا شك أن تغيير هذا الواقع، وتحقيق هذه الأهداف، ليس بالأمر السهل أو الهين. والأسير شاء أم أبى أصبح محط أنظار الأمة، وأصبح قدوة وأسوة للأمة وللأجيال. فهل يتناسب هذا مع خور العزيمة، وضعف الهمة، والاهتمام بدنايا الأمور ومحقراتها؟!
يقول الله تعالى: ” وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ” العنكبوت69.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجز…” رواه مسلم وابن حبان في صحيحيهما .

نماذج وقدوات:
وعند الحديث عن العزيمة وعلو الهمة والثقة بالله تعالى، نذكِّر بهذه النماذج والأمثلة الحية، التي تعطينا الأسوة والقدوة لمن يقع في محنة الأسر، ولكنه رغم المعاناة والقهر والحرمان التي يعيشها يبقى عزيزاً أبياً رافعاً رأسه، يعرف واجباته، ويأخذ بعزائم الأمور، ويثبت على إيمانه وثقته بالله، دون تنازل أو انهيار أمام الأعداء…

(1) قصة الأسير الشهيد خبيب بن عدي رضي الله عنه:
روى البخاري عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال:
“بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً عَيْنًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ، وَهُوَ جَدُّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو لَحْيَانَ، فَتَبِعُوهُمْ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، حَتَّى أَتَوْا مَنْزِلًا نَزَلُوهُ فَوَجَدُوا فِيهِ نَوَى تَمْرٍ تَزَوَّدُوهُ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ، فَتَبِعُوا آثَارَهُمْ، حَتَّى لَحِقُوهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَى عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ، وَجَاءَ الْقَوْمُ فَأَحَاطُوا بِهِمْ، فَقَالُوا: لَكُمْ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ إِنْ نَزَلْتُمْ إِلَيْنَا أَنْ لَا نَقْتُلَ مِنْكُمْ رَجُلًا، فَقَالَ عَاصِمٌ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَنْزِلُ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ، فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى قَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةِ نَفَرٍ بِالنَّبْلِ، وَبَقِيَ خُبَيْبٌ وَزَيْدٌ وَرَجُلٌ آخَرُ، فَأَعْطَوْهُمْ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، فَلَمَّا أَعْطَوْهُمْ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ نَزَلُوا إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ حَلُّوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَرَبَطُوهُمْ بِهَا. فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ الَّذِي مَعَهُمَا: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، فَأَبَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ، فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَقَتَلُوهُ، وَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَزَيْدٍ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ، فَاشْتَرَى خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَمَكَثَ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا حَتَّى إِذَا أَجْمَعُوا قَتْلَهُ اسْتَعَارَ مُوسًى مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الْحَارِثِ لِيَسْتَحِدَّ بِهَا، فَأَعَارَتْهُ، قَالَتْ فَغَفَلْتُ عَنْ صَبِيٍّ لِي فَدَرَجَ إِلَيْهِ حَتَّى أَتَاهُ فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ فَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَ ذَاكَ مِنِّي، وَفِي يَدِهِ الْمُوسَى، فَقَالَ أَتَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ، مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَاكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَكَانَتْ تَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ وَمَا بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ ثَمَرَةٌ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الْحَدِيدِ، وَمَا كَانَ إِلَّا رِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ، فَخَرَجُوا بِهِ مِنْ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تَرَوْا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ مِنْ الْمَوْتِ لَزِدْتُ. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ هُوَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا. ثُمَّ قَالَ:
مَا أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا
عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ عُقبَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَتَلَهُ. وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ إِلَى عَاصِمٍ لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ يَعْرِفُونَهُ، وَكَانَ عَاصِمٌ قَتَلَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِثْلَ الظُّلَّةِ مِنْ الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ” .

(2) قصة عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه:
روى ابن عساكر في تاريخه: أن عبد الله بن حذافة السهمي وقع أسيراً مع بعض المسلمين في أيدي الروم، وأُخْبِر ملك الروم بأن بين الأسرى رجل من الصحابة، فأمر به فأُحضِر، فعرض عليه أن يتنصَّر، وقال له: أزوجك ابنتي، وأقاسمك نصف ملكي إن دخلت في النصرانية، وتركت دين محمد!! فقال له عبد الله: والله لو أعطيتني كل ما تملك وكل ما يملك العرب وكل ما في الدنيا على أن أترك دين محمد طرفة عين ما فعلت!! فقال له ملك الروم: إذاً أقتلك؟ قال: افعل ما تشاء!! فأمر به الملك أن يصلب على عمود، وأمر الرماة أن يرموه بالسهام في غير مقتل، وهو يعرض عليه النصرانية فيأبى. ثم أمر بإنزاله، وأمر الجند أن يأتوا بقدر كبيرة، فأحمي عليها حتى صارت حمراء لاهبة من شدة الحرارة، وأمرهم أن يأتوا بأسير من المسلمين، فأتي به فألقوه في القدر، فإذا هو عظام تلوح، وعرضوا على الصحابي النصرانية وهو يأبى. فأمر به الملك أن يلقى في القدر، فوضعوه في البكرة ليلقوه في النار، فبكى، فطمع به ملك الروم وأمر بإعادته إليه، وقال له: ما يبكيك؟! قال: أبكي لأنها نفس واحدة تموت في سبيل الله!! فلما رأى الملك صلابة دينه أمر أن يحبس في مكان ضيق، وأن يمنع من الطعام والشراب أياماً، ثم أتى بخمر ولحم خنزير ليأكل منه بعد ثلاثة أيام، وقد كاد الجوع والعطش أن يقتله، فأبى أن يأكل، فأخبر الملك فدعاه، فقال له: لمَ لمْ تأكل من الطعام، وقد أوشكت على الموت؟ فقال: إني أعلم أنه يحل لي، لأنني مضطر، ولكني ما أردت أن أشمتك في دين محمد. فقال له الملك: قبِّل رأسي وأنا أطلك سراحك؟ فقال له عبد الله: أقبِّل رأسك بشرط أن تطلك معي جميع أسرى المسلمين؟ فقال له: أفعل ذلك. فقبل الصحابي رأسه، فأمر بإطلاق سراحه وسراح جميع أسرى المسلمين. ولما رجع إلى المدينة المنورة، كان الخبر قد وصل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو خليفة المسلمين، فلما دخل عليه قام نحوه عمر مسرعاً، وقال: حقٌّ على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أول من يفعل ذلك، فقبل عمر رأسه، وقبل المسلمون رأسه .

(3) قصة مسيلمة الكذاب مع اثنين من الصحابة:
وقع في يدي مسيلمة اثنان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسر، فجيء بهما إليه، فقال لأحدهما: ما تقول في؟ فقال: أنت رسول الله، فخلى سبيله. وقال للآخر: ما تقول في؟ فقال: ماذا تقول في؟! أنا أصم لا أسمع… فقتله عدو الله. فبلغ خبرهما رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما الأول فقد أخذ برخصة الله عز وجل. وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له الجنة .

الطائفة الظاهرة على الحق:
وهي الطائفة الواردة في الحديث المشهور في وصف الطائفة الظاهرة على الحق، والتي ورد أنها في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس. ونعتقد أن الأسرى في سجون الاحتلال يمكن اعتبارهم جزءً من هذه الطائفة المقصودة في هذا الحديث، إذا التزموا بصفاتها المذكورة. لذلك آثرنا تذكير إخواننا الأسرى بهذه الصفات:
فعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك” رواه البخاري ومسلم . وله شوهد من حديث المغيرة بن شعبة وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله ومعاوية وسعد بن أبي وقاص. زاد الطبري: “…قيل: يا رسول الله وأين هم؟ قال: ببيت المقدس”. وفي رواية: هم بالشام. وفي رواية الطبراني في الأوسط: “…يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين إلى يوم القيامة” .
قال النووي وابن حجر وغيرهما: يحتمل أن هذه الطائفة مفرقة في أنواع من المؤمنين: منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدِّثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير. ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونوا متفرقين في أقطار الأرض .
ومن خلال مجموعة الصفات لهذه الطائفة الواردة في هذا الحديث ورواياته، نستنتج الصفات التالية لها:

  1. أنها على الحق: أي أنهم متمسكون بدينهم، معتصمون بحبل الله تعالى، فتراهم مستقيمين على الهدى، بعيدين عن أسباب الفسق والانحراف. والتعبير بالحرف (على) هنا للدلالة على التمكن والاستقرار.
  2. أنها قائمة بأمر الله: أي أنهم تميزوا عن سائر الناس بحمل راية الدعوة إلى الله، وإلى دينه وشرعه، وأنهم قائمون بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يعارضون كل انحراف يقع من المسلمين، أياً كان نوعه: سياسياً كان أو أخلاقياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً.
  3. أنها تقوم بواجب الجهاد والقتال في سبيل الله: ففي رواية للحديث: “يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم. حتى يقاتل آخرُهُم الدجال” رواه أبو داود . وهذا يعني استمرار الجهاد والمواجهة العسكرية مع أعداء الله إلى يوم القيامة. فإذا غفلت الأمة عن الجهاد وتخلت عنه، فإن هذه الطائفة تعيد الأمة إلى الجهاد، حتى ينصرها الله.
  4. أنها المجددة للأمة أمر دينها: وهذه الصفة مأخوذة من حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها” رواه أبو داود والحاكم وصححه .
  5. أنها ظاهرة إلى يوم القيامة: والظهور يعني: الوضوح والبيان وعدم الاستتار. فهم معروفون بارزون مستعلون. ويعني الثبات على الحق والدين والاستقامة، بحيث لا يثنيهم عن ذلك شيء من العقبات أو العوائق. ويعني الغلبة والتمكن والعلو، كما في رواية “ظاهرين لعدوهم”. ورواية: “ظاهرين على من ناوأهم”. ورواية: “لعدوهم قاهرين”. وهذا وعد من الله تعالى لهذه الطائفة.
  6. أنها صابرة: وهذا مأخوذ من قوله: “لا يضرهم من خالفهم”. وفي رواية : “لا يبالون من خالفهم”. وإلى هذا يشير قوله تعالى: ” وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا” السجدة24.
    وهذا كله يعني أنها جماعة تتمتع بالإيمان واليقين، والعزيمة وعلو الهمة والعزة، وأصحابها لهم المجد والفخار في الدنيا والآخرة، وهي موجودة وقائمة بأمر الله تعالى في كل وقت. ومن مجموع هذه الصفات نعتقد أن الأسرى المخلصين الصادقين في سجون الظالمين (خاصة في فلسطين) هم جزء من هذه الطائفة، إن شاء الله، إذا التزموا بتلك الصفات المذكورة سابقاً. فهم من بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ولم يعتقلوا أو يسجنوا إلا لأنهم جاهدوا في سبيل الله، وقهروا عدوهم، وصدعوا بالحق، وصبروا وثبتوا، ولم يبالوا بما أصابهم في سبيل الله من بأساء أو ضراء… لذلك فهي طائفة منصورة بإذن الله.

خامساً: في الجانب الروحي:
ونقصد بذلك تعميق الصلة بالله تعالى، واستغلال الوقت الطويل الذي يملكه الأسرى في سجونهم، وذلك بالارتقاء في منازل الصديقين، والبناء الروحي العميق، وتزكية النفس ومجاهدتها، حتى يستحقوا وصف الربانية، ولا يكون ذلك إلا بترك جميع المحرمات والمكروهات، والإتيان بجميع الفرائض، والإكثار من النوافل والسنن، خاصة قيام الليل، والإكثار من قراءة القرآن الكريم، والذكر والاستغفار، والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر على الأقل…
وهنا نستذكر الحديث القدسي: عن أَبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: إن اللَّه قال: “مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ. وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ. وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا. وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ”. رواه البخاري .

وللتذكير نعرض بعض هذه الجوانب الروحية التي تساعد في تهذيب النفس وتزكيتها، والارتقاء في منازل الصديقين والربانيين، وتعين الأسير على استغلال وقته بها للوصول إلى تلك الأهداف الكبيرة. وذلك من باب التذكير وشد الهمم فقط، وإلا فقد رأينا إخواننا وزملاءنا الأسرى يتسابقون في هذه الميادين، مما يذكِّرنا بالسلف الصالح والعبّاد المشهورين. لذا نعتقد جازمين أن الله تعالى لن يضيع هؤلاء الكرام جهادهم واجتهادهم، ولن يترهم أعمالهم، وسنرى عن قريب بإذن الله تعالى ثمار جهادهم وتضحياتهم وعباداتهم ودعائهم:

  1. القرآن الكريم:
    تلاوة وتجويداً وحفظاً وتفسيراً وتدبراً. وإذا لم يكن الأسير يعرف أحكام التلاوة والتجويد عليه أن يبادر بالطلب من أحد زملائه الذين يعرفونها، كي يعلمه إياها، أو يتوجه إلى مسئوله في التنظيم لينظموا له دورة في أحكام التجويد. يقول الله تعالى: “وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً” المزمل4.
    وفي حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَه” رواه البخاري ومسلم .
    ويقول سبحانه: “إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ” فاطر29.
    وحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب وقام به آناء الليل وآناء النهار، ورجل أعطاه الله مالاً فهو يتصدق به آناء الليل وآناء النهار” رواه البخاري ومسلم .
    وحديث أبي ذر رضي الله عنه قال: “قلت يا رسول الله أوصني؟ قال: عليك بتقوى الله. قلت يا رسول الله زدني؟ قال: عليك بتلاوة القرآن، فإنه نور لك في الأرض، وذخر لك في السماء” رواه ابن حبان في صحيحه .
    وكم شهدنا زملاءنا الأسرى من أولي العزم، الذين اهتموا بالقرآن حفظاً وترتيلاً وتفسيراً، ورأينا التنافس بينهم في هذا المجال، ورأينا العشرات بل المئات الذين أتموا حفظ القرآن كاملاً في السجن، وبعضهم أتم حفظه في شهور معدودة، بفضل الله تعالى. وصدق فيهم قول الله تعالى: “بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ” العنكبوت49.
    وقد شهدنا الإخوة القائمين على شئون التنظيم في الحركة الإسلامية داخل السجون يهتمون بهذا الموضوع أيما اهتمام، حتى حوَّلوا زنازين السجن وساحاته لخلية نحل تدوي بأصوات القارئين والحافظين والمتعلمين لكتاب الله تعالى، بما يفرح كل صديق، ويغيظ كل عدو. ومنحوا المئات من الأسرى شهادات في التجويد والتحفيظ وقراءات القرآن، وأسانيد لحفظ القرآن الكريم كاملاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. فجزاهم الله خيراً، وجعل ذلك في ميزان حسناتهم.

(2) قيام الليل:
فالسجين بحاجة ماسة إلى الصلة بالله تعالى والخشوع والخضوع، والتذلل بين يديه سبحانه، فذلك له أثره البالغ على روحه وقلبه ونفسه، ويولد عنده السكينة والطمأنينة القلبية، والشعور بمعية الله تعالى في هذه اللحظات العصيبة التي يعيشها، كما قال تعالى: “الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ “الرعد28. خاصة في فترة التحقيق القاسية، أو في حالات العزل والزنازين، أو عند المواجهة مع إدارة السجن في حالات القمع والاستنفار.
فبعد التجربة رأينا أن الصلة بالله تعالى والقرب منه سبحانه، وكثرة الذكر والاستغفار، تعطي الأسير دفعة معنوية كبيرة، لا يعرفها إلا من جربها وتذوق حلاوتها، وصدق ابن تيمية حين قال: “… وسجني خلوة”.
ونذكر هنا بعض الآيات والأحاديث الدالة على فضل قيام الليل وأهميته وبعض أحكامه:
قوله تعالى: “تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ” السجدة16. وتتجافى بمعنى: تتباعد عن الفراش.
وقوله تعالى: “ياأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً. إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً. إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً” المزمل 1-8.
حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل” رواه مسلم والنسائي والدارمي وابن ماجة .
حديث جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن في الليل لساعة، لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه. وذلك كل ليلة” رواه مسلم في الصحيح وأحمد .
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له” رواه البخاري ومسلم .
حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل الصلاة طول القنوت” رواه مسلم . قال النووي: المراد بالقنوت هنا: القيام باتفاق العلماء فيما علمت. وفيه دليل للشافعي وغيره أن تطويل القيام أفضل من كثرة الركوع والسجود.
حديث عائشة رضي الله عنه قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل ليصلي، افتتح صلاته بركعتين خفيفتين” رواه مسلم .
حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “أن رجلاً قال: يا رسول الله كيف صلاة الليل؟ قال: مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة واحدة” رواه البخاري ومسلم .
حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أوتروا قبل أن تصبحوا” رواه مسلم وله شواهد كثيرة. وفي رواية: “من أدرك الصبح ولم يوتر فلا وتر له” رواه ابن حبان .
قال الصنعاني: حكم الوتر حكم الفريضة، فإذا نام عنها أو نسيها فإنه يصليها عند الاستيقاظ أو الذكر. والأفضل تأخير الوتر حتى آخر الليل إن ضمن الاستيقاظ قبل الفجر، فإن خاف أن لا يقوم قدَّمَه لئلا يفوته…
حديث عائشة رضي الله عنها: ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قيام الليل إحدى عشرة ركعة، كانت تلك صلاته، ويسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه. ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن، حتى يأتيه المنادي للصلاة” رواه البخاري .

  1. كثرة الدعاء:
    الأسير بحاجة ماسة للدعاء، بل وإلى الإلحاح في الدعاء، وعليه أن يعلم أن رحمة الله قريب من المحسنين، وأن الدعاء باب كبير للخيرات، وهو مفتاح للفرج والنصر، وطريق سهل ميسر لتحقيق الأهداف وبلوغ الغايات والأمنيات… وقد وعد الله تعالى بإجابة الدعاء الخارج من قلب مخلص صادق، إذا انتفت موانع الإجابة، قال الله تعالى: “وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ” غافر60.
    وقال تعالى: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ” البقرة 186.
    وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ }الأنفال9.
    وقد ورد أن الله تعالى لا بد أن يستجيب الدعاء، كما ورد عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن ربكم حيي، كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً” رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وصححه الحاكم .
    وجاء في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى يقول: “أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني” رواه البخاري والمسلم، واللفظ لمسلم .
    أما كيف يستجيب الله الدعاء، فإننا نكل ذلك إلى الله الحكيم العليم، وقد ورد في حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: “إنه لا يضيع الدعاء، بل لا بد للدعاء من إحدى ثلاث: إما أن يعجِّل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها” رواه أحمد والحاكم وصححه . وهذا يعني أن الدعاء لا بد أن يُسْتجاب، ولكن طريقة الإجابة نَكِلُها إلى الله فإنه سبحانه أعلم بمصالح عبده وما هو الأفضل له، وفق حكمته سبحانه.
    وورد الكثير من الآيات والأحاديث في الدعاء عند لقاء الكفار، والالتحام مع الأعداء. والأسير كما رأينا مجاهد في سبيل الله تعالى، وهو ملتحم مع الأعداء حقيقة وحكماً. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ }الأنفال45.
    وحديث ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: “دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم” رواه البخاري .
    وحديث ابن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف، اللهم عليك بأبي جهل…” رواه البخاري .
    وحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا قال سمع الله لمن حمده في الركعة الآخرة من صلاة العشاء قنت: اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم انج الوليد بن الوليد، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج المستضعفين من المسلمين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف” . وكان عياش وأصحابه أسرى عند كفار قريش. وحين تمكن الوليد من الهرب إلى المدينة عرض على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخلص إخوانه، فأذن له الرسول، فذهب إلى مكة وخلصهم .
    وغير ذلك من الأحاديث…

دعوة المظلوم:
ولا شك أن الأسير _ الذي قاوم الاحتلال، وجاهد في سبيل الله، ثم وقع في محنة السجن، وتعرض لصنوف الأذى والعذاب والمعاناة_ رجل مظلوم. وقد ورد أن دعوة المظلوم مستجابة وأنها لا تخيب. جاء في حديث معاذ ابن جبل رضي الله عنه حين بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأوصاه فقال: “… واتق دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب” رواه البخاري ومسلم .
وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول لها الرب: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين” رواه الترمذي وابن حبان وابن خزيمة والطبراني وأحمد . وإسناده صحيح .
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اتقوا دعوة المظلوم، فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة” رواه الحاكم .ورمز له السيوطي بالصحة. قال المناوي: هذا كناية عن سرعة الوصول، لأنه مضطر في دعائه، وقد قال الله سبحانه وتعالى: “أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ” النمل62. وكلما قوي الظلم قوي تأثيره في النفس، فاشتدت ضراعة المظلوم، فقويت دواعي استجابته.
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اتقوا دعوة المظلوم، وإن كان كافراً، فإنه ليس دونها حجاب” رواه أحمد والطبراني . بإسناد حسن. ورمز له السيوطي في الجامع الصغير بالصحة.
وإذا تأخرت الاستجابة للدعاء فعليه أن لا ييأس ولا يقنط، ولا يقول: دعوت فلم يستجب لي. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي” رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم: “لا يزال يُسْتَجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل. قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء”.
ومن الأدعية المستجابة دعوة المسلم لأخيه في ظهر الغيب. جاء في حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل” رواه مسلم .
وهذا مهم للمسلمين بشكل عام أن يكثروا من الدعاء لإخوانهم الأسرى في سجون الظالمين. ومهم للأسرى أن يكثروا من الدعاء لأهلهم وأقاربهم، ويدعوا لإخوانهم المسلمين، خاصة المجاهدين والدعاة والعاملين لرفعة الإسلام وأهله. خاصة وأنهم مظلومون، ودعوة المظلوم مستجابة كما علمنا.
وكما أن الدعاء مطلوب للأسير لنفسه وأهله وإخوانه… فهو مطلوب أيضاً على الأعداء المجرمين الظالمين، الذين يؤذون المسلمين، ويلاحقون أولياء الله تعالى، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة. فقد ذكر البخاري ترجمة في صحيحه بعنوان: (باب الدعاء على المشركين). ذكر فيه عدة أحاديث.
قال ابن قدامة المقدسي: إذا نزل بالمسلمين نازلة فللإمام أن يقنت في صلاة الصبح… وقال أحمد بن حنبل: يقنت أياماً معلومة ثم يترك كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا قال أبو حنيفة والثوري. وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على حي من أحياء العرب ثم تركه، وقنت علي رضي الله عنه… ولا يقنت في غير الصبح من الفرائض، قال أحمد: كل شيء يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت إنما هو في الفجر، ولا يقنت في الصلاة إلا في الوتر والصبح، إذا كان مستنصراً يدعو للمسلمين. وقيل يقنت في الفجر والمغرب… ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة القنوت في غير الفجر والوتر .
ومن الأدعية النافعة للأسير:
ما ورد في قوله تعالى: “رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ” يونس86.
وقوله تعالى: “ربَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ” البقرة250.
وقوله تعالى: “ربَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ” البقرة286
وما ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب يقول: “لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم” رواه البخاري ومسلم . قال النووي: هذا حديث جليل، ينبغي الاعتناء به والإكثار منه عند الكرب والأمور العظيمة، قال الطبري: كان السلف يدعون به ويسمونه دعاء الكرب، فإن قيل: هذا ذكر وليس فيه دعاء؟ فجوابه من وجهين مشهورين: أحدهما: أن هذا الذكر يستفتح به الدعاء، ثم يدعو بما شاء. والثاني: جواب سفيان بن عيينة فقال: أما علمت قوله تعالى في الحديث القدسي: “من شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين”.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جَهْدِ البلاء، ودَرَك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء” رواه البخاري . قال ابن حجر: الجهد هو المشقة. ودرك الشقاء هو إدراكه واللحاق به.
وحديث ابن عمر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك” رواه مسلم .
وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين، وغلبة العدو، وشماتة الأعداء” رواه النسائي وصححه الحاكم .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلّم: “مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلا حَزَنٌ، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ؛ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَجَلاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي؛ إِلا أَذْهَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا”. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَلا نَتَعَلَّمُهَا؟ قَالَ: “بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا” رواه أحمد وابن حبان والطبراني والبزار وأبو يعلى . قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وله شواهد.
وأورد ابن أبي الدنيا في كتابه (مجابو الدعوة) تحت عنوان: (دعاء الأسرى) عن عامر الشعبي قال: كنت جالساً مع زياد بن أبي سفيان، فأتي برجل يُحْمَل، لا نشك في قتله، قال: فرأيته حرَّك شفتيه بشيء لا أدري ما هو. قال فخلى سبيله، فقال بعض القوم: لقد جيء بك وما نشك في قتلك، فرأيناك حركت شفتيك بشيء وما ندري ما هو، فخُلِّي سبيلك؟ قال: قلت: اللهم رب إبراهيم ورب إسحاق ويعقوب، ورب جبريل وإسرافيل، ومنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم، ادرأ عني شرَّ زياد. قال: فخلي عنه .
وروى أن الحجاج أمر برجل كان جعل على نفسه إن ظفر به أن يقتله. فلما أدخل عليه تكلم بشيء فخلى سبيله. فقيل له: أي شيء قلت؟ قال: قلت: يا عزيز يا حميد، يا ذا العرش المجيد، اصرف عني شرَّ كل جبار عنيد .
وروى عن الحكم بن هشام الثقفي: أن رجلاً أُخِذَ أسيراً، فألقي في جب، ووضع على رأس الجب صخرة، فكتب فيها: “سبحان الملك الحق القدوس، سبحان الله وبحمده”. فأخرج من الجب من غير أن يكون أخرجه إنسان .
“فإذا نزلت بك النوازل، وألمت بك الخطوب، فالهج بذكره سبحانه، واهتف باسمه، واطلب مدده، واسأله فتحه ونصره، مرِّغ الجبين لتقديس اسمه، لتحصل على تاج الحرية، وأرغم الأنف في طين عبوديته لتحوز وسام النجاة، مد يديك وارفع كفيك وأطلق لسانك، أكثر من طلبه، وبالغ في سؤاله وألحَّ عليه، والزم بابه وانتظر لطفه، وترقب فتحه، وأحسن ظنك فيه، وانقطع إليه، وتبتل إليه تبتيلا، حتى تسعد وتفلح” .
سادساً: الاجتهاد في طلب العلم:
الصحة والفراغ: يتمتع الأسير في سجنه غالباً بالصحة والفراغ، وأحياناً لا يعرف كيف يقضي وقته في السجن، وقد يتسبب هذا الفراغ في حضور الهموم والأحزان، لأنه ينشغل غالباً بتذكر بلده وأهله وأحبابه، ووظيفته وزملائه…، ويتحسر على فقد هؤلاء جميعاً وبُعْدِه عنهم، خاصة إذا كانت مدة سجنه طويلة. فتظهر بدعة ما يسميه البعض (قتل الوقت)، وهو في الحقيقة قتل للنفس، لأن هذا الوقت هو رأسمال الإنسان في هذه الحياة، وكلما مرَّ الوقت كلما اقترب الأجل ونفد رأس المال. فعلى الأسير أن يحاسب نفسه دائماً على الوقت الذي يقضيه ويمر عليه.
وهنا ندرك قيمة حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ” رواه البخاري .
فإذا لم يعرف الأسير كيف يستغل هذا الفراغ، فإنه يصبح نقمة عليه وليس نعمة. قال ابن حجر: وأشار بقوله: (كثير من الناس) إلى أن الذي يوفق لذلك قليل. يقول أبو بكر بن العربي: يغبن فيهما كثير من الناس: أي يذهب ربحهم أو ينقص، فمن استرسل مع نفسه الأمارة بالسوء الخالدة إلى الراحة، فترك المحافظة على الحدود والمواظبة على الطاعة فقد غُبِن . ومن المعلوم أن الفراغ يعقبه الشغل، وأن الصحة يعقبها السقم.
ونذكِّر أيضاً بحديث أبي برزة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه” رواه الترمذي والدارمي . قال الترمذي حسن صحيح. وله شواهد كثيرة. والعمر هو الوقت.
وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك” رواه الحاكم وابن أبي شيبة . قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وصححه ابن حجر .
الأسير واستغلال الوقت في طلب العلم:
والسجن فرصة قد لا تتكرر في استغلال الوقت وتنظيمه، خاصة في طلب العلم، وتوسيع الثقافة، وقراءة العديد من الكتب النافعة، واستغلال أصحاب التخصصات الموجودين من الزملاء الأسرى، وما أكثرهم في سجون الاحتلال، وكذلك أخذ العديد من الدورات الثقافية المتخصصة والنافعة. فعلى الأسير أن يدير هذا الوقت بحيث يستفيد من كل ساعة أو دقيقة، فلا يمر عليه وقت دون فائدة يحصلها، أو فرصة يستغلها.
يقول الله تعالى : “يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” المجادلة11. قال ابن حجر: قيل في تفسيرها: يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم، ورفعة الدرجات تدل على الفضل، إذ المراد به كثرة الثواب، وبها ترتفع الدرجات، ورفعتها تشمل المعنوية في الدنيا بعلو المنزلة، وحسن الصيت. والحسية في الآخرة بعلو المنزلة في الجنة .
ويقول سبحانه: “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ “الزمر9.
ويقول سبحانه: “وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً “طه114.
ومن الآيات العجيبة في هذا الباب قوله تعالى: “فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ” التوبة122. وهي تنطبق على حال الأسرى تماماً، الذين خرجوا أو أُخْرِجوا من بيوتهم للنفير، ووُضِعوا في أجواء الفقه والعلم داخل السجون، ثم يرجعون إلى قومهم بعد الإفراج عنهم، ليفقهوهم في الدين، ويعلموهم ما استفادوه من علم داخل السجن، وينذروهم ويحذروهم كذلك بمكر الأعداء الذين خبروهم جيداً، وعرفوا أساليبهم الخبيثة في الإفساد والإسقاط الأمني والأخلاقي…. وغير ذلك.
وأما الأحاديث الواردة في ذلك فهي كثيرة. وقد وضع البخاري في صحيحه باباً ترجمته: “باب العلم قبل القول والعمل، لقوله تعالى: “فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ” محمد 19. فبدأ بالعلم. وأن العلماء هم ورثة الأنبياء، ورثوا العلم، من أخذه أخذ بحظ وافر، ومن سلك طريقاً يطلب به علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة. وقال جل ذكره: “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء “فاطر28. وقال: “وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ “العنكبوت43. … وإنما العلم بالتعلم…. وقال ابن عباس: كونوا ربانيين: أي حكماء فقهاء. ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره” .
وهي معاني عظيمة تدل على فقه البخاري وعلمه وتبحره رحمه الله. قال ابن حجر: “قوله (إنما العلم بالتعلم) هو حديث مرفوع بلفظ: (يا أيها الناس تعلموا، إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقُّه، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) وإسناده حسن، وله شواهد…”
وحديث الأحنف بن قيس عن عمر بن الخطاب أنه قال: (تفقهوا قبل أن تسودوا) رواه ابن أبي شيبة والبيهقي . قال ابن حجر: إسناده صحيح. قال ابن المنير: والمقصود أن السيادة من ثمرات العلم . وقيل غير ذلك. ولعل الأرجح أن الفقه ضروري للسيادة، حتى يسود الناس بالعلم والحكمة، وليس بالجهل فيَضِلَّ ويُضِلُّ. وهذا موافق لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جُهّالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا” رواه البخاري ومسلم . وله شواهد كثيرة.
والأسير غالباً ما يسود بعد الإفراج عنه، كما هو واضح في مجتمعنا الفلسطيني، وكما هو واضح من قصة يوسف عليه السلام وغيره. فعليه أن يتفقه قبل أن يُفْرَج عنه، ويعود إلى أهله وقومه عالما فقيها. وهذه مسئولية كبيرة على الأسير، وهي فرصة عليه أن يستغلها.
ومن الأحاديث الواردة في الترغيب في طلب العلم: حديث معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين” رواه البخاري .
ومنها حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلط على هلكته في الحق، ورجلٌ آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلِّمُها” رواه البخاري ومسلم .
وحديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: “سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلين أحدهما عالم والآخر عابد؟ فقال: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم”، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على مُعَلِّمِ الناس الخير” رواه الترمذي والدارمي . وإسناده حسن . وصححه الألباني .
وفي حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “…وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر في ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يوَرِّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر” رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة. وصححه الألباني .
وحديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن من أشراط الساعة أن يُرفعَ العلم، ويثبت الجهل، ويُشرَب الخمر، ويظهر الزنا” رواه البخاري ومسلم . وله شواهد كثيرة. قال ابن حجر: المقصود هو تعلم العلم، فإنه لا يرفع إلا بقبض العلماء. وما دام من يتعلم العلم موجوداً لا يحصل الرفع.
قال الماوردي: اعلم أن العلم أشرف ما رغب فيه الراغب، وأفضلُ ما طُلِب وجدَّ فيه الطالب، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب، لأن شرفه يثمر على صاحبه، وفضله ينمي على طالبه…. وليس يجهل فضل العلم إلا أهل الجهل، لأن فضل العلم إنما يعرف بالعلم، وهذا أبلغ في فضله، لأن فضله لا يعرف إلا به. فلما عدم الجهال العلم الذي به يتوصلون إلى فضل العلم جهلوا فضله، واسترذلوا أهله، وتوهموا أن ما تميل إليه أنفسهم من الأموال المقتناة، والطُّرَف المشتهاة، أولى أن يكون إقبالهم عليها، وأحرى أن يكون اشتغالهم بها. وقد قال ابن المعتز في منثور الحكم: العالم يعرف الجاهل، لأنه كان جاهلاً، والجاهل لا يعرف العالم، لأنه لم يكن عالماً. وهذا صحيح، ولأجله انصرفوا عن العلم وأهله انصراف الزاهدين، وانحرفوا عنه وعنهم انحراف المعاندين، لأن من جهل شيئاً عاداه… وإذا لم يكن إلى معرفة جميع العلوم سبيل وجب صرف الاهتمام إلى معرفة أهمها، والعناية بأولاها وأفضلها. وأولى العلوم وأفضلها علم الدين، لأن الناس بمعرفته يرشدون، وبجهله يضلون، إذ لا يصح أداء عبادة على جهل…
وقال الماوردي أيضاً: إن العلم والعقل سعادة وإقبال، وإن قلَّ معهما المال، وضاقت معهما الحال. والجهل والحمق حرمان وإدبار، وإن كثر معهما المال، واتسعت فيهما الحال. لأن السعادة ليست بكثرة المال. فكم من مكثر شقي ومقل سعيد، وكيف يكون الجاهل الغني سعيداً والجهل يضعه؟ أم كيف يكون العالم الفقير شقياً والعلم يرفعه .

قراءة الكتب النافعة:
من أفضل ما يمكن أن يقضي الأسير وقته في السجن: قراءة الكتب النافعة التي تنفعه في دينه ودنياه، والتي تنفعه في السجن وتنفعه بعد الإفراج عنه. وقد سخر الله تعالى للأسرى مكتبات لا بأس بها في معظم السجون ، ويمكن الاستفادة منها لمن يملك الإرادة والعزيمة، ولمن يعرف قيمة الكتاب وأهميته وأثره الإيجابي على الإنسان. خاصة أن الأسير كما قلنا مراراً يمتلك الوقت الكافي للقراءة وجني الفوائد إذا أراد.
كما أن كثرة القراءة والتعود عليها داخل السجن تعطي صاحبها سعادة غامرة وطمأنينة كبيرة لا يعرفها إلا من ذاقها، كما أن القراءة تنسيه الكثير من الهموم والأحزان، ويشعر أن السجن يمر عليه سريعاً، فلا يندم على مرور الوقت الطويل، لأنه يمر بالفوائد والمصالح، التي قد لا يجدها في الحرية…
وقد عشنا في السجون سنوات طويلة كان الكتاب فيها رفيقنا طول الوقت، حتى إنه ليصعب علينا إحصاء الكتب التي قرأناها داخل السجون. ولم ندرك أهمية ما قرأناه إلا بعد الإفراج عنا، حيث أخذنا معنا تلك الحصيلة الكبيرة الرائعة من المعلومات والعلوم والأفكار التي حصلناها من الكتب، وكَوَّنَت شخصيتنا العلمية والفكرية والثقافية وحتى السياسية.
ولم تنفعنا كل تلك الاهتمامات الثانوية التي كانت تشغل الكثيرين منا داخل السجون، والمتعلقة بالطعام والشراب والكانتينا، وراحة الأسير الشخصية، ومراقبة برامج التلفاز غير المفيدة، والقيل والقال…. وغير ذلك. فهذه كلها تركناها خلفنا في السجون عند أول خطوة للحرية، وعندها يندم من أضاع وقته في غير القراءة أو ما فيه فائدة، ولات حين مندم.
وقد تكلم العلماء قديماً وحديثاً عن أهمية الكتب والمطالعة، وضرورة الاعتناء والاهتمام بها، يقول الجاحظ: والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يمَلُّك، والجار الذي لا يستبطيك… وهو الذي إن نظرتَ فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجوَّد بنانك، وفخم ألفاظك، وبحبح نفسك، وعمَّر صدرك، ومنحك تعظيم العوامِّ، وصداقة الملوك، وعرفت فيه في شهر ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر، مع السلامة من الغُرْم، ومن كدِّ الطلب…..
وقد ذكروا من فوائد القراءة والمطالعة:

  1. طرد الوسواس والهمّ والحزن.
  2. اجتناب الخوض في الباطل.
  3. الاشتغال عن البطّالين وأهل العطالة.
  4. فتق اللسان، وتدريبٌ على الكلام، والبعد عن اللحن، والتحلي بالفصاحة والبلاغة.
  5. تنمية العقل، وتجويد الذهن، وتصفية الخاطر.
  6. غزارة العلم، وكثرة المحفوظ والمفهوم.
  7. الاستفادة من تجارب الناس وحكم الحكماء واستنباط العلماء.
  8. إيجاد الملكة الهاضمة للعلوم، والمطالعة على الثقافات الواعية لدورها في الحياة.
  9. زيادة الإيمان خاصة في قراءة كتب أهل الإسلام، فإن الكتاب من أعظم الوعّاظ، ومن أجل الزاجرين، ومن أكبر الناهين، ومن أحكم الآمرين.
  10. راحة للذهن من التشتّت، وللقلب من التشرذم، وللوقت من الضياع .
    إن الأسير يستطيع في سجنه أن يطالع الكتب الهامة والمفيدة، فلا يمر عليه وقت ليس بجانبه كتاب مناسب ومفيد للقراءة والمطالعة. وهو يستطيع لو أراد أن يقرأ كل يوم ساعات طويلة، إذا نظَّم وقته بشكل صحيح. وعليه أن يبدأ بقراءة الأهم ثم المهم.
    وهناك موضوعات أساسية ننصح الأسير البدء بها مثل: أحكام الطهارة والصلاة (للمبتدئ)، أحكام التجويد (لمن لم يتقنها)، العقيدة الإسلامية (من كتاب الإيمان لمحمد نعيم ياسين مثلاً أو العقيدة الطحاوية)، السيرة النبوية (من كتاب الرحيق المختوم للمباركفوري وفقه السيرة للبوطي أو المنهج الحركي للسيرة للغضبان)، دورة حركية (كتاب المنطلق، والعوائق، أو رسائل الإمام الشهيد للمبتدئ ، والمسار، أو أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي للراشد، للمتقدم)، الأربعين النووية حفظاً وشرحاً (من كتاب الوافي لمحيي الدين مستو)، حفظ جزء عم وتفسيره، قواعد اللغة العربية، تعلم اللغة العِبْرِية، أساسيات الأمن، مبادئ العلوم السياسية، دورات في علوم الحديث وعلوم القرآن وأصول الفقه. وفي التزكية: تهذيب مدارج السالكين لعبد المنعم العزي، والمستخلص في تزكية الأنفس لسعيد حوى…
    والأفضل في هذه المواضيع أن تؤخذ على شكل دورات متخصصة، يقدمها أصحاب الاختصاص والخبرة، لكن إن تعذر أخذها في دورات، فيمكن للأسير أن يعوض ذلك من خلال القراءة المنظمة في الكتب التي تعرض هذه المواضيع بيسر وسهولة ولغة عصرية، والتي كتبها العلماء والمفكرون المعاصرون. وهي موجودة بإجمال في مكتبات السجون.
    وإذا كان الأسير صاحب تخصص فإنه يستطيع إدخال كتب التخصص، والاستفادة منها، إذا سمحت إدارة السجن بإدخالها. ويستطيع استغلال وقته في كتابة الأبحاث، أو كتابة مذكراته، أو تأليف كتاب في تخصصه، ويمكنه إعداد كراس في تخصصه، بلغة سهلة يفيد به زملاءه الأسرى…
    التلفاز:
    وبهذه المناسبة ينبغي التذكير بأثر التلفاز، وضرورة الاستفادة منه داخل السجون، لأنه بلا شك يعتبر وسيلة في غاية الأهمية إذا أحسن استغلالها، فهو النافذة الوحيدة التي يطل الأسير من خلالها إلى فضاء الحرية، ويتابع تطور الحياة ونشاطها، والأحداث ومجرياتها عبر الشهور والسنين التي تمر عليه، خاصة إذا كان حكم هذا الأسير طويلاً، فلا يبقى عقله جامداً على اليوم الذي اعتقل فيه، ويظن أن الزمن قد تجمد عند ذلك اليوم.
    وكذلك استغلال هذا الجهاز في طلب العلم، ومتابعة البرامج النافعة التي يقدمها. ولا مانع أن يكون هذا الجهاز أداة للتسلية والترفيه لبعض الوقت، فلا حرج في ذلك إذا كان ذلك في الحلال، بعيداً عن البرامج التافهة التي لا ترضي الله عز وجل. على أن لا يملأ ذلك وقت الأسير، وتصبح شغله الشاغل، فيكون الخسران المبين.
    وبهذا يكون هذا التلفاز أداة إيجابية عند الأسرى، ولا يكون أداة هدم، أو سبب في إثارة المشاكل داخل غرف السجن وزنازينه، أو إشغال الأسرى عن القراءة وطلب العلم والثقافة، كما تحاول إدارات السجون أن تفعل. فمن المعلوم أن إدارة السجن أدخلت التلفاز إلى السجون في أواخر ثمانينات القرن الماضي، دون خطوات نضالية، أو مطالبات من قبل الأسرى كباقي الإنجازات.
    وقد سمعنا أن هدف إدارة السجون من ذلك هو إشغال الأسرى في البرامج الهدامة، وحتى يكون التلفاز سبباً للخلاف والشقاق بين الأسرى. لذلك فإن إدارة السجون لا تسمح إلا لقنوات محددة للبث، معظمها تشغل وقت الأسرى في برامج لا قيمة لها . ولكن الأسرى كانوا منتبهين لهذا الكيد، وحوَّلوا التلفاز إلى أداة نافعة، يستغلونه في متابعة الأخبار والتحليلات السياسية، والبرامج العلمية النافعة، قدر الإمكان، عدا حالات استثنائية مع الأسف كان فيها التلفاز سبباً في افتعال بعض الإشكاليات بين الأسرى.
    وهنا يبرز دور قيادة التنظيمات داخل السجون، وضرورة وضع برنامج إداري داخلي يشمل تنظيم متابعة برامج التلفاز، والاستفادة منه قدر الإمكان، وحل أي إشكال يحدث بين الأسرى بسبب ذلك داخل الغرف والزنازين…

النتيجة:
هذه أهم الواجبات التي ينبغي للأسير الاهتمام بها، وجعلها نصب عينيه طوال فترة سجنه، أحببنا التذكير بها، وفق اجتهادنا وتجربتنا الخاصة، حتى لا يضيع وقت الأسير في سجنه هباءً منثوراً. وإلا فإن كل أسير يستطيع أن يجتهد بنفسه بما يتوافق مع ميوله وتخصصه ومواهبه، وينمي هذه المواهب ويزيد في ثقافته بالطريقة التي يراها مناسبة، على أن لا يشتت أفكاره وجهوده في أمور لا أهمية فيها، أو أهميتها أقل من غيرها. وننصحه دائماً باستشارة أهل الخبرة والاختصاص من زملائه وإخوانه، حتى يوفر على نفسه الجهد والوقت، وحتى يستفيد من وقته أكبر فائدة ممكنة.

