خاص هيئة علماء فلسطين
16/8/2025
المؤلف: د. أسامة فتحي أبو بكر / دكتوراه في الاقتصاد والبنوك الإسلامية وفقه المعاملات، متخصص في الاستشارات الشرعية المالية، يقدم سلسلة في التفسير على قناته على اليوتيوب،
عضو هيئة علماء فلسطين، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ورابطة علماء الأردن.
تقديم: أ. د. صلاح الخالدي رحمه الله تعالى
تعريف بالكتاب:
– هذا الكتيب استخلص صفات (البعث) الموصوفين بـ (عباداً لنا) الذين سيبعثهم الله على بني إسرائيل {بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجلسوا خلال الديار…} فهم من ستتكرر صفتهم في وعد الآخرة بعد أن بعثهم الله في وعد الأولى.
وهذه أول مرة توضح صفات هذا البعث من السورة التي ذكرتهم وهي سورة الإسراء، والتي تتميز بأمور خاصة.
– وبالتالي فمن يعملون لأجل قضية فلسطين، لابد أن يكون من أولى أولوياتهم تحرير المسجد الأقصى، وهو إن تحقق فيعني تحرير فلسطين، ويحتاجون أن يضبطوا أنفسهم بمنهجية القرآن في التحرير، وهو ما يرشدهم لتمثلها هذا الكتيب.
– سيحمل من يقرأ هذا الكتيب شعوراً كبيراً بالرغبة في أن يكون ممن يعدون أنفسهم ليكونوا من بعث الله على بني إسرائيل، وبالتالي تنضبط حياتهم بالقرآن وتستقيم، وتعلوا هممهم.
**********
مقدمة فضيلة العلامة أ. د. صلاح الخالدي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فقد نظرت فيما كتبه فضيلة الشيخ الدكتور أسامة أبو بكر حفظه الله، حول صفات بعث الله على بني إسرائيل كما وردت في سورة الإسراء، فوجدته كلاماً سديداً، ووصفاً دقيقاً وموافقاً لما عليه علماء التفسير المعتبرين من سلف هذه الأمة وخلفها.
وأجمل ما فيه أنه يقرب المؤمن من ربه، ويحثه على مراقبة مولاه والتحلي بصفات أهل الإيمان والإحسان.
وأسأل الله أن يكتب القبول لهذا الكتيب اللطيف، وأن يجزي أخانا الشيخ أسامة خير الجزاء، وأن يفرج عن هذه الأمة كل غمة.
والحمد لله رب العالين
المقدمة
الحمد لله العزيز الجبار الذي يقلب الليل والنهار، والذي رفع ذكر النبي في كل دار، وجعل أمته من الخيار الأبرار، وهداهم لسبيل النجاة والتحرير والفخار، فأنزل الإسراء على بني إسرائيل بالصغار، وجعل فيها مفاتيح العز والانتصار، وأمرنا بالاستعداد للبعث على الظالمين والفجار، فهو سبحانه الهادي من الضلال والانكسار، وهو الذي يصلي في كل حين على محمد المختار وعلى آله وصحبه الأطهار، صلوات ربي وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار، وما تنزل الله العزيز الجبار في كل ليلة وقت الأسحار، وبعد،
فقد جعل الله تعالى سورة الإسراء في وسط القرآن، وجعلها سورة النصر حيث إنها تتناول أهم قضية للمسلمين وهي قضية بيت المقدس ومسجدها الأقصى ومركزية هذه القضية في الأمة وضرورة الإعداد لها، وبين فيها بياناً شافياً لسبل التحرير للمسجد الأسير، وطرق الإعداد لتهيئة الأجناد الساعين للفتح الإسلامي القادم للأقصى وصفاتهم، والذين سيبعثهم الله تعالى على بني إسرائيل إذا جاء وعد الآخرة كما بيّنت السورة.
وما كان في هذا الكتاب من صواب فمن الله تعالى، وما كان من خطأ أو نقص فمني، وأستغفر الله تعالى منه.
وأجزل التقدير لكل من تفضل بالنصح والتوجيه والعمل لإنجاح هذا الكتاب، فجزاهم جميعاً كل خير.
وأرجو من كل مسلم حول العالم أن ينشر هذا الكتاب ويوصله لأكبر عدد من الناس، ومن أراد طبعه فله ذلك بشرط أن يكون توزيعه مجاناً بدون مقابل، وإن شاء الله تصدر عنه ترجمات لعدة لغات.
د. أسامة أبو بكر
***
أولاً: وصف السورة
مكية ماعدا الآيات [26، 32، 33، 57]، ومن الآية [73-80] فمدنية -كما في بعض الروايات-، هي من المئين، آياتها [111] آية، هي السورة السابعة عشرة من حيث الترتيب في المصحف، والخمسون حسب ترتيب النزول. نزلت بعد سورة «القصص». أسماء أخرى للسورة: تسمّى أيضاً سورة سبحان، وسورة بني إسرائيل.
ثانياً: صفات البعث الذين سيبعثهم الله تبارك وتعالى على بني إسرائيل، كما بعث عليهم في الوعد الأول (وعد أولاهما)، فسيبعث عليهم في الوعد الآخر (وعد الآخرة)؛ عباداً لله – نسأل الله تعالى أن نكون منهم-.
نحن نتحدث عن صنف خاص ونوع فريد من الناس، إنهم أولئك الذين سيشرفهم الله تعالى بأمانة استرداد المسجد الأقصى، وسيسيرون على خطى محمد ﷺ في الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهم الطائفة المنصورة التي لا تزال ظاهرةً على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، وهم السراة القادة الذين سيدخلون على العدو ويفتحون باب النصر بإذن الله، ومن ثم يتبعهم بقية المسلمين، وهم يتصفون بصفات خاصة نذكر منها هذه الصفات التي وجدنا إشارات لها في سورة الإسراء بشكل مركز، وكل القرآن دستور وهداية وباب للخير والنصر، ولكن في سورة الإسراء خصوصية كما ذكرنا لمنهجية التحرير، فإلى كل مسلم يتوق لتحرير المسجد الأقصى، اقرأ هذه الصفات والإشارات لها قراءة متأنية متبصرة، واعمل لتتمثلها أنت وأهلك وأبناؤك، واحرص عليها لتكون من بعث الآخرة على بني إسرائيل:
أنهم معظمون لله تعالى ومنزهون له، وأنهم أهل تسبيح وتمجيد لله، فقد ابتدأت السورة بذكر التسبيح لله تعالى إشارة إلى ما يردده ويلتزمه من يهتم بأمر المسجد الأقصى ويسعى في تحريره ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ١﴾
والفعل عادة مقيّد بزمن ومقيّد بفاعل، فعندما قال تعالى ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى﴾ كان مطلقاً قبل وبعد تسبيح المسبّحين؛ لا بفاعل معين وزمن معيّن إنما له التسبيح المطلق قبل أن يخلق المسبحين أصلاً. فالإطلاق في التسبيح في السورة متناسب جداً مع ما جاء في أول السورة ﴿سُبْحَانَ الَّذِي﴾ وهو التسبيح المطلق. وليس هناك في القرآن كله سورة شاع فيها التسبيح كما شاع في سورة الإسراء ولا توجد سورة تضاهيها في تسبيح الله ولعلها إشارة إلى أن الرسول ﷺ سينتقل إلى عالم وجو مليء بالتسبيح حين يكرمه الله بالعروج إلى السماوات، فيلقى ملائكة الرحمن ﴿يُسَبِّحُونَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ لَا يَفۡتُرُونَ﴾ فالسورة إذن مشحونة بالتسبيح.