الفصل الرابع
أحكام الأسرى

الفصل الرابع
أحكام الأسرى
تمهيد:
بعد الحديث عن حقوق الأسرى وواجباتهم، لا بد من الحديث عن أهم الأحكام الفقهية التي يحتاجها الأسير في سجنه، ولا يستغني عنها بحال، والتي وجدنا أنها في غاية الأهمية ، وجرى حول الكثير منها خلاف طويل بين الأسرى، وأحيانا لم يجدوا الجواب الكافي والشافي على الكثير منها. وهذا هو موضوعنا في هذا الفصل، الذي نعتبره من أهم فصول هذا البحث. مستفيدين من الخبرة الطويلة في هذا الشأن، ومعتمدين على نصوص الكتاب والسنة، واجتهادات فقهائنا السابقين واللاحقين، في هذا الموضوع الشائك. ونحن إذ نقدم هذه الأحكام، لنرجو أن تكون حلاً للكثير من المعضلات الفقهية التي تواجه الأسرى.
مع التذكير بأن الكثير من الأحكام الفقهية المتعلقة بالأسرى هي اجتهادات للفقهاء، تتأثر بظروف الزمان والمكان والأحوال، وليست راجعة في مجملها لنصوص قطعية، مما يجعل مجال الاجتهاد فيها واسعاً. خاصة أنه في هذه الأيام توجد اتفاقيات ومواثيق دولية تتعلق بأسرى الحرب، وقَّعَت عليها معظم دول العالم، ومنها الدول العربية والإسلامية ودولة الاحتلال الصهيوني في فلسطين.
وهي في مجملها في صالح الأسرى، وللدفاع عن حقوقهم، ولا تتعارض في مجملها مع محكمات الشريعة الإسلامية. وينبغي الاستفادة من هذه الاتفاقيات، وتأصيلها من الناحية الشرعية، وعدم إهمالها. خاصة أن معظم الأسرى في العالم في هذه الأيام هم من المسلمين مع الأسف، وبالتالي فتأصيل هذه الاتفاقيات الدولية، واعتمادها فيه مصلحة حقيقية للمسلمين، وليس فيه مفاسد أو أضرار.

وبداية لا بد من تأصيل بعض المفاهيم العامة، والتي يدخل تحتها العديد من الأحكام والمسائل الفقهية، من أجل حل الكثير من الإشكالات. وأهمها:
تأصيل حال الأسرى: هل هم رقيق أم أحرار؟ وينبني على ذلك العديد من الأحكام، فهل تجري عليهم أحكام الرق أم أحكام الحرية؟
وكذلك تأصيل وضع الأسرى: هل هم على سفر أم أنهم مقيمون؟ وهنا أيضاً ينبني على ذلك جملة وافرة من الأحكام الفقهية الهامة التي تخص الأسرى، كما سنرى.
ثم بيان الضرورة وحدودها. وبيان الإكراه وأهم أحكامه. وبيان الرخصة والعزيمة.
وهي أصول للكثير من الأحكام التي تهم الأسرى:

المبحث الأول
تأصيلات لا بد منها
1) هل الأسرى أحرار أم عبيد؟ وعلاقة ذلك بالمعاملات المالية:
من المعلوم أن الأسير حين يقع في أسر الأعداء فإنه يفقد حريته، ولكن هل يعني ذلك أنه أصبح عبداً مملوكاً بمجرد وقوعه في الأسر؟ وهل تجري عليه أحكام الرق التي بينتها نصوص الكتاب والسنة، وفصلها فقهاؤنا في جميع كتبهم؟ أم يبقى حراً تجري عليه أحكام الأحرار؟ وما تأثير ذلك على المعاملات المالية للأسير المسلم الذي يقع في أسر الأعداء؟ التي تختلف أحكامها بين الأحرار والعبيد. لأن العبد غير مالك لماله، لأنه هو وماله لسيده، وبالتالي فإن تصرفه في هذا المال غير صحيح وغير نافذ. فهل هكذا الأسير؟
لقد تبين لنا من خلال متابعة أحكام الأسرى، أن الأسير المسلم إذا وقع في الأسر فلا يعتبر عبداً أو رقيقاً بمجرد الأسر. وبالتالي لا تجري عليه أحكام الرق، وإنما يعامل معاملة الأحرار، حتى وإن طال مكثه في سجون الأعداء الكفار. وهذا نابع من نظرة جمهور الفقهاء إلى المسلم على أساس حريته، وأنه لا يسترق ولا يحوله الأسر إلى عبد، حتى وهو في الأسر، فهو حر ويعامل على هذا الأساس.
يقول ابن قدامة: إن الكفار لا يملكون الأحرار بالقهر . ويقول: لا يصير الرجل رقيقاً بنفس السبي . ويقول شمس الدين بن قدامة في الشرح الكبير: إذا شرط الكفار على الأسير المسلم كونه رقيقاً فرضي بذلك أم لم يرض، فله أن يأخذ منهم ما قدر عليه ويسرق ويهرب، لأن كونه رقيقاً حكم شرعي لا يثبت عليه بقوله. ولو ثبت لم يقتض أماناً له منه ولا لهم منه. وهذا مذهب الشافعي. وإن أحلفوه على ذلك وكان مكرهاً لم تنعقد يمينه .
ويقول الإمام الشافعي: وما صنع الأسير من المسلمين في دار الحرب أو في دار الإسلام، أو المسجون وهو صحيح، في ماله غير مكره عليه، فهو جائز من بيع وهبة وصدقة وغير ذلك . ويقول: يجوز للأسير في بلاد العدو ما صنع في ماله في دار الإسلام… ثم روى عن الزهري وابن أبي ذئب أنه قال: إن عطية الأسير من الثلث . (أي في الوصية). وأجاز جمهور الفقهاء كفالة السجين .
وسئل الحسن البصري: أرأيت رجلاً من المسلمين اشترى أسيراً من المسلمين، أيصلح له أن يربح فيه؟ فقال: إن العدو إذا اشتراه لا يملكه، فكيف يربح هو عليه؟!
وهذا يؤكد أن حال الأسير مختلف عن حال العبد. ووردت بعض النصوص التي تؤكد عدم رق الأسير ابتداءً مثل ما رواه الشافعي والبيهقي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في أسرى حنين: “لو كان الاسترقاق جائزاً على العرب لكان اليوم، إنما هم أسرى” . وهذا أيضاً يؤكد الفرق بين الأسر والرق ابتداء.
وذكر الفقهاء أن الكافر لا يُمْلَك بالغنيمة ابتداءً بل يتخير الإمام بين القتل أو الاسترقاق أو المن أو الفداء، فالغنيمة سبب إلى الملك (الرق) بشرط اختيار الاسترقاق… . وذلك يعني أن الأسير قبل الحكم عليه بالاسترقاق يكون حكمه حكم الحر، رغم وقوعه في الأسر. وهذا رأي جماهير الفقهاء كما سنرى. ونصوا على أن التصرف في الأسير بعد أسره يكون على أساس أنه ملك للدولة الآسرة، ولا يجوز للأفراد التصرف به بأي طريقة، إلا بحكم الحاكم، على اعتبار أن الأسير أسير الدولة، لا أسير الفرد .
وهذا يؤكد مرة أخرى ما قلناه من أنهم أحرار تجري عليهم أحكام الأحرار، رغم أنهم فاقدون لحريتهم الأساسية، لأنهم في قبضة الأعداء، وينبغي التعامل معهم على هذا الأساس: أي أنهم أحرار في الأحكام الفقهية، ولكنهم أسرى في وجوب العمل من أجل تخليصهم من الأسر، وإنهاء معاناتهم، كما رأينا في الفصل الثاني من هذا البحث.
وقد أكدت كل ذلك القوانين الدولية المعاصرة، والتي حرمت الرق نهائياً، وجَرَّمت كل من يتعامل بالرق. ولم يعد الرق قائماً في الواقع. وبخصوص الأسرى قررت هذه القوانين الدولية على عدم جواز استرقاقهم، وإنما احتجازهم في سجون محكمة الإغلاق، وفق ظروف وشروط حددتها هذه القوانين. وقد وقَّعَت جميع دول العالم تقريباً على هذه القوانين، وأصبحت ملزمة للجميع. وفي ذلك خير عظيم يتناسب مع روح الشريعة ومقاصدها، إذا التزمت بها هذه الدول واحترمتها.

علاقة ذلك بالمعاملات المالية:
وإذا ثبت أنهم أحرار وليسوا رقيقاً في الأحكام، فالأصل أن تجري عليهم جميع الأحكام الفقهية المعروفة في المعاملات والعبادات. فالمعاملات: كالبيع والشراء والتجارة والشركة والمضاربة والرهن والسلم والقرض والمزارعة والميراث والوصية والزواج والطلاق والولاية والوقف والشفعة والشهادة والحوالة والوكالة….. وغيرها. (وأما العبادات فسيأتي الحديث عنها). فيعمل في كل ذلك ما يعمله الحر، إلا في حالات الضرورة كما سنرى. لذلك لا داعي للدخول في تفاصيل هذه الأحكام في هذا البحث، لسهولة الرجوع إلى كتب الفقه، ومعرفة الحكم الشرعي الذي يحتاجه الأسير، فلا فرق في ذلك بينه وبين من هو خارج السجن.
يقول ابن قدامة: إذا اشترى الأسير شيئاً مختاراً أو اقترضه فالعقد صحيح ويلزمه الوفاء به، لأنه عقد معاوضة، فأشبه ما لو فعله غير الأسير. وإن كان مكرهاً لم يصح، فإن أكرهوه على قبضه لم يضمنه، ولكن عليه رده إليهم إن كان باقياً، لأنهم دفعوه إليه بحكم العقد، وإن قبضه باختياره ضمنه، لأنه قبضه عن عقد فاسد.
ويقول ابن قدامة: وإذا أُسِرَ المالك (مالك النصاب) لم تسقط عنه الزكاة، سواء حيل بينه وبين ماله، أو لم يحل، لأن تصرفه في ماله نافذ، يصح بيعه وهبته وتوكيله فيه .
وبين الشافعي رحمه الله أن عطية الأسير ووصيته جائزة، وأنها مثل عطية الحر الصحيح، ويقول: إذا كان الأسير في أيدي المسلمين جازت عطيته في ماله، وإن كان في أيدي مشركين لا يقتلون أسيراً فكذلك، وإن كان في أيدي مشركين يقتلون الأسرى، فعطيته عطية المريض… وإن كان الأغلب أن لا يقتلوا فعطيته صحيحة… وإن كان في مشركين يفون بالعهد، فأعطوه أماناً على شيء يعطيهموه أو على غير شيء فعطيته عطية الصحيح .

الميراث:
ترجم البخاري في صحيحه باباً عنوانه: (ميراث الأسير). روى فيه أن القاضي شريح كان يورِّث الأسير في أيدي العدو، ويقول: هو أحوج إليه. وقول عمر بن عبد العزيز: أَجِزْ وصية الأسير وعتاقته، وما صنع في ماله، ما لم يتغير عن دينه، فإنما هو ماله يصنع فيه ما يشاء .
وروى فيه حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كلاً فإلينا” . مشيراً إلى عموم الآية. قال ابن حجر: قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى أن الأسير إذا وجب له ميراث أنه يوقف له. ورجح ابن حجر ذلك وقال: إلى هذا أشار البخاري بإيراده الحديث: “من ترك مالاً فلورثته”، ولأنه مسلم تجري عليه أحكام المسلمين، فلا يخرج عن ذلك إلا بحجة… ورأينا أن الأسير لا تزوج زوجته ولا يُقْسَم ماله، إذا تحققت حياته وعُلِمَ مكانُه…
وقال ابن قدامة: ويرث الأسير الذي مع الكفار إذا عُلِمَت حياته، في قول عامة الفقهاء، إلا سعيد بن المسيب، فإنه قال: لا يرث لأنه عبد، وليس بصحيح لأن الكفار لا يملكون الأحرار بالقهر، فهو باق على حريته فيرث كالمطلق (أي الحر) .
وحتى لو تكلم الأسير بالشرك بلسانه مكرهاً، يقول الإمام الشافعي: في الأسير يكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان: لا تبين منه امرأته، وإن تكلم بالشرك، ولا يحرم من ميراثه من المسلمين، ولا يحرمون ميراثهم منه، إذا علم أنه إنما قال ذلك مكرهاً . وبمثل ذلك قال البغوي وابن عابدين .
وقال حماد بن أبي سليمان: الأسير بيد الكفار حرّ بالنسبة إلينا، وهو يرث إذا عُلِمَت حياته ممن مات من أقاربه .
وهذا يؤكد ضعف قول ابن المسيب في رواية عنه والنخعي ورواية عن الزهري أن الأسير في يد العدو لا يرث ما دام في يد العدو، لأنه صار بذلك عبداً . فقد رُدّ هذا الرأي وقالوا غير صحيح، لأن الكفار لا يملكون الأحرار بالقهر، فهو باق على حريته . علماً أنه ورد عن ابن المسيب رواية أخرى من طريق قتادة أنه قال: يرث الأسير .
والنتيجة أن الأسير يرث من أقاربه المتوفين، حسب المقادير التي بينتها الشريعة، ويحتفظ له بماله وميراثه إلى أن يفرج عنه من سجنه. وإذا مات يرثه أقاربه كذلك. وهذا رأي عامة الفقهاء. والله أعلم.

الوكالة:
الوكالة في الشرع هي: (إقامة الشخص غيرَه مقام نفسه مطلقاً أو مقيداً)، وهي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع .
وبما أن الأسير يعدّ حراً في جميع معاملاته المالية ، فهو يحتاج (خاصة في هذه الأيام) وبعد غيابه عن بلده وأهله وماله وأعماله، إلى من يقوم بشئونه ومصالحه وأمواله، حتى لا تضيع من بعده. وهو يستطيع أن يمارس حقه في معظم التعاملات والعقود التي يحتاجها، أو التي ذكرناها سابقاً، من خلال الوكالات، التي تسمح بها إدارات السجون عادة عن طريق الصليب الأحمر أو زيارة الأهل إن أمكن، أو يوكل وكالة عامة لمن يثق به من أقاربه وأصدقائه، ينوب عنه فيما يحتاجه من هذه المعاملات. فهذه الوكالة جائزة شرعاً ولا حرج فيها.
وقد ترجم البخاري في صحيحه باباً بعنوان: (باب إذا وكَّل المسلم حربياً في دار الحرب أو في دار الإسلام جاز). ذكر فيه حديث عبد الرحمن بن عوف أنه قال: “كاتبت أمية بن خلف كتاباً بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة” رواه البخاري .
ومر قول ابن قدامة أنه يجوز للأسير أن يوكل من يؤدي زكاة ماله أو في بيعه وهبته ، وأن تصرفه في ماله نافذ.
بل ويجوز لأقارب الأسير أو أصدقائه التصرف في ماله فيما فيه مصلحة له، حتى دون توكيل من الأسير نفسه، فقد أجاز جمهور الفقهاء بيع الفضولي ، واستدلوا بحديث عروة البارقي: “أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به له شاةً، فاشترى له به شاتين فباع أحدهما بدينار وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه. فكان لو اشترى التراب لربح فيه” رواه البخاري .
وإذا استحق الأسير شيئاً من الحقوق المالية وغيرها كحصته من الميراث أو الوقف أو الهبة أو غيرها فإنه يتسلمه عنه وكيله، ويُحْفَظ له حتى يعود، أو يموت فيعطيه الورثة .
والخلاصة: أن الأسير بعد اعتقاله أو أسره يعدّ حراً لا عبداً، ويستطيع أن يمارس جميع معاملاته وعقوده المالية وغيرها، وهو في سجنه، وبالطريقة التي يراها مناسبة، سواء بشكل مباشر، أو عن طريق زيارات الأهل إن وجدت، أو عن طريق الوكالات التي أباحتها الشريعة الإسلامية، وأجازتها القوانين الوضعية، والمسموح بها حالياً في سجون الاحتلال، أو غيرها، ولا حرج عليه في ذلك. وعقوده نافذة وملزمة خارج السجن.

2) هل الأسير مسافر أم مقيم؟
قضية اعتبار الأسير مسافراً أو مقيماً، تتعلق بها العديد من الأحكام الشرعية، التي لا بد من تأصيلها وبيانها ابتداء قبل الدخول في تفاصيل الأحكام المتعلقة بالأسرى.
ومن خلال الخبرة الطويلة التي عشناها في سجون الاحتلال، فإن الوصف المناسب لواقع الأسير في هذه السجون، بعد انتهاء التحقيق معه واستقراره في أحد السجون، وعيشه بين زملائه الأسرى، أنه مقيم وليس مسافراً. هذا هو الأصل وهو القاعدة العامة، عدا بعض الاستثناءات التي تكون غالباً عند عودته للتحقيق، أو أثناء البوسطات (وسيلة النقل بين السجون)، أو في فترة العقوبات في الزنازين، أو عند الذهاب إلى المحاكم التي تأخذ عادة وقتاً طويلا من الصباح حتى المساء، ونحو ذلك. ففي هذه الحالات يعتبر الأسير مقهوراً في يد الأعداء، فصار تابعاً لهم، فيكون مقيماً بإقامتهم، ومسافراً بسفرهم.
ففي هذه الحالات الاستثنائية يمكن اعتبار الأسير مسافراً، وتجري عليه أحكام المسافر، من حيث قصر الصلاة والجمع، وإباحة الإفطار في رمضان، ومدة المسح على الخف أو الجوارب، وحضور صلاة الجمعة… وغير ذلك. ولكن بعد ذلك وحين يعود الأسير إلى مكان إقامته بين زملائه في السجن، ويغلب على ظنه أنه مقيم في هذا السجن مدة طويلة (تزيد عن أسبوعين)، فإنه يعتبر مقيماً وتجري عليه أحكام المقيم.
والأدلة على ذلك كثيرة سيأتي تفصيلها لاحقاً عند الحديث عن صلاة الأسير. وهنا نذكِّر بحديثين اثنين منها، لهما أهمية خاصة: وهو حديث ابن عباس أنه قال: “أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإذا زدنا أتممنا” رواه البخاري في صحيحه . وحديث أنس رضي الله عنه قال: “خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فأقمنا بها عشراً، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة” رواه البخاري .
قال ابن حجر: وهناك روايات للحديث الأول أنها ثمانية عشر يوماً، وفي رواية سبعة عشر، وفي رواية خمسة عشر يوماً. لكن رواية التسعة عشر هي الأرجح، وبذلك أخذ إسحاق بن راهويه. وأخذ الحنفية والثوري برواية خمسة عشر، لكونها أقل ما ورد. وأخذ الشافعي بثمانية عشر… وقال أحمد: إحدى وعشرين صلاة (حوالي أربعة أيام).
ويقول محمد بن الحسن الشيباني: إن المشركين إذا أقاموا في موضع خمسة عشر يوماً، وفي أيديهم أسير مسلم، فعليه أن يتم الصلاة، حتى وإن كان عازماً على الفرار منهم .
وهذا الحكم مبني على قاعدة: أن غلبة الظن كافية في الحكم على الأمور. فالأسير في ذلك لا يختلف عن الحر، فإن الحر الذي ينوي أن يقيم في مكان ما أكثر من أسبوعين، يعتبر مقيماً كما سنرى، رغم أنه يمكن أن يغير رأيه أثناء ذلك. ومن المعلوم أن معظم الأحكام الشرعية مبنية على غلبة الظن، وليس على العلم اليقيني. حتى الحدود والقصاص مبنية على أدلة ظنية وليست قطعية – شاهدين عدلين أو أربع على الأكثر- .
والقول بأن الأسير يعتبر مسافراً طوال الوقت، قول بعيد عن الأدلة الشرعية، والمقاصد الشرعية، ولا يستند إلى دليل صحيح يمكن الاعتماد عليه، ولا يستند إلى المنطق أيضاً ولا إلى الواقع، فإن الأسير قد يمكث في سجنه سنوات طويلة كما هو مشاهد، تصل أحياناً إلى عشرين أو ثلاثين سنة. وهو في هذه المدة الطويلة يشعر أنه مقيم إقامة حقيقية أكثر ممن هو خارج السجن. وقد مكثت شخصياً في السجن اثنتي عشرة سنة متواصلة ، كنت أشعر خلالها أنني مقيم، وكان يغلب على ظني أنني باق في السجن مدة طويلة، فهل من المنطق أن أتعامل طوال هذه المدة على أنني مسافر؟
قد يقول قائل: إن الأسير يمكن أن يفرج عنه ويمكن أن ينقل إلى سجن آخر، أو أن يحدث معه حوادث طارئة، ونقول إن الحر كذلك يمكن أن يسافر ويمكن أن يحدث معه حوادث طارئة، فهل ذلك يستدعي اعتباره مسافرا بناء على هذا الظن؟ إن الأحكام الشرعية كما قلنا مبنية على غلبة الظن، وما دام الأسير يغلب على ظنه أنه باق في أحد السجون مدة طويلة فهو مقيم ويتصرف بناء على ذلك. والله أعلم.
والنتيجة: أن الأسير بعد استقراره في أحد السجون، وغلب على ظنه أنه باق في هذا السجن أكثر من أسبوعين، سواء كان موقوفاً أو محكوماً، فإنه يتصرف في عباداته وشئونه على أنه مقيم، فلا يجوز له الإفطار في رمضان لهذا العذر، ولا الجمع أو القصر للصلاة، ويمسح على الجوربين يوماً وليلة فقط، ويجب أن يلبي نداء يوم الجمعة للصلاة إذا سمع الأذان وسمحت إدارة السجن له بذلك، التزاماً بقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ” الجمعة 9…. ونحو ذلك من الأحكام. وسيأتي زيادة بيان لهذا الموضوع في هذا الفصل بإذن الله تعالى.

3) أحكام الضرورة للأسير وحدودها:
القاعدة الشرعية المعروفة: (الضرورات تبيح المحظورات) ، هي الأصل في هذا الباب. ومعنى الضرورة: “أن تطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة بحيث يخاف حدوث ضرر أو أذى بالنفس أو بالعضو أو بالعِرْض أو بالعقل أو بالمال وتوابعها، ويتعين أو يباح عندئذ ارتكاب الحرام، أو ترك الواجب، أو تأخيره عن وقته دفعاً للضرر عنه في غالب ظنه ضمن قيود الشرع”. وهذا التعريف يشمل أيضاً الأمور التي تحدث نتيجة الرهبة أو الإكراه .
ومعنى ذلك أن الأشياء الممنوعة تعامل كالأشياء المباحة وقت الضرورة. والإباحة المقصودة هنا هي رفع الإثم والمؤاخذة الأخروية عند الله تعالى. وقد يضاف إلى ذلك منع العقوبة الجنائية في الدنيا، كما في حالة الدفاع عن النفس.
والدليل على ذلك قوله تعالى: “ومَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ “الأنعام119.
وحديث أبي سعيد الخدري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “لا ضَرَرَ ولا ضِرَار” رواه الحاكم والبيهقي والدارقطني . قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وله شواهد عن ابن عباس وعبادة بن الصامت وعائشة .
ومن أمثلة الضرورة: شرب الخمر لمن لم يجد الماء للعطشان، وأكل الميتة أو لحم الخنزير للجوعان، وكشف العورة للطبيب. ومن ذلك الرشوة على دفع الظلم إذا لم يقدر على دفعه إلا بذلك، وإعطاء المال للمحاربين وللكفار في فداء الأسرى، ولمانعي الحج حتى يأخذوا خراجا … وغير ذلك من الأمثلة.
سئل الشافعي عن الأسير يكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان؟ فقال: لا تبين منه امرأته وإن تكلم بالشرك، ولا يحرم ميراثه من المسلمين، ولا يحرمون ميراثهم منه إذا علم أنه إنما قال ذلك مكرهاً… وكذلك ما أكرهوا عليه (من غير ضر أحد) من أكل لحم الخنزير أو دخول كنيسة، ففعل وسعه ذلك. وأكره له أن يشرب الخمر لأنها تمنعه من الصلاة ومعرفة الله إذا سكر… وإذا وضع عنه الشرك بالكره وضع عنه ما دونه مما لا يضر أحداً. ولو أكرهوه على أن يقتل مسلماً لم يكن له أن يقتله .
والاضطرار: دفع الإنسان إلى ما يضره وحمله عليه أو إلجاؤه إليه، والملجئ إلى ذلك إما أن يكون من نفس الإنسان، وحينئذ لا بد أن يكون الضرر حاصلاً أو متوقعاً يلجئ إلى التخلص منه، عملاً بقاعدة (ارتكاب أخف الضررين) الثابتة بالعقل والطبع والشرع. وإما أن يكون الملجئ من غير نفس الإنسان كإكراه القوي ضعيفاً على ما يضره .
لكن يشترط للضرورة حتى تكون ضرورة مؤثرة في الحكم عدة شروط:

  1. أن تكون الضرورة قائمة لا منتظرة: أي أن يحصل في الواقع خوف الهلاك أو التلف على النفس، وذلك بغلبة الظن، فيجوز حينئذ الأخذ بالأحكام الاستثنائية لدفع الخطر… فإذا لم يخف الإنسان على شيء مما ذكر لم يبح له مخالفة الحكم الأصلي العام من تحريم أو إيجاب.
  2. أن لا يكون لدفع الضرر وسيلة أخرى من المباحات إلا المخالفة…
  3. ألا يخالف المضطر مبادئ الشريعة الإسلامية الأساسية، فمثلاً لا يحل الزنا أو القتل أو الكفر أو الغصب بأي حال، لأن هذه مفاسد في ذاتها. ومن ذلك الصلح الدائم مع اليهود، إذ لا يجوز الصلح الدائم مع الأعداء إلا على أساس قواعد عهد الذمة والتزام الأحكام الإسلامية، كما لا يجوز إقرار الغاصب لبلادنا على غصبه، وكل ما يجوز هو الهدنة المؤقتة التي يجوز تمديد مدتها بحسب الضرورة أو الحاجة .
    ويتفرع عن قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) قاعدة هامة أخرى هي: (الضرورة تقدر بقدرها) . ومعناها: أن كل ما أبيح للضرورة من فعل أو ترك، فإنما يباح بالقدر الذي يدفع الضرر والأذى، فإذا زاد فهو آثم، فلا يجوز تجاوز حد الضرورة. بدليل قوله تعالى: “فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }البقرة 173. فقوله: غير باغ ولا عاد، أي غير باغ في أكله فوق حاجته، وعاد إذا وجد غيرها مما أحله الله ما يغني عن المحرم .
    وبناء على ذلك فإن المضطر لا يأكل من الميتة إلا ما يسد الرمق، ودم الشهيد طاهر في حق نفسه نجس في حق غيره لعدم الضرورة، والجبيرة يجب ألا تستر من الصحيح إلا بقدر ما لا بد منه، والطبيب إنما ينظر من العورة بقدر الحاجة… ونحو ذلك .
    وإذا زالت الضرورة كلياً بطل حكمها وعادت الأحكام إلى أصلها، وذلك حسب القاعدة الفقهية: (ما جاز بعذر بطل بزواله) . أي أن الضرورة أو الرخصة إذا زالت زالت الإباحة، فإذا وجد الماء أو إذا قدر على استعماله بعد عذر بطل التيمم… وهكذا.
    والأسير في سجنه يتعرض للكثير من الضرورات، خاصة في فترة التحقيق أو الزنازين الانفرادية أو العزل… ونحو ذلك، وهو يستطيع ضمن القواعد السابقة أن يأخذ بقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) عند الحاجة إليها، ولا حرج عليه في ذلك، إذا التزم بالشروط المذكورة لهذه القاعدة كما ذكرنا. وسيأتي الكثير من الأحكام التي بنيت على هذه القاعدة، والتي تخص الأسير في سجنه، كما سنرى.
    4) المشقة والرخصة:
    وهناك قاعدة فقهية أخرى ينبغي ذكرها هنا، يحتاجها الأسير في سجنه، وهي قاعدة: (المشقة تجلب التيسير) . التي يتخرج عليها جميع رخص الشرع وتخفيفاته، وهي الواردة في قوله تعالى: ” يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ” البقرة185. وقوله تعالى: “وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ” الحج78. وقوله تعالى: “يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ” النساء28. وقوله تعالى: “لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا” البقرة286.
    وهذا ما وضحه الشاطبي في كتابه القيم (الموافقات) حين قال: إن شرط التكليف بالأمر القدرة على المكلف به، فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعاً… . ثم قال: إن الشارع لم يقصد إلى التكليف بما يشق ويعنت، إذا كانت المشقة زائدة عن المعتاد…
    أي أن المشقة المقصودة هنا هي المشقة غير المعتادة، أي المشقة التي تتجاوز الحدود العادية، والتي لا يستطيع المكلف بسببها الدوام على العمل، أو التي لا يتحملها الإنسان عادة، وتفسد على النفوس تصرفاتها. أما المشقة المعتادة فلا تكون سبباً للتخفيف .
    يقول ابن نجيم في الأشباه والنظائر: “الْمَشَاقُّ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَشَقَّةٌ لَا تَنْفَكُّ الْعِبَادَةُ عَنْهَا كَمَشَقَّةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فِي شِدَّةِ السَّبَرَاتِ، وَكَمَشَقَّةِ إقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَلَا سِيَّمَا صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَكَمَشَقَّةِ الصَّوْمِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَطُولِ النَّهَارِ، وَكَمَشَقَّةِ الْحَجِّ الَّتِي لَا انْفِكَاكَ عَنْهَا غَالِبًا، وَكَمَشَقَّةِ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالرِّحْلَةِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمَشَقَّةُ فِي رَجْمِ الزُّنَاةِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْجُنَاةِ، وَلَا سِيَّمَا فِي حَقِّ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةً عَظِيمَةً عَلَى مُقِيمِ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ بِمَا يَجِدُهُ مِنْ الرِّقَّةِ وَالْمَرْحَمَةِ بِهَا لِلسُّرَّاقِ وَالزُّنَاةِ وَالْجُنَاةِ مِنْ الْأَجَانِبِ وَالْأَقَارِبِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَلِمِثْلِ هَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دَيْنِ اللَّهِ} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – سَرَقَتْ لَقَطَعْت يَدَهَا}، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِتَحَمُّلِ هَذِهِ الْمَشَاقِّ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ – سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَصَفَهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِأَنَّهُ “بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ”، فَهَذِهِ الْمَشَاقُّ كُلُّهَا لَا أَثَرَ لَهَا فِي إسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ وَلَا فِي تَخْفِيفِهَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ أَثَّرَتْ لَفَاتَتْ مَصَالِحُ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ أَوْ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ، وَلَفَاتَ مَا رُتِّبَ عَلَيْهَا مِنْ الْمَثُوبَاتِ الْبَاقِيَاتِ مَا دَامَتْ الْأَرْضُ وَالسَّمَوَاتُ.
    الضَّرْبُ الثَّانِي : مَشَقَّةٌ تَنْفَكُّ عَنْهَا الْعِبَادَاتُ غَالِبًا، وَهِيَ أَنْوَاعٌ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ فَادِحَةٌ كَمَشَقَّةِ الْخَوْفِ عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ وَمَنَافِعِ الْأَطْرَافِ فَهَذِهِ مَشَقَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّرْخِيصِ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْمُهَجِ وَالْأَطْرَافِ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ أَوْلَى مِنْ تَعْرِيضِهَا لِلْفَوَاتِ فِي عِبَادَةٍ أَوْ عِبَادَاتٍ، ثُمَّ تَفُوتُ أَمْثَالُهَا.
    النَّوْعُ الثَّانِي: مَشَقَّةٌ خَفِيفَةٌ كَأَدْنَى وَجَعٍ فِي إصْبَعٍ أَوْ أَدْنَى صُدَاعٍ أَوْ سُوءِ مِزَاجٍ خَفِيفٍ، فَهَذَا لَا الْتِفَاتَ إلَيْهِ وَلَا تَعْرِيجَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَ مَصَالِحِ الْعِبَادَةِ أَوْلَى مِنْ دَفْعِ مِثْلِ هَذِهِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا يُؤْبَهُ لَهَا.
    النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَشَّاقٌ وَاقِعَةٌ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَشَقَّتَيْنِ، مُخْتَلِفَةٌ فِي الْخِفَّةِ وَالشِّدَّةِ، فَمَا دَنَا مِنْهَا مِنْ الْمَشَقَّةِ الْعُلْيَا أَوْجَبَ التَّخْفِيفَ، وَمَا دَنَا مِنْهَا مِنْ الْمَشَقَّةِ الدُّنْيَا لَمْ يُوجِبْ التَّخْفِيفَ إلَّا عِنْدَ أَهْلِ الظَّاهِرِ، كَالْحُمَّى الْخَفِيفَةِ وَوَجَعِ الضِّرْسِ الْيَسِيرِ وَمَا وَقَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الرُّتْبَتَيْنِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْحِقُهُ بِالْعُلْيَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْحِقُهُ بِالدُّنْيَا، فَكُلَّمَا قَارَبَ الْعُلْيَا كَانَ أَوْلَى بِالتَّخْفِيفِ، وَكُلَّمَا قَارَبَ الدُّنْيَا كَانَ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّخْفِيفِ….. وَتَخْتَلِفُ الْمَشَاقُّ بِاخْتِلَافِ الْعِبَادَاتِ فِي اهْتِمَامِ الشَّرْعِ فَمَا اشْتَدَّ اهْتِمَامُهُ بِهِ شَرَطَ فِي تَخْفِيفِهِ الْمَشَاقَّ الشَّدِيدَةَ أَوْ الْعَامَّةَ، وَمَا لَمْ يَهْتَمَّ بِهِ خَفَّفَهُ بِالْمَشَاقِّ الْخَفِيفَةِ، وَقَدْ تُخَفَّفُ مَشَاقُّهُ مَعَ شَرَفِهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ لِتَكَرُّرِ مَشَاقِّهِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْمَشَاقِّ الْعَامَّةِ الْكَثِيرَةِ الْوُقُوعِ… .
    والنتيجة أنه لا مجال للتفرقة بين المشقة والضرورة، فإن كلاً منهما يطلق على ما يطلق عليه الآخر. لأن الحاجات تأخذ حكم الضرورات وفق القاعدة: (الحاجة تنزل منزلة الضرورة) … فمن يصل به الحرج والعسر والضيق إلى درجة تخل بالمعنى المقصود من التكليف، فيباح له الأخذ بمقتضيات اليسر والسهولة، التي أقرها الشرع مبدأً عاما في الإسلام . مثل جواز إيداع النقود في المصارف الربوية بدون فائدة بالرغم من أنها إعانة على معصية، نظراً لحاجة الناس إليه في زماننا. ومثل التصوير الفوتوغرافي. ومثل جواز النظر إلى العورات للحاجة الماسة وليس للضرورة فقط.
    لكن هناك قاعدة فقهية أخرى لا بد من التذكير بها وهي: (الرخص لا تناط بالشك) ذكرها تقي الدين السبكي. ومن أمثلتها وجوب إتمام الصلاة لمن شك في جواز القصر. ووجوب الغسل لمن شك في جواز المسح على الخفين . والشك هو تساوي احتمال الأمرين في نظر الإنسان. ففي حالة الشك يجب الاحتياط لعدم وجود المرجح.

أما أسباب التخفيف التي ذكرها العلماء فهي سبعة:

  1. السفر: مثل قصر الصلاة، وإباحة الإفطار في رمضان.
  2. المرض: مثل التيمم إذا لم يقدر على الوضوء أو الغسل.
  3. النسيان: مثل الأكل في نهار رمضان.
  4. الجهل.
  5. العسر وعموم البلوى: مثل الصلاة مع النجاسة المعفو عنها.
  6. الإكراه: مثل التلفظ بكلمة الكفر.
  7. النقص: مثل الصبي والمجنون والمرأة.