أسرى تفيد المشي ليلاً وقد يكون من معانيها التسرية عن رسول ﷺ بعدما لاقاه في عام الحزن وما حصل له في الطائف، فأراد الله تعالى أن يُسرّي عن رسوله ﷺ ويريه كيف تكون حفاوته في السماء بعد أن هان على الكفّار في قريش والطائف فآذوه ولم ينصروه، وهي كذلك تسرية للعاملين لنصرة وتحرير الأقصى، بأن الله تعالى سيسري عنهم، وكذلك إشارة إلى اهتمامهم بالسرية والكتمان، فهم يعملون بالخفاء ولا يظهرون كثيراً في الأضواء.
﴿ليلاً﴾ ومن صفات بعث وعد الآخرة على بني إسرائيل، أن لهم شغفاً بالليل وأنسا بخالقهم الذي عظموه في هذا الليل، وأنهم ممن يرتبطون بربهم سبحانه بخصوصية لا تراهم فيها العيون، ولا يطمئنون إلاّ إلى الخلوة بـه سبحانه وتعالى.
﴿ليلاً﴾ كما أنهم يتخذون في حركتهم ستاراً لكيلا يعلم بهم أعداؤهم، ويأخذون بالأسباب بالرغم من أنهم مع ربهم، إلا أنه يريد لهم العمل والسعي والبذل لتحقيق أعلى درجات العبودية له سبحانه.
وارتباطهم بالعبودية لربهم، جعلهم يأنسون في بيوته، فالإسراء من المسجد إلى المسجد، فَبَعْثُ الله في وعد الآخرة، انطلاقهم من المساجد، ويأوون إلى المساجد، تعلقت قلوبهم بالمساجد، وعرفوا حقها، وأحبَّوا المساجد التي هي بيوت الله، فيرفعونها ويذكرون اسمه سبحانه فيها، يسبحون له فيها بالغدو والآصال. وقد أخبر النبي ﷺ عن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، كما جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)، فمن تعلق قلبه بالمساجد كان في أمن الله وحمايته يوم القيامة من الشمس الحارقة التي ستدنو من الخلائق قيد ميل، وهو في أمن الله وحمايته من الفتن والفساد في الدنيا، فالمساجد لله تعالى، وهي بيوته التي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه العظيم، فينبغي أن يعرف أهل وعد الآخرة أهمية المساجد وقدرها، فيعظموها ويعمروها، وينشئوا فيها النشأ الذي يتربى على القرآن والسنة والأخلاق والجهاد، ويكون وقود التحرير للمسجد الأقصى.
وكذلك فقد جاء ذكر الإسراء من ﴿الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾، وفي هذا إشارة إلى أن بعث وعد الآخرة يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالمسجد الحرام ويعظمونه، ويرتبطون كذلك ارتباطاً وثيقاً بالمسجد الأقصى ويعظمونه، وأنهم لا يفرطون في أي منهما، وأنهم يعرفون قوة الصلة والارتباط بين المسجدين، وأن كليهما رمز إيمان وعزة للمسلمين، فمن فرط بالأقصى فرط بالمسجد الحرام، ومن فرط بالمسجد الحرام فرط بالأقصى.
والظاهر أن المسجد الحرام هو الرمز الإيماني الروحي، والمسجد الأقصى هو الرمز الإيماني القيادي السياسي، فمتى كان المسجدان في حياض الأمة الإسلامية وكنفها؛ كانت الأمة مستقيمة قوية، وأما إن فرطت في أي منهما أو فرطت في كليهما، فهذا يدل على ضعفها وتراجعها، فالقيادة والريادة في المسجد الأقصى، وكما تشير الآية إلى انطلاق النور من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فكذلك كانت انطلاقة الحق والقيادة والخلافة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه عبدالله بن عمرو، أن النبي ﷺ قال: (إنِّي رَأيتُ كأنَّ عَمودَ الكِتابِ انتُزِعَ مِن تَحتِ وِسادتي،
فأَتبَعْتُه بَصري، فإذا هوَ نورٌ ساطِعٌ، عُمِدَ به إلى الشَّامِ، ألَا وإنَّ الإيمانَ إذا وَقَعَتِ الفِتنُ بِالشَّامِ). وعمود الكتاب هو ما يعتمد عليه الإسلام والدين، وما يلتف حوله المؤمنون، فكأن سارية الدين ورحاه قد نقلت من المدينة المنورة أو من أرض الحرمين إلى بلاد الشام وبالأخص في بيت المقدس، وهو الموضع الذي بشر النبي ﷺ بأن الخلافة ستنزل فيه؛ كما في حديث: (يا ابن حوالة؛ إذا رأيت الخلافة قد نزلت أرض المقدسة، فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب من الناس من يدي هذه من رأسك). قال الحاكم في المستدرك: صحيح الإسناد، وصححه الألباني، وكذلك ما ذكر عن نزول المهدي في بيت المقدس كما جاء عن أبي سعيد: قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: يخرج رجل من أمتي يقول بسنتي، يُنزِلُ الله -عز وجل- له القطر من السماء، وينبت الله له الأرض من بركتها، تُملأ الأرض منه قِسطًا وعَدلًا كما مُلِئت جورًا وظلمًا، يعمل على هذه الأمة سبع سنين وينزل بيت المقدس.
ومن صفاتهم أنهم يوحدون الله تعالى بأسمائه وصفاته، ويتعاملون معها تعاملاً لصيقاً مستمراً يخالط كل حركة في حياتهم، ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، الذي يسمعهم ويسمع نداءهم، ويسمع شكواهم، ويسمع دعاءهم، وهو الذي يبصرهم ويسرّون برعايته وعنايته لهم، ويبصر حال مسجدهم، وحال أعدائهم، وله حكمة في كل حركة وسكنة، فمن أراد أن يكـون من بعث وعد الآخرة؛ عليه أن يعيش في هذه الدنيا متعلقاً مرتبطاً بأسماء الله الحسنى وهو القائل ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾، فعامة الناس لا يحفظون إلا عدداً قليلاً من أسماء الله الحسنى ويدعون بها، أما أكثر الأسماء الحسنى فلا ترد في دعوات الناس، فكم منا من يدعو باسم: الشهيد؟ وكم منا من يدعو باسم الولي وباسم الخافض؟ بالرغم أننا أمرنا بالدعاء بكل الأسماء الحسنى.
فإذا أراد من له صلة بالله أن يدقق في السمع فيدعو: يا سميعُ أسمِعني، وإذا أراد حمل شيء قال: يا رافع يا قوي أعني، وإذا أراد البحث عن شيء قال: يا واجد أوجد لي كذا وكذا، وإذا أراد العلم ناداه عز وجل يا عليم علمني، وإذا أراد الرشد والحكمة في أمر قال: يا رشيد أرشدني يا حكيم ارزقني الحكمة، وإذا أراد الفتح فليكثر من الدعاء باسم الله الفتاح، وهكذا تنصبغ حياته كلها بغاية تحقيق أسماء الله تعالى في الدنيا ، وبذكر الله، ويترقى في عبوديته لله، فيكرمه الله تعالى بالإجابة، ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ﴾.