ويمكن إضافة السجن والأسر إلى هذه الأسباب لتصبح ثمانية. ويمكن أن يتفرع ذلك عن موضوع الإكراه، لأنه يدخل في كثير من جوانبه تحت هذا العنوان. لذلك فإننا سنفصل قليلاً في موضوع الإكراه، وكلام الفقهاء والأصوليين عنه، نظراً لأهمية هذا الموضوع في تأصيل واقع الأسرى، وأثره على الكثير من الأحكام الفقهية المتعلقة بهم: –

5) الإكراه وأحكامه للأسير:
وهذا الموضوع كثيراً ما يتعرض له الأسرى في سجون الأعداء، خاصة في فترة التحقيق، والذي يحتاج إلى بيان وتوضيح. ونحن هنا نبين ما ذكره فقهاؤنا في هذا الموضوع، كي تكون الأمور واضحة لدى إخواننا وزملائنا الأسرى.
والإكراه في الشرع هو: (حمل الإنسان على فعل شيء دون رضاه قسراً عنه وقهراً) . لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه” رواه ابن ماجة والحاكم والبيهقي وابن حبان . قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح . وله شاهد عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه” رواه ابن ماجة . في الزوائد: إسناده ضعيف. وله شاهد أيضاً عن أبي هريرة عند ابن ماجة . وشاهد عن عقبة بن عامر عند البيهقي . وثوبان وأبي الدرداء وغيرها.
والإكراه عند الفقهاء نوعان: إكراه ملجئ: وهو الإكراه الكامل.
وإكراه غير ملجئ: وهو الإكراه الناقص.
وسمي بالملجئ لأن الشخص لا يبقى له أي رضا ولا أي اختيار، حيث يصبح مجبراً على فعل ما يؤمر دون إرادته واختياره، فيصبح كالعصا في يد الضارب. وقد حدد الفقهاء الإكراه الملجئ بأنه: التهديد بالقتل، أو بقطع عضو من أعضائه، أو بضرب مبرح يخاف على نفسه منه التلف. وحكمه: أنه يعدم الرضا، ويفسد الاختيار، فلا يكون مسئولا عند الله، ولا معاقباً على ما جناه، لأنه في هذه الحالة كالآلة يحركه الغير، لا إرادة له ولا اختيار.
وأما الإكراه غير الملجئ (أو الناقص): فهو التهديد بما لا يضر بالنفس، أو تلف عضو من الأعضاء، كالتخويف بالحبس في زنزانة، أو القيد في الحديد، أو الضرب اليسير، الذي لا يخاف منه التلف، أو إتلاف بعض المال… وأمثال ذلك. وحكمه أنه يعدم الرضا، ولكن لا يفسد الاختيار، فهو مسئول عند الله، ومؤاخذ بما فعل، وعليه في مثل هذه الحالة أن يصبر على قضاء الله، ويتحمل الأذى في سبيل الله، كما قال تعالى: “فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ “آل عمران195.
شروط الإكراه المؤثر:
ولذلك فإن الإكراه لا يعتبر شرعياً ولا يؤثر في الحكم إلا إذا توفرت فيه الشروط التالية:

  1. أن يكون المكرِه متمكناً من إيقاع ما هدّد به، كالسلطان واللصوص، وزبانية الحكام الظلام.
  2. أن يكون المستكرَه متيقناً (أو يغلب على ظنه) وقوع القتل أو الإتلاف. والأصح أنه يكفي غلبة الظن بوقوع ما هدد به من ضرب أو حبس أو أخذ مال يضره. ولا يشترط وقوع المهدد به بالفعل.
  3. أن يكون الأمر المكره به متضمناً إتلاف نفس أو عضو أو مال.
  4. أن يكون المستكرَه ممتنعاً عما أكره عليه قبل الإكراه، كالعفيف عن الزنا، والمجتنب لشرب الخمر، إذا أكره على الزنا أو شرب الخمر. أما الذي يفعله من قبل فلا يسمى مكرَها، حيث وافق هواه.
  5. أن يترتب على فعل المكرَه به الخلاص مما هدد به. فلو قال إنسان لآخر أقتل نفسك وإلا قتلتك، فإن هذا لا يعد إكراهاً عند الجمهور، لأنه لو أقدم على قتل نفسه لا يتخلص من القتل.

هذه الشروط عند الحنفية، أما الشافعية والحنابلة فقد اتفقوا على شروط ثلاثة للإكراه:

  1. قدرة المكرِه على تحقيق ما هدد به.
  2. عجز المستكرَه عن دفع الإكراه عنه بهرب أو غيره، وأن يغلب على ظنه نزول الوعيد به إن لم يفعل ما أكره عليه.
  3. أن يكون مما يُسْتَضَرُّ به ضرراً فادحاً، كالقتل والضرب الشديد المبرح، والقيد والحبس الطويل، وإتلاف ماله ونحوه. أما الشتم أو السب فليس بإكراه.
    آثار الإكراه:
    إذا كان الإكراه ملجئاً فإنه يعتد به، وصاحبه لا يؤاخذ أو يعاقب على مخالفته نتيجة للإكراه، لأنه يصبح غير مكلف، لأنه فاقد للاختيار، قال تعالى: “لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا” البقرة 286:
  • فإذا نطق بكلمة الكفر (وقلبه مطمئن بالإيمان) فإنه لا يؤاخذ بذلك…
  • وإذا أقر أو اعترف بشيء، فلا يعتبر باعترافه أو إقراره.
  • وإذا قذف غيره فلا يقام عليه الحد.
  • وإذا باع شيئاً من أملاكه بالإكراه فإن العقد فاسد، وله أن يسترجعه بعد انتهاء الإكراه.
  • وإذا طلق امرأته لا يقع عليها الطلاق.
    …. وهكذا.
    والأصل في هذا كله قوله تعالى: “مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ “النحل106. التي نزلت في عمار بن ياسر: فقد ورد أن « المشركين أخذوه فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير فتركوه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا عمار ما وراءك ؟ قال : شر يا رسول الله ما تُرِكْت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال : كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا بالإيمان. قال: إن عادوا فعد. قال: فأنزل الله عز وجل من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان” رواه البيهقي والحاكم وعبد الرزاق . قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
    قال الشافعي: قال الله تبارك وتعالى: « من كفر بالله من بعد إيمانه …. » فلو أن رجلا أسره العدو فأُكْرِه على الكفر لم تبن منه امرأته ، ولم يحكم عليه بشيء من حكم المرتد. قد أُكْرِه بعض من أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على الكفر، فقاله، ثم جاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكر له ما عذب به، فنزلت فيه هذه الآية، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم باجتناب زوجه، ولا بشيء مما على المرتد .
    فالآية أصل في جميع أنواع الإكراه، فهي وإن نزلت في أمر التلفظ بالكفر، إلا أنها تشمل جميع صور الإكراه، لأن الكفر وهو أعظم الكبائر والذنوب إذا أُبيح أن يتلفظ به الإنسان المكْرَه، فغيره من باب أولى. قال الإمام القرطبي: لما سمح الله عز وجل بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه، ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها… وهذا ما ورد في الحديث السابق: “رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه” .

الإكراه على القتل والزنا ونحوهما:
إذا أُكره إنسان على قتل غيره، أو أكره على الزنا فلا يحل له أن يقدم على ذلك، ويجب أن يصبر ولو أدى به ذلك إلى تعريض نفسه للخطر، لأن هذا مما لا تبيحه الضرورة، فليس نفس الإنسان أعز ولا أغلى من نفس غيره… قال القرطبي: أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الإقدام على قتله ولا انتهاك حرمته، ويصبر على البلاء الذي نزل به . إلا أن الحنفية قالوا بسقوط الحد عن الزاني المكره للشبهة. والشافعية قالوا بوجوب إقامة الحد عليه .

وهنا لا بد من التأكيد أنه ليس كل شيء يباح بالإكراه، وليس كل إكراه يوجب التخفيف، فكما أن هناك أمور تباح بالإكراه، فهناك أمور  ينبغي الأخذ فيها بالعزيمة، وذلك يرجع إلى الظروف والأحوال التي يعيشها المسلم، فليس القتل والزنا فقط لا تباح بالإكراه، فهناك أمور أخرى لا يقل ضررها عن الزنا والقتل...
وفي ذلك يقول محمد أحمد الراشد: " وكما أن الأمور نسبية عند المفتي، فإنها نسبية أيضاً تجاه المسلم الذي يتعرض للإكراه، فالفقه يأذن له أن يلين في المطالب الصغيرة، بل يمنعه أن يفدي نفسه بسببها، بل يوقع نفسه في الإثم، بينما يدعوه إلى الصبر في المطالب الكبرى، والجود بنفسه من أجل حماية أرواح المسلمين. مثال ذلك ما ذكره الكرابيسي من أنه إذا أُكره فقيل له: لنقتلنك أو لتشربن هذا الخمر، أو لتأكلن هذه الميتة أو لحم الخنزير، فلم يفعل حتى قُتل، كان آثماً . فهذا ونحوه هو ما نعنيه بالمطالب الصغيرة، واللين فيها جائز، وربما يصبح واجباً عند تحقق القتل... والذي يعنينا أكثر في هذا المبحث الموجه للدعاة، هو ما يتعرض له الدعاة في السجون من إكراه للإدلاء بأسرار أو تصريحات تثلم المكانة المعنوية للدعوة، أو تسبب الإحباط لأنصار الدعوة، ويتفنن الحاكم الظالم في أساليب إيقاع الإكراه لتحصيل ذلك... .
ثم يقول الراشد بعد أن تحدث عن أحكام الإكراه: وتبقى الأمور الصغيرة والخلاف فيها هين النتيجة، ولكن الخطب الأكبر أن يتوجه الإكراه على داعية لقتل إخوانه، أو قطع عضو من أجسادهم.. هنا لا تصح الأنانية، فليست روحه أغلى من روح أخ له مسلم، ويجب أن يصبر ويقبل النتيجة ويمضي شهيداً. قال العز بن عبد السلام: ولاجتماع المفاسد أمثلة: أحدها: أن يُكره على قتل مسلم، بحيث لو امتنع منه قُتل، فيلزمه أن يدرأ مفسدة القتل بالصبر على القتل، لأن صبره على القتل أقل مفسدة من إقدامه عليه. وإن قدر على دفع المكروه بسبب من الأسباب لزمه ذلك، لقدرته على درء المفسدة. وإنما قدم درء القتل بالصبر لإجماع العلماء على تحريم القتل واختلافهم في الاستسلام للقتل. ثم قال العز: وكذلك لو أُكره بالقتل على شهادة الزور أو على حكم بالباطل، فإن كان المكرَه على الشهادة به أو الحكم به قتلاً أو قطع عضو، أو إحلال بُضْع محرم، لم تجز الشهادة ولا الحكم، لأن الاستسلام أولى من التسبب إلى قتل مسلم بغير ذنب أو قطع عضو بغير جرم أو إتيان بضع محرم . ومن يلين للإكراه ويقتل مسلماً بريئاً ويفضل نجاة نفسه على نجاة غيره يعتبر قاتلاً عند جمهور العلماء، ويجري عليه القصاص ويقتل... 

التعذيب من أجل انتزاع الاعتراف:
نص أصحاب الإمام مالك على جواز سجن وضرب المتهمين بتهم الجنايات والجرائم، وذلك عندهم من قبيل تضمين الصناع، فإنه لو لم يكن الضرب والسجن بالتهم لتعذر استخلاص الأموال من أيدي السراق والغصاب، إذ قد يتعذر إقامة البينة، فكانت المصلحة في التعذيب وسيلة إلى التحصيل بالتعيين والإقرار، أي تعيين المتاع وإقرار التهم .
ويقول أبو حامد الغزالي: مسألة الضرب بالتهمة للاستنطاق بالسرقة مثلاً قال بها المالكية، ولا نقول بها نحن (الشافعية) لأن هذه مصلحة تعارضها أخرى، وهي مصلحة المضروب، فإنه ربما يكون بريئاً من الذنب، وترك الضرب في مذنب أهون من ضرب البريء .
ويبدو أن رأي الجمهور القائلين بعدم جواز التعذيب من أجل انتزاع الاعتراف أقرب إلى الصواب، لقوة أدلتهم. خاصة مع احتمال براءة هذا المتهم مما ينسب إليه،والخطأ في براءته أهون من الخطأ في عقوبته.
وهذا له علاقة بموضوع التحقيق مع المشتبه بهم بالتعامل مع الأعداء من الأسرى (ما يسمى: إنزال الزاوية)، والأخطاء الكبيرة التي وقعت بسبب الأخذ برأي المالكية في ذلك، وأدى بعضها إلى موت بعض المشبوهين نتيجة هذا التعذيب، دون التأكد من عمالتهم وخيانتهم، وكانت فتنة كبيرة لا زالت الحركة الأسيرة تعاني من آثارها حتى الآن، لولا تدارك العقلاء لهذا الأمر، واتخاذ القرار بوقف التحقيقات مع المشتبه بهم داخل السجون، إلا عند الضرورة القصوى…

6) الرخصة والعزيمة:
العزيمة عند الأصوليين: هي ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء. والرخصة ما شرع من الأحكام لعذر شاق. والمراد هنا ما سهله الله لعباده ووسعه بسبب الشدة من ترك بعض الواجبات، وإباحة بعض المحرمات لعذر. مثل سقوط صوم رمضان عن المسافر .
والأصل فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته” وفي رواية: “… كما يحب أن تؤتى عزائمه” رواه أحمد وصححه وابن خزيمة وابن حبان وابن أبي شيبة وعبد الرزاق . قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح . وله شواهد عن عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما.
وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في قصر الصلاة في السفر: “صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته” رواه مسلم .

والأحاديث تدل على أن فعل الرخصة أفضل من فعل العزيمة، كذا قيل، وليس فيه على ذلك دليل، بل يدل على مساواتها للعزيمة . ولذلك قال الأصوليون إن حكم الرخصة إجمالاً هو الإباحة مطلقاً، ولم يرد دليل يقتضي الإقدام على الرخص، وإنما الوارد هو نفي الإثم أو الحرج أو الجناح أو عدم المؤاخذة عمن يقدم على الرخص إجمالاً…. .

هل الأخذ بالرخص أفضل؟
لذلك اختلف العلماء في أيهما أفضل: الأخذ بالرخصة أم الأخذ بالعزيمة… وقد فصل الشاطبي في كتابه القيم (الموافقات) تفصيلاً حسناً في هذا الموضوع، وبين أدلة كل فريق . ويمكن تلخيص ما ذكره بالآتي:
إن الأخذ بالرخص إجمالاً من باب المباحات كما رأينا، وذلك يفيد تساوي الطرفين في الأخذ بالرخص أو عدم الأخذ بها لدى المكلف. إلا إذا أدى الأخذ بالعزيمة إلى تلف النفس أو الأعضاء ونحو ذلك، فلا يسمى عندئذ رخصة لأن هناك أمرا مسبقاً بالأمر بالمحافظة على النفس وباقي الضروريات. أو إذا كان الأخذ بالعزيمة فيه إعزاز للإسلام، أو إغاظة للأعداء، أو مصلحة أخرى، فتكون حينئذ مطلوبة ومستحبة…
ثم يقول: “ومن الفوائد في هذه الطريقة، الاحتياط في اجتناب الرخص -في القسم المتكلم فيه- والحذر من الدخول فيه، فإنه موضع التباس، وفيه تنشأ خُدع الشيطان، ومحاولات النفس، والذهاب في إتباع الهوى على غير مهيع. ولأجل ذلك أوصى شيوخ الصوفية تلامذتهم بترك إتباع الرخص جملة، وجعلوا من أصولهم الأخذ بعزائم العلم. وهو أصل صحيح مليح، مما أظهروا من فوائدهم رحمهم الله. وإنما يرتكب من الرخص ما كان مقطوعاً به، أو صار شرعاً مطلوباً كالتعبدات، أو كان ابتدائياً كالمساقاة والقرض، لأنه حاجي. وما سوى ذلك فاللجأ إلى العزيمة”.
وهذا يعني أن الأخذ بالرخصة أو العزيمة يعود إلى اجتهاد المكلف، ونظره في عواقب ذلك ونتائجه، فقد يكون الأخذ بالرخصة في موضع ما أفضل، وقد يكون الأخذ بالعزيمة في موضع آخر أو حالة أخرى أفضل. لكن الأخذ بالعزيمة بإجمال أسلم، وأحوط، وبالتالي فإن الأصل هو الأخذ بالعزيمة إلا إذا كانت المصلحة الراجحة تكمن في الأخذ بالرخصة، كأكل الميتة والخنزير للمضطر، أو ورد النص على تحبيذ الأخذ بالرخصة في مسألة معينة، كقصر الصلاة الرباعية للمسافر… ونحو ذلك.
وينبغي الحذر هنا من مسألة تتبع (رخص المذاهب) بقصد التشهي والتهرب من التكليف، فذلك غير جائز عند الأئمة، لأنه يترتب على هذا التلفيق صورة لا يقول بها إمام من الأئمة .
وبخصوص الأسرى في سجون الظالمين نذكِّر هنا بأهمية التمسك بالعزة الإيمانية، وضرب المثل في قوة الإرادة والأخذ بالعزيمة، وعدم إظهار الشماتة للأعداء، ولو أدى ذلك أحياناً إلى الاستشهاد. فالأخذ بالعزيمة أمام الأعداء، وإعزاز الدين، وإذلال الكافرين مطلوب شرعا. فقد ذكر البخاري في صحيحه ترجمة بعنوان: (باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر) ذكر فيه عدة أحاديث…
قال ابن حجر في الفتح: قال ابن التين: العلماء متفقون على اختيار القتل على الكفر… مع جواز الأخذ بالرخصة كما فعل عمار بن ياسر، وقد أجمعوا على جواز تقحم المهالك في الجهاد. وقال ابن بطال: أجمعوا على أن من أُكره على الكفر واختار القتل أنه أعظم أجراً عند الله ممن اختار الرخصة. وأما غير الكفر فإن أُكره على أكل لحم الخنزير أو شرب الخمر مثلاً فالفعل أولى. وقال بعض المالكية: بل يأثم إن امتنع من أكلها، فإنه يصير كالمضطر على أكل الميتة إذا خاف على نفسه الموت إن لم يأكل .
وممن اختار الضرب والهوان على التلفظ بالكفر بلال بن رباح في مكة قبل الهجرة، وكذلك خبيب بن عدي عندما وقع أسيراً في يد كفار قريش، وعذبوه عذاباً شديداً ليجبروه على الكفر أو ليسب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يذكر آلهتهم بخير، فأبى حتى قتلوه، وقال قولته المشهورة:
ولست أبالي حين أقتل مسلما
على أي شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع.
والقصة بطولها رواها البخاري وأبو داود وأحمد وابن حبان .
وكذلك والدَيْ عمّار بن ياسر اللذين ماتا تحت التعذيب. وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة” .
وكذلك قصة مسيلمة الكذاب مع الصحابيين اللذين وقعا أسيرين في يديه، أما أحدهما فأخذ بالرخصة وقال لمسيلمة: أنت رسول الله. وأما الآخر فقال: أنا أصم لا أسمع. فقتله عدو الله، فقال صلى الله عليه وسلم: أما الأول فقد أخذ برخصة الله عز وجل، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له الجنة .
وقصة عبد الله بن حذافة السهمي الذي وقع في أسر الروم، ورفض الاستجابة لمطالب عظيم الروم رغم التهديد والوعيد. وقد سبق ذكر تفصيلها في الفصل الأول.
ويقول محمد أحمد الراشد: الأسير في يد العدو قد يتمسك بالعزة الإيمانية، ويضرب المثل في الإباء، مع أن الرخصة قائمة. ففي قصة عاصم بن ثابت رضي الله عنه، لما جاء الكفار فأحاطوا به وبمن معه وقولهم: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً… أنه قال: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، فقاتلهم …. ويقاس عليه السجين في يد حاكم ظالم إذا ساومه الطاغية أن يلين ويتبرأ أو يقتله، فثباته والاقتداء بعاصم رضي الله عنه فيه تحقيق لمعنى العزة، والعزيمة أرجح إن كان قائداً أو مشهوراً أو قدوة .

المبحث الثاني
عبادات الأسير
لن ندخل في كل التفاصيل والأحكام المتعلقة بعبادات الأسير، نظراً لأن معظم هذه الأحكام معروفة، ولا يختلف فيها الحكم بين الأسير وغيره، ولكننا سنركز عل أهم هذه الأحكام التي يحتاجها الأسير، والتي يجري فيها اشتباه على العديد من الأسرى في كثير من الأحيان، وقد جرى فيها نقاش طويل بين الأسرى في العديد من السجون، وكنا نُسْأَلُ عنها كثيراً. ونحاول الآن دراسة أهم هذه الأحكام وبيان الرأي الراجح فيها، كما تعرضها نصوص الكتاب السنة، وقواعد الشريعة، ووفق اجتهادات فقهائنا الكرام:

  1. التيمم بالجدران بدل التراب:
    حين يفقد الأسير الماء، أو لا يستطيع الوصول إليه، أو لا يقدر على استعماله، خاصة في أوقات التحقيق أو العقوبات في الزنازين الانفرادية، أو في حالات السفر في البوسطة، فيباح له أن يتيمم. لقوله تعالى: “وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً” النساء43. وقد ذكر القرطبي أن من مبيحات التيمم السجن أو الربط . لكن المشكلة أن الأسير في معظم حالاته لا يجد الصعيد الطيب (التراب)، فلا يجد أمامه إلا الحيطان الإسمنتية والقضبان الحديدية وأرضيات الغرف والزنازين… فهل يجوز له التيمم بهذه الأشياء بدل التراب؟
    أجاز الحنفية والمالكية والحنابلة في قول لهم التيمم بكل ما ظهر من الأرض، سواء كان من التراب أو أي من مكونات الأرض، وقد فسر اللغويون الصعيد بأنه وجه الأرض سواء كان عليه تراب أو غيره، كذا رجح الزمخشري وهو من علماء اللغة . وبه قال الخليل بن أحمد وابن الأعرابي والزجاج وغيرهم. حتى قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافاً بين أهل اللغة .
    ويؤكده حديث جابر بن عبد الله أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “…وجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا” رواه البخاري .. قال ابن حجر: استدل بالحديث أن التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض، أكد ذلك رواية أبي أمامة: “وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً” .
    أما رواية أبي هريرة رضي الله عنه : “جعلت لي الأرض مسجداً وتربتها لنا طهورا” رواها مسلم . فلا تتعارض مع الرواية الأولى، فقد قال ابن دقيق العيد في شرح عمدة الأحكام: قيل يمنع كون التربة مرادفة للتراب، وادعى أن تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره مما يقاربه . وقال القرطبي: إن الرواية الثانية من باب النص على بعض أشخاص العموم، كما قال تعالى: “فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ” الرحمن68 . وقال ابن حزم: إن الرواية الأولى لا تتعارض مع الثانية، لأن فيها زيادة حكم، فيكون العمل بالروايتين .
    وورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لنا أبو جهيم الأنصاري: “أقبل النبي صلى لله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم ردَّ عليه السلام” رواه البخاري . قال ابن بطال: استدل به على عدم اشتراط التراب للتيمم . والنتيجة أنه يجوز للأسير إذا فقد الماء والتراب أن يتيمم بما تيسر له من ذلك، فإذا كان في زنزانة تيمم بالأرض أو الحائط، وإذا كان في البوسطة (وسيلة النقل) تيمم على الكرسي الحديدي أو جدار البوسطة، وإذا كان مشبوحاً والكيس في رأسه مسح وجهه بالكيس ويديه بالكرسي… وهكذا. وهذا وإن كان مخالفاً لرأي بعض الفقهاء (كالشافعية والحنابلة في رأي)، فهو جائز من باب الضرورة الشرعية التي رأينا تفصيلها في بداية هذا الفصل. والله أعلم.
  2. المسح على الجوربين:
    يجوز للأسير أن يمسح على الجوربين داخل السجن، وفق الأحكام المقررة عند الفقهاء، فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين” رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي . والأحاديث الواردة في المسح على الخفين بشكل عام كثيرة قد تبلغ مرتبة التواتر. قال الإمام أحمد: فيه أربعون حديثاً عن الصحابة مرفوعة. وقال الحسن البصري: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يمسح على الخفين . أما مدة المسح على الجوربين: فإذا علمنا أن الأسير حكمه حكم المقيم في الأحوال العادية وليس مسافراً، كما حققنا في بداية هذا الفصل. لذلك فإن مدة المسح على الخفين (أو الجوربين أو الحذاءين السابغين) هي المدة التي يقضيها المقيم، أي يوماً وليلة إذا لم يكن مسافراً مع آسريه. فقد ذهب جماهير العلماء إلى أن مدة المسح على الخفين يومٌ وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر. لحديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "جعل ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم، يعني في المسح على الخفين" رواه مسلم . وهو يدل على مدة المسح: أي خمس صلوات للمقيم، وخمس عشرة صلاة للمسافر. بشرط أن يلبسهما على طهارة. وينبغي عدم نزع الخف في هذه المدة المقدرة إلا للجنابة، وهذا رأي الجمهور وهو الراجح إن شاء الله . فإذا انقضت المدة قيل: يبطل الوضوء، وقيل يغسل قدميه فقط (وهو ما رجحه كثير من الفقهاء). وقال داود: إذا نزعهما صلى حتى يحدث، لأن الطهارة لا تبطل إلا بحدث، ونزع الخف ليس بحدث، وكذلك انقضاء المدة . وهنا لا بد من التنبيه على ضرورة أن يكون الخف أو الحذاء أو الجورب سابغاً وساتراً للكعبين (وهما العظمتان الناتئتان بجانبي القدم). قال ابن قدامة: وإنما يجوز المسح عليه إذا كان ساتراً لمحل الفرض، لا يرى منه الكعبان لكونه ضيقاً أو مشدوداً، وهذا رأي الشافعية والحنابلة وأبو ثور. ولو كان مقطوعاً من دون الكعبين لم يجز المسح عليه، وهذا الصحيح عن الإمام مالك. وحكي عنه وعن الأوزاعي جواز المسح، لأنه خف يمكن متابعة المشي فيه، فأشبه الساتر .

3.صلاة الأسير:
الأصل أن يصلي الأسير الصلاة الشرعية المعهودة، التي شرعها الإسلام، بأركانها وشروطها وآدابها ونوافلها. لأن ذلك هو الأصل الذي لا يجوز الخروج عليه، إلا لضرورة أو عذر مقبول، قال الله تعالى: “فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً” النساء103.
ويكون الترخيص والتخفيف في أحكام الصلاة في حالة الضرورة أو الحرج، حين لا يتمكن الأسير من أداء الصلاة الشرعية، أو كانت الصلاة الشرعية فيها حرج ومشقة غير معهودة، خاصة في فترة التحقيق والشبح، أو عند العقوبة في الزنازين الضيقة، أو في حالات القمع والاستنفار (المواجهة مع الإدارة)، أو أن يجمع بين الصلاتين إذا كان مسافراً أو متنقلاً بين السجون، أو مخالفة القبلة إن تعذر عليه التوجه إلى القبلة لأي سبب، أو أن يصلي النوافل جالساً عند التعب والإرهاق،… ونحو ذلك، قياساً على صلاة المريض، بل إن وضع الأسير يكون أحياناً أسوأ من وضع المريض.
وقد حقق الباحث (نائل رمضان) في أطروحته للماجستير عدة مسائل في هذا الموضوع، ننقل هنا أهمها على سبيل الاختصار، دون الدخول في التفاصيل، مع إقرارنا بالنتائج التي توصل إليها في هذه المواضيع:
فقد رجح أن الأسير إذا لم يجد ثياباً طاهرة للصلاة فيها، فعليه أن يصلي في الثوب النجس، وأن ذلك يسقط عنه الفرض. وهذا رأي المالكية والحنابلة .
ورجح أن الأسير إذا لم يجد مكاناً طاهراً في السجن، فلا جناح عليه أن يصلي في المكان النجس، وهذا رأي الجمهور. لكن عليه أن يتجنب النجاسة قدر المستطاع، وأن يومئ في سجوده، فلا يضع جبهته على النجاسة .
وأن على الأسير أن يجتهد في تحديد وقت الصلاة، إذا اشتبه عليه الوقت، ولم يجد من يخبره به، حتى يغلب على ظنه أن الوقت قد دخل، فيصلي. فإن صلى بالاجتهاد فبان أنه وافق الوقت أو بعده فإنه يجزئه، لأنه أدى ما عليه، وإن شك في دخول الوقت فلا يصل حتى يتبين له دخوله، أو يغلب على ظنه دخوله فيصلي… وتكون صلاته صحيحة .
وكذلك إذا لم يعرف جهة القبلة فإنه يجتهد في تحديد القبلة ويصلي حسب اجتهاده، فإذا صلى إلى جهة معينة بالاجتهاد ثم تبين له أنه أخطأ في تحديد جهة القبلة فالراجح أن صلاته جائزة ولا إعادة عليه، وهذا رأي الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة .
وإذا عجز الأسرى عن إقامة الصفوف المتصلة في صلاة الجماعة، كأن يكونوا في خيام أو غرف أو زنازين وفيها أَسِرَّة كثيرة أو مبعثرة تمنع اتصال الصفوف، فيصلي بعض الأسرى على الأرض وبعضهم على الأسرة (الأبراش)، فيكون بعضهم أعلى من الإمام، فإنه يجوز لهم ذلك، ولا حرج فيه إن شاء الله، للضرورة. لكن الأصل أن يسووا الصفوف، وأن تكون متصلة قدر الإمكان، فإن عجزوا عن ذلك صلوا كيف استطاعوا. وبمثل ذلك قال الأستاذ الدكتور حسام الدين عفانة حفظه الله .
وقد لخص الدكتور (يوسف القرضاوي) حفظه الله الكثير من هذه الأحكام تلخيصاً حسناً حين سئل عن صلاة الأسير أو السجين الفلسطيني في فترة التحقيق، وهو مقيد اليدين والرجلين، ومثبت بالحائط، ورأسه مغطى بكيس، وأحياناً على غير طهارة من الحدثين، بل وربما حرم من قضاء الحاجة بالطريقة المعتادة عدة أيام وهو على هذه الحالة؟ فأجاب:
“… قال صلى الله عليه وسلم لعمران بن الحصين: “صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب” رواه البخاري . وقال تعالى: “فاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ” التغابن16. وقال تعالى: ” لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا” البقرة 286. وقال صلى الله عليه وسلم: “…فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم…” متفق عليه . ومن المعلوم المقرر في دائرة الفقه الإسلامي أن الشروط المطلوبة لصحة الصلاة مثل الطهارة من الحدث، والطهارة من الخبث، واستقبال القبلة، وستر العورة وغيرها من شروط الصحة، تسقط عند العجز، ومثلها الأركان مثل القيام والركوع والسجود وغيرها، فمن فَقَدَ الطهارة بالماء وقدر على التيمم صلى بالتيمم وأغناه ذلك عن الوضوء وعن الغسل جميعاً، ومن كان لا يستطيع التيمم كما في حالة المسئول عنها، سماه الفقهاء (فاقد الطهورين)، أي الماء والتيمم، فهو يصلي بدونهما ولا حرج. قال العلامة ابن رجب في جامع العلوم والحكم معلقاً على حديث: “إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم”: فيه دليل على أن من عجز عن استقبال القبلة مثل هذا السجين المثبت بالحائط ولا يستطيع التوجه للقبلة، صلى كيف استطاع. ومن عجز عن الصلاة قائماً أو قاعداً بركوع وسجود، صلى بالإيماء، مشيراً برأسه أو بحاجبه كيف استطاع، وهذا فرضه، ولا يكلفه الله غيره….
ثم قال القرضاوي: وينبغي للمسلم وهو في كربه هذا أن يعتصم بالله، ويستعين بالصلاة، كما يستعين بالصبر، فهما عدته في معركته مع أعداء الله، كما قال تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” البقرة153. ولا عذر لترك الصلاة إلا في حالة الغيبوبة التي يفقد فيها الإنسان وعيه، فيسقط عنه التكليف، ويرفع عنه القلم” .
وقد جرت العادة في حالة نقل الأسرى بين سجون الاحتلال، أو عند نقلهم إلى المحاكم ونحوها، أن يقيد الأسير بقيود حديدية في يديه ورجليه، وأحياناً يكون معصوب العينين، وجالس على كراسي حديدية يمنع من مفارقتها. وفي هذه الحالة حين يدخل وقت الصلاة، فعليه أن يصلي حسب ما تيسر، فيبذل جهده في استيفاء الأركان والشروط للصلاة كما ذكرنا، فإن عجز عنها فإنه يومئ بالركوع والسجود، وهو جالس على كرسيه، قياساً على المريض المسافر على الدابة، بل إن وضع الأسير في هذه الحالة أسوأ من وضع المريض على الدابة، وهو أولى بالصلاة على حاله في هذه البوسطة من المريض.
وإذا عجز الأسير عن القيام بالأركان والشروط للصلاة في هذه الحالات، وصلى حسب ما تيسر فلا إعادة عليه على الرأي الراجح، وهو رأي الحنفية والحنابلة. وقال الشافعية: يعيد .
قصر الصلاة وجمعها للأسير:
كثيراً ما يحدث خلاف بين الأسرى بخصوص جمع الصلاة أو قصرها، نظراً للخلاف الطويل بين الفقهاء بهذا الشأن قديماً وحديثاً، ونظراً لمجيء الأسرى من مناطق وبلدان مختلفة، وكل منطقة تأخذ برأي من الآراء في هذه المسألة، وحين يجتمع الأسرى معاً في مكان واحد يحدث الخلاف بينهم حول الرأي الأقرب إلى الصواب، والأنسب لظرف السجن.
وسنحاول هنا معرفة أصل الموضوع وجوهر الخلاف بين الفقهاء، ومحاولة تأصيل الرأي الشرعي الأصوب والأنسب لظرف السجن، مستعينين بالله تعالى:
أما قصر الصلاة: فلا خلاف بين الفقهاء على جواز القصر إذا كان المسلم مسافراً سفراً طويلاً . لقوله تعال: “وإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً” النساء101. والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة لا داعي لذكرها هنا. حتى قال ابن القيم رحمه الله: ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتم الرباعية في سفره البتة .
أما بالنسبة للأسير، فقد مر معنا في بداية هذا الفصل أن الأسير إذا استقر به الحال في أحد السجون، وغلب على ظنه أنه باق فيه مدة تزيد عن أسبوعين (أو أربعة أيام على رأي، كما سيأتي تفصيله)، أنه يصبح مقيماً وتجري عليه أحكام المقيم وليس أحكام المسافر… وبالتالي فإنه لا يجوز له أن يجمع بين الصلاتين أو يقصر الصلاة لعلة السفر. إلا إذا سافر بعد ذلك، كأن يذهب إلى المحكمة البعيدة، أو حين ينقل من سجن إلى آخر، أو في حالة عودته إلى التحقيق من جديد… ونحو ذلك، فهو في هذه الحالة تابع لآسريه، فيصير مقيماً بإقامتهم، ومسافراً بسفرهم.
يقول ابن قدامة: وإذا خرج الإنسان إلى السفر مكرهاً، كالأسير، فله القصر إذا كان سفره بعيداً، نص عليه أحمد، لأنه مسافر سفراً بعيداً غير محرَّم، فأبيح له القصر، كالمرأة مع زوجها والعبد مع سيده. وقال الشافعي: لا يقصر لأنه غير ناو للسفر ولا جازم به، فإن في نيته أنه متى أفلت رجع. ورأي الحنابلة أرجح لقوة قياسهم. فإذا ثبت هذا فإنه يتم الصلاة إذا صار في حصونهم، نص عليه أحمد أيضاً، لأنه قد انقضى سفره. ويحتمل أنه لا يلزمه الإتمام لأن في عزمه أنه متى أفلت رجع، فأشبه المحبوس ظلماً .
وقد بين جمهور الفقهاء أن الأسير تابع لآسريه في السفر والإقامة، وأجازوا للأسير أن يقصر الصلاة إذا كان متنقلاً مع آسريه، أما إذا انقطع سفره ودخل معهم في حصونهم، فلا يجوز له قصر الصلاة .

مسافة السفر المبيح للقصر:
اختلف العلماء في المسافة التي تقصر فيها الصلاة الرباعية، على نحو عشرين قولاً حكاها ابن المنذر، فقيل ثلاثة أميال، وقيل ثلاثة فراسخ (والفرسخ يساوي ثلاثة أميال)…. وأقل ما قيل في مسافة القصر ما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث ابن عمر موقوفاً أنه كان يقول: “إذا خرجت ميلاً قصرت الصلاة”. وفي رواية: “إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر”. وإسناده صحيح ، وإلى ذلك ذهب ابن حزم الظاهري، أخذاً بعموم الآية: “وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ” النساء101. وقال الحنفية: بل مسافته أربعة وعشرون فرسخاً (حوالي 72ميلاً). وقال الشافعية والمالكية والحنابلة: أربعة برد، أو ثمانية وأربعين ميلاً (حوالي 80.5كم) ، لحديث ابن عباس مرفوعاً: “لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة برد”. وأخرجه البيهقي بسند صحيح من فعل ابن عباس وابن عمر . (وأربعة برد هي المسافة بين مكة وجدة، أو بين مكة والطائف) .
قال ابن حجر: وهذه أقوال متغايرة جداً، فالله أعلم. وقال بعض العلماء: يمكن الجمع بين هذه الآثار بالرجوع إلى معيار العرف، فما يسمى بالعرف سفراً فهو سفر.
لكن تحديد أقل المسافة للسفر المبيح للقصر لم ينقل في حديث صحيح أو دليل قوي، يقول ابن القيم رحمه الله: ولم يحدّ صلى الله عليه وسلم لأمته مسافةً محدودة للقصر والفطر في السفر، بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضرب في الأرض، كما أطلق لهم التيمم في كل سفر، وأما ما يروى عنه من التحديد باليوم أو اليومين أو الثلاثة، فلم يصح عنه منها شيء البتة، والله أعلم .
وقال ابن قدامة بعد ذكر تلك الأقوال المختلفة وأدلتها: إن التقدير بابه التوفيق، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، سيما وليس له أصل يرد إليه، ولا نظير يقاس عليه، والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر، إلا إذا انعقد الإجماع على خلافه .
ولا يوجد في المسألة إجماع كما هو واضح، فيبدو أن الراجح هو جواز القصر (والجمع طبعاً) لكل ما يسمى سفر في عرف الناس. وعلى ذلك فإن الأسير حين يخرج مع سجانيه في سفر يطول أو يقصر فله أن يجمع ويقصر الصلاة ما دام في السفر. خاصة أنه جرت العادة في هذا السفر للأسير أنه من أصعب الأسفار، وأكثرها حرجاً ومشقة، ويتعمد فيها السجانون إذلاله وتعذيبه طوال الوقت. فقد تكون مسافة السفر قصيرة، ولكن تستمر رحلة العذاب هذه عادة من الصباح الباكر حتى المساء، في ظروف مأساوية لا يعلمها إلا الله.

الجمع بين الصلاتين:
والجمع بين صلاتي الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء تقديماً أو تأخيراً في حالة السفر، أجازها جماهير الفقهاء من الصحابة والتابعين ومالك وأحمد والشافعي وغيرهم، وورد في ذلك أدلة كثيرة صحيحة، لا داعي لذكرها هنا، وقال الحنفية والظاهرية: لا يجمع، وأوَّلوا الجمع الوارد في الأدلة بأنه جمع صوري. ورأي الجمهور هو الأرجح نظراً لقوة أدلتهم، إذا توافرت شروط الجمع .
وإذا كان مطلق السفر يبيح قَصْر الصلاة كما رأينا، فمن الأولى أن يبيح الجَمْع كذلك. فإن جمهور الفقهاء أباحوا الجمع في السفر القصير، وكثير منهم لم يبيحوا القصر بسبب ذلك . وبذلك يستطيع الأسير أن يقصر ويجمع الصلاة، بعد خروجه من السجن في البوسطة (وسيلة نقل السجناء) لأي سبب كان، إذا كان المكان المقصود الوصول إليه خارج المدينة أو المنطقة التي يوجد فيها السجن المقيم فيه. ويبدأ الجمع والقصر بعد خروجه من البنيان في تلك المدينة أو المنطقة، كما نص عليه الفقهاء.
نية الإقامة:
يبقى للمسافر حق الجمع والقصر ما دام مسافراً، ما لم ينو الإقامة في بلد مدة معينة. وقد اختلف العلماء في تقدير المدة التي إذا عزم المسافر على إقامتها أتم فيها الصلاة وبطل القصر: فقال الحنفية والثوري: خمسة عشر يوماً، فإن نوى تلك المدة أو أكثر لزمه الإتمام، وإن نوى أقل من ذلك قصر. وقال الشافعية والمالكية: أقلها أربعة أيام، أو عشرين صلاة (غير يوم الدخول ويوم الخروج عند الشافعية). وهناك أقوال أخرى لا دليل عليها .
ويبدو أن الراجح رأي الحنفية ومن معهم، والله أعلم. ففي حديث أنس رضي الله عنه قال: “خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فأقام بها عشرة أيام يصلي ركعتين ركعتين” متفق عليه . وهذا كان في حجة الوداع.
وفي حديث ابن عباس: “لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة أقام بها تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإذا زدنا أتممنا” رواه البخاري . وفي رواية أبي داود عن ابن عباس: “سبعة عشر”. وفي رواية: “خمسة عشر” . وهذا كان في فتح مكة.
قال ابن حجر: إن المدة التي في حديث ابن عباس (تسعة عشر) يسوغ الاستدلال بها على من لم ينو الإقامة، بل كان متردداً متى تهيأ له فراغ حاجته يرحل. وأما حديث أنس (عشرة أيام) يستدل به على من نوى الإقامة لأنه صلى الله عليه وسلم في أيام الحج كان جازماً بالإقامة تلك المدة .
وهذا يعني أن من تردد في الإقامة ولم يعزم، أو كان ينتظر قضاء حاجة معينة، فله أن يقصر الصلاة، ما دام على هذا الحال، ولو أقام سنين، وهو قول الشافعية والحنفية وجمهور الفقهاء، وهو الراجح لفعل ابن عمر رضي الله عنهما، فإنه أقام في أذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة، وقيل أربعة أشهر. وعن أنس كذلك أنه أقام سنة أو سنتين يقصر الصلاة، وفي رواية: أنه أقام بالشام سنين يصلي صلاة المسافر . قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر الصلاة ما لم يُجْمِع إقامة (أي ينو الإقامة)، وإن أتى عليه سنون…
وقال الشوكاني بعد سرد الآراء في المسألة: … وكلها أقوال مستندها الاجتهاد، والحق أن من حط رحله ببلد ونوى الإقامة فيها أياماً من دون تردد لا يقال له مسافر، فيتم الصلاة ولا يقصر إلا لدليل، ولا دليل هاهنا .
والأسير كما قلنا مراراً يعتبر مقيماً إذا استقر به المقام في أحد السجون بين زملائه، وغلب على ظنه أنه سيقيم فيه مدة طويلة تزيد عن أسبوعين على الرأي الراجح، وبالتالي فلا داعي للجمع أو القصر بالنسبة له في هذه الحالة. إلا إذا كان وضعه مضطرباً لأي سبب كان، ففي هذه الحالة يستطيع أن يجمع ويقصر حتى يستقر به الحال في أحد السجون. والله أعلم.