﴿أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ﴾ أنهم يتصفون بالعبودية لله تبارك تعالى، وهو أعظم مقام بين الخالق والمخلوق، والعبودية تقتضي الانصياع والخضوع التام لله رب العالمين في أوامره ونواهيه، والخوف من مخالفة أمره.
العبودية، فيها محبة وخوف ورجاء، فالعبودية: تقتضي أن يحب العبد المعبود، وهذا الحب ليس مجرد حب عاطفي! بمعنى أن يقول: إني أحبك، وأنا أحبك، ولكن الأفعال والأقوال على غير هذا، فمحبة الله ليست مجرد محبة عاطفية لكنها محبة تقتضي الطاعة؛ إن المحب لمن يحب مطيع، وهذه المحبة مقدمة على محبة الولد والوالد والناس أجمعين، وكذلك محبة كل ما في الدنيا من مال أو متاع، (مساكن ترضونها أو تجارة تخشون كسادها)، فمحبة الله في العبودية مقدمة على محبة كل أحد.
وهذا المقام مقام تشريف، فحين يصف الله تبارك وتعالى واحداً من خلقه أنه عبده، فهذا تشريف ورفعة عظيمة لهذا المخلوق، فمن ذا الذي ينال حظوة الوقوف بين يديه، والأهلية للترقي على أعتابه بقربه وخطابه.
ولذلك فقد نادى الله تبارك وتعالى حبيبه وصفيه محمداً ﷺ في أشرف المقامات بالعبودية، وهذه المقامات:
– مقام التنزيل ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾.
– مقام الدعوة ﴿وَأَنَّهُۥ لَمَّا قَامَ عَبۡدُ ٱللَّهِ يَدۡعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيۡهِ لِبَدٗا١٩﴾
– مقام التحدي ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
– مقام الإنذار: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾
– مقام الهداية من الظلمات إلى النور: ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾
– إضافة لمقام الإسراء هذا.
﴿لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ﴾ من أبرز ما يتحصل لهم في سيرهم للإسراء إلى المسجد الأقصى، تحقق (الرؤيا) لآيات الله تعالى، وهو مقام عالٍ مخصوص، لا يتأتى للعبد حتى يبلغ منزلة رفيعة ومقاماً سامياً في علاقته بربه سبحانه وتعالى؛ قال سبحانه: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلۡمُوقِنِينَ٧٥﴾ [الأنعام:75]، فهؤلاء الأولياء لله المجتهدون بالعمل والسعي لتحرير بيت المقدس، وبما يتصفون به من صفات أخرى؛ يصبح لديهم مشاهدة لقدرة الله ومعيته وعظيم خلقه، ويصبح لديهم من اليقين ما يُبلغهم مرتبةَ الإحسان «أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ»، فتصبح الرؤيا عندهم كأنهم يرون الله تعالى، ويرون نتائج ما يعملون له من جهاد للتحرير كأنها حقيقة ماثلة أمام أعينهم، ويتحدثون بذلك عن يقين وليس عن شك، وهذا هو المقام الرفيع، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي (من عادى لي ولياً فقد آذنته بحرب مني، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإن أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وقدمه التي يمشي بها، وإذا سألني لأعطينه، وإذا استغفرني لأغفرنّ له، وإذا استعاذني أعذته). فهنيئاً لمن رأى بقلبه آيات ربه، واستشرف تجليات عظمته، وأيقن بموعوده، وصار بكليته محققاً للعبودية لربه، فهو لا يسمع إلا بنور الله، ولا يبصر إلا بنور الله، ولا يحرك جوارحه إلا بنور الله، وهو الذي يعيش في معية الله، فأنى يخذله الله ؟!
﴿بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ﴾ وبَعْثُ وعد الآخرة يفهمون ما في الآية من إشارة إلى أن البركة «حول» المسجد الأقصى، ولم يذكر البركة فيه ذاته، لأنه أصلاً مبارك ومعظم كمسجد لله، ولكن ذكرت البركة حوله، إشارة إلى أنها إذا تحققت حوله وصلت إليه بالتحرير.
وقد أسند تعالى المباركة لنفسه للدلالة على التعظيم ولم يقل بورك حوله، والنون للعظمة لم يقل باركناه، بل قال باركنا حوله، لأنه لو قال (باركناه) لانحصرت المباركة بالمسجد فقط؛ أما باركنا حوله فهو يشمل كل ما حوله وهو تعظيم للمسجد نفسه، ولكنه إشارة أن المباركة حول المسجد أيضاً. ولم يقل (باركنا ما حوله) لأنها عندئذ تعني الأشياء، فإذا زادت الأشياء زادت المباركة، وإذا ذهبت تلك الأشياء؛ ذهبت المباركة، لكن المباركة كانت مطلقة تشمل أشياء معنوية وماديّة وروحية بما أودع الله تعالى فيه من رزق وخير وإرسال الرسل، ولا تختص المباركة بشيء معين واحد وإنما تشمل كل هذه الأشياء.
ولذلك تراهم -بَعْثَ وعد الآخرة- حريصين على دوام الوجود في القدس وما حولها، ولهم شوق دائم بالسكن والمرابطة حول المسجد الأقصى، وفي أقرب النقاط منه، ويصعب عليهم البعد عنه، كما إنهم يجدون بركة هذا في أنفسهم ومعيشتهم، ومستعدون للصبر على شيء من اللأواء التي قد يجدونها؛ في سبيل البقاء في هذه البقعة المباركة.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: وجدت بخط أبي، ثم روى بسنده إلى أبي أمامة قال: قال ﷺ: «لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك»، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: «ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس» وأخرجه أيضا الطبراني. قال الهيثمي في المجمع ورجاله ثقات.
من صـفـات هذا البَعْثِ، أنهم يراقبـون ربهم سبحـانه وتعـالى، فهـو ﴿ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ﴾، يسمعهم ويسمع ما يُكاد لهم، ويبصرهم ويبصر ما يُحاك ضدهم، ولذلك فقد أقاموا خشيته عماداً في سيرهم إليه وتحقيق أمره بالانبعاث على بني إسرائيل، وتعلقوا بقدرته أن يلهمهم السداد في مواجهة أهل الباطل وما يكيدونه، وتوكلوا عليه حتى كان حسبهم وكافيهم.
وكذلك فهم يُعمِلون السمع والبصر في سيرهم لتحرير قدسهم وأقصاهم، فلا يفرطون بوسيلة ما، ولا يعدمون أمراً يمكن أن يمدهم بالعون لذلك، ووسائل السمع والبصر في أيامنا قد تطورت كثيراً، فبذل الجهد في تطوير وسائل العمل لتحرير الأقصى واجبٌ شرعي، والبحث في كل أدوات السمع والبصر، والأثير والحواسيب والبرامج؛ لهو أمر مهم يرشدهم إليه إيمانهم بأن الله تعالى خالقهم هو من يملك كل ذلك ويعين عليه.
﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا٢﴾ بعث الله لا يتخذون من دونه وكيلاً ولا معتمداً، ولا يعلقون آمالهم إلا بالله، فالأمر هنا ليس للاستئناس بل للوجوب، فمن يعمل لتحرير الأقصى لا يجوز له أن يتخذ أولياء من دون الله، ولا أن يثق بأحد إلا الله، فعظمة المسجد الأقصى ومكانته عند الله، تجعله لا يُمكّن أحداً اعتمد على غيره من الانتصار أو نيلِ شرفَ تحريره، فانتبه لذلك.
﴿إِنَّهُۥ كَانَ عَبۡدٗا شَكُورٗا﴾ هم من عباد الله الشكورين، والشكـر ليس مجـرد قـول باللسـان، بل هو عمل بالأركان ﴿ٱعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرٗا﴾، فيديمون الشكر القولي والعملي لله تعالى، لا يكفرون نعم الله، ويؤدون حقها، ويعملون في نفع الخلق. ويجعلون الشكر مقترناً بالعبودية والتذلل لله بهذا العمل، فمن شُكْرِ الله؛ العملُ لتحرير الأقصى، والعملُ بما أكرمهم الله به من النعم.
﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا٤﴾ ومن صفاتهم أن لديهم وعياً وفهماً لطبيعة العدو الذي يواجهونه، فقد ذكرت الآية أنّ الإفساد والعلو من بني إسرائيل، وكلمة بني إسرائيل لا تعني حصراً اليهود، بل هي تشمل كل هذا العرق وكل المرتبطين بخرافة «دولة إسرائيل» والنبوءات الكاذبة، ويمكن الاصطلاح عليهم في أيامنا بـ (الصهاينة) بكل أشكالهم.
﴿لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا٤﴾ يعلم المؤمنون الذين يُعدّون أنفسهم ليكونوا من بعث وعد الآخرة؛ أن بني إسرائيل سيعلو شأنهم، ولذلك لا يصابون بالهلع ولا باليأس، بل إن ما يرونه في الواقع يصبح سبباً في زيادة إيمانهم وثقتهم في دينهم، بل يقولون إن هذا ما أخبرنا الله تعالى به، كما قال الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله، أنه عندما احتلت القدس سنة 1967، سمع أحد شيوخه بالخبر، فسجد لله، فتعجب من معه، وقالوا له: كيف تسجد شكراً على مصيبة عظيمة حلت بالأمة؟
قال: إنني لم أسجد لأن المسجد الأقصى قد احتل، ولكنني أسجد لأن ما أخبر الله به قد تحقق، فاحتلال المسجد علامة على صدق القرآن وتحقق ما جاء فيه، ولذلك يرى المؤمن أن وجود الإفساد من بين إسرائيل، هو مصـداق لمـا أخبر الله تعالى به، وهذا مما يزيد من يقينـه بما سيـأتي بعده ﴿وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾، وهذا مما يدفعهم إلى العمل والاستعداد وعدم الاستكانة والخذلان، وهذا من الصفات المهمة لبعث وعد الآخرة؛ أنهم يخططون لمواجهة إفساد بني إسرائيل، ويخططون لتخليص المسجد الأقصى منهم.
وكذلك نجد هذا المعنى من الثقة بوعد الله ونصره في قوله تعالى ﴿وَكَانَ وَعۡدٗا مَّفۡعُولٗا﴾، فيا أيها المشتاق لتحرير المسجد الأقصى، ويا أيها المرابط على الثغور ينتظر يوم التحرير، ثق بربك سبحانه وتعالى، فمن أصدق من الله حديثاً؟ ومن أصدق من الله قيلاً؟، فالله تعالى عندما يعد فإنه لا يخلف الميعاد.
﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَـاسُوا خِلَالَ الدِّيَـارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا٥﴾
﴿عِبَادًا لَنَا﴾، وكلمـة (عِبَادًا) تطلق على مَنْ تنازل عن منطقة الاختيار في العبودية، وجعل نفسه مقهوراً لله حتى في المباحات، ولا تكون إلا في الدنيا في دار التكليف؛ لأنها محل الاختيار، وفيها نستطيع أن نُمَيِّز بين العباد الذين انصاعوا لربهم وخرجوا عن مرادهم لمراده سبحانه، وبين العبيد الذين تمرَّدوا واختاروا غير مراد الله عز وجل في الاختياريات، أما في القهريات فلا يستطيعون الخروج عنها.
فإذا جاءت الآخرة فلا محلَّ للاختيار والتكليف، فالجميع مقهور لله تعالى، ولا مجالَ فيها للتقسيم السابق، بل الجميع عبيد وعباد في الوقت ذاته.
إذن: نستطيع أن نقول: «إن الكل عبادٌ في الآخرة، وليس الكلٌّ عبـاداً في الدنيـا». وعلى هـذا نستطيع فهم معنى ﴿عِبَادًا﴾ في الآيتين: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ [المائدة:118]. وقوله: ﴿أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ﴾[الفرقان: 17].
فسمّاهم الحق سبحانه عباداً؛ لأنه لم يَعُدْ لهم اختيار يتمردون فيه، فاستوَوْا مع المؤمنين في عدم الاختيار مع مرادات الله عز وجل.
إذن: فقول الحق سبحانه: ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ﴾ [الإسراء: 5].
المقصود بها الإفساد الأول الذي حدث من اليهود في ظِلِّ الإسلام، حيث نقضوا عهدهم مع رسول الله ﷺ، والعباد هم رسول الله والذين آمنوا معه عندما جَاسُوا خلال ديارهم، وأخرجوهم من المدينة وقتلوا منهم مَنْ قتلوه، وسَبَوْا مَنْ سَبَوْه، وهذه الكلمة تختلف عن كلمة «عبيد» والتي تصف حال القهر الإلهي لكل المخلوقات والذين هم في قبضة الحق سبحانه هيمن عليهم وقهرهم، فهم عبيد له فيما لا اختيار لهم فيه».
وفي هذا إشارة إلى أن الإفسادين سيحصلان من بني إسرائيل بعد مبعث النبي محمد ﷺ.
وهؤلاء البعث من أبرز صفاتهم العبودية المطلقة لله تعالى، فقد خضعوا لربهم وحققوا معاني العبودية القلبية من الإخلاص والتوكل والمحبة والرضا واليقين، وحققوا معاني العبودية العملية من إقامة الصلاة والذكر والحياة مع القرآن، والصوم، والزكاة، والحج، وسائر العبادات التي يحبها ربهم سبحانه وتعالى، فصفة العبودية تشعرنا بقربهم من ربهم وحظوتهم عنده سبحانه، فهم قد وقفوا عند حدود الله فلم يتعدوها؛ فلم يأكلوا الربا، ولم يتعدوا على الحرمات ولا على الأعراض ولا على الحقوق، فالعبد قريب من سيـده يخضع لأوامـره وينتهي عن نواهيه، عبودية تشرفوا بها كسيدهم المـقـدم محمدٌ ﷺ والـذي جـاء وصفه في أول السـورة بأشرف الألقـاب ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ﴾، وقد نسبه الله تعالى لذاته العلية، ونسب هؤلاء العباد لذاته العلية كذلك، فمحمد ﷺ عبد الله وحبيبه، والسائرون على طريق محمد في الإسراء للمسجد الأقصى عباد الله الذين أحبوه ووثقوا به واطمأنوا لشرعه وساروا على نهج نبيه محمدٍ ﷺ.
﴿أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ﴾ فلا يظن من يقرأ أن هؤلاء الذين سيبعثهم الله على بني إسرائيل ويتصفون بالعبودية؛ أنهم إذاً ضعفاء أذلة خانعون، بل هم أولوا بأسٍ شديد، ولم يذكر الله تعالى أنهم أولو «قوة»، فلربما لا تتوفر لهم القوة من السلاح والعتاد والمعونة من الناس، لكنّه وصفَهُم بوصف يبقى؛ فهم ﴿أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ﴾، في ذاتهم أقوياء أشداء على الكفار، وإن كانوا رحماء بينهم-، وبأسهم يجعلهم يحملون أنفسهم على الصبر والمصابرة والمغالبة والمجاهدة، ويرابطون لأجل دينهم، ويعدون أنفسهم للمعركة.
﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا٥﴾ صفات بعث وعد الآخرة هي نفسها صفات البعث الأول، كما جاس الأوائل في الديار، فسيسير بعث وعد الآخرة يجوس فيها يفتش ويبحث عن الصهاينة فرداً فرداً، ويطهر الأرض منهم، «وجاسوا خلال الديار أَي تردّدوا بينها للغارة، وهو الجَوَسانُ، وقال الفراء: قتلوكم بين بيوتكم، قال: وجاسُوا وحاسُوا بمعنى واحد يذهبون ويجيئون؛ وقال الزجاج: فجاسوا خلال الديار أَي فطافوا في خلال الديار ينظرون هل بقي أَحد لم يقتلوه؛ وفي الصحاح: جاسوا خلال الديار أَي تخللوها فطلبوا ما فيها، كما يَجُوس الرجلُ الأَخبار أَي يطلبها، وكذلك الاجْتِياسُ. والجَوَسان، بالتحريك: الطوفان بالليل».
وجاسُوا من جاسَ أي: بحث واستقصى المكان، وطلب مَنْ فيه، وهذا المعنى هو الذي يُسمّيه رجال الأمن (تمشيط المكان). وهو اصطلاح يعني دِقّة البحث عن المجرمين في هذا المكان، وفيه تشبيه لتمشيط الشعر، حيث يتخلل المشط جميع الشعر، وفي هذا ما يدل على دِقّة البحث، فقد يتخلل المشط تخلُّلاً سطحياً، وقد يتخلل بعمق حتى يصل إلى البشرة فيخرج ما لصق بها.
إذن: جاسُوا أي: تتبعوهم تتبعاً بحيث لا يخفي عليهم أحد منهم، وهذا ما حدث مع يهود المدينة: بني قينقاع، وبني قريظة، وبني النضير، ويهود خيبر.
«ونلاحظ هنا أن القرآن آثر التعبير بقوله: ﴿بَعَثْنَا﴾ [الإسراء: 5]، والبعث يدل على الخير والرحمة، فرسول الله ﷺ لم يكن في حال اعتداء، بل في حالة دفاع عن الإسلام أمام مَنْ خانوا العهد ونقضوا الميثاق، وكلمة: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ تفيد العلو والسيطرة».
وكذلك بعث وعد الآخرة سيبعثهم الله فينتشروا ويجوسوا في كافة المناطق، ويقضوا على الصهاينة في كل زاوية.
وسيبعثهم الله بعد أن ظن الناس أنهم قد ماتوا، فهذه الأمة مهما ضعفت ونامت، فإنها بأمر الله لا تموت، فهي خير الأمم، ومشروع إحياء بعث وعد الآخرة هو من أعظم المشاريع التي ينبغي العمل عليها، وهو بعث ليس لفلسطين وحدها، بل هو بعث للأمة كلها.
وكلمة (الديار) يمكن أن تكون (البلاد)، ولكنها تصلح هنا أكثر لتكون المناطق المسكونة المأهولة، لأن الحديث عن مكان واحد وهو الاتجاه نحو المسجد الأقصى، فسيجوس عباد الله المجاهدون خلال المناطق المحيطة بالأقصى ليصلوا إليه، وسيسطرون على هذه المناطق التي يجوسونها حتى يبلغوا غايتهم، ويحققوا موعود الله لهم فهو وعد (مفعول).
﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا٥﴾ على العاملين لهذا الدين ولقضية المسجد الأقصى ممن يرجون أن يكونوا من بعث وعد الآخرة على بني إسرائيل؛ أن يعرفوا بأنه كما وجد وعدٌ أوّلي، فهناك وعدٌ أخروي، وهذا يعني أنهما فقط وعدان، الأول مضى وانقضى في زمن النبي ﷺ وأصحابِه رضوان الله عليهم أو في زمن قبله -على اختلاف آراء المفسرين-، ونحن بانتظار الوعد الآخر، وهي المرة الآخرة التي سينبعث فيها أولياء الله تعالى؛ ينبعثون من سباتٍ غطت فيه هذه الأمة، فيخرجون بعد سبات وموت مؤقت كما يموت النائم، فإذا بهم يفجأون بني إسرائيل وأولياءهم، فيسوؤون وجوههم، وإساءة وجوه الصهاينة مشروع ينبغي أن يعمل عليه كل المخلصين للإسلام، وكل من يرجو أن يكون من بعث وعد الآخرة، وإساءة وجوههم لها صور كثيرة: في الإعلام، وفي السياسة، وفي الاقتصاد، وفي الأبحاث العلمية، وفي المحافل الدولية، وفي منظمات حقوق الإنسان، وفي أرض المعركة والأمن والجاسوسية، وعلى كل مسلم في موقعه أن يسعى لإساءة وجوه بني إسرائيل وأن يفضحهم وينشر كذبهم، ويظهر خطرهم على الدنيا والإنسانية وليس على المسلمين فقط.
وخلال فترة إساءة الوجوه سيكون الإعداد على قدم وساق، وعندما يتم فضحهم وتعريتهم؛ سيكون الطريق معبداً لدخول المسجد الأقصى، وهو وعد الله تعالى لنا ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا٧﴾ ﴿وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ﴾، سندخله محققين وعد الله لنا، ومطهرينه من رجس الصهاينة.
وسندخله ﴿كَمَا﴾ دخله أسلافنا الصحابة رضوان الله عليهم، فقد دخله عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاتحاً مطهراً، وربما تكون طريقة الدخول مماثلة للمرة الأولى بمعنى أن تكون بدون قتال كما تسلم عمر رضي الله عنه مفاتيح بيت المقدس من غير مواجهة، وربما يكون فقط المقصود دخول فتح من قبل أتباع محمد ﷺ كدخول الفتح العمري الأول.
ومع دخولهم المدوي، وتكبيراتهم التي ستصدح في أرجاء المسجد، ودموع المسلمين الحاضرين تبلل أرض المسجد لتغسل آثار الصهاينة الأنجاس، وتطهره من رجسهم؛ ومع هذا الدخول العظيم، يبدأ إسقاط علو بني إسرائيل ﴿وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾، وإسقاط كل ما رفعوه وأعلوه، فهو يوم التتبير، وتَبَّرَه أي: كَسَّره وأهْلَكه. وقال الزَّجّاجُ في قوله تعالى: ﴿وكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً﴾ قال: التَّتْبِيرُ: التَّدميرُ وكلُّ شيءٍ كَسَّرْتَه وَفَتَّتَّه فقد تَبَّرْتَه. التَّبَارُ كسَحَابٍ: الهَلاكُ وقولُه عزّ وجلّ: ﴿ولا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلا تَبَاراً﴾ أي هَلاكاً قال الزَّجّاج: ولذلك سُمِّيَ كلُّ مُكَسَّرٍ تِبْراً .
وهذا يعني أنه سيتم تكسير وتدمير ما صنعه الصهاينة من سلطان وعلو وبناء، وهذه نهاية الباطل ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ٤٥﴾ [الأنعام: 45]، ولكن هذا التدمير للباطل ليس كأيّ تدمير، إنه تدميرُ رأس الباطل وأساس الشر، والصَفّ الأول لإبليس، فبعد أن تجمعوا في فلسطين، وتطاولوا على بيت المقدس ومسجدها الأقدس، وسعوا لتهويد المسجد والبلدة؛ أراد الله تعالى لهذه الأمة أن تنهض وتستيقظ من كبوتها؛ بعد أن استجمعت قواها، وانطلقت ودخلت المسجد، فإذا بعروش الباطل وأذياله الأخرى تسقط.