الجمع لأسباب أخرى غير السفر:
ما سبق هو الجمع والقصر في حالة السفر. أما الجمع بين الصلاتين بدون قصر في الحضر، ففيها خلاف طويل بين الفقهاء. وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يجوز الجمع في الحضر، وذلك لعموم الأدلة المبينة لأوقات الصلوات، ولما تواتر من محافظة النبي صلى الله عليه وسلم على أوقاتها…
لكن ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: “صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر”. (وفي رواية من غير خوف ولا مطر). قال أبو الزبير: فسألت سعيد بن جبير: لِمَ فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما كما سألتني، فقال: “أراد أن لا يحرج أمته”. رواه مسلم في صحيحه . وفي رواية: قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة فسألته؟ فصدَّق مقالته.
وقد اختلف الفقهاء كثيراً في تأويل هذا الحديث: فقال كثير منهم: إن هذا كان جمعاً صورياً. أي أنه صلى الله عليه وسلم أخَّر صلاة الظهر إلى آخر وقتها، وقدَّم صلاة العصر إلى أول وقتها، فصلاهما معاً، وكذلك المغرب والعشاء. وهو رأي ابن حزم وابن الماجشون وإمام الحرمين… ورجحه الشوكاني والصنعاني … واستدلوا بما في صحيح مسلم أيضاً: قال: قلت لأبي الشعثاء: أظنه أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء؟ قال: وأنا أظن ذلك . وأبو الشعثاء هو راوي الحديث عن ابن عباس.
واستدلوا أيضاً برواية ابن عباس في سنن النسائي قال: “صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ثمانياً جميعاً، وسبعاً جميعاً، أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء” رواه النسائي .
ومن العلماء من أخذ بعموم حديث ابن عباس، فأجازوا الجمع للحاجة مطلقاً، بشرط أن لا يتخذ من ذلك عادةً وخُلُقاً. وهو قول ابن سيرين وربيعة وابن المنذر والقفال الكبير وأشهب من المالكية، وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث وغيرهم. واستدلوا بقول ابن عباس: “أراد أن لا يحرج أمته”.
لكن الجمهور قالوا إن الجمع لغير عذر لا يجوز وقيل إن ذلك إجماع. وأجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأجوبة عديدة منها: أنه جمع صوري كما مر، أو أنه كان بسبب المرض، كما قال النووي، ورد عليه ابن حجر، وقيل غير ذلك .
فقد أجاز الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم) الجمع لعذر، مثل السفر والمرض والمطر. (لكن المالكية والحنابلة لم يجيزوا الجمع بعذر المطر إلا في الليل، أي بين المغرب والعشاء، ولا يجيزونه بين الظهر والعصر، وأجازه الشافعية). واختلفوا في الأعذار الأخرى: فأجاز المالكية الجمع بسبب الوحل مع الظلمة. وأجاز الحنابلة الجمع للمرضع وعند العجز عن معرفة الوقت كالأعمى، وللمستحاضة، ولصاحب سلس البول أو انفلات الريح أو الرعاف الدائم، وللعذر وللشغل كخوفه على نفسه أو حرمته أو ماله، أو يتضرر في معيشة يحتاجها بترك الجمع، أو الجمع بين المغرب والعشاء بسبب البرد والوحل والريح الباردة الشديدة .
وهناك قاعدة عامة في الجمع ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله خلاصتها: أنه متى لحق المكلف حرج من ترك الجمع جاز له أن يجمع، وذكر أن هذا من محاسن شريعتنا . وهي قاعدة جيدة تنسجم مع مقاصد الشريعة وقواعدها. والأسير يستطيع أن يستفيد منها وأن يأخذ بها، في واقعه في السجن، على أن لا يتخذ من ذلك عادة، مع الأخذ بالملاحظات التي ذكرناها في مقدمة هذا الفصل حول الحرج والمشقة.

وقد أخذ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله برأي الحنابلة المخفف عند الضرورة والحاجة، فقال: أجاز فقهاء الحنابلة للمسلم والمسلمة الجمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء في بعض الأحيان لعذر من الأعذار، وهذا تيسير كبير... فإذا كان  هناك حرج في بعض الأحيان من الصلاة في وقتها فيمكن الجمع، على ألا يتخذ ذلك  ديدناً أو عادة... إنما جواز ذلك في حالات الندرة، وعلى قلة، لرفع الحرج والمشقة التي يواجهها الإنسان. فمثلاً شرطي المرور إذا كانت نوبته قبل المغرب إلى ما بعد العشاء، فله أن يجمع المغرب مع العشاء جمع تقديم أو تأخير، على حسب استطاعته. والطبيب الذي يجري عملية جراحية لمريض، ولا يستطيع تركها، فيمكنه أن يجمع جمع تقديم أو تأخير، رفعاً للحرج... .
والنتيجة أن الأسير في السجن لا يجوز له أن يقصر أو يجمع لمجرد كونه أسيراً، فهو في حكم المقيم كما حققنا، إلا إذا طرأ عليه سبب من أسباب القصر أو الجمع المذكورة آنفاً. وقد سئل الإمام مالك عن صلاة الأسير؟ فقال: مثل صلاة المقيم إلا أن يكون مسافراً .  

سؤال: أيهما أفضل الأخذ بالرخصة أم بالعزيمة في هذه المسألة؟
اتفق الفقهاء على أن الأخذ بالعزيمة أفضل، أي ترك الجمع في كل هذه الحالات،إلا في مزدلفة وعرفة أيام الحج. والسبب في ذلك: الخروج من الخلاف، ولأنه فعل الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده، وعليه درج الناس… قال النووي: وترك الجمع أفضل بلا خلاف، فيصلي كل صلاة في وقتها، للخروج من الخلاف، وكذا قال العز بن عبد السلام…
لكن يبدو أن ذلك بالنسبة للفرد، أو الجماعة إذا اتفقوا على عدم الجمْع، أما إذا جَمَعَ الإمام أخذاً بالرخصة، فالأَوْلى بالمسلم أن يصلي مع الجماعة، كسباً لأجر الجماعة، ونبذاً للفرقة، والتزاماً بالأمر بالاعتصام بالجماعة… والله أعلم.

  1. صلاة الجمعة للأسير:
    هل تجب صلاة الجمعة على الأسير المقيم في سجنه بين زملائه الأسرى؟
    الفقهاء قالوا إن الجمعة تجب على المسلم البالغ العاقل الحر الصحيح الذَّكَر المقيم في المصر إذا سمع النداء. ولا تجب على الصبي والمجنون والعبد والمرأة والمسافر والمريض والخائف . والأسير في الأحوال العادية وبعد استقراره في أحد السجون بعد فترة التحقيق، تنطبق عليه هذه الشروط. فهو بالغ عاقل صحيح، وهو حر ليس عبداً تجري عليه أحكام الأحرار كما رأينا، وهو مقيم ليس مسافراً، كما رأينا أيضاً، وهو يسمع النداء، أو في حكم من يسمع النداء، إذا سمحت إدارة السجن بالصلاة يوم الجمعة، كما هو الحال في معظم السجون.
    لذلك نرى أنه لا عذر للأسير بالتخلف عن صلاة الجمعة مع زملائه إذا سمع الأذان وأقيمت صلاة الجمعة في السجن، تطبيقاً لقوله تعالى: ” أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ” الجمعة9. ولحديث أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: “لينتهين أقوام عن وَدَعِهِم الجُمُعات أو ليختمنَّ الله على قلوبهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين” رواه مسلم .
    أما في التفاصيل، فقد ورد في الحديث عن طارق بن شهاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: مملوك وامرأة وصبي ومريض”. وفي رواية: “ومسافر” رواه أبو داود والحاكم والدارقطني والبيهقي . وله شواهد عن جابر وأبي هريرة وتميم الداري. وصححه العراقي والنووي وابن حجر والحاكم والألباني . وغيرهم.
    وفي حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنما الجمعة على كل من سمع النداء” رواه أبو داود والبيهقي والدارقطني . وحسنه الألباني، وذكر له شواهد ومتابعات . قال الشوكاني: والحديث وإن كان فيه مقال إلا أنه روي من طرق أخرى، ويشهد له قوله تعالى: ” إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ”.
    وقد ذهب الشافعية والظاهرية إلى وجوب صلاة الجمعة على الأسير، إذا توافرت فيه شروطها من حيث العدد، وهو أربعون عند الشافعية، وثلاثة عند الظاهرية .
    وقال ابن حجر: الذي ذهب إليه الجمهور أنها تجب على من سمع النداء، أو كان في قوة السامع، سواء كان داخل البلد أو خارجه. قال البخاري: قال عطاء: “إذا كنت في قرية جامعة فنودي بالصلاة من يوم الجمعة فحقٌّ عليك أن تشهدها، سمعت النداء أم لم تسمعه”. قال ابن جريج: قلت لعطاء ما القرية الجامعة؟ قال: ذات الجماعة والأمير والقاضي والدور المجتمعة الآخذ بعضها ببعض .
    وبذلك نرى ضعف رأي المالكية ورأي عند الحنفية (كما في الدر المختار) أن من شروط وجوب الجمعة عدم الحبس، وقال ابن عابدين في حاشيته: “ينبغي أن يقال أن الذي لا تجب عليه الجمعة هو المحبوس المظلوم… ولو تمكن المحبوس من صلاة الجمعة وصلاها صحت ووقعت فرضاً له عن الوقت”. وحين فسر الدكتور أحمد الشرباصي هذا الرأي قال: إن المسجون لا يكون عادة مقيماً بالمصر، بل يكون في سجن منفرد بعيد، وهو لا يتمتع بكامل حريته، فلا تتوافر فيه صفة القدرة على السعي إلى الجمعة لإجابة ندائها… .
    وواضح من هذا التعليل أن القضية اجتهادية، لم يرد في خصوصها دليل صريح من كتاب أو سنة. وهي تخضع لاختلاف ظروف السجون وأحوالها، وعدد الأسرى الموجودين فيها، ونوع الإقامة في هذه السجون، والمدة التي يقضيها الأسرى… ففي سجون الاحتلال في فلسطين مثلاً، يوجد عدد كبير من الأسرى في السجن الواحد (أحياناً آلاف الأسرى)، وهو عدد يزيد أحياناً عن بعض القرى والبلدات التي تقام فيها الجمعة، كما أن الأسرى يقيمون فيها إقامة حقيقية مستقرة في غالب الأحيان، والمدة التي يقضيها هؤلاء الأسرى طويلة تزيد على السنوات (فقد مكث الباحث في سجن عسقلان وحده ست سنوات متواصلة، وغيره قضى أكثر من ذلك بكثير). فهل يبقى الأسرى طوال هذه المدة دون صلاة جمعة، خاصة وأن عندهم من العلماء والشيوخ والخطباء ما يزيد عن الموجود بالخارج.
    هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن إدارة السجن غالباً تسمح بأداء صلاة الجمعة في ساحة السجن، وقد حصَّل الأسرى هذا الإنجاز بعد تضحيات ومعاناة كبيرة، والأسرى بحاجة ماسة لتثبيت هذا الإنجاز، وعدم إضاعته. وفي هذه الصلاة فوائد كبيرة تعود على الأسرى داخل السجن، لأنها أهم وسيلة لإيصال دعوة الله للأسرى خاصة من أبناء الفصائل غير الإسلامية، الذين لا يستمعون لمواعظ ودروس المشايخ والعلماء عادة إلا يوم الجمعة، وفيها علاج لكثير من مشاكل السجون، وفيها يجتمع الأسرى من الأقسام المختلفة، ويرى بعضهم بعضاً ويتواصلون فيما بينهم، وفيها يخرج الأسرى قليلاً من الغرف المكتظة والموبوءة… وغير ذلك من الفوائد.
    وقد أفتى الأستاذ مصطفى الزرقا رحمه الله لمن يعملون في معمل خارج المدينة أو البلدة ولا يسمعون الأذان، والذين يتعذر عليهم مغادرة المعمل، أنه يجوز لهم أن يعقدوا صلاة الجمعة ضمن المعمل، إذا كان فيه عدد من المصلين يكفي لإقامة الجمعة، وبينهم من يحسن الخطابة والإمامة. وهذا على رأي الشافعي، الذي لا يشترط في الجمعة أن يكون الإمام مأذوناً من الخليفة أو من ينوب عنه . والأسرى في السجون أولى بذلك من هؤلاء العمال.
    أما المسافر فلا تجب عليه الجمعة عند أكثر أهل العلم. قال الصنعاني: وهو يحتمل أن يراد به مباشر السفر، وأما النازل فتجب عليه ولو نزل بمقدار الصلاة، وإلى هذا ذهب الزهري والقاسم والنخعي وجماعة من الآل وغيرهم، وقيل لا تجب عليه لأنه داخل في لفظ المسافر… وتجب الجمعة على مسافر نوى الإقامة لمدة خمسة عشر يوماً عند الحنفية، وقال الجمهور: أربعة أيام .
    ملاحظة هامة: إذا حضر هؤلاء الذين لا تجب عليهم صلاة الجمعة الصلاة مع الناس، أجزأتهم الصلاة عن فرض الوقت، لأنهم تحملوا المشقة، فصاروا كالمسافر إذا صام. أي أن ترك الجمعة للمعذور رخصة، فلو أدى الجمعة سقط عنه الظهر . قال ابن المنذر: أجمعوا أن لا جمعة على النساء، وأجمعوا على أنهن إذا حضرن الإمام فصلين معه أن ذلك يجزئ عنهن . ويقاس عليهن باقي الأعذار.
  2. الزكاة في مال الأسير:
    لا يوجد دليل يستثني الأسير من أداء الزكاة إذا امتلك النصاب وتوفرت فيه شروط وجوب الزكاة ، وبالتالي فإن جميع الأدلة الواردة في الزكاة تجري على الأسير كما تجري على الحر. وقد حققنا أن الأصل في الأسير أن يتعامل معه في الأحكام على أساس أنه حر. وبالتالي لا يجري عليه ما أورده الجمهور في أن العبد لا تجب عليه الزكاة، (خلافا لما يروى عن عطاء وأبي ثور أنه يجب على العبد زكاة ماله). وقال الجمهور: إن العبد ليس بتام الملك، فلم يلزمه زكاة كالمكاتب .
    وقد نص المالكية والحنابلة على وجوب الزكاة في مال الأسير، قال الحطاب: وتزكى ماشية الأسير والمفقود وزروعهما ونخلهما . وقال ابن قدامة: وإذا أُسِرَ المالك (مالك النصاب) لم تسقط عنه الزكاة، سواء حيل بينه وبين ماله، أو لم يحل، لأن تصرفه في ماله نافذ، يصح بيعه وهبته وتوكيله فيه. أما إذا ارتد قبل مضي الحول، وحال الحول وهو مرتد فلا زكاة عليه، لأن الإسلام شرط لوجوب الزكاة .
    وبالتالي فإن على الأسير أن يؤدي زكاة ماله إذا توافرت فيه سائر شروط وجوب الزكاة، وفق المقادير والأنصبة التي ذكرها الفقهاء، ولا داعي للدخول في تفاصيلها هنا.
    أما كيف يؤدي الأسير زكاة ماله؟ فهناك عدة وسائل يمكن استغلالها منها: توكيل أحد الأقارب أو الأصدقاء لذلك، أو من خلال زيارة الأهل، أو عن طريق البريد إن أمكن، أو عن طريق الاتصال الهاتفي إن وجد، أو عن طريق الصليب الأحمر…… ونحو ذلك.
    زكاة الفطر:
    تجب زكاة الفطر على كل مسلم حر أو عبد ذكر أو أنثى . وهذا يعني أن على الأسير إعطاء هذه الصدقة، بل هو أولى من الزكاة العادية، نظراً لأن الجمهور قالوا إنها واجبة على العبد خلافاً للزكاة.
    والذي يدفعها عنه هو وليه أو وكيله، أو غير ذلك، كما في الزكاة.
    إعطاؤهم من الزكاة:
    من مصارف الزكاة المتفق عليها مصرف (في سبيل الله) الوارد في قوله تعالى: ” إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” التوبة60. قال جمهور الفقهاء والمفسرين: المقصود بقوله: (في سبيل الله) الغزاة والمرابطين، يُعطون ما ينفقون في غزوتهم. وقيل هم الحُجَّاج والعُمَّار .
    وجاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغازٍ في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين، فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين للغني” رواه أبو داود وابن ماجة ومالك والحاكم . أرسله مالك. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وصححه ابن حجر .
    وقد رأينا أن الأسير الذي جاهد في سبيل الله، ثم شاءت إرادة الله أن يقع في محنة السجن أنه من المجاهدين والمرابطين، وأن وضعه في السجن أسوأ وأقسى من وضع المجاهد الحر، ولذلك فهو أولى بإعطاء الزكاة من غيره إذا احتاج إليها.
    ورغم أن جمهور الفقهاء قالوا: إن الزكاة لا تحل للمجاهد الغني، إلا إذا احتاج إليها ، فإن الأسير في سجنه محتاج لهذه الزكاة، لأن ماله ليس معه. وهو وإن لم يدخل في سهم (في سبيل الله)، فهو داخل في سهم (ابن السبيل)، لأنه منقطع عن أهله، بعيد عنهم، ولا يتمكن من الوصول إلى ماله، أو الإنفاق منه.
    وكذلك إعطاء الزكاة لأهل الأسير وعائلته، الذين فقدوا معيلهم، وتعرضوا لمحنة لا تقل عن محنة معيلهم الغائب. وقد رأينا أن معظم همِّ الأسير وحزنه على عائلته، وهو دائم القلق عليهم حتى يطمئن على أوضاعهم، وأنهم لم يضيعوا من بعده. فإعطاؤهم من الزكاة يمكن أن يخفف عنهم، وينقذهم من الحاجة، ومن استغلال الأعداء المجرمين، الذين قد يستغلوا هذه الحاجة لاستهداف عائلة الأسير، وتشويه سمعتها…، بهدف الضغط على هذا الأسير، وتحطيم معنوياته، أو محاولة إسقاطه…
    وقد سئل الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله عن حكم دفع الزكاة لأسر الشهداء والأسرى والسجناء؟ فأجاب: دفع الزكاة لأسر الشهداء والأسرى والسجناء أمر مشروع، بل واجب، إذا كانوا من مصارف الزكاة وأهل استحقاقها، كأن يكونوا من الفقراء والمساكين أو الغارمين أو أبناء السبيل (ومنهم اللاجئون والمشردون). والزكاة على هؤلاء أولى وأفضل من الزكاة على غيرهم، لأن فيها سداً لحاجة المحتاج من ناحية، وإعانة على الجهاد في سبيل الله من ناحية أخرى .
  3. صيام الأسير:
    ومثل الزكاة الصوم، فيجب على الأسير في الأحوال العادية صيام شهر رمضان، وفق الأحكام المعروفة للصيام، ولا يوجد دليل يستثني الأسير من وجوب الصيام، وتجري عليه جميع الأدلة من القرآن والسنة والأحكام الواردة في الصيام، (ولا داعي للدخول في تفاصيلها هنا). فهو مقيم كما رأينا، وليس مسافراً، حتى يقال إنه معذور. إلا في حالات الضرورة، خاصة في فترة التحقيق العصيبة، أو عند العقوبة بالعزل الانفرادي، أو المواجهة مع الإدارة ونحو ذلك، فالضرورة لها أحكامها كما رأينا، وهي تقدر بقدرها…
    سئل د. يوسف القرضاوي (حفظه الله) عن حكم صيام الأسير الذي هو تحت الاستجواب والتحقيق؟ فأجاب: يستطيع المسلم أن ينوي الصيام على أي وضع كان، ولو كان أسيراً أو سجيناً، ما دام تحقق ركنا الصيام، وهما الإمساك والنية. ولكن قد يعجز المسلم الأسير عن الصوم إذا كان لا يؤتى له بالطعام إلا أثناء النهار، ولا يسمح له بتأجيل تناوله إلى الليل، فهنا يكون معذوراً في الإفطار، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وما جعل عليكم في الدين من حرج…. فعلى المسلم الأسير أن يفطر لهذا العذر، كما يفطر المريض والمسافر، وأن ينوي قضاء ما أفطره في أيام أخر، حينما يفك الله أسره، ويخرجه من السجن، أو تتحسن حالته، وتتغير معاملته: “فَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ” البقرة 185.

إذا لم يعرف وقت دخول شهر رمضان:
عندما لا يستطيع الأسير المسلم معرفة وقت دخول شهر الصيام، فعليه التحري والاجتهاد قدر إمكانه، لأنه لو صام دون تحر فصومه غير صحيح، كالمصلي إذا اشتبهت عليه القبلة. فإن تحرى وصام ولا يدري أوافق صيامه رمضان أم لا فصيامه صحيح يجزئه عن شهر رمضان، لأنه بذل وسعه والله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها. وكذلك إن صامه بنية جازمة ووافق صومه صوم رمضان، فصيامه صحيح بالإجماع. وكذلك إن صامه بنية غير جازمة ووافق شهر الصيام، فصيامه صحيح لأنه معذور، قال النووي: إنه مذهب كافة العلماء .
والمشكلة تكون حين يتحرى الوقت، ولكن لا يوافق صومه الشهر، فإن كان صيامه قبل دخول الشهر فهذا لا يصح بالإجماع، لأنه أدى الواجب قبل وجود سببه، وإن تبين أن صيامه جاء بعد دخول الوقت فلا خلاف بينهم في صحة صيامه قضاءً. إلا أنه إن صام شوال فعليه أن يقضي يوماً واحداً هو يوم العيد، إذا وافقت عدة شوال عدة رمضان، ويومين إن كان أقل .
أما إذا صام الأسير بالاجتهاد فصادف صومه الليل دون النهار، فصيامه باطل وعليه القضاء بلا خلاف، لأنه صام في وقت لا صيام فيه ، فصيامه لم يصادف محلاً.

  1. الحج عن الأسير:
    الحج واجب على المسلم إن استطاع إليه سبيلا، والأسير المحبوس معذور لأنه لا يستطيع الحج، فقد رفع عنه الحرج في عدم أدائه لهذا الركن من أركان الإسلام. لكن كثيراً من الأسرى، وخاصة أصحاب الأحكام العالية والمؤبدات، ومن باب حرصهم على الطاعة، يسألون عن حكم الإنابة في الحج، أي أن يوكل شخصاً آخر ليحج عنه، سواء كان بالأجر، أو بالتطوع.
    وقد أجمع الفقهاء على أنه لا يجوز الحج عن الحي القادر على الحج بنفسه. وأجاز الجمهور الحج عن الميت، أو المريض الذي لا يرجى برؤه، أو المعضوب (العاجز عن الحج بنفسه لكِبَر أو زمانة- المقعد- ونحوها)، سواء أوصى به أم لا. أما من يرجى زوال عذره (ومثله الأسير الذي يرجو الإفراج عنه) فلا يجوز أن يستنيب، فإن فعل لم يجزئه، حتى وإن لم يزل العذر عنه حتى مات. هذا قول الجمهور. لكن قال أبو حنيفة: يجوز له أن يستنيب، ويكون ذلك مراعى، فإن قدر على الحج بنفسه بعد ذلك لزمه، وإلا أجزأه ذلك لأنه عاجز عن الحج بنفسه، فيشبه الميئوس من برئه . وقد رجح الدكتور أحمد الشرباصي رأي الحنفية، فقال: أما إذا كان غير متمكن من الحج، وغير مستطيع له بسبب مرض أو حبس أو نحوه فإنه يجوز له أن يوكل غيره في الحج بدلاً منه، فإذا حج عنه سقطت الفريضة عن المحجوج عنه .
    ويبدو أن الراجح هو رأي الجمهور، أي أن من يرجى زوال عذره (كالأسير) فليس له أن يستنيب، فإن فعل لم يجزئه، لأنه يرجو القدرة على الحج بنفسه. وهذا ما رجحه الدكتور القرضاوي (حفظه الله)، حين سئل عن حكم الحج عن الأسير؟ فقال: إن الأسير يختلف عن الميت أو الشيخ الكبير الذي لا يستطيع أن يسافر للحج، أو المريض مرضاً مزمناً لا يرجى شفاؤه، كالمشلول. فالأسير يرجو أن يفك الله أسره، فدوام الحال من المحال، قال الله تعالى: “وتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ” آل عمران140. ويجب علينا ألا نفقد الأمل في الغد، والثقة بالنصر، ولا نيأس أبداً… ومن هنا فإن قياس الأسير على الشيخ الكبير أو المريض مرضاً مزمناً مقعداً قياسٌ في غير موضعه، وهو غير صحيح .
    واختلف الفقهاء في المعضوب إذا عوفي من مرضه (ومثله الأسير إذا أفرج عنه) بعد أن حُجَّ عنه؟ فقال الجمهور (الشافعية والحنفية): يلزمه حج آخر، لأنه تبين أنه لم يكن ميئوساً منه. وقال أحمد وإسحاق: لا تلزمه الإعادة لئلا تفضي إلى إيجاب حجتين. وأجيب بأن العبرة بالانتهاء، وقد انكشف أن الحجة الأولى غير مجزئة .
    هذا كله في حجة الإسلام الواجبة على كل مسلم، أما حج التطوع (عن الذي حج عن نفسه حجة الإسلام)، فيجوز له أن يستنيب فيه، لأنه حج لا يلزمه عَجِزَ عن فعله بنفسه، فجاز أن يستنيب فيه إذا كان مريضاً مرضاً مرجو الزوال، أو محبوساً .

المبحث الثالث
الأسير وأحكام الزواج
مر الحديث مفصلاً في الفصل الأول عن حقوق زوجة الأسير وأولاده وأهله ووجوب رعايتهم، وبعض الأحكام المتعلقة بذلك. وفي هذا الفصل نتحدث عن الأحكام المتعلقة بزواج الأسير، وعلاقته بأهله، ونفقة الزوجة، وحكم طلب الزوجة التفريق بينها وبين زوجها الأسير، وما يتعلق بالغريزة الجنسية للأسير، والحلول لها، وحكم الاستمناء، وأساليب العلاج… ونحو ذلك.
وهذا الفصل له أهمية كبيرة، ومواضيعه بحاجة إلى بيان وتوضيح، حيث تدور نقاشات كثيرة بين الأسرى حول هذه الموضوعات المختلفة. ونحن هنا نحاول معالجة أهم هذه المواضيع، حسب التوجيهات الإسلامية، كما تعرضها نصوص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة، ووفق اجتهادات فقهائنا الكرام، ومستفيداً من الخبرة العملية التي اكتسبها الباحث خلال فترة السجن الطويلة التي عايشها في سجون الاحتلال.

العفة للأسير:
وهذه أهم نصيحة يمكن أن توجه للأسير خلال فترة سجنه الطويلة، وفيها علاج حقيقي وعملي لمشكلة كبيرة يعاني منها الأسير، (بل ويستغلها العدو أحياناً ليمارس أساليبه الشيطانية في الإسقاط الأمني والأخلاقي). فإذا تحلى الأسير بهذه العفة وصبر عليها، وجاهد نفسه في سبيلها، فإنه يطمئن ويستريح، ويضع حجراً كبيراً على ثغرة كبيرة، يمكن أن ينفد من خلالها الأعداء… وفي هذا المجال نستمع لهذه الآية القرآنية الرائعة:
يقول الله تعالى: “وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ” النور33.
وهي آية عجيبة ترشد من لا يجدون نكاحاً، لأي سبب كان، بالعفة والصبر، والاحتساب عند الله تعالى، والله تعالى تكفل لهم بعد ذلك بالاغناء من فضله، والتعويض لهم عن صبرهم وعفتهم بعد ذلك. وقد رأيت في الآية إشارة عجيبة إلى الأسير المتزوج الذي لا يجد زوجته عنده، ولا يستطيع المعاشرة، وذلك بقوله تعالى: (لا يجدون نكاحاً)، ولم تقل الآية: (لا يجدون زواجاً)، فقد يكون الإنسان متزوجاً ولكنه لا يجد زوجته عنده لقضاء حاجته منها، في حالات كثيرة، كالسفر الطويل والسجن ونحوها.
وقد كانت هذه الآية مسلية ومواسية لنا وللعديد من الأسرى المتزوجين وغير المتزوجين المحكومين أحكاماً عالية، طوال سنوات السجن القاسية. والتي تعطي الأسير السكينة والطمأنينة وراحة البال، أمام شهوة تلح على صاحبها طوال الوقت، ففيها تسلية وتذكير للأسير بالأجر العظيم على عفته وصبره واحتسابه، وفيها مواساة له بأن هذا الحال لا يدوم، وأن فرج الله قريب، وسيغنيهم الله من فضله…
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء” متفق عليه . والباءة معناها في اللغة الجماع لأن من تزوج امرأة بوأها منزلاً. والمقصود بها هنا القدرة على مؤنة النكاح، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ليدفع شهوته، ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء. وأصل الوجاء رضُّ الخصيتين، والمراد أن الصوم يقطع الشهوة ويقطع شر المني كما يفعله الوجاء .
وفي الحديث إرشاد إلى اتخاذ الأساليب والوسائل من أجل الوقاية والعلاج للغريزة الجنسية، بهدف عفة النفس عند عدم القدرة على الوصول للزوجة، لتنفيس هذه الغريزة التي ابتلى الله بها عباده، ومن هذه الوسائل: الحث على لزوم الصوم، وإنما جعل الصوم وجاء، لأنه بتقليل الطعام والشراب يحصل للنفس انكسار عن الشهوة، ولسِرّ جعله الله تعالى في الصوم، فلا ينفع تقليل الطعام وحده من دون صوم. ومن المعلوم أن الصوم يخفف حدة الشهوة، ويوجِدُ في الإنسان روحانية عالية تشغله عن التفكير في الغريزة…. واستدل الخطابي بهذا الحديث على جواز التداوي لقطع الشهوة بالأدوية. وحكاه البغوي في شرح السنة، ولكن ينبغي أن يُحْمَل على دواء يُسَكِّن الشهوة ولا يقطعها بالكلية، لأنه قد يقوى على وجدان مؤن النكاح بعد ذلك. فقد وعد الله من يستعف أن يغنيه من فضله، لأنه جعل الإغناء غاية للاستعفاف… وفي الحديث العمل على تحصيل ما يغض البصر ويحصن الفرج .

الاستمناء:
ويسأل العديد من الأسرى عن حكم الاستمناء (أو ما يسمى العادة السرية)، كحل لمشكلة ضغط الشهوة داخل السجن، وكوسيلة لكسر هذه الشهوة، وعدم استفحالها…
ونحن لا نشك أن الغريزة الجنسية تفرض نفسها بقوة على الأسير، وتسبب له الكثير من الأرق والتفكير، لأنها سنة الله في طبائع البشر. ولذلك لا بد للأسير في مثل ظروفه أن يعف نفسه، فهذا أولى، وفيه خروج من الخلاف، وله في ذلك أجر عظيم على صبره وعفته حتى يأذن الله له بالفرج. وعليه كذلك أن يشغل نفسه ووقته فيما فيه فائدة، حتى لا يكثر من التفكير في ضغط الغريزة وهمومها. والإكثار من الصيام يساعد في التخفيف من ذلك كما رأينا. وكذلك الإكثار من العبادات والنوافل وخاصة قيام الليل وقراءة القرآن والمأثورات والأذكار بأنواعها، والتقرب من الله تعالى بشكل عام.
ويمكن كذلك الاستعانة بوسائل أخرى للتلطيف والتخفيف، مثل الرياضة بأنواعها، وهي متاحة نسبياً في السجون، وهي من أفضل الوسائل لشغل الذهن عن التفكير في هذه الأمور، وفيها كذلك استهلاك للفائض من فضلات الجسم وحيويته عن القدر المناسب له . وعليه كذلك أن يتجنب العوامل المثيرة للغريزة، خاصة برامج التلفاز التي تعرض على الأسرى عبر القنوات التي تسمح بها إدارة السجن، وتجنب قراءة الروايات والقصص المثيرة. وعلى الإخوة المسئولين القائمين على أمر السجون أن يعينوا زملاءهم الأسرى على إيجاد الجو الملطف والمهذب. وكذلك الإكثار من المطالعة والكتابة والتفاعل مع الزملاء الأسرى، وحضور المحاضرات والدورات العلمية والثقافية، وعدم الانطواء والعزلة عن الآخرين، لأن هذه العزلة تؤدي إلى استحضار الهموم وزيادة التفكير في الحرية والقضايا الشخصية ونحو ذلك…
أما الحكم الشرعي للاستمناء (أو ما يسمى بالعادة السرية): فقد اختلف فيها العلماء كثيراً ما بين محرم (وهم الجمهور)، ومكره ومبيح من بعض العلماء.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الأصل فيه التحريم عند جمهور العلماء، وعلى فاعله التعزير، وهو أصح القولين في مذهب أحمد، وفي قول آخر لأحمد أنه مكروه غير محرم، وهو ليس مثل الزنا. ونقل عن طائفة من الصحابة والتابعين أنهم رخصوا فيه للضرورة، مثل أن يخشى الزنا فلا يعصم نفسه منه إلا به، ومثل أن يخاف إن لم يفعله أن يمرض، وهذا قول أحمد وغيره، وأما بدون ضرورة فما علمت أحداً رخص فيه .
وأباحها ابن حزم الظاهري، واعتبرها نوع من مس الذكر، لكنه كرهها لأنها ليست من مكارم الأخلاق .
واستدل المحرمون للاستمناء (وهم المالكية والشافعية وقول عند الحنفية وقول عند أحمد) بقوله تعالى: “وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ” المعارج 29-31.
واستدل المالكية على التحريم بالحديث: ” يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء”. قائلاً: لو كان مباحاً لأرشد إليه لأنه أسهل. وقد أباح الاستمناء بعض الحنابلة وبعض الحنفية .
وسئل ابن عمر عنها (يعني الخضخضة)؟ فقال : ذلك الفاعل بنفسه .
وورد في ذلك أثر عن أبى الزبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن غلاما أتاه فجعل القوم يقومون والغلام جالس فقال له بعض القوم قم يا غلام؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: دعوه شئ ما أجلسه فلما خلا قال يا ابن عباس إني غلام شاب أجد غلمة شديدة، فأدلك ذَكَري حتى أنزل؟ فقال ابن عباس: خير من الزنا ونكاح الأمة خير منه” رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والبيهقي . قال البيهقي: هذا مرسل موقوف.

واستدل المبيحون بما ورد عن مجاهد أنه قال : “كان من مضى يأمرون شبانهم بالاستمناء” .
وقول عمرو بن دينار : “ما أرى بالاستمناء بأسا” .
وعن جابر بن زيد أبي الشعثاء قال : “هو ماؤك فأهرقه” .
وعن الحسن رحمه الله قال: “كانوا يفعلونه في المغازي” .

أما الحديث المتداول بين الناس بلفظ: "مَلْعُونٌ مَنْ نَكَحَ يَدَهُ ". فهو حديث ضعيف لا يحتج به، قال ابن حجر: رواه الأزدي في الضُّعفاء، وابن الْجوْزيِّ من طريقِ الحسن بن عرفة في جزئه المشهور، من حديث أَنس بلفظ : "سَبْعَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمْ - فَذَكَرَ مِنْهُمْ - النَّاكِحَ يَدَهُ". وإِسناده ضعيف، ولأبي الشّيخ في كتاب التّرهيب من طريق أبي عبد الرّحمن الحُبُليّ ، وكذلك رواه جعفر الْفِرْيابي من حديث عبد اللَّه بن عمرو، وفيه ابن لَهِيعَةَ وهو ضعيفٌ .
ويقول الأستاذ مصطفى الزرقا رحمه الله : والحاصل أن القواعد العامة للشريعة تقضي بحظر هذه العادة، لأنها ليست هي الوسيلة الطبيعية لقضاء الحاجة الجنسية، بل هي انحراف، وهذا يكفي للحظر والكراهة، وإن لم يدخل الشيء في حدود الحرام القطعي كالزنا. ولكن تحكم هنا قاعدة (الضرورات)، فإذا خشي الوقوع في محظور أعظم كالزنا أو الاضطرابات النفسية المضرة، فإنها تباح في حدود دفع ذلك، على أساس أن الضرورة تقدر بقدرها... ومعنى ذلك أن الإفراط في جميع الأحوال غير جائز، لأنه لا ضرورة فيه... 
ملاحظة: يترتب على فعل هذه العادة: وجوب الغسل، وإفطار الصائم .

أخيراً ننقل هذه الخلاصات التي توصل إليها الباحث (رامي خالد الخضر)،أحد الباحثين في موضوع الغريزة الجنسية والعادة السرية، على شكل نصائح قدمها للمهووسين بالغريزة الجنسية، والمدمنين على العادة السرية، فقال ناصحاً:

“قناعات فكرية وأمور اجعلها دائما نصب عينيك …
فيما يلي عدد من الأمور وخلاصات تجارب الآخرين في هذا المجال، والتي لو أدخلها المرء إلى تفكيره وجعلها دائما نصب عينيه لن يتعب كثيرا في الخلاص من هذا الداء بإذن الله …

تَذَكَّر دائما ….