وسيفر اليهود إلى خارج الأرض المقدسة، ليكون لنا معهم لقاءٌ في آخر الزمان، يوم يأتون مع الدجال بعد أن تجمعوا في أصبهان، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مِنْ يَهُودِيَّةِ أَصْبَهَانَ، مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ الْيَهُودِ، عَلَيْهِمْ السيجان) رواه أحمد (21/55) وهو حسن. وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: (وَإِنَّهُ يَخْرُجُ فِي يَهُودِيَّةِ أَصْبَهَانَ) رواه أحمد (41/15) وهو حسن.
وحينها سينطق الجماد صارخاً بأهل الإسلام أن تخلصوا من هذه الشرذمة النجسة وطهروا الأرض منها؛ كما في صحيح مسلم (2922) من حديث أبي هريرة أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قَالَ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ)، ولذلك على المسلمين أن يستوعبوا عقيدة أن المسجد الأقصى سيتحرر قريباً إن شاء الله، ولن يبقى مع اليهود إلى قيام الساعة كما يظن البعض، فإن دخولنا إلى المسجد الأقصى وتطهيره من رجز يهود قريب جداً إن شاء الله، وأما المعركة الأخيرة فإنها ستكون بعد ذلك بفترة طويلة -الله أعلم بمقدارها- حين يأتي الدجال ومعه سبعون ألفاً من يهود أصبهان.
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا٩﴾، أهل بعث وعد الآخرة هم أهل القرآن، يرتبطون به ارتباطاً وثيقاً، ويأتي التأكيد في السورة التي جاءت في وسط القرآن، وذُكر القرآن فيها أكثر ما ذكر، فهي بحق سورة القرآن، فمن أصل (66) مرة جاء ذكر القرآن في القرآن الكريم كاملاً بصيغ متعددة، فقد وردت كلمة القرآن بمفردات عدة (11) مرة في سورة الإسراء خاصة، ومنها التأكيد على أن «هذا القرآن»، واسم الإشارة هنا إما لعموم القرآن، أو لسورة الإسراء تحديداً، هذا القرآن يهدي للطريقة الأقوم والأصح والأكثر نجاعة، وذلك في أمور المسلم عموماً، وفي مسألة الانتصار وتحرير المسجد الأقصى على وجه الخصوص، فهذا القرآن هو الهادي إلى الطريق المستقيم، وإلى وسائل النصر المبين، وهذه السورة المباركة -سورة الإسراء- هي مفتاح هذا الانتصار في هذا القرآن.
إن في هذه السورة بشارة الانتصار لمن استطاع التدبر والاعتبار، ﴿وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾، فللمؤمنين العاملين لهذا الدين والمتتبعين لصفات بعث الله في وعد الآخرة بشارة من الله بأن لهم أجراً كبيراً في الدنيا بتحقيق الانتصار، وفي الآخرة بصحبة النبي المختار محمد ﷺ الذي تبعوا هُداه ودافعوا عن مسراه.
﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا١١﴾ من صفات بعث وعد الآخرة، أنهم لا يدعون على أنفسهم وأهليهم بالشر، وأنهم يتصفون بالحِلم والأناة، فاستعجال الدعاء وسرعة الغضب والعداء، ليست من صفات الأصفياء الأنقياء أهل الإسراء، فالإنسان يدعو على ماله وولـده ونفسه
﴿بِالشَّرِّ﴾ فيقول عند الغضب: اللهم العنه وأهلكه ونحوهما؛ ﴿دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ﴾ أي: كدعائه ربَّه [بالخير] أن يهب له النعمة والعافية، ولو استجاب الله دعاءه على نفسه لهلك، ولكن الله لا يستجيب بفضله، ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ بالدعاء على ما يكره أن يستجاب له فيه. قال جماعة من أهل التفسير وقال ابن عباس: ضجراً لا صبر له على السراء والضراء.
فلا تتعجل عند الغضب أو عند الكرب بأن تدعو على نفسك أو من حولك بالشر، فلربما كانت ساعة استجابة، أو أنك ستنال جزاء استعجالك اختباراً من الله لكي تعود إلى رشدك وصبرك، فمن أراد العمل لتحرير الأقصى عليه أن يكون ساكناً مطمئناً صابراً محتسباً، عفيف اللسان، حليماً متأنياً، لا يستعجل قطف الثمرة، ولا ييأس من الحال الذي تمر به الأمة، ولا يفقد تعقله ويتخبط في تصرفه، فكم من المواقف ستواجهُه وكم من الصعوباتِ ستمر به، فعليه أن يتحمل ولا يعجل، وكأنه اختبار للعاملين لتحرير الأقصى بأن يتحلوا بالصبر والمصابرة.
﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا١٢﴾، فَهِمَ أهلُ بعث وعد الآخرة عن ربهم أهمية هذه الظواهر الكونية العظيمة، وتعلموا أن يتنبهّوا لآيات الله في الكون، فلا يغفلون عن التفكر والتدبر، ولهم سياحة فكرية وقلبية، يتفكرون في كل معلم وظاهرة من حولهم، وليس هذا فقط للتفكر والتدبر في عظيم خلق الله تعالى، وهو أمر عظيم مهم؛ ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ١٩٠﴾ [آل عمران: 190]-، بل إنهم أيضاً يتفكرون في إشارات القرآن إليهم، حيث يرشدهم إلى تعلم السنين وتعلم الحساب، وأنه سبحانه وتعالى قد فصل لهم كل شيء تفصيلاً.
«والليل والنهار آيتان كونيتان كبيرتان تَشِيانِ بدقة الناموس الذي لا يصيبه الخلل مرة واحدة، ولا يدركه التعطل مرة واحدة، ولا يفتر يعملُ دائباً بالليل والنهار، لمحو لليل وبروز للنهار ﴿لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ فالليل للراحة والسكون، والنهار للسعي والكسب والقيام، ومن المخالفة بين الليل والنهار يعلم البشر عدد السنين، ويعلمون حساب المواعيد والفصول والمعاملات.
﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾ فليس شيء وليس أمرٌ في هذا الوجود متروكاً للمصادفة والجزاف. ودقة الناموس الذي يصرف الليل والنهار؛ ناطقة بدقة التدبير والتفصيل، وهي عليه شاهد ودليل.
بهذا الناموس الكوني الدقيق يرتبط العمل والجزاء».
وهنا سؤال؛ ألم يكن الحساب معروفاً وكذلك عَدُّ السنين عند نزول هذه الآية؟ والجواب: بلى، فلماذا قال الله تعالى ولتعلموا عدد السنين والحساب؟
يبدو -والله أعلم- أن الغاية هي معرفة عدد السنين والحساب لما يناسب سياق الحديث في الآيات وهو عن إفساد بني إسرائيل واستيلائهم على المسجد الأقصى، والتوقيت لإهلاكهم وخروجهم من المسجد الأقصى وبيت المقدس، وعدد السنين لنصرة الإسلام والمسلمين، فمن تعلم العد والتفصيل وأتقنه؛ استطاع أن يصل لنتيجة وبشارة في هذه السورة، وهو ما ذهب له عدد من الباحثين المعاصرين، كالشيخ الدكتور بسام جرار حفظه الله من نهاية ما يسمى بدولة «إسرائيل» عام 2022م، أو ما وصل له الباحثان محمد النوباني وموسى حداد من نهايتها عام 2023م، أو ما ذكره الشيخ الشهيد أحمد ياسين رحمه الله من زوالها عام 2027م، وكلها تصب في مصب واحد، وتؤكد على أنها لن تبقى، وأن أهل الإسلام سيدخلون المسجد الأقصى كما دخلوه أول مرة، وسيتبرون ما علا بنو إسرائيل، ولذلك أهل البعث الآخر، لديهم يقين بالله تبارك وتعالى بأن دولة الباطل والاحتلال ستزول، لا يجزمون بتاريخ محدد دقيق لأن هذا في علم الغيب، بالرغم من أن العالم الرباني (ابن برجان) رحمه كان قد سطر عند تفسيره سورة الروم؛ أمراً عجيباً؛ حين استخرج معادلة رياضية من السورة وكتبها عند قوله تعالى في سورة الروم ﴿وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ فِيٓ بضع سنين﴾، توصل بها إلى تاريخ تحرير القدس، -وكانت في ذلك الوقت 532 هـ محتلة من قبل الصليبيين-، وأخبر بأن تحريرها سيكون في شهر رجب من سنة 583 هـ، وهو ما تحقق بالفعل على يد الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، ولذلك فأهل البعث الثاني ينتظرون تحقق وعد الله تبارك وتعالى بأنهم سيدخلون المسجد الأقصى كما دخله المسلمون أول مرة، وسيحطمون أسطورة الصهاينة المحتلين، وما ذلك على الله بعزيز. وسواءً تحرر في التواريخ التي توصل لها الباحثون المعاصرون أو بعد ذلك، فما يهمهم أنهم يعملون لهذا الهدف، وهم موقنون بنصر الله.
﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا١٣ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا١٤﴾ أهل الإسراء وأهل وعد الآخر يديمون التفكر بلقاء الله تبارك وتعالى ويحاسبون أنفسهم على كل قول وفعل وحركة، ودوام استذكار الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى يوم القيامة؛ يعد من أعظم ما يقيم المؤمن على صراط ربه المستقيم، وأنه سيحاسب على أعماله التي تسجل عليه بدقة وتوثيق، فإذا وقف يوم القيامة بين يدي الله تبارك وتعالى، فإذا بالملائكة تخرج له كتاباً فيه تفاصيل حياته وتفاصيل أقواله وأفعاله، لذلك تظهر على أهل وعد البعث الآخرة علامات الخوف الدائم من الله تعالى، وتذكر يوم القيامة، ولذلك لا يظلمون الناس، ولا يأكلون الحقوق، ويحافظون على جوارحهم بما يرضي الله تعالى.
﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا١٦﴾ أهل بعث وعد الآخرة ليسوا مترفين منغمسين بالملذات والشهوات والكماليات، وهم أبعد ما يكونون عن الفسق والفجور وأماكن اللهو والعبث، ويحرصون على الانضباط حتى لو كانوا من الأثرياء، فالدنيا في أيديهم وليست في قلوبهم، ولا تغريهم الموضات والأزياء ولا السيارات الفارهة ولا الساعات والهواتف المحمولة ولا هذه الأشياء، فجل تفكيرهم في إرضاء ربهم واتباع رسولهم ﷺ، وفي القدس وتحريرها والأقصى وإنقاذه، ولذلك لا تغريهم هذه الدنيا.
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا٢٣﴾ جُند الأقصى لا يعبدون مع الله أحداً، وقد يتساءل البعض: هل يعبد المسلم مع الله أحداً؟!!
والجواب: نعم قد يعبد بطريق غير مباشر، حين يكون مسلماً وربما يصلي ويصوم ويحج، ولكنه يطيع أهل الباطل والظلم وينفذ ما يأمرونه به، ويمتنع عما يمنعونه عنه، ولو كان كل ذلك غير صحيح.
وقد قدمَ عديُّ بنُ حاتمٍ على النَّبيِّ ﷺ وهو نصرانيٌّ فسمعه يقرأُ هذه الآيةَ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ قال: فقلتُ له: إنَّا لسنا نعبدُهم، قال: أليسَ يحرمونَ ما أحلَّ اللهُ فتحرِّمونَه، ويحلُّونَ ما حرَّمَ اللهُ فتحلُّونَه، قال: قلتُ: بلى ، قال: فتلك عبادتُهم. رواه الترمذي، ويخلصون في هذه العبودية، وقد أمرهم ربهم بالإحسان في حياتهم فأتمروا، ومن أبرز مظاهر ذلك؛ إحسانهم لوالديهم وبرهم بهم، بل لا يتلفظون بأقل لفظ فيه إساءة أو انتهار لهم، بل هم متذللون لهم صابرون على خدمتهم وخاصة إذا تقدم بهم السن، وهذه علامة خيرية وانضباط وتماسك في هذه الفئة، فمن عرف حق والديه وأداه لهما، فإنه يحافظ على نسيج المجتمع وترابطه، وهو راقٍ بتعامله وتصرفاته، فهو يستحق الثبات والنصر.
﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا٢٦﴾ الإسلام يدعونا لنكون مجتمعاً متوازناً متكافلاً متكاتفاً، يتعاهد بعضنا بعضاً؛ معنوياً ومادياً، فإيتاء ذي القربى حقه يعني صلته بالزيارة والسؤال وتفقد أحواله، ومساعدته بالمال إذا احتاج لذلك، ولو أن كل مسلم تفقد قرابته وتواصل معهم وساعدهم بالمستطاع، لوجدنا أن كثيراً من مشاكلنا قد انتهت، وتعاهدهم للأقرباء والأرحام؛ لا يعني العصبية والسلبية تجاه غير الأقرباء، بل إن المسلم يسعى في مساعدة المحتاج أياً كان فقيراً أو مسكيناً، فإذا مر به ابن سبيل قد احتاج واشتدت عليه الظروف، فإن أهل الإسراء هم السباقون لذلك، وهذا باب للخيرية والدعوة والإنسانية وطيب العلاقة مع الناس.
وكل هذا ينبغي أن يكون باعتدال وعدم تبذير المال على الآخرين بغير حساب، والتبذير في حقيقته هو الإنفاق في غير الحق ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا٢٩﴾، فأهل وعد الآخرة متوازنون في علاقاتهم وإنفاقهم ويعدون أنفسهم وأموالهم لمشروعهم الكبير، وهي صفة الأمة الوسط.
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا٣٠﴾ ثقة بعث وعد الآخرة بربهم وبرزقه كبيرة، فالله تعالى هو من يمد العبد بالرزق فيبسطه له، أو يضيق عليه ويَقدِر عليه هذا الرزق، وفي كلٍّ اختِبارٌ وامتحانٌ للصبر والثبات، فلا يطلبون الرزق من غير الله، ولا يذلون أنفسهم لسواه.