  • أن كل مرة تفعل فيها العادة السرية في الصغر يترتب عليها نقص مقدار من القدرات الجنسية والاستمتاع الحقيقي في المستقبل.
  • أن القدرة على الإقلاع عنها في سن مبكرة من ممارستها يكون أسهل بكثير من المضيّ شهورا وسنوات على ممارستها، لذلك يجب إيقافها مبكرا، وعدم الاستهانة بالأمر، والاعتقاد أنه يمكن إيقافها في الوقت الذي يريد الممارس.
  • أن الرجل لو حصل على نساء العالم كلِّه في ليلة واحدة فانه سيصبح في اليوم التالي يبحث عن المزيد والتجديد، فهي رغبة لا تنتهي ولا تتوقف عند حد، وطالما أن الأمر كذلك فما الفائدة إذا انتهى الأجل والمدمن يلهث وراء ذلك الإشباع المزعوم. فلا هو حقق ما حلم به في الدنيا، ولا كان مرضيا لله عز وجل، ولا فاز بالحور العين في الجنة.
  • أن النساء مهما اختلفت أشكالهن وإغراءاتهن وكذلك الرجال ، إلا أن العملية الجنسية في الغالب واحدة، فلماذا لا نقنع بالحلال، والذي فيه متعة ولذة وأجر لا يعادلها شئ؟
  • قد يصور الشيطان أيضا أن الاستمناء ضروري لإخراج الكميات الزائدة عن حاجة الجسم من المني ( ولا سيما في سن المراهقة ) حتى ينساق المراهق وراء هذه القناعة، فلا يكون لديه لا كمية زائدة ولا حتى كمية لازمة ولو كان هناك فائض فعلي يضر بالجسم لتم التخلص منه بالاحتلام مثلا.
  • الاقتناع بأن ما يقرأ ويشاهد من مواضيع وصور مثيرة للنساء والرجال في المجلات الهابطة ونحوها، ما هو إلا لسحب النقود، وإفساد الناس، وقد أبدع أصحاب هذه المطبوعات في الكذب والضحك على الناس بها، وما هي إلا تزوير ومبالغة وتجميل لواقع عفن ومخز لهؤلاء المشاهير.
  • أن واقع نساء الفساد والانحراف ومؤسسات الرذيلة، إنما هو أشبه بوعاء قاذورات، طلاؤه الخارجي جميل وجذاب، يجذب إليه الناظرين المخدوعين، إلا أن واقعه ومحتواه الداخلي في منتهى العفن، فهو وعاء جمع القاذورات من هنا وهناك، والحليم من حذر منه، ولم يخدع به، وطهر نفسه من الاقتراب منه.
  • أن الأفلام الجنسية بكل أنواعها إنما تعمد أعداؤنا الإبداع في إنتاجها وتصويرها، ودفع الملايين لإظهارها بصورة مغرية جدا، ومن ثم لتصديرها إلى الشباب والفتيات المساكين، لاستدراجهم إليها، ومن ثم القضاء عليهم من خلالها.
  • أن ما يرويه معظم الشباب من روايات وقصص ومغامرات مع أصناف من النساء والفتيات والغلمان، وكذلك ما ترويه الفتيات الساقطات لصديقاتهن، إنما معظمه من نسج خيالهم وخيالهن، والقلة القليلة فقط من العصاة والذين استحوذ عليهم الشيطان حققوا جزءً يسيرا من رغباتهم. علماً أن مجاهرتهم بالسوء تضاعف عليهم الذنب، وأنهم سيتحملون وزر كل من يتأثر بكلامهم من المحافظين، فليتجنب المسلم أمثال هؤلاء، ولا يصدقهم بكل ما يقولون.
  • أن التخلص الآن من كل الصور والأفلام المحرمة التي في حوزة المدمن يعتبر خطوة هامة، إذا بدأ بها ستوفر عليه نصف المشوار، وسيثبت بذلك أنه أخلص النية لله عز وجل، وعندها سيبدله الله بخير منها وأجمل وأمتع، فابدأ بها وتخلص مما لديك، ولا تستقبل أيّ إنتاج جديد، واقطع علاقتك مع الذين يزودونك بأحدث الإنتاج منها .
  • أن المرأة إذا فقدت حياءها، وانطلقت سافرة متبرجة متسكّعة، تتحدى الملأ، وتلاحق الرجال بنظراتها، تكون قد فقدت كل معاني الأنوثة والجمال، وعندها تكون عرضة للذئاب البشرية، التي تسعى لانتهاك شرفها وعرضها… وربما تأتي عليها لحظات تتمنى فيها الموت والهلاك لستر مصائبها، وهي همسة في أذن أخواتي المسلمات.
  • أن أي عورة من امرأة أو رجل وفرها الشيطان بالنظر أو بالحديث أو باللقاء، ما هي إلا استدراج إلى بحر من السراب، لو أبحر إليه المرء لجعله يلهث وراءه دون جدوى، ثم يبحث عن نجاة منه فلا يستطيع، وهذا ما توعّد به إبليس لعنه الله بني آدم، ثم يقول يوم الحساب إني برئ مما تصنعون.
  • أنه بمجرد أن يبدأ المدمن رحلة الكفاح هذه، ويبدأ في تطبيق هذه النصائح، أو حتى جزء منها، قد يجد وساوس الشيطان تزداد، وسيجده يوفر له من الفرص المحرمة ما لم يوفره من قبل، وما ذلك إلا دليل على أنه قد بدأ السير في الطريق الصحيح، ولشعور الشيطان ( أخزاه الله ) بذلك فإنه سيحاول إغواءه أكثر مما مضى، ونقول: إياك أن تضعف، واستمر على هذا الطريق.
  • أن الحياة تحتاج إلى جد وكفاح ومثابرة، لا إلى عقل فاسد وخيال جنسي، أو إلى إنسان ضعيف مستعبد جعل كل وقته وجل همه كالحيوان، طعام و شراب ونوم وجنس، فمن هذا حاله لن ينجح في شيء في حياته، ولن يكون له أثر في هذه الدنيا بعد موته، وينساه التاريخ كما ينسى الدواب النافقة.
  • أن أي لذة دنيوية يحرم الإنسان نفسه منها خشية لله وابتغاء مرضاته سبحانه، فإن الله سيبدله بها لذة أخرى خيرا منها في الدنيا والآخرة، تعوضه عنها بأحسن منها، ويكفيه أن يشعر بلذة الأِيمان، والتي إذا تولدت في القلب فإنها تغنيه عن العادة السرية، أو الشهوات الجنسية، وتنقله إلى عالم من الراحة والطمأنينة والسعادة، لا يعرفها إلا من ذاقها.
  • أن الإنسان إذا عف نفسه وثبت على ذلك سيكافئه الله تعالى بحور عين، هنّ فوق كل وصف، وحسنهنّ لا يمكن أن يخطر على قلب بشر، وهن أجدر لنا بأن نتخيلهن، ونسعى للظفر بهن. وأن نعمل كل ما في وسعنا لأن نبدّل هذا الخيال الجنسي المضطرب والمحرم، وهذه الشهوة الحيوانية الجامحة، براحة جنسية راقية وعظيمة مع الزوجة في الدنيا، ومع الحور العين في الآخرة، حيث اللذة والسعادة التي ليس لها نهاية…” ثم يقول: "وبعد ... إن الألف ميل تبدأ بخطوة ، ابدأ بالتدرج واستعن بالله ولا تعجز ولن تجد صعوبة إن شاء الله، متى ما توفرت لديك العزيمة الصادقة لحماية نفسك وإنقاذها من هذا العذاب، وأزفُّها إليك بشرى: بأن نتائج التجربة مع من سبقوك تدفعك على التفاؤل جدا، فهناك من بدأ في تطبيقها قبلك بمراحل، وقد كانوا غارقين فيها حتى أنوفهم، ولكن الله منَّ عليهم الآن وأصبحوا من خيار الناس وأسعدهم، وما ذلك إلا تحقيقا لقول عز من قائل :... "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" العنكبوت69."

زواج الأسير:
اختلف الفقهاء في حكم زواج الأسير في دار الحرب، فذهب الحنابلة في قول لهم إلى التحريم. قال ابن قدامة: ظاهر كلام أحمد أن الأسير المسلم لا يحل له التزوج ما دام أسيراً، لأنه منعه من وطء امرأته إذا أسرت معه مع صحة نكاحها. وسئل أحمد عن أسير اشتريت معه امرأته أيطؤها؟ فقال: كيف يطأها فلعل غيره منهم يطأها. قال الأثرم: قلت له: ولعلها تعلق بولد فيكون معهم، قال: وهذا أيضاً. وهذا قول الزهري فإنه قال: لا يحل للأسير أن يتزوج ما دام في أرض المشركين. لأن الأسير إذا ولد له ولد كان رقيقاً لهم، ولا يأمن أن يطأ امرأَتَه غيرُه منهم .
وأجاز الشافعية وطء الأسير لزوجته أو أمته المسلمة، إذا كانت قد أُسرت معه، وأيقن أن السابي لم يطأها، لأن مجرد الأسر لا يهدم نكاحنا . وهذا يعني أن زواج الأسير جائز عندهم.
وقال الحنفية والحنابلة في قول آخر: إن زواج الأسير مكروه، إلا إذا خشي على نفسه الوقوع في الزنا فيباح .
وقال المالكية: يجوز للأسير أن يتزوج وهو في الأسر، فهو مباح، لأنه لا يمكنه الخروج من دار الحرب .
وفي مثل هذه الأيام لا نرى ما يمنع الأسير من عقده للزواج على امرأة يختارها، وتأتيه للزيارة أيام زيارة الأهل، وتراسله ويراسلها، ونحو ذلك، لأن المحظورات التي ذكرها المحرمون لزواج الأسير منتفية هذه الأيام، لأن هذه الزوجة لا تعيش مع الكفار الآسرين، ولا يولد لها ولد منه، والرقيق انتهى وجوده عملياً، وهي في بيتها وتحت حماية أهلها أو أهل الأسير… فلا يوجد دليل نقلي أو عقلي يمنع هذا الزواج. فهي قضية اجتهادية، تخضع لظروف الزمان والمكان والأحوال. والله أعلم.
ولكن ننصح الأسير إذا كان حكمه طويلاً أن يتريّث قليلاً قبل الإقدام على هذا الزواج، ويستخير الله تعالى كثيراً، ويستشير الصادقين من أهله وأصحابه، حتى يتأكد أن في هذا الزواج مصلحة حقيقية، فإن الأسير تتحكم فيه العواطف كثيراً، خاصة في مثل هذه الأمور، وقد يقدم على شيء يندم عليه فيما بعد، كما أنه يصعب عليه وهو في سجنه التأكد من صلاحية هذه المرأة لأن تكون زوجة له كما لو كان حراً.

أحكام زوجة الأسير:
مر الحديث تفصيلاً عن حقوق الأسير فيما يتعلق بزوجته وأهله وأولاده، وواجب الأمة تجاههم في الفصل الأول (حقوق الأسرى)، ورأينا هناك واجب زوجة الأسير تجاه زوجها، وجواب الدكتور القرضاوي حفظه الله حين سئل عن حكم طلب المرأة الفلسطينية التي حكم على زوجها بالمؤبد أو أكثر للطلاق من زوجها الأسير؟
…. وغير ذلك من القضايا الهامة التي ذكرناها في هذا الشأن.
وفي هذا الفصل نستعرض أهم الأحكام الفقهية المتعلقة بزوجة الأسير، كما تعرضها النصوص الشرعية، وكما فصلها فقهاؤنا الكرام، والتي يسأل عنها العديد من الأسرى، خاصة المتزوجون منهم:
خلوة الأسير بزوجته:
هناك مسألة إمكانية الخلوة بالزوجة داخل السجن، إذا سمحت مصلحة السجون بذلك . وهي من المسائل المعضلة في هذا الشأن. ولكننا بالخبرة العملية في سجون الاحتلال وبعد دراسة ونقاش طويل بين قيادة الأسرى، رأينا أنه ليس من المصلحة الموافقة على هذه الخلوة أو المطالبة بها، بسبب إمكانية استغلال أجهزة المخابرات لهذه الحالات في أساليبها الشيطانية للإسقاط الأمني والأخلاقي، بأساليب ووسائل عديدة، وإمكانية وضع كاميرات خفية لتصوير الزوجين وهما في هذه الخلوة. لكن إذا تغيرت الأحوال داخل السجون، ووجد الأمان وأخذ الاحتياط اللازم، فعندها لكل حادثة حديث.
وسبق الحديث عن إباحة جمهور الفقهاء للأسير المسلم وطء زوجته المسبية معه في دار الحرب، إذا تيقن أنها سلمت من وطء سابيها الحربي. وعللوا ذلك بقولهم: إن سبي المسلمة لا يهدم نكاحها من زوجها المسلم. خلافاً لرأي الحنفية…
وقال بعض الفقهاء: لو احتاج السجين إلى الجماع ندخل عليه امرأته أو جاريته حتى يجامعها، لكن في موضع لا يطلع عليه أحد. فإن لم يجد مكاناً خالياً فلا يجامع. وعن أبي حنيفة أنه منع ذلك مطلقاً . والمقصود هنا السجناء الجنائيون كما هو ظاهر.
أما بالنسبة للأسرى السياسيين في هذه الأيام فيعتبر هذا كلاماً افتراضياً، وغير واقعي، حيث لم يكن في السابق أجهزة دقيقة للمراقبة والتصوير في السجون، مع وجود النوايا الخبيثة لدى الآسرين المحتلين، ومحاولاتهم الدؤوبة للإسقاط الأمني والأخلاقي. وكانت ظروف الأسر في تلك الأيام مختلفة، حيث كان الأسرى قديماً يسترقون ويوزعون على الجنود المحاربين، ويعيشون معهم في بيوتهم، وليس في سجون محكمة الإغلاق، كما هو الشأن اليوم.
التفريق بين الأسير وزوجته:
لم يجز جمهور الفقهاء غير المالكية التفريق بين الزوجين بسبب حبس الزوج أو أسره واعتقاله، لعدم وجود دليل شرعي بذلك. ولا تعد غَيْبَة السجين ونحوه عند الحنابلة غيبة بعذر. وأجاز المالكية طلب التفريق لغيبة الزوج مدة سنة فأكثر، سواء كان لعذر أو بدون عذر. فإذا كانت مدة الحبس سنة فأكثر جاز لزوجته طلب التفريق، ويفرق القاضي بينهما، بدون الكتابة إلى الزوج أو إنظار. وتكون الفرقة طلاقاً بائناً. وقد نص القانون المصري لسنة 1929 (مادة14) على حق المرأة طلب التفريق بعد مضي سنة من حبس زوجها الذي صدر في حقه عقوبة حبس مدة ثلاث سنوات فأكثر، والطلاق بائن . وفي القانون السوري المادة 109: إذا غاب الزوج بلا عذر مقبول، أو حكم بعقوبة السجن أكثر من ثلاث سنوات، جاز لزوجته بعد سنة من الغياب أو السجن أن تطلب إلى القاضي التفريق، ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه .
وفي التفاصيل: ادعى ابن المنذر وابن قدامة الإجماع على أن زوجة الأسير لا يجوز أن تتزوج حتى تعلم يقين وفاته ما دام على الإسلام .
وقال ابن تيمية: لامرأة الأسير طلب فسخ النكاح كما لامرأة المفقود، وفي تقدير مدة انتظارها حتى يحكم بوفاته اختلاف بين الفقهاء .
قال الزهري في الأسير يعلم مكانه: لا تتزوج امرأته، ولا يقسم ماله، فإذا انقطع خبره فسُنَّتُه سُنَّةُ المفقود. وقال الإمام مالك وابن المسيب: إذا فُقِدَ في الصف عند القتال تتربص امرأته سنة، وإذا فقد في غير الصف فأربع سنين .
وروى سعيد بن منصور بسند صحيح عن ابن عمر وابن عباس قالا: “تنتظر امرأة المفقود أربع سنين”. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في امرأة المفقود: “تتربص أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر وعشرا” رواه مالك والشافعي . وهو قول عثمان وابن مسعود وقول أحمد وإسحاق والشافعي في أحد قوليه والنخعي وعطاء والزهري ومكحول والشعبي. واتفق أكثرهم على أن التأجيل من يوم ترفع أمرها للحاكم، وعلى أنها تعتد عدة الوفاة بعد مضي الأربع سنين .
وورد في ذلك قصة عجيبة حدثت زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “أن امرأة فقدت زوجها، فمكثت أربع سنين، ثم ذكرت أمرها لعمر رضي الله عنه، فأمرها أن تتربص أربع سنين من حين رفعت أمرها إليه، فإن جاء زوجها وإلا تزوجت. فتزوجت بعد أن قضت السنوات الأربع، ولم تسمع له بذكر. ثم جاء زوجها، فأُخبر الخبر، فأتى عمر، فقال له عمر: إن شئت رددنا لك امرأتك، وإن شئت زوجناك غيرها؟ فقال: بل زوجني غيرها”. وفي رواية سعيد بن منصور: “فخيره عمر بين امرأته وبين الصداق، فاختار امرأته، ففرق بينهما وردها إليه”. وفي رواية البيهقي: “فقال له عمر: ما شأنك؟ قال: إني خرجت لصلاة العشاء فسبتني الجن، فلبثت فيهم زماناً طويلاً، فغزاهم جن مسلمون، فقاتلوهم وظهروا عليهم، فسبوا منهم سبايا، فسبوني فيما سبوا منهم، فقالوا: نراك رجلاً مسلماً لا يحل لنا سباؤك، فخيَّروني بين المقام وبين القفول، فاخترت القفول إلى أهلي، فأقبلوا معي، فأما الليل فلا يحدثوني، وأما النهار فإعصار ريح أتبعها، فقال له عمر فما كان طعامك فيهم؟ قال: الفول وما لا يذكر اسم الله عليه، قال: فما كان شرابك؟ قال: الجدف”. قال قتادة: والجدف: ما لا يخمر من الشراب. رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور والبيهقي وابن حزم .
لكن ذهب أبو يوسف وأبو حنيفة في رواية عنه والشافعي في قول آخر إلى أن الزوجة لا تخرج عن الزوجية حتى يصح لها موته أو طلاقه أو رِدَّتُه، ولا بد من تيقن ذلك. قالوا: لأن عقدها ثابت بيقين فلا يرتفع إلا بيقين . قال الشافعي: إذا أُسِر المسلم فكان في دار الحرب فلا تنكح امرأته إلا بعد يقين وفاته، عُرف مكانه أو خفي مكانه…. وكذلك لا يقسم ميراثه . ورجح ذلك ابن حزم الظاهري، وقال: امرأة المفقود امرأته وإن طال الزمن… فهي امرأته حتى يصح موته أو تموت هي .
واستدلوا بحديث المغيرة بن شعبة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها البيان” أخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف . وضعفه أبو حاتم وابن القطان والبيهقي وغيرهم. وفيه محمد بن شراحيل متروك الحديث . وكذلك قول علي رضي الله عنه: “امرأة المفقود امرأة ابتليت، فلتصبر حتى يأتيها يقين موته” رواه البيهقي وعبد الرزاق .
والإمام يحيى من الزيدية قال: لا وجه للتربص، إن ترك لها الغائب ما يقوم بها فهو كالحاضر…وإلا فسخها الحاكم عند مطالبتها من دون المفقود، لقوله تعالى: “وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً” البقرة 231. والحديث: “لا ضرر ولا ضرار”. كما أن الحاكم وضع لرفع المضارة في الإيلاء والظهار، وهذا أبلغ، والفسخ مشروع بالعيب ونحوه. قال الصنعاني: وهذا أحسن الأقوال .
لكن يبدو أن رأي المالكية وما أخذ به القانون المصري والسوري من تربصها سنة واحدة، ثم إباحة طلبها الطلاق من زوجها أقرب إلى يسر الشريعة ومقاصدها، خاصة في هذه الأيام التي كثرت فيها الفتن، فرأي عمر رضي الله عنه اجتهاد منه، واجتهاد الصحابة ليس بحجة ملزمة كما هو معلوم. ولم يرد في القرآن أو السنة الصحيحة ما يؤكد أحد الآراء. فهي قضية اجتهادية، حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية قال: هذه المسألة من أشكل ما أشكل على الفقهاء من أحكام الخلفاء الراشدين .
ويمكن الاستدلال على ذلك أيضاً بما ذهب إليه الإمام أحمد من أن المسافر إذا لم يرجع إلى امرأته ولم يكن له عذر في عدم العودة، فإنه يتربص ستة أشهر، ويُكْتَبُ إليه، فإن أبى أن يرجع فرق الحاكم بينهما .
ويمكن أن يستدل على ذلك أيضاً بحديث أبي حفص بإسناده عن زيد بن أسلم قال: بينا عمر بن الخطاب يحرس المدينة فمر بامرأة في بيتها وهي تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه وطال عليَّ أن لا خليل ألاعبه
ووالله لولا خشية الله وحده لحُرِّك من هذا السرير جوانبه
فسأل عنها عمر فقيل له: هذه فلانة زوجها غائب في سبيل الله، فأرسل إليها امرأة تكون معها، وبعث إلى زوجها فأقفله، ثم دخل على حفصة فقال: يا بنية كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: سبحان الله مثلك يسأل مثلي عن هذا؟ فقال: لولا أني أريد النظر للمسلمين ما سألتك. قالت: خمسة أشهر أو ستة، فوقت للناس في مغازيهم ستة أشهر، يسيرون شهراً ويقيمون أربعة ويسيرون شهراً راجعين” رواه البيهقي وسعيد بن منصور .
ونذكِّر هنا بأن الأسير في الحروب الحديثة يخضع للقوانين الدولية، التي ألزمت الدولة الآسرة بتوثيق أسماء الأسرى لديها فور أسرهم، ومعرفة المعلومات التفصيلية عنهم، وعن أماكن احتجازهم….. وغير ذلك وأن تقوم بتبليغ عائلاتهم عن هذه المعلومات بالسرعة القصوى . لذلك فالأسير اليوم لا يعتبر مفقوداً بالمفهوم الذي كان سائداً في السابق، لسهولة الوصول إلى معلومات وافية عنه وهو في أسره، والتعامل معه وفق هذا الحال. لذلك ينبغي تطوير الأحكام الفقهية المتعلقة بهذا الموضوع حسب هذه التطورات الواقعية، بما يتلاءم مع مصالح المسلمين المعتبرة، ما دامت هذه الأحكام لا تتعارض مع محكمات الشريعة وثوابتها.
ثم إن زوجة الأسير إن صبرت على فراق زوجها طوال هذه السنين، واختارت البقاء على ذمته بإرادتها، فهذا حق لها، وهي مأجورة على ذلك. وصبرها وانتظارها لزوجها بإرادتها يعطيها قوة على التغلب على آلام الفراق والبعد عن الزوج. أما إن لم تصبر، وأرادت الفراق من زوجها، ثم ألزمناها البقاء على ذمته طوال هذه السنين، فهذا فيه حرج شديد لها، وقد يعرضها للفتنة، ويمكن أن يحدث ما لا يحمد عقباه. رغم أن الخبرة العملية التي رأيناها عند معظم زوجات الأسرى، حتى المحكومين بالمؤبد منهم، أنهن يفضلن البقاء على ذمة أزواجهن، والصبر على ذلك حتى يأذن الله لهم ولهن بالفرج.

نفقة زوجة الأسير:
لا خلاف على أن نفقة زوجة الأسير تجب على زوجها ما دامت في ذمته. لأن هذا هو الأصل، فعقد الزواج لا زال قائماً بينهما، ووجوب النفقة للزوجة من مقتضيات هذا العقد باتفاق العلماء، لقوله تعالى: “وعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ” البقرة 233. وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “…. فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فُرُشَكُم أحداً تكرهونه…. ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف” رواه مسلم . قال النووي:فيه نفقة الزوجة وكسوتها، وذلك ثابت بالإجماع…. والأدلة على ذلك كثيرة.
وامرأة المفقود (ومثل ذلك امرأة الأسير كما رأينا) إن اختارت المقام والصبر حتى يتبين أمره فلها النفقة ما دام حياً، وينفق عليها من ماله حتى يتبين أمره، لأنها محكوم لها بالزوجية، فتجب لها النفقة كما لو علمت حياته .

أما إذا أعسر الزوج عن نفقة امرأته، واختارت فراقه، فُرِّق بينهما. هذا مذهب الجمهور، وهو مذهب عمر وعلي وأبي هريرة والحسن البصري وسعيد بن المسيب ومالك وأحمد والشافعي… وغيرهم . واستدلوا بحديث أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “خير الصدقة ما كان منها عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، فقيل: من أعول يا رسول الله؟ قال: امرأتك ممن تعول، تقول أطعمني وإلا فارقني….” رواه أحمد والبيهقي والدارقطني . بإسناد صحيح. وأخرجه الشيخان في الصحيحين من طريق آخر، وجعلوا الزيادة المفسرة فيه من قول أبي هريرة .
وقال الحنفية: يلزم المرأة الصبر وتتعلق النفقة بذمة الزوج، وهو مذهب عطاء والزهري والثوري وأحد قولي الشافعي. وذهب ابن حزم إلى أنه يجب على المرأة الموسرة الإنفاق على زوجها المعسر، ولا ترجع إليه إذا أيسر. وذهب ابن القيم إلى التفصيل وهو: أنها إذا تزوجت به عالمة بإعساره، أو كان حال الزوج موسراً ثم أعسر، فلا فسخ لها. وإن كان هو الذي غَرَّها عند الزواج بأنه موسر، ثم تبين لها إعساره، كان لها الفسخ .
أما إذا حَبَسَت المرأة زوجَها بحق لها عليه، لم تسقط واجباته لها كالنفقة والسكنى وغير ذلك . لكن إذا كان معسراً فحبسته فهي ظالمة له، مانعة له من التمكن منها، فلا تستحق النفقة مدة حبسه .
واتفق الفقهاء الأربعة (المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية) على أن الزوجة إذا حُبِسَت سقطت نفقتها، لأن فوات حق الاحتباس للزوج كان بسبب منها. أما إذا حُبِست ظلماً أو خُطِفَت بواسطة رجل، فتسقط نفقتها أيضاً عند الحنفية والحنابلة، لفوات حق الاحتباس بسبب لا دخل للزوج فيه. وقال المالكية: لا تسقط نفقتها بالحبس ظلماً، لأن فوات حق الاحتباس ليس من جهتها، ولا دخل لها فيه .
وهنا نذكر أن جمهور الفقهاء قالوا: إن أسر المرأة المسلمة على يد الأعداء لا يقطع نكاحها من زوجها، وهي تبقى على زواجها الأول إن عادت إلى دار الإسلام، وتعود إلى زوجها فور الإفراج عنها .
قال الشوكاني: وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم بأن النساء عوان في يد الأزواج، أي حكمهن حكم الأسراء، لأن العاني هو الأسير، والأسير لا يملك لنفسه خلاصاً من دون رضا الذي هو في أسره، فهكذا النساء… ويؤيد ذلك حديث: ” الطلاق لمن أمسك بالساق” . فليس للزوجة تخليص نفسها من تحت زوجها، إلا إذا دل الدليل على جواز ذلك، كما في الإعسار عن النفقة، ووجود العيب المسوغ للفسخ، وكذلك إذا كانت المرأة تكره زوجها كراهة شديدة…

تزويج ابنة الأسير:
اختلف العلماء في الأب يغيب عن ابنته بسبب الأسر، أو بسبب جهل موضعه، أو غاب عنها غيبة طويلة: فقال المالكية: إنها إذا كانت في صون وتحت نفقة، أنها لا تزوج إن لم تدع إلى الزواج، وأنها تزوج إن دعيت. أما إن علم مكانه، وكان بعيداً فقال مالك: تزوج. وقال عبد الملك وابن وهب: لا تزوج. وأما إن عدمت النفقة أو كانت في غير صون فإنها تزوج وإن لم تدع إلى ذلك. ولم يختلف الفقهاء في أنها لا تزوج في الغيبة القريبة المعلومة المكان، لإمكان مخاطبته، إلا إذا زوجها السلطان لمصلحتها…
واليوم يستطيع الوالد الأسير أن يوكل من يقوم مقامه في تزويج ابنته، إذا كان هناك تواصل بينه وبين أهله، من خلال زيارات الأهل أو عن طريق الصليب الأحمر أو غير ذلك. وهنا ننصح الآباء الأسرى أن لا يحرموا بناتهم من الزواج من الكفء، وأن لا يؤخروا هذا الزواج، بحجة انتظار الإفراج عنه لحضور حفلة زفاف ابنته، خاصة إذا كان حكمه عالياً. فقد مرَّ علينا حوادث كثيرة تأخر فيها زواج بنات الأسرى كثيراً، وتضررن بسبب ذلك، دون مبرر حقيقي لهذا التأخير…

المبحث الرابع
أحكام فقهية عامة تهم الأسير
وهذه بعض الأحكام الفقهية الهامة التي يحتاجها الأسرى في السجون، ويدور حولها نقاش طويل بينهم، ولا يجدون أحياناً جواباً شافياً عنها، نأمل أن تعم بها الفائدة، وأن تحل العديد من الإشكالات التي تعترض الأسرى داخل السجون:

  1. حكم االاستئسار (الاستسلام للعدو):
    يجوز عند الضرورة للمسلم أن يستسلم للعدو، إذا لم يستطع المدافعة ولا أمكنه الهرب، ورأى أن ذلك فيه مصلحة حقيقية، سواء مصلحة عامة أو مصلحة خاصة. وقد ورد في ذلك الحديث الصحيح المعروف الذي رواه البخاري في قصة عاصم بن ثابت الأنصاري وخبيب بن عدي وابن دَثِنَّة وإخوانهم، حين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، واستشهد عاصم وسبعة منهم لأنهم رفضوا تسليم أنفسهم، واستسلم خبيب وابن دثنة، ثم سُلِّموا لقريش، ومكثوا عندهم أسرى، ثم قُتِلوا صبراً . وقال خبيب قصيدته المشهورة:
    ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي شق كان لله مصرعي
    وترجم له البخاري بقوله: (باب هل يستأسر الرجل؟ ومن لم يستأسر…) ووجه الاستدلال بذلك: أنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر ما وقع منهم من الدخول تحت أسر الكفار، ولا أنكر ما فعل السبعة المقتولين من الإصرار على الامتناع من الأسر، ولو كان ما وقع من إحدى الطائفتين غير جائز لأخبر صلى الله عليه وسلم أصحابه بعدم جوازه وأنكره، فدل ترك الإنكار على أنه يجوز لمن لا طاقة له بعدوه أن يمتنع من الأسر، وأن يستأسر، وهذا رأي جماهير الفقهاء، ونقل الإجماع على ذلك .
    قال ابن حجر: وفي الحديث أن للأسير أن يمتنع من قبول الأمان، ولا يمكِّن نفسه ولو قُتِل، أنفة من أن يجري عليه حكم كافر، وهذا إذا أراد الأخذ بالشدة، فإن أراد الأخذ بالرخصة فله أن يستأسر، قال الحسن البصري: لا بأس في ذلك. وقال سفيان الثوري: أكره ذلك .
    وهنا لا بد من التذكير أن هذا الحكم هو في الأحوال العادية، التي تستوي فيها المصلحة في الاستسلام أو الأخذ بالعزيمة. أما إذا كانت المصلحة في عدم الاستسلام، كأن يكون هذا المسلم حاملاً أسراراً خطيرة لإخوانه يخشى أن تقع في يد العدو إذا استسلم، فيؤدي ذلك لاستشهادهم، أو اعتقالهم، أو كشف خطط المسلمين وأسلحتهم، فهذا عليه أن يأخذ بالعزيمة ولا يستسلم، حتى وإن أدى ذلك لاستشهاده.
    وقد اشترط بعض الفقهاء أن لا يكون المستسلم إماماً أو عالماً، فهؤلاء لا يجوز لهم الاستسلام. لذلك يظهر أن الاستسلام قد يكون واجباً أو مباحاً أو ممنوعاً، وذلك يتوقف على مقدار الضرر أو المصلحة المترتبة عليه .
  2. عمل الأسير في السجن:
    تسمح إدارة السجن أحياناً لبعض الأسرى بالعمل داخل السجن، سواء كان في مرافق السجن، كالمطبخ، و المغسلة، وتنظيف الساحات، وخياطة ملابس الأسرى ونحو ذلك . أو العمل في صناعات وورش ذات طابع عسكري، تعدها خصيصاً لعمل الأسرى داخل السجن . ويعطون الأسرى مقابل ذلك أجراً زهيداً مقابل هذه الأعمال. فما حكم عمل الأسير في هذه الأعمال؟ وكذلك ما حكم قتال الأسير مع آسريه الكفار؟
    ونبادر بالقول إن العمل من النوع الأول (المغسلة والمطبخ والنظافة ونحوها) لا حرج فيه إن شاء الله، لما فيه من مصالح كثيرة للأسرى أنفسهم، وفيه تخفيف عنهم من الكثير من الهموم والأحزان، فكثير من الأسرى لا يحتمل الجلوس الدائم على البرش (السرير) داخل السجن، دون عمل ينفس فيه عن طاقاته الكامنة، وينسيه بعض همومه. وكذلك فيه تحسين لوضع الطعام والنظافة والخياطة ونحوها.
    فقد خبرنا هذه الأعمال إذا قام بها السجناء الجنائيون اليهود، فكانت سيئة جداً، من حيث نوع الطعام الذي يعدونه، وكميته، وكذلك غسيل الملابس إذا عملوه هم. فقد كانوا يسرقون أفضل الطعام المقدم للأسرى، ولا يبالون بطبخه بشكل جيد ولا بنظافته. وكذلك لا يؤمن أن يضع أحد الحاقدين منهم شيئاً في الطعام فيه ضرر على الأسرى… ونحو ذلك. كما أن هذا العمل لا ضرر فيه على الأسرى، وليس فيه نكاية بالعدو، ولا يبالون به…
    أما العمل من النوع الثاني (في الصناعات والورش ونحوها)، فهذا الذي ينبغي حظره ومنعه، لأن فيه مفاسد كثيرة، وهو يوفر على الأعداء الجهد والمال واليد العاملة التي هو بحاجة ماسة إليها. وقد انتبه الأسرى الفلسطينيون لهذه المفاسد في وقت مبكر، وعملوا على مواجهتها ومنعها، بعد أن كانوا يجبرون عليها رغماً عنهم.
    وقديماً ذكر الفقهاء أن المحبوس في الدَّيْن يمنع من العمل والتكسب على الرأي الراجح . فإذا كان هذا حال المحبوس في الدين في دار الإسلام، فكيف بحال الأسير المسلم في يد الأعداء في دار الكفر؟! فهذا أولى بالمنع وأجدر.

القتال معهم:
أما حكم قتال الأسرى مع الكفار الآسرين، فهنا ينبغي التفصيل. فالأصل عدم مشاركة الكفار في القتال معهم ضد الآخرين، فقد سئل الإمام مالك عن ذلك فقال: لا أرى أن يقاتلوا معهم ولو كان المقابل لذلك إطلاق سراحهم، ولا يحل لهم أن يسفكوا دماءهم على مثل ذلك… .
لكن ورد عن بعض الفقهاء أنه إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين وليس فيه ضرر أو محظور، فلا حرج في القتال معهم ضد كفار آخرين. جاء في كتاب السير الكبير لمحمد الشيباني: ولو أن أهل الحرب أرسلوا الأسراء خاصة أن يقاتلوا أهل حرب آخرين، وجعلوا الأمير من الأسراء، وجعلوا له أن يحكم بالإسلام، ويسلموا لهم الغنائم يخرجونها إلى دار الإسلام، فلا بأس بالقتال على هذا إذا خافوهم أو لم يخافوا، لأنهم يقاتلون وحكم الإسلام هو الظاهر عليهم، فيكون ذلك جهاداً منهم .
ويجوز كذلك القتال معهم عند الضرورة أو الإكراه، يقول الشيباني: وإذا قالوا لهم، أي للأسرى المسلمين: قاتلوا معنا عدونا من المشركين وإلا قتلناكم، فلا بأس بأن يقاتلوا دفعاً لهم بسبب الإكراه، وربما يجب ذلك كما في تناول الميتة وشرب الخمر…. ويجوز عند بعض الفقهاء القتال معهم إذا كان ذلك يدفع عنهم الأسر والضعف والهوان، قال الشيباني: ولو قالوا للأسراء: قاتلوا معنا عدونا من أهل الحرب آخرين، على أن نخلي سبيلكم إذا انقضت حربنا، فلو وقع في أنفسهم أنهم صادقون فلا بأس أن يقاتلوا معهم .
لكن لا يجوز القتال معهم ضد المسلمين، قال الشيباني: إلا أن هذه الضرورة لا تسترسل لتجيز قتال المسلمين، فإنهم إن قالوا لهم قاتلوا معنا المسلمين وإلا قتلناكم، لم يسعهم القتال… قال السرخسي معللاً: لأن ذلك حرام على المسلمين بعينه، فلا يجوز الإقدام عليه بسبب التهديد بالقتل. فليس السجن وطول اللبث فيه من جملة الضرورات. فإذا قال المشركون لأسرى المسلمين: أعينونا على المسلمين بقتال أو بتكثير سواد على أن نخلي سبيلكم، لم يحل لهم هذا…. فلا رخصة لهم في قتال المسلمين بحال، ولا في إلقاء الرعب في قلوبهم…
ولا شك أن هذا الموضوع يعتبر نظرياً في مثل ظروفنا في فلسطين، لأن كل الحروب التي يخوضها عدونا الصهيوني المجرم هي ضد المسلمين، والقتال معهم في ذلك كبيرة من الكبائر ، ولا نظن أن أحداً من المسلمين يخالف ذلك. وبالتالي فلا يجوز مساعدتهم في هذه الحروب العدوانية ولا بأي شكل من الأشكال.
كما أن عدونا لن يسمح للأسرى المسلمين المشاركة في أعماله العسكرية أو نشاطاته العدوانية، بل هو لا يأمن من هؤلاء الأسرى الذين قاتلوه وقاوموه حتى عاقبهم بالسجن أن يقاتلوا معه بصدق، ولو كان الثمن إطلاق سراحهم. والأسرى أنفسهم لا يقبل واحد منهم أن يشارك في مثل هذه الأنشطة، إلا إذا كان جاسوساً خائناً لدينه ووطنه.

  1. التعامل مع المنافقين والعملاء:
    تواجه الأسرى أحياناً مشكلة كبيرة تتعلق بطريقة التعامل مع العملاء المندسين في صفوفهم، والذين تغرسهم إدارة السجون أو أجهزة المخابرات بين هؤلاء الأسرى الأبطال، الذين ضحوا بحياتهم وشبابهم وحريتهم وراحتهم من أجل دينهم ووطنهم وأمتهم. وكذلك حول طريقة التعامل مع المشبوهين الذين تدور حولهم الشبهات ولكن لم تثبت عليهم العمالة والخيانة بشكل قطعي. ويشكل هؤلاء الجواسيس والمشبوهون معضلة كبيرة أمام الأسرى وقادتهم، والطريقة الصحيحة في التعامل معهم، وهل يجوز قتلهم داخل السجن أو خارجه أم لا؟
    وبداية نذكِّر أن هؤلاء العملاء أنواع، فليس كلهم في مرتبة واحدة: فبعضهم تم تجنيده في الخارج، وقام بأفعال إجرامية بحق المجاهدين، وتم اعتقالهم مع المجاهدين للتغطية على دورهم الخياني حتى لا يكشفوا للمجاهدين. وبعضهم تعرض للضغط الشديد أثناء التحقيق، وتم استغلال حالة الضعف لديهم، وتم إسقاطهم وتجنيدهم في الزنازين قبل دخولهم عند الأسرى في السجن، رغم جهادهم وتضحيتهم قبل أسرهم. وبين الفريقين أنواع وأشكال عديدة للخيانة والسقوط، لا داعي للدخول في تفاصيلها.
    وهنا نشير إلى الأهداف التي يرجوها الأعداء من غرس هؤلاء المنافقين والعملاء في صفوف الأسرى، وهي كثيرة: منها:
    1.التجسس على هؤلاء الأبطال، ومعرفة أخبارهم وأسرارهم.
    2.وتمرير سياسات إدارات السجون على الأسرى.
    3.واكتشاف محاولات الهرب من السجن ونحو ذلك.
    4.وبهدف استكمال إجراءات التحقيق معهم، ومعرفة الكثير من المعلومات التي يمكن أن يكون هؤلاء الأسرى قد أخفوها عن المحققين أثناء فترة التحقيق.
    5.ومعرفة من مِن هؤلاء الأسرى يمكن أن يعود إلى الجهاد والنضال بعد الإفراج عنه، حتى يتعاملوا معه بالطريقة المناسبة بعد الإفراج عنه.
    6.وبهدف الإسقاط الأمني والأخلاقي لبعض هؤلاء الأسرى، الذين ينظر إليهم شعبهم بكل الاحترام والتبجيل والتقدير، من أجل تشويه صورة النضال والجهاد عند عامة الناس، ومن أجل تجنيد من يسقط منهم في حبل الخيانة والعمالة….
    وغير ذلك من أهداف.
    أما الطريقة المثلى في التعامل مع هؤلاء المنافقين العملاء، فبعد الخبرة العملية والتجربة، رأينا أن طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المنافقين في المدينة هي أفضل طريقة وآمنها وأسلمها. وقد لخصها ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم (زاد المعاد في هدي خير العباد) بقوله: “وأما سيرته صلى الله عليه وسلم في المنافقين فإنه أُمر أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة، وأمره أن يُعرض عنهم ويغلظ عليهم، وأن يَبْلُغَ بالقول البليغ إلى نفوسهم” .
    والمطلوب بعد ذلك أخذ الحذر من هؤلاء الخونة، وبذل كل الجهود الممكنة لكشفهم ورد كيدهم إلى نحورهم ونحور أسيادهم، ومطلوب من باقي الأسرى الشرفاء أن يكون لهم حسٌّ أمني، بحيث يكتشفوا هؤلاء من خلال تصرفاتهم وأفعالهم وأقوالهم، كما قال تعالى عن المنافقين: “ولَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ” محمد30.
    ومطلوب من قيادة الأسرى الاهتمام بهؤلاء، وعمل اللجان الأمنية المختصة والواعية لمتابعة المشبوهين، وأخذ اللازم بخصوصهم، وفق ما تقتضيه المصلحة. قال ابن حجر: “الجاسوس إذا اطلع عليه بعض المسلمين فلا يكتم أمره بل يرفعه إلى الإمام ليرى فيه رأيه” . وقال النووي في حديث حاطب بن أبي بلتعة الآتي: “… وفيه هتك أستار الجواسيس بقراءة كتبهم سواء كان رجلاً أم امرأة” .
    لكن ينبغي أن يكون ذلك بطريقة هادئة وسرية، بحيث تؤدي إلى الوصول إلى النتيجة المطلوبة، دون حدوث الكثير من السلبيات، مثل ما يسمى ب(الهوس الأمني)، الذي عانت منه السجون كثيراً. فتتبع هؤلاء المشبوهين ينبغي أن يكون في غاية السرية، وضمن حدود ضيقة، تشمل الشخص المعني مع الأمير العام مثلاً، أو المسئول في التنظيم داخل السجن، وأن يعاقب كل من يحاول إثارة البلبلة في صفوف الأسرى، ونشر معلومات لا ينبغي نشرها.
    بمعنى أن الأجواء العامة للأسرى في السجن أو القسم ينبغي أن تكون بعيدة عن القيل والقال والإشاعات والهوس الأمني الناتجة عن ملاحقة هؤلاء المنافقين. وقد رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام يتعاملون مع المنافقين في المدينة المنورة بهذه الطريقة. وكان صلى الله عليه وسلم حريصاً على هذه الأجواء الهادئة، لذلك فإنه وضع أسماء المنافقين عند شخص واحد هو حذيفة بن اليمان رضي الله عنه المعروف بأمين سر الرسول، ولم يعرف بهم كبار الصحابة حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما هو معلوم، ويبدو أن السبب في ذلك هو المحافظة على الأجواء الإيجابية للمجتمع المسلم، بعيداً عن التوتر والبلبلة والإشاعات المغرضة، والقيل والقال، فيمضي المجتمع إلى تحقيق أهدافه الكبيرة، دون مبالاة بهؤلاء الخونة المجرمين، الذين لا يستحقون أن ينشغل بهم وبقذاراتهم المجتمع أو الأسرى، لأنهم تافهون حقيرون.
    وقد رأينا أعداءنا يبذلون كل جهدهم من أجل نشر هذه البلبلة في صفوف الأسرى وصفوف المجاهدين والمناضلين، بأساليب ووسائل شيطانية، وذلك ليشككوا المجاهدين والمناضلين بأنفسهم، ويثيروا الشبهات حول المجاهدين المخلصين الذين ضحوا بحريتهم وشبابهم وأنفسهم في سبيل الله وفي سبيل الوطن. مما يصعب حصره في مثل هذا البحث، مما يحتاج إلى دراسة خاصة ومنفصلة ستكون في غاية الأهمية.

قتل الجاسوس:
وقد اختلف الفقهاء في حكم الجاسوس: هل يكفر بذلك؟ وهل يجوز قتله أم لا؟
والراجح أنه لا يكفر بذلك، إذا كان فعلُهُ لغرض دنيوي، واعتقاده سليماً، كما في حديث حاطب بن أبي بلتعة الآتي، الذي نزل فيه قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ” الممتحنة 1. فسماه مؤمناً رغم فعله. وكذلك قصة أبي لبابة بن المنذر الذي أخبر بني قريظة بما سيفعله بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل فيه قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ” الأنفال2. فسماه الله تعال أيضاً مؤمناً رغم فعله. مع الاتفاق على كون ذلك كبيرة من الكبائر. واتفقوا على أنه يجوز قتل الجاسوس الحربي. وأما المعاهد أو الذمي؟ فقال مالك والأوزاعي: ينتقض عهده بذلك، ويجوز قتله. وعند الشافعية خلاف. والحنفية قالوا: لا ينتقض عهده بذلك . وسيأتي الترجيح في هذه المسألة قريباً.
أما الجاسوس المسلم فقال الشافعية والحنفية وأحمد: يعزر ولا يجوز قتله. وقال المالكية وابن عقيل من أصحاب أحمد وغيرهم: يُقْتَل إلا أن يتوب، وقال بعضهم: يقتل وإن تاب. فقد قال مالك وابن القاسم وأشهب: يجتهد فيه الإمام حسب ما يراه من المصلحة، فإن رأى قتله جاز. وقال ابن الماجشون: إذا كانت عادته تلك قُتل (أي إن تكرر منه ذلك)، لإضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد في الأرض… . ورجح ابن القيم والقرطبي رأي المالكية.
واستدل القائلون بجواز قتله بحديث سلمة بن الأكوع قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم عينٌ وهو في سفر، فجلس عند بعض أصحابه يتحدث، ثم انسل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اطلبوه فاقتلوه، فسبقتهم إليه فقتلته، فنَفَّلَني سَلَبَه” رواه البخاري . وترجم له النسائي بقوله: (باب قتل عين المشركين). وبينت الروايات للحديث الباعث على قتله، وأنه اطلع على عورة المسلمين، وبادر ليعلم أصحابه فيغتنمون غِرَّتَهم، وكان في قتله مصلحة للمسلمين .
واستدلوا أيضاً بقصة حاطب بن أبي بلتعة، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: “بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود، وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة، ومعها كتاب فخذوه منها….. فأتينا به فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم…. فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق؟ قال: إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم” رواه البخاري ومسلم .
قال الشوكاني: ظاهر ذلك أن العلة في ترك قتله كونه ممن شهد بدراً، ولولا ذلك لكان مستحقاً للقتل. ففيه متمسك لمن قال يقتل الجاسوس ولو كان من المسلمين . وفي الحديث دليل لمن قال إن الجاسوس المسلم لا يكفر بذلك.
وورد في ذلك أيضاً حديث فرات بن حيان “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتله، وكان عيناً لأبي سفيان، وكان حليفاً لرجل من الأنصار، فمرَّ بحلقة من الأنصار فقال: إني مسلم، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله إنه يقول إني مسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن منكم رجالاً نكلهم إلى إيمانهم، منهم فرات بن حيان” رواه أحمد وأبو داود والحاكم . وصححه الحاكم على شرط الشيخين. وهو يدل على أن الجاسوس المسلم لا يُقْتَل لمجرد كونه جاسوساً، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتله حين عرف أنه مسلم، رغم أنه كان عيناً لأبي سفيان.
وذهبت الهادوية من الزيدية إلى أن الجاسوس يُقْتَل إذا كان قد قَتَل أو حصل القتل بسببه، وكانت الحرب قائمة، وإذا اختل شيء من ذلك حبس فقط . وهذا قولٌ مهم، فمن ثبت عليه منهم القتل، أو المساعدة في القتل، فإنه يقتص منه بلا خلاف . وفي هذا رادع للجواسيس الذين يطلب منهم الأعداء قتل المجاهدين والمقاومين بأيديهم، أو المساعدة في قتلهم، فقد ثبت أنهم فعلوا ذلك مراراً خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية.
وقد قام الباحث (محمد الدغمي) بدراسة مستفيضة في هذا الموضوع في كتابه: (التجسس وأحكامه في الشريعة الإسلامية). وبعد دراسة لمختلف الآراء في كيفية التعامل مع الجاسوس المسلم، خلص إلى الرأي الراجح في المسألة فقال: إن التجسس جريمة من الجرائم … يعاقب بما قررته الشريعة الإسلامية من العقوبات التعزيرية، ويفوض تقدير هذه العقوبة إلى الإمام حسب ما يراه مناسباً في تحقيق المصلحة العامة، وقد يصل ذلك إلى القتل إذا لم يكن له تأويل معقول، أو عذر مقبول، بحيث قام بعمله خدمة للأعداء وموالاة الكفار، ليكون عبرة لغيره. وقد يتركه الإمام بالتوبة، أو يكتفي بتعزيره بالجلد أو السجن ونحوها، على حسب جرمه وحالته،لاعتبارات يراها الإمام ويقدرها سياسة…. .
وأما الجاسوس الذمي، فحكمه حكم الجاسوس المسلم، يقول الباحث الدغمي: التجسس جريمة من الجرائم، ولا علاقة بينه وبين أمان الذمي، فالذمي صار مواطناً في المجتمع المسلم وتسري عليه الأحكام كما تسري على المسلمين، ويعاقب بالعقوبة المقررة لجريمة التجسس، كما يعاقب بالعقوبات المقررة لغيره… فلا فرق بين عقوبة الجاسوس المسلم والجاسوس الذمي . والله أعلم
وهو رأي وجيه يجمع بين الأدلة، ويناسب زماننا، خاصة في بلادنا فلسطين، حيث يكثر الجواسيس وأعوان الجواسيس. والقول بقتلهم جميعاً فيه حرج ومشقة، وفيه الكثير من المفاسد التي خبرناها من خلال التجربة. خاصة وأن أعداءنا يستغلون ظروف ضحاياهم الإنسانية والشخصية، وفي كثير من الأحوال فإن هؤلاء الذين وافقوا على الارتباط مع الأعداء يتعرضون لضغوط كبيرة، لا يجدون أحياناً مخرجاً منها، إلا بالموافقة على مطلبهم. ولذلك ينبغي فتح باب التوبة لهؤلاء، ليعودوا إلى شعبهم وأمتهم، وينظفوا أنفسهم من وحل الخيانة الذي وضعوا أنفسهم فيه.
ولا يعني ذلك أننا نلتمس الأعذار لهؤلاء في جريمتهم بالارتباط مع الأعداء، أو أننا ندعو إلى مسامحتهم وترك عقابهم بالعقوبة التي يستحقون، ولكننا نريد التفصيل في هذه القضية الخطيرة، وأن نعاقب كل واحد منهم بالعقوبة المناسبة لجريمته. فالعميل الذي تسبب في قتل أحد المجاهدين أو مجموعة منهم مثلاً، لا يمكن أن تكون عقوبته كالذي وافق فقط على الارتباط تحت ظروف الضغط، ثم بذل جهده في مقاومة المطالب التي يطلبونها منه…. وهكذا.
والنتيجة أن هذه القضية من أعقد القضايا التي واجهت وتواجه الأسرى في سجون الأعداء، بل وتواجه شعبنا كله والمجاهدين والمناضلين خارج السجون، والتعامل معها يحتاج إلى حكمة وخبرة، ومعرفة بأصول الشريعة ومقاصدها، ومعرفة كذلك بواقع الحال، وحجم هذه الظاهرة، ومعالجتها بوسائل مكافئة يعرفها أهل الاختصاص…

  1. حكم الطعام الذي تقدمه إدارة السجون:
    دار خلاف بين الأسرى المسلمين السنة وإخوانهم أسرى حزب الله الشيعة حول موضوع اللحوم التي تقدمها إدارة السجون للأسرى، هل هي حلال أم حرام. فالشيعة حسب أصول مذهبهم يحرمون الذبائح التي يقدمها الكفار على اختلاف مللهم وأديانهم، والسُّنَّة يبيحونها إذا تولى ذبحها اليهود والنصارى من أهل الكتاب خاصة.
    وقد آثرنا بيان هذا الموضوع بشيء من التفصيل، كما تعرضه نصوص الكتاب والسنة، وأقوال الفقهاء قديماً وحديثاً، حتى لا يكون هناك حرج على الأسرى من تناول اللحوم المقدمة من إدارات السجون في وجبات الطعام، حتى ولو ذبحها اليهود أو النصارى:
    فقد أباحت الشريعة الإسلامية ذبائح أهل الكتاب حتى وإن ذكروا عليها تراتيلهم الدينية الخاصة. والذي حرمته الشريعة الإسلامية هو ذبائح الكفار من غير أهل الكتاب، والتي حرمت بسبب أن فيها معنى العبادة، كونها تذبح بأسماء آلهة تعبد من دون الله، أو لا يذكرون عليها اسم الله تعالى. أما أهل الكتاب فرغم كفرهم بالإسلام إلا أنهم أقرب الأديان إلى الإسلام، كونهم أصحاب رسالات سماوية وعندهم كتب دينية منزلة. وإن تعرضت للتحريف والتبديل.

ذبائح أهل الكتاب:
فقد أجمع أهل العلم من أهل السنة على إباحة ذبائح أهل الكتاب التي يعتقدون حلها في شريعتهم ولم تحرم على المسلمين (كلحم الخنزير والدم) ولا فرق في ذلك بين العدل والفاسق أو الحربي والذمي . لقوله تعالى: “وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ” المائدة: 5. قال ابن عباس: طعامهم ذبائحهم . وكذا قال ابن مسعود وإبراهيم ومجاهد وقتادة والحسن وجمهور المفسرين وغيرهم، من أن المقصود بطعامهم: ذبائحهم. قالوا: لأن غير الذبائح من أنواع الطعام مباحة للمؤمنين قبل أن تكون لأهل الكتاب وبعد أن تكون لهم، فلا وجه لتخصيصها بأهل الكتاب .
قال الشوكاني: وفي هذه الآية دليل على أن جميع طعام أهل الكتاب من غير فرق بين اللحم وغيره حلال للمسلمين، وإن كانوا لا يذكرون اسم الله عليه وتكون هذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى: “وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ” الأنعام:121.
وذكر ابن المنذر أن الفقهاء أجمعوا على أن ذبائح أهل الكتاب لنا حلال، إذا ذكروا اسم الله عليها. وأجمعوا على أن ذبائح أهل الحرب حلال (أي أهل الكتاب منهم). وأجمعوا على أن ذبيحة الصبي من أهل الكتاب مباحة . وقال الإمام أحمد: لا بأس بذبيحة المرأة والصبي من أهل الكتاب .
ومن الأحاديث الدالة على إباحة طعام أهل الكتاب وذبائحهم:

  • حديث عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: “إن قوماً يأتوننا بلحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا. فقال: سموا عليه وكلوه. قالت عائشة: وكانوا حديثي عهد بالكفر” رواه البخاري .
  • وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “إنما أحلت ذبائح اليهود والنصارى لأنهم آمنوا بالتوراة والإنجيل” رواه الحاكم والطبراني في الكبير والبيهقي . قال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
  • وقال ابن عمر رضي الله عنهما: “لا بأس بطعام أهل الكتاب” رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة . وإسناده صحيح. وبمثله قال ابن مسعود.
  • وقال ابن عباس: “كل من صيد أهل الكتاب ولا تأكل من صيد المجوسي” رواه البيهقي . وأباح جمهور الفقهاء ذبائح أهل الكتاب وإن تركوا التسمية على الذبيحة، قياساً على ترك المسلم . قال ابن رشد: لا أعلم فيه خلافاً .
    وأجاز كثير من الفقهاء ذبائحهم التي ذبحت لأعيادهم، أو ذبحوها باسم المسيح، ومن هؤلاء الفقهاء أبو الدرداء وعبادة بن الصامت وعطاء ومكحول والقاسم والشعبي والليث بن سعد وهو قول الحنابلة. قال مكحول: “كُلْهُ، قد علم الله ما يقولون وأحل ذبائحهم”. وقال القاسم بن مخيمرة: كُلْها، ولو سمعْتُهُ يقول على اسم جرجس لأكلتها. ولكن كره مالك وأبو حنيفة ومجاهد وطاووس وميمون الذبائح التي سموا عليها اسم المسيح. وحرمها الشافعي .
    ونقل ابن حجر بحثاً عن الحليمي قوله: إن أهل الكتاب إنما يذبحون لله تعالى، وهم في أصل دينهم لا يقصدون بعبادتهم إلا الله، فإذا كان قصدهم في الأصل ذلك اعتبرت ذبيحتهم، ولم يضر قول من قال منهم مثلاً: باسم المسيح، لأنه لا يريد بذلك إلا الله، وإن كان كفر بذلك الاعتقاد .
    وأباح جماهير الفقهاء ذبائح أهل الكتاب التي حرمت عليهم في شريعتهم كالإبل والنعام والبط، وكل ما ليس بمشقوق الأصابع، والشحوم الخالصة، وهي التي ذكرت في قوله تعالى: ” وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ” الأنعام: 146. وهذا قول الشافعية والحنفية وأحمد وابن وهب وابن العربي والقرطبي وابن نافع من المالكية وعامة العلماء، وكرهها الإمام مالك وأحمد في قول آخر له .
    ورد عليهم ابن حجر قائلاً: إنها مسكوت عنها في شرعنا فتبقى على أصل الإباحة، ثم إن التذكية لا تقع على بعض أجزاء المذبوح دون بعض. كما أن ابن عباس فسر طعامهم بذبائحهم، وإذا أبيحت ذبائحهم لم يحتج قصدهم أجزاء المذبوح، والآية تدل بعمومها على إباحة كل ذلك .
    ومما يدل على إباحة الشحوم حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: “كنا محاصرين قصر خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم، فنزوت لآخذه، فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه” زاد مسلم :” … فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم لي ” متفق عليه . قال ابن حجر : هذا الحديث فيه جواز أكل الشحم مما ذبحه أهل الكتاب ولو كانوا من أهل الحرب . وبمثله قال القرطبي .
    وكذلك الحديث بأن الرسول صلى الله عليه وسلم: “أجاب دعوة اليهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة” رواه أحمد . والإهالة: هي الشحوم، وسنخة: أي منتنة.كما رأينا.

رأي الشيعة:
لم يخالف في إباحة ذبائح أهل الكتاب أحد من الفقهاء إلا الشيعة، الذين حرموا ذبائحهم والزواج من نسائهم. واحتجوا بأن الذكاة لم تدركها، وبأنه إجماع أهل البيت، وبأن التسمية شرط في الحل، ولا يعلم أنهم يسمون، وبأن الآية مخصوصة بما سوى الذبائح. ويروون عن جعفر الصادق أنه قال: لا تقربوا ذبيحة اليهودي ولا النصراني. وسأله رجل عن الآية: “الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الْطَّيِّبَاتِ وَطَعَامُ الَّذيْنَ أُوْتُوا الْكِتَاْبَ حِلٌّ لَكُمْ “. فقال: كان أبي (محمد الباقر) يقول: إنما هو الحبوب وأشباهها .
قال ابن القيم: “وهذا القول مخالف للكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فلا يلتفت إليه”. ثم فنّد ابن القيم أدلّة الشيعة كلها بحجج قوية . ونعتقد أنه لا حاجة لإيراد كل هذه الردود على هذه الأدلة، لأن الأدلة التي وردت في إباحة هذه الذبائح كافية للرد عليهم، وخاصة الإجماع.
إلا أننا وجدنا في كتب الشيعة رواية عن جعفر الصادق رحمه الله: أنه سئل عن ذبائح أهل الكتاب؟ فقال: لا بأس إذا ذكروا اسم الله عز وجل . فكأن النهي عنده (حسب هذه الرواية) يتعلق فقط فيما إذا ذكروا على الذبيحة اسم موسى أو عيسى ونحو ذلك. أما إذا ذكروا اسم الله فلا بأس بها.
وقد رأينا تشدد إخواننا من شيعة حزب الله في تحريم ذبائح اليهود في سجون الاحتلال، فكانوا لا يأكلون أي نوع من أنواع اللحوم التي تقدمها إدارة السجن. واستطاعوا بعد جهود كبيرة ومتواصلة استبدال هذه اللحوم بالسمك الذي يعتقدون حله. ومكث بعضهم سنوات لا يأكلون اللحوم، حتى وافقت إدارة السجون على إعطائهم السمك بدل اللحوم. وجرى بيننا وبينهم نقاش طويل حول هذا الموضوع، لكنهم أصروا على موقفهم.

أخيراً ينبغي التذكير بأن طعام الكفار بشكل عام وبجميع أصنافه مباح للمسلمين، سواء كانوا من أهل الكتاب أو من غير أهل الكتاب،  والذي يمنع من ذلك (الذبائح واللحوم) فقط،  التي لا تباح إلا من أهل الكتاب. أما أنواع الطعام الأخرى – وما أكثرها خاصة في هذه الأيام – فلا حرج على المسلمين في أكلها وشرائها، سواء جاءت من أهل الكتاب أو من غيرهم. 
     قال القرطبي: ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة، كالطعام الذي لا محاولة فيه كالفاكهة والبُر جائز أكله، إذ لا يضر فيه تملك أحد .
والخلاصة: أنه لا حرج على الأسرى من تناول أصناف الطعام التي تأتي بها إدارة السجن، بأشكال وأنواع مختلفة، سواء كانت من اللحوم أو من غيرها. حتى الأصناف التي تأتي بها في المناسبات الدينية الخاصة. فالأصل فيها الإباحة، إلا إذا دل الدليل الواضح على تحريمه أو كراهته. والله أعلم.
  1. طرح السلام ورده على رجال الإدارة:
    وهذا أيضاً من المواضيع الحساسة التي ثار حولها الجدل داخل السجون، فقد جرت العادة أن يطرح ضباط السجن السلام على الأسرى خاصة وقت العدد، حين يدخل الشرطة إلى الغرف للعدد ثلاث مرات يومياً على الأقل. فما حكم رد السلام عليهم؟ وما حكم طرح السلام على رجال الإدارة ابتداءً عند الحاجة؟
    هذا أيضاً ما سنوضحه بالتفصيل، حسب نصوص القرآن والسنة وأقوال الفقهاء، حتى يكون الأسرى على بينة من أمرهم، ولا يكون عندهم الحرج من التزام حكم الله تعالى في هذا الموضوع الذي كثر حوله الخلاف بين الفقهاء:
    فقد أباح الإسلام ابتداء غير المسلمين بالتحية، وأمره برد التحية عليهم إذا بدؤوها هم. (والخلاف الذي حصل في هذا الباب يتعلق بابتدائهم بلفظ السلام فقط، كلفظ من ألفاظ التحية الخاصة بالمسلمين كما سنرى). ونبدأ أولاً بالحديث عن رد السلام عليهم ثم الحديث بتفصيل عن بدئهم بالسلام:

رد السلام عليهم:
اتفق العلماء على الرد على أهل الكتاب إذا سلموا على المسلمين . وينبغي الرد عليهم بمثل ما يسلمون به من الألفاظ على الأقل، لقوله تعالى:” وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا” النساء:86. واللفظ عام، دون بيان طبيعة دين من يؤدي هذه التحية.
وجاء في حديث أبي بردة أنه قال: “كتب رجل من المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب في أسفل الكتاب يُسلِّم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد عليه السلام” رواه عبد الرزاق واللفظ له وابن أبي شيبة ومسدد .
ويقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:”من سلم عليك من خلق الله اردد عليه وإن كان مجوسياً، فإن الله تعالى يقول: “وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا” لأهل الإسلام (أَوْ رُدُّوهَا) على أهل الشرك. “وفي رواية: “ردوا السلام على من كان يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً لقوله تعالى …” رواه البخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة وأبو يعلى قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح وصححه الألباني رحمه الله .
وكتب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إلى دهقان (وفي رواية رهبان) يسلم عليه في كتابه. فقيل له: أتسلم عليه وهو كافر؟ قال: “إنه كتب إليَّ يسلم علي فرددت عليه” رواه البخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة ومسدد . قال البوصيري: رواته ثقات . وقال الألباني: إسناده جيد .
ولم نجد دليلاً صحيحاً، من كتاب أو سنة، فيه تفريق في الرد على من يطرح السلام إذا كان مسلماً أو غير مسلم، والأدلة التي تفرق في ذلك يمكن حملها على سبب خاص ورد في سياق هذه الأحاديث، وهو ما كانت تقوله اليهود حين كانوا يسلمون على المسلمين بقولهم (السامُّ عليكم) بدل (السلام عليكم) .

  • فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” إن اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم:(السّامُّ عليكم) . فقل: وعليك” رواه البخاري ومسلم .
  • وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:”مرّ يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(السامّ عليكم)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وعليك) فقال رسول الله: أتدرون ما قال ؟ قال: السام عليك. قالوا: يا رسول الله ألا نقتله؟ قال: لا، إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم” زاد الترمذي:” فنزل قوله تعالى: (وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله)” متفق عليه .
  • وحديث عائشة رضي الله عنها قالت:”استأذن رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:(السامّ عليك) فقالت عائشة: بل عليكم السامّ واللعنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله. قالت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: قلت: عليكم” رواه البخاري ومسلم .
    ولأجل هذه الأدلة، قال النووي: اتفق العلماء على الرد على أهل الكتاب إذا سلموا. لكن لا يقال لهم: (وعليكم السلام) بل يقال: (عليك) أو (وعليكم). بإثبات الواو وحذفها، وأكثر الروايات بإثباتها .
    لكن قال ابن القيم: إن ذلك يكون إذا تحقق أن الذمي قال (السامّ عليكم)، أو شك فيما قال، فلو تحقق السامع أن الذمي قال له: (السلام عليك) لا شك فيه، فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له: (وعليكم السلام) فإن هذا من باب العدل، والله يأمر بالعدل والإحسان، وقد قال الله تعالى: “وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا” النساء: 86. فندب إلى الفضل وأوجب العدل. ولا ينافي هذا شيئاً من حديث الباب بوجه ما، فإنه صلى الله عليه وسلم، إنما أمر بالاقتصار على قول الراد: (وعليكم) بناء على السبب المذكور الذي كانوا يتعمدونه في تحيتهم. فإذا زال هذا السبب وقال الكتابي: (السلام عليكم ورحمة الله)، فالعدل في التحية يقتضي أن يرد عليه نظير سلامه . وهذا رأي بعض أصحاب الشافعي .
    وهذا كله يؤكد جواز رد السلام على رجالات إدارة السجن إذا طرحوا السلام علينا، وتأكدنا أنهم قالوا: (السلام عليكم). بل قد يكون الحكم فيها فوق الجواز (الندب أو الوجوب) بدليل الآية القرآنية الواضحة.

بدؤهم بالسلام:
نستطيع أن نقول قياساً على مشروعية الرد على غير المسلمين سلامهم؛ إنه يجوز بدؤهم بالسلام، خاصة إذا كان هناك سبب لطرح السلام عليهم كالجوار أو القرابة أو زمالة العمل أو لحاجة ونحو ذلك. وهذا رأي جماعة من الفقهاء منهم بعض الشافعية – حكاه الماوردي – وهو رأي ابن عباس وأبي أمامة وابن محيريز. وقال علقمة والنخعي وغيرهم: إنه يجوز ابتداؤهم به للضرورة والحاجة. وقال بعض أصحاب الشافعي: يكره ابتداؤهم بالسلام ولا يحرم . وقال الأوزاعي: “إن سلَّمْتَ فقد سلَّمَ الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون” .
ويمكن الاستدلال لهذا الجواز بعدة أدلة منها: عموم الأدلة الواردة في إفشاء السلام، وهي كثيرة ولا داعي لذكرها.

  • وبحديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله جعل السلام تحية لأمتنا وأماناً لأهل ذمتنا” رواه الطبراني في الكبير والأوسط . قال الهيثمي: فيه بكر بن سهل الدمياطي ضعفه النسائي وقال غيره: مقارب الحديث .
  • وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:”إن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف” رواه البخاري .
  • واستدل القرطبي على جواز بدء الكفار بالسلام بحديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما:”أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بمجلس، وفيه أخلاط من المسلمين واليهود، فسلم عليهم” متفق عليه .
  • بعض كتب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والرؤساء كانت تبدأ بلفظ السلام مثل رسالته إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام – وهو غير النجاشي الذي أسلم – بدأت بلفظ: (سَلْمٌ أنت) .
  • ومثل رسالته إلى أهل هجر جاء فيها: “بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد النبي إلى أهل هجر. سلم أنت …” .
    • وهذه الآثار ترد على قول ابن القيم رحمه الله: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكتب لكافر (سلام عليكم) أصلاً .
    • وعن علقمة :”أنه كان مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في سفر، فصحبه ناس من أهل الكتاب، فلما فارقوه قال: أين تذهبون؟ قالوا: هاهنا. فأتبعهم فسلم عليهم”. رواه عبد الرزاق وقال ابن حجر: أخرجه الطبري بسند صحيح .
  • وحديث أبي أمامة رضي الله عنه:” أنه كان لا يمر بمسلم ولا يهودي ولا نصراني إلا بدأه بالسلام” رواه ابن أبي شيبة والطبراني . قال ابن حجر: وأخرجه الطبري بإسناد جيد .
  • وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: “أنه كتب إلى ذمي فبدأ بالسلام. فقال له كريب: أتبدؤه بالسلام؟ فقال: إن الله هو السلام” رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة والخلال وابن حبان . قال البوصيري: رواته ثقات . وهناك بالإضافة إلى ذلك آيات قرآنية تفيد جواز ابتداء غير المسلمين بالسلام. منها قوله تعالى على لسان إبراهيم مخاطباً أباه الكافر:”… قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي …” مريم: 47. وحين استثنى الله تعالى اتخاذ إبراهيم أسوة حسنة استثنى الاستغفار لأبيه ولم يستثن السلام. كما قال الله تعالى: ” قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه … إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك” الممتحنة:5.
    قيل لابن عيينة: هل يجوز السلام على الكافر؟ قال: نعم. قال الله تعالى:” لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ” الممتحنة:8. وقال:”قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم” وقال إبراهيم لأبيه:”سلام عليك” . قال القرطبي: الأظهر من الآية ما قاله سفيان بن عيينة. إلا أن الجمهور قالوا: إن المراد بالسلام هنا هو المسالمة التي هي المتاركة لا التحية. وقال بعضهم: هي تحية مفارق، وأجازوا تحية الكافر بها .
  • وكذلك قوله تعالى: “وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً ” الفرقان: 63. قال البيضاوي: (سلاما) أي تسليما منكم ومتاركة لكم وسداداً من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإثم ، ولا ينافيه آية القتال لتنسخه، فإن المراد الإغضاء عن السفهاء وترك مقابلتهم في الكلام . وقال سيبويه: إن المراد السلامة لا التسليم، لأن المؤمنين لم يؤمروا بالسلام على الكفرة .
  • وقوله تعالى: “وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ” القصص: 55. قال مجاهد: كان ناس من أهل الكتاب أسلموا، فكان المشركون يؤذونهم، فكانوا يصفحون عنهم ويقولون: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين . لكن قال الطبري والبيضاوي: إن قوله هنا (سلام عليكم) : أي متاركة لكم وتوديعاً، ودعاء لهم بالسلامة عما هم فيه، أو أمنة لكم منا أن نسابكم أو تسمعوا منا ما لا تحبون .
    فهذه الآيات تشير إلى أن لفظ السلام يمكن أن يلقى على غير المسلم، سواء كان المقصود به السلامة والأمان والمتاركة، أو التحية، ولا نعتقد أن هناك فارقاً كبيراً بين المعنيين، لأن التحية بالسلام تعني فيما تعنيه السلامة والأمان وإزالة الاستيحاش على من تطرح عليه، سواء كان مسلماً أو غير مسلم. فهذه جملة من الأحاديث والآثار والآيات القرآنية التي تفيد إباحة إلقاء التحية على غير المسلمين وابتدائهم بها. وقد ذكرنا من أخذ بهذا الرأي، إلا أن الجمهور خالفوا ذلك، وفرقوا بين الابتداء والرد. واستدلوا بأدلة صحيحة منها:
  • حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه” رواه مسلم وأبو داود والترمذي وأحمد .
  • وحديث أبي عبد الرحمن الجهني، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إني راكب غداً إلى اليهود فلا تبدؤوهم بالسلام، فإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم” رواه ابن ماجة، واللفظ له، وأحمد، وأبو يعلى، وابن أبي شيبة . قال البوصيري: الجهيني مختلف في صحبته، وليس له سوى هذا الحديث عند ابن ماجة . لكن هذا الحديث نفسه له شاهد يقويه عن أبي بصرة الغفاري. رواه البخاري في الأدب المفرد والنسائي وأحمد .

فهذه الأدلة تفيد تحريم ابتداء اليهود والنصارى بالسلام. قال النووي: وهو قول عامة السلف وأكثر العلماء. ورجحه النووي والشوكاني .
إلا أن قول النووي أن هذا قول عامة السلف فيه نظر، فقد قال الطبري: روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب. وفعله ابن مسعود بدهقان صَحِبَه في الطريق، وكان أبو أمامة إذا انصرف إلى أهله لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه، فقيل له في ذلك فقال: أمرنا أن نفشي السلام. وروي عن الأوزاعي أنه قال: إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون . وقال الطبري:أن المقصود بحديث (لا تبدؤوهم بالسلام) إذا كان لغير سبب يدعوكم إلى أن تبدؤوهم بالسلام من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لكم قبلهم، أو حق الصحبة أو الجوار أو السفر .
وهذه الأدلة الناهية مع صحتها إلا أنه يمكن تأويلها بأنها خاصة بحال يهود المدينة الذين خانوا المسلمين في تلك اللحظة، وأمثالهم. وبالتالي نعتقد أنه لا داعي لهذا التشدد في هذه المسألة، والذي رأيناه عند بعض زملائنا الأسرى، ما دامت هذه الأدلة الواضحة من القرآن والسنة، وهذه الآثار عن السلف الصالح تبيح بدء الكفار بالسلام، خاصة إذا كان هناك حاجة لهذا السلام، كما هو شأن مندوبي الحوار مع إدارة السجن ونحوهم. وقد ذهب لهذا الرأي الدكتور القرضاوي حفظه الله، كما ورد في بعض حواراته في التلفاز.
وأخيراً فإن هذا الخلاف حول بدء غير المسلمين بالسلام إنما يتعلق بلفظ (السلام). فهل هذا ينطبق على ألفاظ التحية الأخرى ( مثل: مرحباً، وأهلاً وسهلاً، ، وعمت صباحاً … ونحو ذلك) ؟

نعتقد أنه لم يرد دليل ينهى عن هذه الألفاظ، وبالتالي يبقى الأصل فيها الإباحة المطلقة. لأن الأدلة السابقة كلها تتحدث عن لفظ (السلام)، ولم نجد دليلاً واحداً يتعلق بالألفاظ الأخرى . ولعل السبب في ذلك يعود إلى اختصاص لفظ السلام بالمسلمين، فهو تحية المسلمين في الدنيا والآخرة، كما ورد في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” إن الله تعالى أعطى أمتي ثلاثاً لم تعط أحداً قبلهم: السلام وهي تحية أهل الجنة، وصفوف الملائكة، وآمين إلا ما كان من موسى وهارون” رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول . وقال تعالى: “وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ” إبراهيم:32.
كما أنه ليس هناك مشكلة أو حرج عند غير المسلمين في استخدام هذه الألفاظ، فتستوي عندهم ألفاظ التحية، بعكس المسلمين الذين يعتقدون أن (السلام) جزء من تقاليدهم الدينية وثقافتهم الإسلامية، بل وجزء من عقيدتهم.

  1. المصافحة وتشميت العاطس:
    لم يرد دليل صحيح يمنع المسلم من مصافحة غير المسلم، وبالتالي يبقى الأصل إباحة هذه المصافحة، وعدم التفريق بين مصافحة المسلم ومصافحة غير المسلم.
    وقد ورد في ذلك حديثان ضعيفان لا يحتج بهما يمنعان المسلم من مصافحة غير المسلم. مثل حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “لا تصافحوا اليهود والنصارى” رواه الطبراني في الأوسط . قال الهيثمي في إسناده سفيان بن وكيع وهو ضعيف. وقال ابن حجر: كان صدوقاً إلا أنه ابتلي بورّاق فأدخل عليه ما ليس من حديثه .
  • وحديث جابر بن عبد الله قال:”نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصافح المشركون أو يكنوا أو يرحب بهم” رواه أبو نعيم . قال أبو نعيم: حديث غريب تفرد به بقية عن القشيري. ومحمد بن رافع القشيري لم يدرك أبا الزبير. فقد توفي القشيري سنة 245 هـ .وتوفي أبو الزبير سنة 126 هـ . كما أن هذا الحديث فيه النهي عن كنية المشرك. وهذا يعارض ما ذكره البخاري في صحيحه في باب (كنية المشرك)، وروى فيه حديثاً فيه جواز كنية المشرك كما يكنى المسلم . مما يؤكد ضعف هذا الحديث.
  • وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال:”من صافح يهودياً أو نصرانياً فليتوضأ وليغسل يده”. فهو حديث باطل ذكره ابن الجوزي في (الموضوعات الكبرى) . قال ابن الجوزي: في إسناده إبراهيم بن هانئ مجهول يحدث عن ابن جريج الأباطيل.

وقد كره بعض الفقهاء مصافحة اليهود والنصارى، قال الإمام أحمد: أكره مصافحة الذمي، وقال: فيه اختلاف، وقد سهل فيه قوم. وكذا قال الشيرازي وإبراهيم النخعي . ولا ندري على ماذا استند هؤلاء الفقهاء في كراهيتهم لهذه المصافحة، فالأدلة على ذلك كما هو واضح ضعيفة لا يحتج بها. وينبغي عدم التفريق في مثل هذه الأمور بين المسلم وغيره إلا ما أثبته الدليل الصحيح.
وأما تشميتهم إذا عطسوا: فمن السنة أن يشمت المسلم غير المسلم إذا عطس في حضرته قائلا: (يهديكم الله ويصلح بالكم) . وورد في ذلك حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال:”كانت اليهود تعاطس عند النبي، صلى الله عليه وسلم، رجاء أن يقول لهم: يرحمكم الله. فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم” رواه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وأحمد وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الألباني: صحيح رجاله ثقات . والله أعلم.
والنتيجة: أنه يجوز للأسير عند الضرورة أو الحاجة مصافحة رجالات الإدارة وغيرهم من الكفار، أو تبادل ألفاظ الاحترام المشروعة معهم. وهذا يرد على بعض المتشددين من الزملاء الأسرى الذين كانوا يتحرجون من هذه المصافحة، بحجة أن هؤلاء كفار أهل حرب، وهم آسرون لنا، ولا يستحقون هذا الاحترام، وأن المطلوب مجاهدتهم والغلظة عليهم. ويتسببون نتيجة لذلك بالحرج والمشقة لزملائهم، خاصة قيادة الأسرى التي تتفاوض بشكل دائم مع الإدارة، من أجل تسهيل حياة الأسرى وحل مشكلاتهم.

المبحث الخامس
تقرير مصير الأسرى غير المسلمين (إنهاء حالة الأسر)
ما ذكر سابقاً كان عن أحكام الأسرى المسلمين إذا وقعوا أسرى في أيدي أعدائهم، مثل الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الصهيوني وأمثالهم. واستكمالاً للفائدة نضع بين يدي القارئ الكريم حكم الأسرى الكفار إذا وقعوا في يد المسلمين، سواء بالخطف أو بالقتال أو غير ذلك. وكيفية التعامل معهم. وهي مسألة مهمة، ويدور حولها نقاش طويل بين المجاهدين، خاصة في فلسطين، وقد رأينا جهلاً بهذا الموضوع حتى عند بعض من يحمل العلم الشرعي.
وهي مفيدة أيضاً للأسرى المسلمين في سجون الأعداء، ليعرفوا كيف عالج الإسلام مشكلة الأسرى، وكيف تعامل مع هذه الظاهرة. وكذلك هي مفيدة للمهتمين بقضية الأسرى في كل مكان، خاصة المتخصصين بالقانون الدولي، والعلاقات الدولية. ويمكن الاستفادة منها في صياغة قانون دولي عادل لحل مشكلة الأسر بشكل عام.
وابتداءً لا بد من التذكير أنه ينبغي إنهاء حالة الأسر والاعتقال مباشرة بعد انتهاء حالة الحرب بين المسلمين وأعدائهم، وإيجاد الحلول المناسبة لهؤلاء الأسرى، خاصة إمكانية إيجاد عملية تبادل عزيزة للأسرى بين المسلمين وأعدائهم. لأنه ليس من العدل ولا من الرحمة إبقاء هؤلاء الأسرى خلف القضبان مدة طويلة، إلا في حالة الضرورة القصوى.
إن تقرير مصير الأسرى يعتبر معضلة كبيرة تواجه أية دولة في القديم والحديث، فماذا يُفعل بهؤلاء الأسرى المدربين والمؤهلين عسكرياً، هل يطلق سراحهم ويمن عليهم دون مقابل، ليعودوا إلى دولتهم المعادية من جديد، لينضموا إلى صفوف الجيش المحارب، ويشكلوا خطراً على أمن الدولة التي أسرته؟ أم هل يقتلونهم؟ فقتلهم يعتبر إزهاقاً للنفس وهي في حالة ضعف لا تملك من أمرها شيئاً، وذلك ظلم لها وإيذاء لأهليهم وعائلاتهم. أم ماذا يمكن أن يكون مصير مثل هؤلاء؟
لقد كان الأسرى قديماً –ولم يتغير الحال كثيراً الآن – يُقْتَلون شر قتلة، أو يُسْتَرَقُّون ليكونوا عبيداً يعملون بالسخرة طوال حياتهم، ويعاملون معاملة الدواب، كما رأينا ذلك تفصيلاً في الفصل الأول من هذا البحث. وقليلاً ما يتم إطلاق سراحهم بالمن أو مفاداتهم بأسرى أو بالمال، هذا هو مصير الأسرى قديماً وحديثاً.
وفي العصر الحاضر تدعي النظم الدولية أنها أنهت هذه المشكلة عن طريق احتجاز هؤلاء الأسرى في سجون محكمة الإغلاق، ووضعت لها القوانين لضمان معاملتهم معاملة حسنة، ومحاكمتهم محاكمة عادلة، واعتبرت ذلك بديلاً جيداً لاستعباد الأسرى واسترقاقهم كما كانت تفعل جميع الأمم قديماً حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي.
ولكننا سنرى (في موضوع استرقاق الأسرى) أن هذا ليس حلاً لمشكلة الأسرى، بل إن هذه السجون في ظل هذه القوانين الدولية زادت المشكلة تعقيداً، وتعرض الأسرى في ظل هذه القوانين لأشد الأوضاع قسوة وقهراً وتعذيباً وقتلاً، ولم يلتزم أحد بهذه القوانين كما شاهدنا وكما نشاهد في كثير من دول العالم . وبقيت قضية مصير الأسرى مشكلة مستعصية على الحل. وستبقى البشرية في حيرة بخصوص مصير أسرى الحرب حتى تهتدي إلى نور الإسلام وعدله ورحمته وسماحته، الذي عالج هذه القضية بأفضل الحلول الممكنة، كعادته في علاج المعضلات والمشكلات.
فقد أعطانا الإسلام مثالاً يمكن الاحتذاء به في علاج هذه المشكلة المستعصية، وجعل الأصل في هذه القضية (المن أو الفداء) لقوله تعالى: “فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا” محمد:4. ولم يخرج عن هذا الأصل إلا للضرورة مثل قتل بعض الأسرى بسبب جرائمهم الحربية. وأما استرقاقهم فقد كان ذلك قديماً من باب المعاملة بالمثل، فلما انتهى الرق من واقع الناس فقد انتهى من واقع المسلمين كما سنرى.
وينقسم هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب على النحو التالي:

  1. قتل الأسرى.
  2. استرقاقهم.
  3. المن والفداء.
  4. مفاداتهم بأسرى مسلمين.

أولاً: قتل الأسرى:
عند العودة إلى كتب الفقه نجد أن جمهور الفقهاء من (الشافعية والحنابلة والظاهرية والأوزاعي والشيعة الإمامية والزيدية وغيرهم) ذهبوا إلى أن الإمام مخيّر بخصوص الأسرى بين أربعة أشياء:
إما القتل أو الاسترقاق أو المن أو الفداء، حسب ما يراه من مصلحة المسلمين. (عدا النساء والأطفال فلا يجوز قتلهم باتفاق العلماء، سواء كانوا من أهل الكتاب أو الدهرية وعبدة الأوثان أو غيرهم، إلا إذا اشتركوا في القتال…) وذهب البعض (الحنفية والمالكية) إلى أنه يجوز للإمام أن يفرض على الأسرى الجزية ويمن عليهم ليكونوا كأهل الذمة في المجتمع الإسلامي .
واستدلوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قتل بعض الأسرى واسترق بعضهم ومنَّ على بعض وفادى آخرين (كما سيأتي بيانه تفصيلاً).
وقضية قتل بعض الأسرى اختلف فيها الفقهاء، فأجازه جماهير العلماء ومنهم الأئمة الأربعة .
واستدلوا بقوله تعالى: “فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ” التوبة:6. وما روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر ثلاثة من المشركين: النضر بن الحارث، ومطعم بن عدي، وعقبة بن أبي معيط . وقتل يوم أحد أبا عزة الشاعر بعد أن منّ عليه في بدر .
وقتل يوم الفتح ابن خطل. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه:” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة؟ فقال: اقتلوه” رواه البخاري .
وقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال بني قريظة وهم بين الستمائة والسبعمائة، بعد أن حكم فيهم سعد بن معاذ بذلك إثر غزوة الأحزاب وخيانتهم للمسلمين .
قالوا: وهذه قصص عمت واشتهرت، وهي تدل على جواز قتل هؤلاء الأسرى، إذا رأى الإمام أن في ذلك مصلحة للمسلمين.
(لكن ينبغي ملاحظة أن من قتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا قلة قياساً على من فاداهم الرسول صلى الله عليه وسلم أو منّ عليهم كما سنرى. كما أن من قتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم كان لأسباب خاصة يمكن فهمها من خلال متابعة تفاصيل كل حالة منها…
يقول الصنعاني: ابن خطل هو أحد جماعة تسعة أمر صلى الله عليه وسلم بقتلهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة، فأسلم منهم ستة وقتل ثلاثة منهم فقط منهم ابن خطل، الذي كان ادعى الإسلام، ولكنه خان المسلمين وارتد مشركاً، وقتل رجلاً من الصحابة، واتخذ قينتان تغنيانه بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم… قال الخطابي: قتله صلى الله عليه وسلم بحق ما جناه في الإسلام ).
وذهب الحسن وعطاء ومجاهد والضحاك والسدي والشعبي وابن سيرين (ويروى ذلك عن ابن عمر) إلى أنه لا يجوز قتل الأسرى، وإنما يمن عليهم أو يفادى بهم. وحكى الحسن بن محمد التميمي أنه إجماع الصحابة . واستدلوا بقوله تعالى: “فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء” محمد:4. فخير بين المن والفداء لا غير. وقالوا إن هذه الآية ناسخة لما ورد في قوله تعالى: “فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ” التوبة:6.
ويروى عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال: “لا يحل قتل الأسارى لأن الله تعالى قال: “فإما مناً بعد وإما فداء” رواه عبد الرزاق .
وكان عمر بن عبد العزيز يكره قتل الأسرى. فيروى عنه أنه لم يقتل من أسرى الكفار في عهده إلا واحداً فقط من أهل الخزر .
ويقول الدكتور حسن إبراهيم: لم يذكر لنا التاريخ أن إماماً من أئمة المسلمين أمر بقتل الأسرى .
وأفتى الإمام الأوزاعي بعدم جواز قتل الرهائن (السياسيين) حتى وإن خان قومهم العهود مع المسلمين ونقضوا المواثيق بقوله تعالى: “وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى” الأنعام164. وقد كان المعتاد بين الأمم قتل هؤلاء الرهائن .

والرهائن السياسيون هم أشخاص ذوو مكانة في قومهم يحتجزون لدى قوم آخرين ضماناً للوفاء بالعهود بين الفريقين.
أما الشيعة فقد فرّقوا بين من وقع في الأسر خلال الحرب، ومن أسر بعد انقضاء الحرب، وقالوا يتعين قتله إذا أسر خلال الحرب وقبل الإثخان، وإن أسروا بعد انقضاء الحرب لم يجز قتلهم. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ" الأنفال:67. وقوله تعالى: "حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء" محمد: 4.  
وقد بين كثير من العلماء المعاصرين أن الأصل في تقرير مصير الأسرى عدم القتل، وإنما المن أو الفداء. فقد حقق د. الزحيلي في كتابه القيم (آثار الحرب) : إن الأصل في الشرع الإسلامي عدم جواز قتل الأسرى إلا عند الضرورة، وأن الآية "فإمّا مناً بعدُ وَإمّا فِداءً" محكمة والتخيير فيها فقط بين المن على الأسرى دون مقابل، أو الفداء بالمال أو بأسرى المسلمين وأهل الذمة أو بغير ذلك … ولم تذكر الآية القتل لأن (إمّا) الواردة في الآية تفيد الحصر. فالعفو عن الأسرى هي القاعدة المطردة في الإسلام. 

وقال: إن هذا موافق لما قاله بعض العلماء والفقهاء منهم ابن عمر والحسن وعطاء والضحاك والسدي وقال الحسن بن محمد التميمي: إن هذا إجماع الصحابة … ولكن قتل الأسرى يباح للضرورة القصوى، كما قال الشافعي وأبو يوسف، خاصة عندما تكون الدولة ضعيفة وتريد فرض هيبتها على أعدائها، كما يحصل عند قيام أي دولة بطريق الثورة أو الغلبة، وكما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض الطغاة المجرمين من كفار قريش، وكفعله ببني قريظة لأنهم رضوا بتحكيم سعد بن معاذ بهم وهم من مواليه، وهؤلاء خانوا العهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم في أصعب الظروف …
وهذه الحالات نادرة، ولكل واحدة منها قصة تشبه ما يمكن أن نسميه اليوم بجرائم الحرب التي يعاقب عليها بالإعدام في معظم دول العالم… ويخلص بقوله: “إذن فقتل الأسرى أقرب إلى التحريم منه إلى الإباحة، وإن أبيح فهو دواء ناجع في حالات فردية خاصة وللضرورة القصوى، وليس ذلك علاجاً لحالات جمعية عامة” .
ويقول عبد الرحمن عزام: ليس في القرآن الكريم نص واحد على قتل الأسير ولا استرقاقه، بل فيه دعوة للعتق… والنص الصريح هو تخيير الإمام بين أمرين لا ثالث لهما: المن أو الفداء … فالتشريع العام إذاً هو أنه لا يجوز قتل المدنيين ولا قتل المحاربين بعد تسليمهم. وما شذ عن ذلك في الماضي، أو ما يشذ عنه في المستقبل من عمل الإمام المسلم العادل، إنما يكون لظروف وأسباب خاصة تقتضي تخصيصاً في الحكم … فليست العلة في قتل الكفار هو أنهم كفار أو مشركون، بل لأسباب أخرى … .
ويقول سيد قطب رحمه الله: إن الوارد في الآية هو المن أو الفداء، وذلك ينفي جواز القتل. وجواز القتل يؤخذ من عمل النبي صلى الله عليه وسلم. لكن تتبع الحالات التي وقع فيها القتل تؤكد أنها حالات خاصة، ولم يكن بسبب الأسر، وإنما بسبب أعمال أخرى قام بها هؤلاء الذين أمر بقتلهم … ثم ذكر هذه الحالات وملابساتها .
وقد قال الشاعر المسلم:
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكُّهم إذا أثقل الأعناقَ حملُ المغـــــــــــــارم
ومن الشهادات العادلة في ذلك ما قاله أحد اللوردات البريطانيين (أعلى هيئة برلمانية في بريطانيا) عام 1989م في إحدى مداولات مجلس العموم قال: “ومما يعرف عن الجيوش الإسلامية في مناهجها القتالية في مواجهتهم مع الجيوش المسيحية عدم التعرض للكنائس بسوء، وعدم القيام بقتل الشيوخ والنساء والأطفال، أو تدمير الممتلكات أو قتل الأسرى “.
لكن ينبغي التنبيه إلى أن ما نقل عن الحسن بن محمد التيمي بأن إجماع الصحابة على عدم جواز قتل الأسير يحتاج إلى نظر. فقد ورد أن الصحابة قتلوا عدداً من الأسرى أثناء الفتوحات الإسلامية، خاصة على يد خالد بن الوليد رضي الله عنه . ولكن ذلك لا يعارض ما ذكره عزام والزحيلي وقطب وغيرهم، لأن هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم أرادوا تثبيت هيبة الدولة الإسلامية الناشئة، وترك هؤلاء في مثل تلك الظروف يعني عودتهم للقتال في صفوف أعدائهم.
ثم إن هؤلاء الأسرى كانوا كثيري العدد، ومن الصعوبة بمكان استصحاب الجيش الإسلامي الفاتح لهم في تحركاتهم وتنقلاتهم بين بلاد الفرس والروم الشاسعة. فكانت الضرورة تحتم عليهم التخلص من هؤلاء الجنود المحاربين والمدربين والمؤهلين عسكرياً. فالصحابة الكرام كان أمامهم خياران لا ثالث لهما: إما المن على هؤلاء الأسرى ليعودوا حرباً عليهم يطعنوهم من الخلف، أو أن يقتلوهم معاملة بالمثل، كما كانوا هم يقتلون أسرى المسلمين حين يقعون في أيديهم بصورة وحشية. فكان قتلهم ضرورة لا بد منها في مثل تلك الظروف.
وهذا لا يعارض ما ذكر سابقاً من أن الأصل في هؤلاء الأسرى هو المن أو الفداء كأساس ينبغي الرجوع إليه عند استقرار الأمور وعودة الأوضاع إلى طبيعتها. مع ملاحظة أن المسلمين (على عكس عدوهم) لم يكونوا يقتلون إلا الرجال القادرين على حمل السلاح – كما رأينا – فلا يتعرضون للنساء والأطفال والشيوخ ورجال الدين والفلاحين والمقعدين ونحوهم بأي أذى مهما كانت الظروف.
والنتيجة الطبيعية لما سبق أنه لا مانع أمام الدولة الإسلامية من التوقيع على أي اتفاق دولي أو إقليمي يمنع فيه قتل الأسرى واسترقاقهم . بل سيكون المسلمون أول المبادرين لطرح مثل هذه المبادرة على دول العالم، لأنها تتفق مع توجهات ومقاصد دينهم القويم. وعندها سيكون المسلمون أحرص الناس على احترام هذه الاتفاقية الدولية وتفعيلها عملياً، فلا تكون مجرد حبر على ورق كما هو شأن هذه الاتفاقيات هذه الأيام.
تنبيه:
وهنا لا بد من التذكير بقضية هامة يغفل عنها الكثير من الناس، وهي ضرورة مراعاة اختلاف الظروف الزمانية والمكانية عند الحكم على الحوادث التاريخية. فمن الظلم الكبير أن نحكم على وقائع تاريخية حدثت قبل مئات السنين بنفس المعايير التي نحكم فيها على أحداث العصر الحاضر، بكل تعقيداته وعلاقاته الدولية والإقليمية… فالحكم على قتل الأسرى في العصور القديمة يختلف عن الحكم عليه في العصور الحاضرة. فقد كانت الأعراف الدولية في العصور القديمة والمتوسطة تبيح قتل هؤلاء الأسرى. يدل على ذلك ما فعلته قريش وقبائل عضل والقارة بأسرى المسلمين العشرة عند منطقة الرجيع (بين مكة والمدينة) – ومنهم خبيب بن عدي وعاصم بن ثابت وزيد بن الدثنة – وقتلهم صبراً … والقصة مشهورة رواها البخاري .
ويدل عليها أيضاً قول ثمامة بن أثال سيد اليمامة حين أسره الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: ما عندك يا ثمامة؟ قال عندي خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم …” . والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر.
ولا زلنا نرى قتل الأسرى حتى في العصور الحاضرة رغم كل القوانين والاتفاقيات الدولية، وبطرق وأساليب رهيبة كما حصل في البوسنة والهرسك وكوسوفا والشيشان وأفغانستان وفلسطين .
لذلك فمن الأهمية بمكان اعتماد الحكم الإسلامي المتعلق بالأسرى في هذه الاتفاقيات الدولية، حتى يكون لها معنى، ويتم احترامها والالتزام بها التزام المسلمين المعروف بالعهود والمواثيق.
ثانياً: استرقاق الأسرى:
الاسترقاق (أو الاستعباد) هو أحد الخيارات الأربعة التي وضعها جمهور الفقهاء بيد الإمام بخصوص مصير الأسرى الذين يقعون بأيدي المسلمين.
ولا داعي للخوض كثيراً في تفاصيل وأحكام هذا الموضوع الذي تعرض له الكثير من العلماء والباحثين المتأخرين بالبيان والتوضيح، وأعطوه حقه الذي يستحقه من البحث والدراسة. وقد انتهى هذا الخيار في عصرنا الحاضر إلى غير رجعة إن شاء الله . ولم يعد له وجود بالصورة التي كان معروفاً بها في العصور السابقة. وهذا ما سعى إليه الإسلام منذ مجيء رسالته إلى هذه الأرض.
بل إن الإسلام له الفضل الأكبر في تنبيه البشرية لإلغاء نظام الرق والعبودية من الوجود. فمن ينظر إلى الأحكام الشرعية المتعلقة بهذا النظام، يجد أن الإسلام كان يتجه بصورة أو بأخرى نحو إلغاء هذا النظام وإنهائه من الوجود. ويظهر أن الآية :”فإما مناً بعد وإما فداء” تشير إلى هذه الحقيقة لأنها لم تذكر الاسترقاق ضمن الخيارات الممكنة بشأن الأسرى. والقرآن الكريم لم يرد فيه نص صريح يبيح فيه استعباد الأسرى، وإنما جاء فيه الدعوة إلى العتق .
علماً أن الباب الوحيد الذي فتحه الشرع للرق هو الحرب واسترقاق الأسرى، ومنع جميع المصادر والمنابع الأخرى التي تصب في هذا المستنقع، في الوقت الذي وضع فيه الكثير من المخارج والمنافذ لتجفيفه والحد منه.
وهذه كلها إشارات واضحة لتوجه الإسلام نحو إلغاء نظام الرق والعبودية، وأما إقرار الشريعة الإسلامية لاسترقاق الأسرى الحربيين فقد كان إقراراً بأمر واقع من باب المعاملة بالمثل كما قال الكثير من العلماء . يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: “لقد وقع الاسترقاق عملاً بقاعدة المعاملة بالمثل، ولمواجهة الأوضاع العالمية القائمة حينئذ والتقاليد الحربية المتعارف عليها. ولا يمكن أن تعالج بغير هذا الإجراء، وليس الاسترقاق حتمياً، فإذا حدث أن اتفقت الدول كلها على عدم استرقاق الأسرى، فإن الإسلام يرجع حينئذ إلى قاعدته الإيجابية الوحيدة وهي: المن أو الفداء” .
فالإسلام حين جاء إلى هذه الأرض وجد ظاهرة الرق تملأ الأرض، وتقرها جميع الأديان والفلسفات والحضارات، حتى أصبحت ظاهرة اجتماعية لا يقوم المجتمع إلا بها، ولا يمكن الاستغناء عنها بحال، لأن القوى العاملة في المجتمع سواء كانت اقتصادية أو زراعية أو صناعية أو عمرانية، كانت تقوم على أيدي الأرقاء. وإلغاء الرق في ذلك الوقت يعني دمار المجتمع واقتصاده وأخلاقه ونظمه. حتى إن الدولة الرومانية أدركت أهمية هذه الفئة في حفظ كيان الدولة، فحرمت على الأفراد في القانون الروماني أن يعتقوا عبيدهم. وكانت تحكم بالسجن أو التعذيب أو فرض الرق على من يضبط متلبساً بجريمة عتق عبد له .
والذي امتاز به الإسلام عن باقي الأديان والفلسفات والحضارات في باب الرق هو معاملتهم بكل رحمة ورأفة وعدل، بما لم تعرف له البشرية مثيلاً حتى لكأنهم أحرار (كما سنرى قريباً).

حقيقة لا بد من قولها:
البديل المعاصر الذي أقره النظام الدولي كحل لمشكلة الرق هو وضع الأسرى في سجون محكمة الإغلاق، وفق ظروف إنسانية وشروط خاصة ومحاكم عادلة (كما تنص قوانين الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف ولاهاي في السنوات 1929 و 1949 وغيرها) .
ولكن نستطيع أن نؤكد ودون أي تردد ومن خلال التجربة العملية التي رأيناها في هذه السجون (الإنسانية !!)، أن هذه السجون لا تختلف بحال من الأحوال عن نظام الرق الذي كان موجوداً في العصور الماضية. بل إن هذه السجون أسوأ حالاً من العبودية التي أقرها الإسلام في التعامل مع بعض الأسرى. فهذه السجون لا تلتزم بقوانين حقوق الإنسان التي تنص عليها القوانين الدولية، ولا ندري في أي مكان يلتزم فيه بهذه القوانين (الإنسانية). ثم إن الاسترقاق – كما تنص الشريعة الإسلامية – أقل سوءاً من حيث التعامل من هذه السجون الظالمة، وأخف ضرراً.
فالعبد في ظل الإسلام يتلقى أفضل المعاملة، يأكل كما يأكل سيده، ويلبس كما يلبس، ولا يحمله سيده ما لا يطيق، وهو يملك حرية الحركة واستنشاق الهواء الطلق، ويستطيع أن يتزوج إن أراد، وأن يمارس معظم حياته الطبيعية (كما سنرى بعد قليل).
وعنده أمل كبير في أن يمن عليه سيده بالحرية تعبداً لله، أو أن يكون مكاتباً أو مدبّراً ، أو أن تفك رقبته بسبب كفارة للكثير من المخالفات الشرعية كحنث اليمين ، أو إذا ظاهر المسلم من زوجته، أو جامعها في نهار رمضان، أو عند القتل الخطأ، أو حتى إذا لطمه سيده على وجهه يصبح حراً على رأي بعض الفقهاء.
وفي الزكاة مصرف خاص للرقاب من أجل إعتاق العبيد من قبل الدولة، وغير ذلك من الوسائل التي اعتمدتها الشريعة الإسلامية لتخليص العبيد من غل العبودية. (علماً أن الشريعة الإسلامية لم تبح الاسترقاق إلا عن طريق أسرى الحروب، حينما كان الرق ظاهرة طبيعية عند جميع الشعوب).
أما الأسير في هذه السجون فإنه يحرم من جميع هذه الميزات، فهو يعيش في قبر حقيقي، وتفرض عليه جميع تصرفاته وحركاته، ويعاني هو وأهله صنوف الأذى والعذاب، ويحرم من جميع الحقوق الإنسانية والطبيعية بل والحيوانية .
لقد أخطأت الإنسانية خطأً فادحاً حين استعاضت عن الاسترقاق بهذه السجون المجرمة الظالمة، وظنت أنها حلت مشكلة الأسرى المستعصية، فحال الإنسانية في ذلك كقول الشاعر:
المستجير بعمروٍ عند كربتـــــــــه كالمستجير من الرمضاء بالنار
ولا نريد أن يفهم من كلامنا هذا أننا نؤيد نظام الرق والعبودية أو العودة إليه من جديد – معاذ الله. ولكننا ندعو إلى حل آخر لمشكلة الأسرى ينبثق من قوله تعالى:”فإما مناً بعد وإما فداء” . لأن هذا الحل هو أفضل الحلول الممكنة لعلاج هذه المشكلة، وهو علاج ينسجم مع الفطرة الإنسانية واحترام النفس البشرية، ويتلاءم مع مقاصد الأديان كلها. ويمكن للدول أن تتفق فيما بينها لتثبيت هذا الحل وإقراره ليصبح قانوناً دولياً ملزماً للجميع، تحل به هذه المأساة الإنسانية التي حارت فيها البشرية على مدار التاريخ منذ آلاف السنين. ولن تجد البشرية مثل هذا الحل الإسلامي، الذي كان ولا يزال وسيبقى أفضل الحلول الممكنة في التعامل مع أسرى الحروب.
استرقاق الأسرى في الفقه الإسلامي:
عند الرجوع إلى كتب الفقه الإسلامي نجد أن الفقهاء أجمعوا على جواز استعباد الأسرى سواء كانوا ذكراناً أو إناثاً شيوخاً أو صبياناً، واتفقوا على عدم جواز قتل النساء والأطفال، وإنما يخير فيهم الإمام بين المن أو الفداء أو الاسترقاق .
أما عبدة الأوثان ففي استرقاقهم روايتان : قيل لا يجوز وهو مذهب الشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: يجوز في العجم دون العرب بناء على قوله في الجزية . لكن قال الشوكاني: إنه لا فرق في حكم استرقاق الأسارى بين كونهم من العرب أو من العجم أو من أهل الكتاب أو من غيرهم .
وأما استرقاق الرهبان، فإن قوماً رأوا أن يتركوا ولا يؤسروا، دون التعرض لهم بقتل ولا استعباد. لقوله صلى الله عليه وسلم: “…ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع” رواه أحمد واللفظ له والبزار والبيهقي والطبراني وأبو يوسف . قال الهيثمي: فيه إبراهيم بن إسماعيل وثقه أحمد وضعفه الجمهور، وبقية رجاله رجال الصحيح . وله شواهد تقويه.
وفي وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام: “… إنك ستجد قوماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله. فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له … لا تقتلن امرأة ولا صبياً ولا كبيراً هرماً، ولا راهباً، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخربن عامراً … ولا تهدموا بَيْعَة” رواه مالك والبيهقي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور . من طرق متعددة وشواهد كثيرة.
– وقال عمر بن عبد العزيز: لا تقتلوا راهباً ولا أَكّاراً . وقال ابن تيمية رحمه الله: الراهب والصغير والمرأة لا يقتلوا إلا أن يقاتلوا .

ولا داعي للدخول في التفاصيل في هذا الموضوع، فتكفي هذه الإشارة في مثل واقعنا المعاصر، حيث انتهى الاسترقاق من واقع المسلمين وغير المسلمين. فلو عاش فقهاؤنا رحمهم الله في زماننا هذا فيمكن أن يكون لهم آراء أخرى بخصوص استرقاق الأسرى. وهؤلاء علماؤنا ومشايخنا في هذه الأيام يتفقون على تأييد إلغاء نظام الرق من واقع الإنسانية، ويؤكدون أن هذا الإلغاء لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية. 

بل إن مقاصد الشريعة تؤيده وتشجعه وتحرص عليه ما دامت جميع الدول تلتزم به وتحترمه. يقول د. الزحيلي:” فالإسلام لا يعارض أي قانون أو اتفاق لإلغاء الرق من العالم، فذلك يتفق مع روح التشريع الإسلامي، ويتفق مع توجه الإسلام للحد من ظاهرة الرق، والحرص على تحرير العبيد بكل الوسائل والأساليب الممكنة. لذلك فقد أيدت الدولة العثمانية مشروع إلغاء الرقيق، وأظهرت ارتياحاً حسناً نحو ذلك، واعتبرته من مقاصد الشريعة وتوجهاتها” .
معاملة الرقيق:
رغم اعتراف الإسلام من حيث المبدأ بمشروعية الرق، لكن هذا الدين الحنيف قد أوجب لهم الرحمة، واعتبرهم إخوانا للمسلمين، حتى كأنهم أحرار، يأكلون كما يأكلون ويلبسون كما يلبسون، ولا يحملونهم ما لا يطيقون، وحرم شتمهم أو إهانتهم أو ضربهم بقسوة … في الوقت الذي لاقى فيه هؤلاء الأرقاء أسوأ المعاملة وأقساها عند الدول والحضارات الأخرى كالرومان واليونان والهنود والفراعنة وغيرهم، الذين كانوا يرمونهم إلى الوحوش الضارية لتفترسهم، ويستمتع الأسياد بمناظرهم، وكأنهم ينظرون إلى دواب أو حيوانات متصارعة .
ولا نريد هنا الدخول في تفاصيل أحكام معاملة الرقيق في الإسلام (فهذا يمكن الرجوع إليه في كتب الفقه المطولة، خاصة وأنه لا حاجة إلى هذه التفاصيل، لأن نظام الرق كما قلنا لم يعد موجوداً هذه الأيام). ولكننا نذكر أن نصوص الكتاب والسنة تؤكد وجوب الإحسان إلى هؤلاء الأرقاء ومعاملتهم بالرحمة والبر، وضرورة القيام بجميع حاجاتهم الفطرية والطبيعية.
فقد أوصى الله تعالى بالإحسان إليهم في قوله:” وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ……. وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ” النساء:36.

ومن الأحاديث الواردة في الإحسان إليهم، ومعاملتهم معاملة إنسانية، ومنع إيذائهم أو الاعتداء عليهم:

  • حديث المعرور قال:” لقيت أبا ذر بالرّبذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة (ثوبٌ فاخر) ، فسألته عن ذلك فقال: ساببت رجلاً فعيّرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم:”يا أبا ذر أعيَّرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية. إخوانكم – أي عبيدكم – خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم” متفق عليه .
  • حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق” رواه مسلم ومالك وأحمد .
  • حديث أنس رضي الله عنه قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه:”الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم” رواه أحمد وابن ماجة .
  • حديث عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان له : هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا، قال: فانطلق فأعطهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته” رواه مسلم .
  • حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو أكلة أو أكلتين، فإنه ولي حرَّه وعلاجه”.متفق عليه .
  • حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”لا يقل أحدكم أطعم ربك ووضئ ربك، وليقل سيدي ومولاي. ولا يقل أحدكم عبدي أَمَتي، وليقل فتاي وفتاتي وغلامي” رواه البخاري . وهذا يشير إلى عدم إيذائه بالشتم أو اللعن أو غلظ الكلام ونحو ذلك.
  • حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً من أعضائه من النار حتى فرجه بفرجه” رواه مسلم .

وهناك الكثير من الأحاديث المشابهة الدالة على وجوب هذه المعاملة الحسنة لهؤلاء الرقيق. والبخاري ترجم في صحيحه بقوله:
“باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: العبيد إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون”
“باب كراهية التطاول على الرقيق”
“باب إثم من قذف مملوكه” . ذكر فيها الكثير من الأحاديث الصحيحة.
وقد أجمع الفقهاء على أن طعامهم وكسوتهم ونفقتهم تجب على أسيادهم، ولا خلاف في ذلك، ويجب أن يكون طعامهم على قدر كفايتهم ومن غالب قوت أهل البلد، والأولى أن يلبسه من لباسه، ولا يكلفه من العمل ما يشق عليه، لحديث أبي ذر رضي الله عنه .
وإذا مرض المملوك أو زمن أو عمي أو انقطع كسبه فعلى سيده القيام به والإنفاق عليه، لأن نفقته تجب بالملك، والملك باق مع الكبر والعمى والزمانة فتجب نفقتهم. ويجب على سيده اعفافه بالزواج إذا طلب ذلك، على رأي الشافعية والحنابلة لقوله تعالى: “وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ” النور: 32 .
وهذا كلام يؤكد ما ذكرناه سابقاً من أن العبودية في ظل الإسلام أفضل ألف مرة من حشر هؤلاء الأسرى في سجون محكمة الإغلاق في ظل قوانين إنسانية لا يلتزم بها أحد!!
ونؤكد هنا مرة أخرى على أن نظام الرق والعبودية حسب ما كان عليه في السابق قد انتهى ولم يعد له وجود هذه الأيام، ولكن هذا الرق وهذه العبودية استعيض عنها بصور وأساليب أخرى. فاستعباد أفراد معدودين قد استبدل هذه الأيام باستعباد شعوب وأمم كاملة، تعدادها عشرات الملايين من السكان، حتى أصبحت هذه الشعوب وهذه الدول تكد وتكدح ليل نهار من أجل تأمين فوائد الديون الربوية التي تمنحها الدول الكبرى من فتاتها لتلك الدول، والويل كل الويل لتلك الدول والشعوب من الخروج عن طاعة تلك الدول العظمى صاحبة السيادة المطلقة.
وهناك استعباد تمارسه الشركات والمصانع الكبرى (العابرة للقارات) بأشكال مختلفة خاصة شركات النفط العملاقة، وشركات تصنيع السلاح… وغير ذلك من الأساليب الاستعبادية التي يراها العالم كله. أليست هذه الأساليب أشد سوءاً من نظام الرق والعبودية لأفراد معدودين سرعان ما ينتهي بالحرية والذي كان سائداً في العصور السابقة ؟!!
 والخلاصة: أن الإسلام لا يمنع أي اتفاق لإلغاء نظام الرق على المستوى العالمي أو الإقليمي، ما دامت هذه الدول تحافظ على الالتزام بهذا الاتفاق، والمسلمون هم أحرص الناس على الالتزام بمثل هذه القوانين أو الاتفاقيات. وبالتالي يسقط هذا الخيار في تقرير مصير الأسرى هذه الأيام. ويبقى ثلاثة خيارات: القتل أو المن أو الفداء. وقد رأينا أن القتل لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة، فيبقى الأصل في تقرير مصير الأسرى هو المن والفداء. وهذا ما سيتم دراسته في المطلب الثالث:

ثالثاً: المن والفداء
المن: هو إطلاق الأسير من غير فدية تؤخذ منه. والفداء: هو استنقاذ الأسير بعوض سواء كان بمال أو بأسرى مسلمين أو غير ذلك .
وهذا هو الأصل الذي ينبغي أن يعامل به الأسرى في تقرير مصيرهم عندما تضع الحرب أوزارها استناداً لقوله تعالى: “فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء…” محمد:4.
وهي آية محكمة وليست منسوخة عند المحققين من العلماء . قال الطبري: والصواب من القول عندنا في ذلك أن هذه الآية محكمة غير منسوخة… . وقال القرطبي: أكثر العلماء على أنها محكمة وليست منسوخة، وهو الاختيار . بل قال بعض العلماء ومنهم الضحاك وابن جريج وعطاء والحسن وغيرهم أن هذه الآية ناسخة لآية السيف .
إلا أن ابن قدامة اعتبر هذا من العام والخاص وليس من باب الناسخ والمنسوخ فقال: قوله تعالى: “اقتلوا المشركين” عام لا ينسخ به الخاص، بل ينزل على ما عدا المخصوص. ولهذا لم يحرموا استرقاق الأسرى .
أي أن الآيتين محكمتان لأن قوله “اقتلوا المشركين” أمر بالقتل وقوله “خذوهم” أي ائسروهم، فإذا حصل الأسير في يد الإمام فهو مخير إن شاء منّ عليه وإن شاء فاداه، وإن شاء قتله صبراً حسب مصلحة المسلمين، وعلى هذا عامة الفقهاء . قال عطاء والحسن: في الآية تقديم وتأخير، والمعنى: فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها، فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، وليس للإمام أن يقتل الأسير .

 وهنا لا بد من التنبيه إلى ما ورد في قوله تعالى: “مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ” الأنفال: 67.
فظاهر الآية أنها تنهى عن اتخاذ الأسرى قبل الإثخان في الأرض. قال ابن عباس: إن ذلك كان يوم بدر والمسلمون في قلة، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى:”فإما مناً بعد وإما فداءً” فجعل النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالخيار فيهم: إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استعبدوهم، وإن شاءوا فادوهم .
ويقول ابن كثير: أخبر الله سبحانه وتعالى أن قتل المشركين يوم بدر كان أولى من أسرهم وفدائهم. ثم لما كثر المسلمون رخص الله في ذلك فقال: فإما منّاً بعد وإما فداء .
أي أنه ليس هناك تعارض بين آية الأنفال وآية محمد، ولا داعي للقول بالنسخ بينهما. لأن آية الأنفال تتحدث عن أن الإثخان مقدم على الأسر في حالة ضعف المسلمين، فلا يجوز الطمع في الفداء قبل الإثخان في العدو، وليس فيها ذكر لتقرير مصير الأسرى هل هو بالقتل أو المن أو الفداء. أما إذا قوي المسلمون وتمكنوا من عدوهم وأثخنوا في الأرض، فعندها يباح لهم أخذ الأسرى والفداء.
أي أن آية الأنفال تتعلق بوقت الأسر وليس بمبدأ الأسر ذاته. وهذا قول جماهير العلماء ومعرفة سبب نزول آية الأنفال يوضح ذلك، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “لما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم الفدية … وقال عمر بن الخطاب: لا والله يا رسول الله، وما أرى الذي رأى، ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم … فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قال عمر … فأنزل الله هذه الآية” رواه مسلم .
قال القرطبي: إن التوبيخ الوارد في الآية كان في بداية الأمر لحرصهم على أخذ الفداء، ثم وقع التمييز بعد ذلك، فلم ينزل توبيخ بعد ذلك .

لذلك ذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى جواز المن على الأسرى أو مفاداتهم بأسرى مسلمين أو أهل ذمة أو بالمال. ومن هؤلاء مالك وأحمد والشافعي والثوري والأوزاعي وسفيان، وهو قول ابن عمر والحسن وعطاء وأبي عبيد، وحكاه الطحاوي مذهباً عن أبي حنيفة، والمشهور عنه خلاف ذلك .
بل إن بعض الفقهاء كالحسن وعطاء والضحاك والسدي وغيرهم قالوا أنه لا يجوز قتل الأسرى، بل يتخير بين المن والفداء (كما ذكرنا في الموضوع السابق – قتل الأسرى).
والأدلة على جواز المن والفداء على الأسرى الذين يقعون بأيدي المسلمين أكثر من أن تحصر، ونذكر هنا بعض هذه الأدلة:

  • قوله تعالى: “فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء”. وهي آية محكمة كما رأينا.
     حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم منّ على ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة. رواه البخاري ومسلم. رواه البخاري ومسلم .
     حديث عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فادى رجلاً من بني عقيل برجلين من المسلمين كانا أسيرين عند ثقيف. رواه مسلم والترمذي وأحمد والدارمي وعبد الرزاق وأبو عبيد . قال الترمذي: حسن صحيح.
     حديث جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: “لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له” رواه البخاري . قال الشوكاني: أي لتركتهم له بغير فداء .
     حديث سلمة بن الأكوع:”أنه غزا مع أبي بكر، فنفله امرأة من السبي، فوهبها للنبي صلى الله عليه وسلم فبعث بها إلى أهل مكة، وفي أيديهم أسارى من المسلمين ففداهم بتلك المرأة” رواه مسلم .
     حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر وجيء بالأسارى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا ينفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق … ونزل قوله تعالى:” ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض” رواه أحمد والترمذي وأبو عبيد . قال الترمذي: هذا حديث حسن. واستدل به مالك على أنه لا يجوز المن بغير فداء.
     حديث ابن عباس:” أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة درهم” رواه أبو داود وأحمد . وفي رواية: “فجعل النبي صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة” .
     حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسارى فقال: هل دعوتموهم إلى الإسلام؟ فقالوا: لا. فقال لهم: هل دعوكم إلى الإسلام؟ قالوا: لا. قال: خلوا سبيلهم حتى يبلغوا مأمنهم ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجَاً مُنِيرَا” الأحزاب: 45 .
     وفي سرية عبد الله بن جحش في السنة الثانية من الهجرة أسر المسلمون عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان. وفاداهم الرسول صلى الله عليه وسلم بسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان اللذين كانا أسيرين عند قريش .
     ومنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ستة آلاف من سبي هوازن من الرجال والنساء والصبيان .
     ومنًّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق .
     ومنًّ في الحديبية على ثمانين وقيل سبعين، وقيل بين الثلاثين والأربعين – رجلاً هبطوا على المسلمين من حيال التنعيم عند صلاة الفجر، فأسرهم المسلمون، وأنزل الله تعالى فيهم: “وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة” .
     ومنًّ على أهل مكة بعد الفتح وقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء. ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ألا لا يجهزن على جريح، ولا يتبعن مدبر، ولا يقتلن أسير، ومن أغلق بابه فهو آمن” .
     ومنًّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي عزة الشاعر وأبي العاص بن الربيع وعن عمه العباس وعقيل ابن أبي طالب ونوفل بن الحارث. وذلك بعد غزوة بدر .
     ومنًّ على أهل خيبر بعد فتحها .
     ومنًّ على عمرو بن سعد والزبير بن باطا يوم قريظة، وكانت لهم مآثر .

وغير ذلك من الأدلة الكثيرة والشواهد، ومعظمها كان بعد غزوة بدر أي بعد نزول قوله تعالى: ” مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ”، وهي في مجملها تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينزع إلى المن والفداء.
وأية مقارنة بين من قتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم من الأسرى، ومن منًّ عليهم أو فاداهم منهم، توضح أن الذين مَنَّ عليهم أو فاداهم هم الأغلب والأكثر عدداً. وقد رأينا أن من قتلهم منهم لم يكن ذلك بسبب الأسر وإنما بسبب جرائم كبرى ارتكبوها، استحقوا لأجلها أشد العقاب.
وهذا كله يؤكد أن الأصل في تقرير مصير الأسرى في الشرع الإسلامي هو المن أو الفداء، وهذا ما تشير إليه آية سورة محمد بصورة واضحة. وهذا ما فهمه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حين أتاه الحجاج بن يوسف بأسير وقال له: قم فاقتله، فقال ابن عمر: ما بهذا أُمِرْنا. يقول الله تعالى: “حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداء”. .
 إلا أن الحنفية (وهو المشهور عنهم) والزهري ومجاهد وطائفة ذهبوا إلى أنه لا يجوز المن ولا الفداء. (وقال البعض يجوز الفداء دون المن). واستدلوا بقوله تعالى:” فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ”.التوبة5. وقوله تعالى: “مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ” الأنفال67. فأنكر الله تعالى عليهم إطلاق سراح الأسرى بعد بدر مقابل فداء. وهؤلاء ادعوا أن آية محمد منسوخة .
وقد بينا ضعف هذا الرأي، وأن آية سورة محمد محكمة وليست منسوخة. ثم إن الأدلة السابقة ترد عليهم. قال الطحاوي (وهو من علماء الحنفية المشهورين) : ظاهر آية: “فإما مناً بعد وإما فداء” حجة للجمهور، وكذا حديث ثمامة وأبي هريرة .
وقال أبو يوسف (تلميذ أبي حنيفة): ولا ينبغي للإمام أن يدع أحداً ممن أُسِرَ من أهل الحرب وصار في أيدي المسلمين يخرج إلى دار الحرب راجعاً إلا أن يفادى به، فأما غير الفداء فلا … وقال: إن الأسارى يحكم بهم الإمام إما بالقتل وإما بالفداء حسب مصلحة المسلمين … ولا يفادى بهم بذهب ولا فضة ولا متاع، ولا يفادى بهم إلا الأسارى المسلمون . أي أن رأي أبي يوسف وكذا صاحبه محمد بن الحسن على إباحة الفداء بأسرى المسلمين دون المن أو الفداء بمال. وأبو حنيفة يمنع ذلك مطلقاً. إلا أن الأدلة السابقة حجة عليهم جميعاً.
قال الشوكاني: والحاصل أن القرآن والسنة قاضيان بما ذهب إليه الجمهور، فإنه قد وقع منه صلى الله عليه وسلم المن وأخذ الفداء والقتل … قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم . ويحكى أن عمر بن عبد العزيز فادى بصبي صغير .
وقد مضى قول د. الزحيلي وسيد قطب وعبد الرحمن عزام وغيرهم في ترجيح القول بأن الأصل في تقرير مصير الأسرى وهو المن أو الفداء. ويمكن مراجعته هناك …

شواهد تاريخية:
ومن الشواهد التاريخية الرائعة في المن على الأسرى غير المسلمين :

  • ما رواه الطبري في أحداث سنة 20 هـ حين وقع عدد كبير من الأسرى المصريين بيد المسلمين، فأرسل صاحب الإسكندرية إلى عمرو بن العاص بموافقته على إعطاء الجزية بشرط أن يرد إليه ما أخذ المسلمون من هؤلاء الأسرى. فاستشار عمرو بن العاص عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فرد عليه عمر بموافقته على طلب صاحب الإسكندرية على أن يخيروا من في أيديهم من هؤلاء الأسرى بين الإسلام وبين دين قومهم، فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن اختار دين قومه وضع عليه الجزية ما يوضع على أهل دينه … فبعث عمرو بن العاص إلى صاحب الإسكندرية يعلمه برأي أمير المؤمنين. فقال: قد فعلت. فجمع المسلمون ما في أيديهم من الأسرى، واجتمعت النصارى. يقول الراوي: فجعلنا نأتي بالرجل ممن في أيدينا، ثم نخيره بين الإسلام وبين النصرانية، فإذا اختار الإسلام كبرنا تكبيرة هي أشد من تكبيرنا حين نفتح القرية، ثم نحوزه إلينا. وإذا اختار النصرانية نخرت النصارى، ثم حازوه إليهم ووضعنا عليه الجزية، وجزعنا من ذلك جزعاً شديداً، حتى كأنه رجل خرج منا إليهم. فكان ذلك الدأب حتى فرغنا منهم … ثم ذكر قصة رجل من هؤلاء الأسرى اختار الإسلام، فحازه المسلمون إليهم، فجاء أبوه وأمه وأخوته يجذبونه إليهم حتى شقّوا ثيابه .
    يقول ظافر الفاسي: لعل أعظم حادث منّ كان في التاريخ الإسلامي، ولعله في التاريخ الإنساني هو منّ عمر بن الخطاب على سبي مصر…. .
  • وفي سنة 463 هـ هاجم ملك الروم (أرمانوس) ومعه خمسة وثلاثون ألفاً من البطارقة ومائتا ألف فارس وآلاف من الحفارين والنقابين والمجانيق، وكان يعزم على إبادة الإسلام وأهله وإنهاء الوجود الإسلامي والخلافة الإسلامية في بغداد، والاستيلاء على بلاد الشام كلها. فالتقاه السلطان السلجوقي العادل (ألب أرسلان) في جيشه ومعه عشرون ألفاً فقط، والتقوا بمكان يقال له (الزهدة) وجرت معركة غير متكافئة استطاع المسلمون أن يهزموا الروم ويقتلوا أعداداً كبيرةً منهم، ووقع ملك الروم (أرمانوس) أسيراً بيدي (ألب أرسلان)، ولما وقف ملك الروم أمامه قال له أرسلان: لو كنت أنا أسيراً عندك ما كنت تفعل؟ قال: كل قبيح. قال: فما ظنك بي؟ قال: إما أن تقتل وتشهرني في بلادك. وإما أن تعفو وتأخذ الفداء وتعيدني . فقال: ما عزمت على غير العفو والفداء … وأطلق له أرسلان عشرة آلاف دينار ليتجهز بها، وأطلق معه جماعة من البطارقة وجيشاً يحفظونه إلى بلاده، ومعهم رايات مكتوب عليها (لا إله إلا الله محمد رسول الله)… .
    • وما فعله صلاح الدين الأيوبي بأسرى الصليبيين بعد فتحه لبيت المقدس سنة 583هـ . وتحريرها من الصليبيين الذين أجرموا في حق الأسرى المسلمين حين دخلوا بيت المقدس من قبل. فقد فادى صلاح الدين هؤلاء الأسرى على فدية قدرها عشرة دنانير عن الرجل، وخمسة دنانير عن المرأة، وديناران عن الصغير … وأطلق صلاح الدين خلقاً كثيراً دون فدية، منهم بنات الملوك بمن معهن من النساء والصبيان والرجال كن راهبات. ووقعت المسامحة في كثير منهم وشفع في أناس كثير فعفا عنهم. وخرج البطرك الأعظم بما معه من ماله وأموال البيع ولم يتعرض له أحد من المسلمين .
    • ومن أهم ما عرف من فداء للأسرى في التاريخ: فدية الملك رتشارد قلب الأسد ملك انجلترا، عندما أسره صلاح الدين الأيوبي في الحرب الصليبية الثالثة 1189-1192م .
    ختاماً: فهذا ما يسر الله تعالى به في عرض مسائل هذا البحث، التي نرى أنها في غاية الأهمية، بذلنا فيه جهدنا. سائلين الله تعالى أن ينفع بها الإسلام والمسلمين، وأن تكون سداً لثغرة كبيرة تتعلق بالأسرى المسلمين بشكل عام، والأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال بشكل خاص، نعتقد أنها كانت شاغرة. بذلنا فيه جهدنا فإن أحسنا ففضل من الله تعالى ونعمة، ونسأل الله القبول. وإن أَسَأْنا أو قصَّرنا، فمن أنفسنا ومن الشيطان. ونسأل الله العفو والعافية.
    وكان الانتهاء من تبييض هذا البحث مساء يوم الأحد 12 صفر 1432ه. الموافق 16-كانون أول- 2011م.
    د. ناصر عبد الجواد- أبو أويس

المصادر والمراجع

  1. القرآن الكريم.
  2. إبراهيم أنيس وآخرون: المعجم الوسيط .إشراف: حسن علي عطية. ط2، دار الفكر-بيروت.
  3. أحمد بن حنبل: المسند. وبهامشه منتخب كنز العمال. دار الفكر – بيروت.
  4. أحمد زكي صفوت: جمهرة رسائل العرب في العصور العربية الزاهرة. ط1، 1356-1937.المكتبة
    العلمية – بيروت.
  5. أحمد عبد الكريم نجيب: واجب المسلمين لإنقاذ الأسرى وفكاك المعتقلين من سجون الصليبيين. من
    الإنترنت.
  6. أحمد محمد الزرقا توفي 1357ه: شرح القواعد الفقهية. تنسيق: عبد الستار أبو غدة. تحقيق:
    مصطفى الزرقا، ابن المؤلف. ط2: 1409-1989. دار القلم-دمشق.
  7. أرنست باركر: الحروب الصليبية. نقله إلى العربية د. السيد العريني. ط2. دار النهضة العربية –
    بيروت.
  8. إسماعيل لطفي فطاني: اختلاف الدارين وأثره في أحكام المناكحات والمعاملات. ط2: 1998-
    1. دار السلام-القاهرة.
  9. الألباني محمد ناصر الدين: سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها.ط4، 1405-1985. المكتب الإسلامي– بيروت.
  10. الألباني: صحيح الجامع الصغير للسيوطي. ط1، 1388-1969 . المكتب الإسلامي-بيروت.
  11. الألباني: إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل. إشراف: زهير الشاويش. ط1، 1399-1979. المكتب الإسلامي بيروت.
  12. د. أكرم ضياء العمري: المجتمع المدني في عهد النبوة – خصائصه وتنظيماته الأولى. ط1،1403-
    1. منشورات الجامعة الإسلامية – المدينة المنورة.
  13. أكرم ضياء العمري: عصر الخلافة الراشدة. ط2 1422-2001. مكتبة العبيكان- الرياض.
  14. أنور الجندي: الإسلام والعالم المعاصر. بحث تاريخي حضاري. ط1: 1393-1973. دار الكتاب
    اللبناني- بيروت.
  15. البحتري الحلبي صفي الدين عيسى: أنس المسجون وراحة المحزون. تحقيق: محمد أديب الجادر. ط1:
    1417-1997. دار البشائر-دمشق.
  16. البخاري أبو عبد الله: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم توفي 256: الجامع الصحيح. ضمن فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر. الطبعة السلفية. دار الفكر –بيروت.
  17. البخاري: الأدب المفرد. تحقيق: محمد البرهاني. ط1 1401-1981. مشروع زايد لتحفيظ القرآن.
  18. بدران أبو العينين بدران: تاريخ الفقه الإسلامي ونظرية الملكية والعقود. ط1. دار النهضة -بيروت.
  19. البغوي: أبو محمد حسين بن مسعود الفراء. توفي 510هـ: شرح السنة. تحقيق: شعيب الأرنؤوط وزهير الشاويش. ط1، 1391-1971. المكتب الإسلامي– بيروت.
  20. البغوي: معالم التنزيل في التفسير والتأويل.ط1 1405-1985. دار الفكر- بيروت.
  21. البلاذري: أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر البغدادي 279هـ. فتوح البلدان. طبعة مصورة1412–1991. دار الكتب العلمية – بيروت.
  22. بلتاجي: محمد: منهج عمر بن الخطاب في التشريع.
  23. البهبودي: الشيخ محمد الباقر: زبدة الكافي. اختاره من كتاب الكافي للكليني من كتب الشيعة. ط1
    1401-1981. الدار الإسلامية – بيروت.
  24. البيضاوي: عبد الله بن عمر أبو سعيد الجافعي، توفي 692: تفسير البيضاوي (أنوار التنزيل وأسرار
    التأويل). ضمن مجموعة من التفاسير. ط1، 1319 . المطبعة العامرة – القاهرة.
  25. البيهقي: أبو بكر بن الحسين بن علي توفي 854هـ: السنن الكبرى وفي ذيله: الجوهر النقي للتركماني.
    دار المعرفة – بيروت.
  26. البوصيري: الشهاب أحمد بن أبي بكر توفي 840هـ. مصباح الزجاجة في زوائد بن ماجة. تحقيق:
    موسى مراد. مطبعة حسان – القاهرة.
  27. الترمذي: محمد بن عيسى توفي 279هـ: الجامع الصحيح. تحقيق: أحمد شاكر.ط1
    1394- 1976 دار الكتب العلمية – بيروت.
  28. ابن تيمية: أبو العباس أحمد بن عبد الحليم توفي 728هـ : مجموع الفتاوى. جمع وترتيب: عبد الرحمن
    بن محمد النجدي. طبعة خادم الحرمين – السعودية.
  29. ابن تيمية: الفتاوى الكبرى. قدم له: حسين محمد مخلوف. ط1، 1385 – 1965. دار المعرفة – بيروت.
  30. جاد الحق علي جاد الحق: بحوث وفتاوى إسلامية في قضايا معاصرة. ط1: 1425-2004. دار الحديث –القاهرة.
  31. ابن الجارود: أبو محمد عبد الله بن علي النيسابوري. توفي 307. المنتقى من السنة المسندة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. تحقيق: لجنة من العلماء ومراجعة خليل الميس. ط1 1407-1987. دار العلم-بيروت.
  32. الجرجاني: الشريف علي بن محمد. كتاب التعريفات. ط1 1403-1983.دار الكتب العلمية-بيروت.
  33. الجزائري: أبو بكر جابر: منهاج المسلم. ط8. دار الفكر – بيروت.
  34. ابن الجعد: أبو الحسن علي بن الجعد بن عبيد الجوهري. توفي: 203. مسند ابن الجعد. تحقيق د. عبد المهدي عبد الهادي. ط1،1405- 1985.مكتبة الفلاح-الكويت.
  35. جمال العوفي: ثمانون حديثاً في الظلم والظلمة. دار الاعتصام- القاهرة.
  36. ابن الجوزي: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي التيمي توفي 597: الموضوعات الكبرى. تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان. ط2، 1403-1983. دار الكتب العلمية– بيروت.
  37. ابن الجوزي: العلل المتناهية في الأحاديث الواهية. ط1، 1403-1983. دار الكتب العلمية–
    بيروت.
  38. ابن الجوزي: نواسخ القرآن. تحقيق: محمد الملباري. ط1، 1404 – 1984. المجلس العلمي لإحياء
    التراث الإسلامي – المدينة المنورة.
  39. الجويني أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله توفي 478. الغياثي- الفقه اللاهب. تهذيب محمد أحمد
    الراشد. ط1: 1422- 2002. دار المحراب- كندا.
  40. ابن أبي حاتم الرازي عبد الرحمن بن إدريس توفي 327: علل الحديث. ط1 1405-1985. دار المعرفة – بيروت.
  41. الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري توفي 405: المستدرك على الصحيحين وبذيله تلخيص المستدرك للذهبي. ط1،1398-1978. دار الفكر– بيروت. طبعة مصورة.
  42. ابن حبان أبو حاتم محمد بن حبان البستي توفي 354: الإحسان في تقريب صحيح ابن حيان. ترتيب علاء الدين علي بن بلّبان توفي 739هـ. تحقيق شعيب الأرنؤوط. ط1،1490-1988. مؤسسة الرسالة – بيروت.
  43. ابن حجر العسقلاني توفي 852هـ: فتح الباري شرح صحيح البخاري. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.
    الطبعة السلفية. دار الأرقم – بيروت.
  44. ابن حجر العسقلاني: المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية. تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي. ط1،1489-1987م. دار المعرفة – بيروت.
  45. ابن حجر العسقلاني: تقريب التهذيب. تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف. دار المعرفة– بيروت.
  46. ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب. دار صادر – بيروت.
  47. ابن حجر العسقلاني: تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير. تحقيق: عبد لله اليماني.
    ط1،1384-1964. طبعة المدينة المنورة.
  48. ابن حزم الظاهري: علي بن أحمد بن سعيد: المحلى. ط1: 1352. المطبعة المنيرية-القاهرة.
  49. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي. دار الأندلس- بيروت.
  50. أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي توفي:150. مسند أبي حنيفة. مع شرحه للملا علي القاري. تحقيق: خليل محيي الدين الميس. ط1 1405-1985. دار الكتب العلمية-بيروت.
  51. ابن خزيمة: أبو بكر محمد ابن إسحاق السلمي توفي 311هـ: صحيح ابن خزيمة. تحقيق د.محمد
    مصطفى الأعظمي. ط1،1396-1975. المكتب الإسلامي– بيروت.
  52. الخطيب البغدادي أبو بكر أحمد بن علي توفي 463هـ. تاريخ بغداد (مدينة السلام). تحقيق محمد
    سعيد العرفي. دار الكتاب العربي – بيروت.
  53. الخطيب الشربيني: شمس الدين محمد: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج. تحقيق: محمد خليل
    عيتاني. ط1: 1418-1997. دار المعرفة-بيروت.
  54. الخلال: أبو بكر احمد بن محمد توفي 311هـ. أحكام أهل الملل من الجامع لمسائل الإمام أحمد بن حنبل. تحقيق: سيد كسروي حسن. ط1، 1414-1994. دار الكتب العالمية – بيروت.
  55. ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم
    من ذوي السلطان الأكبر). ط1، 1399-1979. مؤسسة جمّال للطباعة والنشر بيروت.
  56. الخوئي: السيد أبو القاسم الموسوي :منهاج الصالحين .ط2 دار الزهراء بيروت . من كتب الشيعة.
  57. الدارقطني: علي بن عمر توفي 385هـ: سنن الدارقطني. وبذيله التعليق المغني على الدارقطني لأبي الطيب العظيم آبادي. تحقيق: عبد الله هاشم المدني. ط1،1386-1966. دار المحاسبة للطباعة-القاهرة.
  58. الدارمي: أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن بهرام توفي 255هـ. السنن.ط1،1400-1980. الطبعة التركية- استانبول.
  59. أبو داود: سليمان بن الأشعث السجستاني توفي 275هـ. السنن. تحقيق: محمد محيي الدين عبد
    الحميد. دار الفكر – بيروت.
  60. أبو داود: المراسيل. تحقيق شعيب الأرنؤوط. ط1، 1408-1988. مؤسسة الرسالة– بيروت.
  61. الدغمي: محمد راكان: التجسس وأحكامه في الشريعة الإسلامية. ط2، 1406- 1985دار
    السلام للطباعة – القاهرة – بيروت.
  62. ابن أبي الدنيا: أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد: مجابو الدعوة. تحقيق: محمد عبد القادر عطا.
    ط1: 1406-1986. دار الكتب العلمية-بيروت.
  63. الذهبي: تلخيص المستدرك للحاكم النيسابوري. هامش المستدرك. ط1، 1398-1978. دار الفكر – بيروت.
  64. الراغب الأصفهاني أبو القاسم الحسين بن محمد توفي 502هـ: الذريعة إلى مكارم الشريعة. تحقيق:
    أبو اليزيد العجمي. ط2، 1407-1987. دار الوفاء – القاهرة.
  65. رامي خالد عبد الله الخضر: الانتصار على العادة السرية- وسائل عملية للوقاية والعلاج منها. من
    الإنترنت.
  66. ابن رشد محمد القرطبي: بداية المجتهد ونهاية المقتصد. ط6، 1403-1983. دار المعرفة – بيروت.
  67. الزمخشري أبو القاسم جار الله محمود بن عمر توفي 538. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون
    التأويل. ط1، 1392 – 1972. مطبعة الباب الحلبي – مصر.
  68. الزمخشري: أساس البلاغة. تحقيق: أمين الخولي. ط1، 1399 – 1979. دار المعرفة – بيروت.
  69. الزيلعي: جمال الدين عبد الله بن يوسف الحنفي توفي 762 هـ: نصب الراية لأحاديث الهداية. دار
    الحديث. مصر. ط1.
  70. ستانلي لين بول: قصة العرب في إسبانيا. ترجمة: علي الجارم. ط9. دار المعارف – القاهرة.
  71. السخاوي شمس الدين محمد بن عبد الرحمن توفي 902: المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على اللسنة. ط1،1407-1986. دار الهجرة – بيروت.
  72. السرخسي: شمس الدين محمد بن أبي سهل توفي 490: كتاب المبسوط. تحقيق: صلاح الدين المنجد. دار المعرفة-بيروت.
  73. ابن سعد محمد بن سعد: توفي230 .الطبقات الكبرى .ط1، دار صادر.
  74. اللواء الركن سعيد بن عطية الزهراني: القيم الأخلاقية في الصراع الحضاري بين الإسلام والغرب. ط1:
    1424-2003. دار ابن حزم-لبنان.
  75. سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني توفي 227: السنن. تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي. ط1-
    1405-1985 . دار الكتب العلمية – بيروت.
  76. ابن السني أبو بكر أحمد بن محمد الدينوري توفي 364. عمل اليوم والليلة. تحقيق: عبد القادر أحمد عطا. ط 1 1389-1969 . دار المعرفة-بيروت.
  77. سيد أمير علي: روح الإسلام. القسم الأول.
  78. سيد سابق: إسلامنا. ط 1398-1978. دار الفكر- بيروت.
  79. سيد قطب : في ظلال القرآن .دار إحياء التراث العربي-بيروت ط7 1391 .
  80. السيوطي جلال الدين عبد الرحمن توفي 911هـ : الأشباه والنظائر. ط1، 1378- 1959.مكتبة مصطفى البابي الحلبي – القاهرة.
  81. السيوطي: الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير. ط1. دار الكتب العلمية –بيروت.
  82. السيوطي: تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي. تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف. ط1 . مكتبة الرياض – الرياض.
  83. الشاطبي أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطي المالكي توفي 790 هـ: الموافقات في أصول الشريعة.
    تحقيق: عبد الله دراز.
  84. الشافعي محمد بن إدريس أبو عبد الله توفي 204: كتاب الأم. ط2، 1403-1983. دار الفكر– بيروت.
  85. الشربيني الخطيب شمس الحق محمد بن أحمد. من علماء القرن العاشر الهجري: الإقناع في حل ألفاظ
    أبي شجاع. دار المعرفة – القاهرة.
  86. الشوكاني محمد بن علي توفي 1255 هـ: نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار. ط1، 1357 –
    1. مكتبة دار التراث – القاهرة.
  87. الشوكاني: فتح القدير. ط2، 1383 – 1964. إحياء التراث العربي – بيروت.
  88. ابن أبي شيبة أبو بكر عبد الله بن محمد توفي 235هـ: المصنف في الأحاديث والآثار. ط1،
    1401-1981. الدار السلفية – الهند.
  89. د. الصلابي: تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين.
  90. الصنعاني: محمد إسماعيل الكحلاني توفي 1182ه: سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام.
    دار الفكر-بيروت.
  91. الطبراني أبو القاسم سليمان بن أحمد توفي 360 هـ: المعجم الكبير. تحقيق حمدي السلفي.ط2
    ،1405- 1985. مطبعة الزهراء – الموصل – العراق.
  92. الطبراني: المعجم الوسيط. تحقيق: محمود الطحان. ط1،1408-1987. مكتبة المعارف – الرياض.
  93. الطبراني: كتاب الدعاء. تحقيق محمد سعيد البخاري. رسالة دكتوراه. ط1،1408-1987. دار البشائر الإسلامية – بيروت.
  94. الطبري أبو جعفر محمد بن جرير توفي 310 هـ: جامع البيان في تفسير القرآن. ط2 1392–
    1. دار المعرفة – بيروت. مصورة عن طبعة بولاق.
  95. الطبري: تاريخ الأمم والملوك. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. ط1، 1382-1962 دار سويدان –بيروت.
  96. الطحاوي أبو جعفر أحمد بن محمد الأزدي توفي 321: شرح معاني الآثار. تحقيق محمد زهدي
    النجار. ط1. مطبعة الأنوار المحمدية – القاهرة.
  97. الطرابلسي علاء الدين علي بن خليل الحنفي: معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام.
    ط2: 1393-1973. مطبعة مصطفى البابي الحلبي- مصر.
  98. الطيالسي: أبو داود سليمان بن الجارود، (ت 204هـ) مسند أبي داود الطيالسي الطبعة الهندية. دار المعرفة – بيروت. مصورة.
  99. ظافر القاسمي: الجهاد والحقوق الدولية في الإسلام. ط1: 1982. دار العلم للملايين-بيروت.
  100. عبد الرحمن عزام: الرسالة الخالدة. ط1، 1946. القاهرة.
  101. عبد الرزاق أبو بكر بن همام الصنعاني توفي 211 : المصنف ومعه الجامع لمعمر بن راشد الأزدي. تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي. ط2،1403-1983. المكتب الإسلامي – بيروت.
  102. عبد القادر عودة: التشريع الجنائي الإسلامي مقارنة بالقانون الوضعي. دار الكتاب العربي – بيروت.
  103. د. عبد الكريم زيدان: الوجيز في أصول الفقه. ط6: 1987. مؤسسة الرسالة-بيروت.
  104. د. عبد اللطيف عامر: أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الإسلامية. ط1: 1406-1986. دار
    الكتاب المصري-القاهرة.
  105. أ.د. عبد الله محمد الطيار: إتحاف أهل العصر في مسائل الجمع والقصر. من إصدارات شبكة الألوكة الالكترونية.
  106. د. عبد الوهاب الكيالي وآخرون: موسوعة السياسة. ط1 1979. المؤسسة العربية للدراسات
    والنشر- بيروت.
  107. أبو عبيد القاسم بن سلام توفي 224: الأموال. تحقيق: محمد الهراس. ط1، 1406-1986. دار الكتب العلمية – بيروت.
  108. العجلوني إسماعيل بن محمد توفي 1162 هـ: كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الحديث على ألسنة الناس. ط4، 1405-1985. مؤسسة الرسالة – بيروت.
  109. العراقي زيد الدين عبد الرحيم بن الحسين توفي 806 هـ: المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في
    تخريج ما في الأحياء من الأخبار. في هامش إحياء علوم الدين للغزالي. طبعة دار المعرفة – بيروت.
  110. ابن العربي: أبو بكر محمد بن عبد الله توفي 543: أحكام القرآن. تحقيق: محمد عبد القادر عطا.
    دار الكتب العلمية-بيروت.
  111. العز بن عبد السلام: الفتن والبلايا والمحن. أو: فوائد البلوى والمحن. تحقيق: إياد الطباع. ط1:
    1413- 1992. دار الفكر- بيروت.
  112. العظيم آبادي: أبو عبد الرحمن محمد أشرف بن أمير: عون المعبود على سنن أبي داود. تحقيق: رائد
    أبو علفه. بيت الأفكار الدولية-عمان والرياض.
  113. العلائي صلاح الدين خليل بن كيكلدي
  114. توفي 761 هـ: جامع التحصيل في أحكام المراسيل. تحقيق حمدي السلفي. ط1، 1398-
    1. الدار العربية للطباعة – العراق.
  115. د. علي أحمد السالوس: الاقتصاد الإسلامي والقضايا الفقهية المعاصرة. ط1: 1418-1998. دار
    الثقافة- الدوحة.
  116. د. علي أبو البصل: الرخص في الصلاة. ط1: 1423-2003. دار النفائس-عمان.
  117. د. عمر سليمان الأشقر: النيات في العبادات. ط4: 1418-1998. دار النفائس-الأردن.
  118. الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد توفي 505ه: المستصفى في علم الأصول. تحقيق: د. حمزة زهير
    حافظ. الجامعة الإسلامية-المدينة المنورة.
  119. د. فتحي الدريني: خصائص التشريع الإسلامي.
  120. القادري أبو سعيد نصر بن يعقوب: التعبير في الرؤيا. ط1: 1417-1997. عالم الكتب-
    بيروت.
  121. القاسمي: محمد جمال الدين: قواعد التحديث. دار الكتب العلمية-بيروت.
  122. ابن قدامة عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي. المغني على مختصر أبي القاسم الخرقي. ط1، 1401-1981. مكتبة الرياض الحديثة – الرياض.
  123. ابن قدامة: المغني مع الشرح الكبير. تحقيق: محمد خطاب والسيد محمد. ط1: 1425-2004. دار الحديث-القاهرة.
  124. القرافي شهاب الدين الصنهاجي. الفروق. تحقيق د.عبد الحميد هنداوي . المكتبة العصرية- بيروت ط 1424-2003 .
  125. القرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري: الجامع لأحكام القرآن. تقديم خليل الميس. ط1، 1415 – 1995. دار الفكر – بيروت.
  126. ابن قيم الجوزية شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر توفي 751 هـ: أحكام أهل الذمة. تحقيق يوسف البكري وشاكر العاروري. ط1، 1418-1997. رمادي للنشر – الدمام – السعودية.
  127. ابن قيم الجوزية: زاد المعاد في هدي خير العباد. تحقيق شعيب الأرنؤوط. ط15:1407-1987. مؤسسة الرسالة- بيروت.
  128. ابن قيم الجوزية : إعلام الموقعين عن رب العالمين . تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد . ط1 1423-2003 . المكتبة العصرية – بيروت .
  129. ابن قيم الجوزية: الفوائد. ط1: 1423-2002. مكتبة الصفا- القاهرة.
  130. الكاساني علاء الدين أبو بكر مسعود الحنفي توفي 587: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ط2، 1402-1982. دار الكتب العربية – بيروت.
  131. ابن كثير أبو الفداء الدمشقي توفي 774هـ: تفسير القرآن العظيم. تحقيق حسين زهران. ط1، 1406-1986. دار الكتب العلمية – بيروت. وطبعة أبو ملحم.
  132. ابن كثير: البداية والنهاية. تحقيق: علي معوض وعادل عبد الموجود وآخرون. ط2، 1418-1997. دار الكتب العلمية – بيروت.
  133. د. الكيلاني ماجد عرسان الكيلاني: أهداف التربية الإسلامية – في تربية الفرد وإخراج الأمة. ط2، 1417-1997. من منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
  134. ابن ماجة أبو عبد الله بن محمد بن يزيد القزويني توفي 275هـ : السنن. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. دار الفكر – بيروت.
  135. مالك ابن أنس توفي 175 ه : الموطأ. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. دار إحياء الكتب العربية – بيروت.
  136. مالك بن أنس الأصبحي: المدونة الكبرى. رواية سحنون، ومعه مقدمات ابن رشد. ط1: 1415-1994. دار الكتب العلمية-بيروت.
  137. الماوردي علي بن محمد بن حبيب البصري توفي 450 هـ: الأحكام السلطانية والولايات الدينية. دار الفكر – بيروت. مصورة عن طبعة البابي الحلبي.
  138. الماوردي: أدب الدنيا والدين. تحقيق: محمد فريد. المكتبة التوفيقية- القاهرة.
  139. محمد أحمد الراشد: أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي في نظريات فقه الدعوة الإسلامية. ط1: 1423-2002. دار المحراب للنشر والتوزيع- كندا.
  140. محمد رواس قلعه جي: موسوعة فقه عمر بن الخطاب. ط5 1418-1997. دار النفائس – بيروت.
  141. محمد رواس قلعه جي: موسوعة فقه حماد بن أبي سليمان. ط1: 1415-1994. دار النفائس- بيروت.
  142. محمد الغزالي: التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام. ط1: 1409-1989. دار التوزيع والنشر- القاهرة.
  143. محمد قطب: شبهات حول الإسلام. ط6. دار الشروق-بيروت.
  144. المرغيناني أبو الحسن علي بن أبي بن عبد الجلال توفي 593هـ: الهداية شرح بداية المبتدي مطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر.
  145. مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري توفي 261هـ: صحيح مسلم بشرح النووي. ط3،1404-1984 دار إحياء التراث العربي – بيروت.
  146. د. مصطفى زيد: النسخ في القرآن الكريم – دراسة تشريعية تاريخية نقدية. ط2، 1392-1973. دار الفكر – بيروت.
  147. ابن المنذر محمد بن إبراهيم أبو بكر النيسابوري توفي 319 هـ. الإجماع – ما أجمع عليه الفقهاء من الأحكام الفقهية. تحقيق محمد فريد. المكتبة التوفيقية – القاهرة.
  148. د. محمد سعيد حوى: صناعة الشباب. ط1: 1427-2006. دار السلام- القاهرة.
  149. د. محمد علي الحسن: العلاقات الدولية في القرآن والسنة. ط1،1401-1980. مكتبة النهضة الإسلامية – بيروت.
  150. مصطفى الزرقا توفي1420 :الفتاوى. اعتنى بها مجد أحمد مكي. ط2، 1422-2001 . دار القلم/ دمشق .
  151. ابن المنذر النيسابوري محمد بن إبراهيم توفي 319ه. الإجماع. ما أجمع عليه الفقهاء من الأحكام الفقهية. تحقيق: محمد فريد. المكتبة التوفيقية-القاهرة.
  152. ابن منظور : أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم الإفريقي: لسان العرب .دار صادر-بيروت.
  153. ابن منظور: مختصر تاريخ دمشق. ط1: 1984. دار الفكر- دمشق.
  154. الموسوي آية الله السيد أبو الحسن :وسيلة النجاة تعليق السيد محمد الكلبكاني ط1 ،1413-1992 . دار القارئ –بيروت . من كتب الشيعة .
  155. نائل إسماعيل رمضان: أحكام الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي /دراسة فقهية مقارنة. رسالة ماجستير. جامعة القدس أبو ديس. 1431-2010.
  156. أ. د. نادية محمود مصطفى ومجموعة من الباحثين المتخصصين في العلاقات الدولية: مشروع العلاقات الدولية في الإسلام. ط1، 1417-1996. من منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي – الولايات المتحدة.
  157. ابن نجيم: زين الدين بن إبراهيم: الأشباه والنظائر. وبهامشه نزهة النواظر لابن ن عابدين. تحقيق: محمد مطيع الحافظ. دار الفكر. طبعة مصورة عن ط1 1403-1983.
  158. ابن النحاس الدمياطي: أحمد بن إبراهيم: تهذيب مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق. والتهذيب للدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي. ط1: 2003. دار العلوم- عمان- الأردن.
  159. النسائي أحمد بن شعيب توفي 303 هـ: سنن النسائي بشرح السيوطي وحاشية السندي. دار إحياء التراث العربي – بيروت.
  160. النسائي: عمل اليوم والليلة. تحقيق فاروق حمادة. ط1، 1401-1981. مكتبة المعارف – الرباط.
  161. النسفي عبد الله أحمد محمود: تفسير النسفي (مدارك التنزيل وحقائق التأويل) .ط1، دار الكتاب العربي – بيروت.
  162. النووي يحيى بن شرف توفي 676: المجموع شرح المهذب. وهناك التكملة الثانية للسبكي. والتكملة الثانية للمطيعي. دار الفكر – بيروت.
  163. النووي: شرح صحيح مسلم. ط3، 1404-1984. دار إحياء التراث العربي – بيروت.
  164. النووي: روضة الطالبين. ومعه المنهاج السوي ومنتقى اليسبوع للسيوطي. تحقيق: عادل عبد الموجود وآخر. طبعة خاصة 1423-2003. دار عالم الكتب-الرياض.
  165. ابن هشام أبو محمد عبد الملك بن هشام: السيرة النبوية. تحقيق: مصطفى السقا غيره. ط1، 1355-1936. مطبعة مصطفى البابي الحلبي – القاهرة.
  166. الهلاوي: محمد بن عبد العزيز: فتاوى وأقضية عمر بن الخطاب: ط1 مكتبة الفرقان-القاهرة.
  167. الهيثمي نور الدين علي بن أبي بكر توفي 807 هـ : مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. ط1، 1388-1968. مؤسسة المعارف – بيروت.
  168. الهيثمي: موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان. تحقيق: محمد عبد الرازق حمزة. دار الكتب العلمية –
    بيروت.
  169. د. وهبي الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته – الشامل للأدلة الشرعية والآراء المذهبية. ط3، 1409-1989. دار الفكر – دمشق.
  170. د. وهبي الزحيلي: آثار الحرب في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة.ط4، 412 – 1992. دار
    الفكر – دمشق.
  171. د. وهبي الزحيلي: نظرية الضرورة الشرعية. ط5: 1417-1997. مؤسسة الرسالة-بيروت.
  172. ياقوت الحموي أبو عبد الله توفي 622ه: معجم البلدان. تحقيق: وستنفلد.
  173. أبو يعلى الموصلي أحمد بن علي بن المثنى التميمي .توفي 307 : مسند أبي يعلى الموصلي .تحقيق: حسين سليم أسد. ط1، 1404-1984 .دار المأمون للتراث-دمشق.
  174. أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم حبيب صاحب أبي حنيفة توفي 182هـ: كتاب الخراج. تحقيق: محمد إبراهيم البنا. ط1، 1401-1981. دار الاعتصام – القاهرة.
  175. د. يوسف القرضاوي: الفتاوى المعاصرة. ط3، 1408-1987. دار القلم–الكويت.
  176. د. يوسف القرضاوي: فقه الزكاة. ط18: 1409-1988. مؤسسة الرسالة- بيروت.
  177. د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي. ط4: 1405-1985. مؤسسة
    الرسالة- بيروت.
  178. د. يوسف القرضاوي: الحلال والحرام في الإسلام. تحقيق: ناصر الدين الألباني. ط13: 1400-
    1980. المكتب الإسلامي- بيروت.
  179. د. يوسف القرضاوي: التوبة إلى الله. ط2: 1421. مكتبة وهبة- القاهرة.
  180. يحيى بن آدم القرشي توفي 203: كتاب الخراج. ط1، 1395هـ. المكتبة العلمية – لاهور – باكستان.
  181. نشرة حقوق الإنسان الدولية. نشرة خاصة أصدرها الصليب الأحمر، عام 2000.
  182. التوراة (العهد القديم) باللغة العبرية. حصلنا على نسخة مصورة منها من الجامعة العبرية– القدس.
  183. صحيفة يديعوت أحرنوت الصهيونية.

فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة
شكر وتقدير…………………………………………………….. 2
تقديم…………………………………………………………… 3
قصة هذا البحث…………………………………………………. 5
الجهود السابقة…………………………………………………… 6
الفصل الأول: مقدمات لا بد منها……………………………… 9
تعريفات……………………………………………….. 10
تاريخ الأسر والسجون……………………………………. 12
مشروعية السجون……………………………………….. 18
مدة السجن……………………………………………. 21
قسوة السجون وشدتها……………………………………. 21
فضل السجن والأسر في سبيل الله………………………….. 26
الرباط في سبيل الله وعلاقته بالأسر…………………………. 30
سنة الابتلاء في الدعوات…………………………………. 31
فوائد الابتلاء………………………………………….. 35
الفصل الثاني: حقوق الأسرى…………………………………. 38
المبحث الأول: وجوب تحرير الأسرى…………………….. 40
المبحث الثاني: وجوب الإحسان للأسرى…………………. 64
المبحث الثالث: رعاية أهل الأسير وعائلته………………… 88
الفصل الثالث: واجبات الأسرى وأخلاقه……………………. 93
المبحث الأول: الواجبات على المستوى الشخصي والجماعي…………..100
المبحث الثاني: أخلاق ضرورية للأسير…………………………… 121
الفصل الرابع: أحكام الأسرى…………………………………………..175
المبحث الأول: تأصيلات لا بد منها……………………………. 178
-هل الأسرى أحرار أم عبيد. وعلاقة ذلك بالمعاملات المالية……… 178
-هل الأسير مسافر أم مقيم…………………………… 184
-أحكام الضرورة للأسير وحدودها……………………… 187
-المشقة والرخصة…………………………………… 190
-الإكراه وأحكامه للأسير……………………………. 193
-الرخصة والعزيمة…………………………………… 199
المبحث الثاني: عبادات الأسير………………………………… 203
-التيمم بالجدران بدل التراب…………………………. 203
-المسح على الجوربين……………………………….. 205
-صلاة الأسير…………………………………….. 206
-صلاة الجمعة للأسير………………………………. 218
-الزكاة في مال الأسير………………………………. 221
-صيام الأسير…………………………………….. 224
-الحج عن الأسير………………………………….. 225
المبحث الثالث: الأسير وأحكام الزواج……………….. 228
-الاستمناء……………………………………….. 230
-زواج الأسير……………………………………… 236
-أحكام زوجة الأسير……………………………….. 237
-خلوة الأسير بزوجته……………………………….. 238
-التفريق بين الأسير وزوجته…………………………… 239
-نفقة زوجة الأسير…………………………………. 243
-تزويج ابنة الأسير…………………………………. 245
المبحث الرابع: أحكام فقهية عامة……………………………… 247
-حكم الاستئسار (الاستسلام للعدو)…………………. 247
-عمل الأسير في السجن……………………………. 248
-التعامل مع المنافقين والعملاء……………………….. 251
-حكم الطعام الذي تقدمه إدارة السجن……………….. 258
-طرح السلام ورده على رجال الإدارة…………………… 263
-المصافحة وتشميت العاطس…………………………. 271
المبحث الخامس: تقرير مصير الأسرى غير المسلمين (إنهاء حالة الأسر). 274
-قتل الأسرى……………………………………… 276
-استرقاق الأسرى…………………………………. 282
-المن والفداء……………………………………… 290
قائمة المصادر والمراجع………………………………………………. 300