أهل بعث وعد الآخرة يهتمون بأولادهم من الذكور والإناث، ويحرصون على إحيائهم بالدين واللقمة الحلال، ولا يقتلونهم سواءً القتل المعنوي أو القتل المادي ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا٣١﴾، فنحن نحتاج إلى أولادنا ليكونوا عدة للأمة، فمن قتل أولاده بترك تربيتهم وتركهم يذلون ويهانون وينحرفون، فكأنما ينخر في أمة الإسلام من الداخل، وينبغي ألا نخاف من الفقر، ولا نسلك طريق الحرام لإطعامهم، بل إن طعامهم الذي سينبتهم نباتاً حسناً مثمراً؛ هو الطعام الحلال ولو كان قليلاً.
فالقتل إما أن يكون مادياً، وهذا له صور عديدة منها: القتل بإطعامهم الحرام، ومنها الإجهاض المنتشر في دول الغرب نتيجة للسفاح والعلاقات المحرمة، والقتل بسوء التغذية وعدم الاهتمام بإطعام الأبناء طعاماً صحياً نظيفاً خالياً من المواد المعاد تدويرها، وخالياً من العناصر الضارة كالرصاص والزئبق والألمنيوم، وخالياً من المواد المحرمة كدهون الخنزير والكحول والمواد النجسة، أو بالتساهل بأن يأكلوا الوجبات الجاهزة الضارة والمشروبات الغازية المضرة.
وهناك القتل المعنوي الذي ذكرناه، وهو أشد من القتل المادي، فلا تقتلوا أولادكم بترك تربيتهم، ولا تقتلوا أولادكم بفساد دينهم، ولا تقتلوا أولادكم بقتل مروءتهم وشجاعتهم وإقدامهم، ولا تقتلوهم بقتل ذكائهم وتركهم لمشاهدة القنوات الهابطة والأفلام والمشاهد الساقطة، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته.
ومن القتل المعنوي ألا يتنبه الآباء إلى علاقات أبنائهم، ومن هم رفقاؤهم، وكيف يقضون أوقاتهم، وكيف هي اهتماماتهم ، فمن ترك أبناءه ولم يتابعهم ولم يتعاهدهم بالقرآن والسنة والمساجد وحلق القرآن، فكأنما قتلهم قتلاً معنوياً.. فلا تقتلوا أولادكم بترك تربيتهم ..
وأهـل بعث الآخـرة لا يأكلون المال الحرام أبداً، وبالأخص مال اليتيم ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا٣٤﴾، فهم حتى لا يقربونه إلا لتنميته وإثماره، ويؤدون أمانته على خير وجه ممكن حين يبلغ اليتيم أشده، وهذا أمر مهم في أهل الحق، فمن كانت فيه ازدواجية في المفاهيم، فيصلي ويصوم ويحج ويحمل العلم، ثم يأكل حقوق الآخرين، فهذا لم يفهم الإسلام، ولا يمكن أن يكون من أهل البعث الآخر، بل إن من يعدهم الله تعالى لهذه المهمة العظيمة؛ يخافون من الحقوق خوفاً شديداً، ومستعدون للتنازل عن بعض حقوقهم للمسلمين حتى لا يقعوا في شبهة المال الحرام.
وهم كذلك أوفياء صادقون، فإذا عاهدوا لم ينقضوا عهداً أبداً، وكل العهود مهمة عندهم؛ سواءً عهد الله تعالى وأمانته، أو عهد الإسلام وشريعته، أو عهود الناس وعلاقاتهم.
﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا٣٥﴾ أهل الجهاد والتحرير للمسجد الأسير؛ يوفون الناس حقوقهم، ويعطون كل ذي حقٍ حقه، ويتذكرون قول الله تعالى ﴿ويل للمطففين﴾، فمن طلب أن يوفيه الناس حقه، لابد أن يوفيهم حقوقهم، وحتى لو لم يفِ الناسُ بحقه، فإنه لا يأكل حق الآخرين، ومن مظاهر ذلك، وفاء الكيل سواءً بالمكاييل المعروفة التي يكال بها، أو بالكيل الحقوقي، فالوفاء مطلوب في العِشْرَة والعلاقة مع الإخوة والأصدقاء والناس، والوفاء في أداء الحق، فلو كان للناس عليك حق، وأردت أن تؤديه، فلا تساومهم عليه، ولا تضارهم حتى يقللوا لك منه وأنت قادر على الأداء الكامل، ولا تضيق على زوجتك وتضطرها للتنازل عن حقوقها، ولا تكل بعدة مكاييل، فلو كنت في منصب وتقدم للعمل قريب لك وآخر غريب، ينبغي أن تزن الأمور بالعدل، وأن تتعامل بالصدق، وقد قال النبي ﷺ: (إن خيار عباد الله الموفون المطيبون) ، وهذا كله عاقبته خير ويؤول إلى حسن ونجاح وفلاح؛ في الدنيا والآخرة.
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا٣٦﴾ أهل البعث الآخر، جادون متثبتون لا يدخلون في مسائل لا تعنيهم وحديث أبي هريرة عن رسول الله ﷺ ماثل أمام أنظارهم (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) رواه الترمذي، ولذلك فإنهم يفهمون معنى قوله عز وجل: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾، فالمؤمن لا يلاحق ولا يبحث عن أمور لا طائل من ورائها، ولا يتكلم بما لا يعلم، وينزه سمعه وبصره وقلبه عن كل ذلك، فمن اشتغل بتتبع الأخبار أياً كانت، ومن كان ديدنه مشاهدة مقاطع الفيديو التي لا نفع منها، ونقل كل ما يصل إليه عبر وسائل التواصل بل والتأثر بها، فهذا قد قفَى ما ليس له به علم، وسيسأل عن كل ذلك يوم القيامة.
«وتشير الآية إلى أهمية هذه الحواس والقوى التي أنعم الله بها على الإنسان، وحسن التعامل بها، وقد حذرت الآية من إهمال هذه القوى، فقال تعالى مخاطبًا الإنسان: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ أي لا تتبع ما ليس لك به علم، فتجرى وراء الظنون، أو وراء الأوهام والخرافات.. استعمل سمعك وبصرك وفؤادك. فـإن الله سائلك عن هـذه الأدوات ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ .
فأهل البعث الآخر ينزهون أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم عما لا يحل ولا ينفع، ولا يتتبعون ذلك، بل هم مشغولون بكل مفيد لهم في طريق دعوتهم وجهادهم، ومفيد لهم في يوم القيامة.
أهل بعث الآخرة؛ متواضعون متخشعون لربهـم، لا يستكـبرون على الحـق، ولا يستصغرون النـاس، وهم يقـرأون قـول الله تعالى: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا٣٧﴾، فمن أنت أيها الإنسان! ألا تذكر أصل خلقتك، وماذا أنت مقابل خلق الله العظيم كالسماوات والمجرات والأفلاك، فمن أراد أن يسير في طريق الجهاد والتحرير، فعليه أن يكون منكسراً لربه، متواضعاً لخلقه، وقد قال ﷺ: «وما تواضع لله أحد إلا رفعه الله»، وفي هذا أيضاً إشارة إلى أن أهل البعث الآخر ليسوا حريصين على الظهور، فعملهم يقتضي منهم ألا يظهروا كثيراً بين الناس، وأن يعملوا بصمت، ويسيروا إلى هدفهم بلا ضجيج.
﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا٤٥﴾، أهل البعث الآخر مرتبطون بالقرآن ارتباطاً عجيباً، فهو دليلهم وحصنهم وأمنهم، ومن وسائل الأمن والحماية لديهم، أنهم يكثرون قراءة القرآن لكي لا تتأثر قلوبهم بما يلقيه أهل الباطل، فالقرآن هو درع الحماية لقلوبهم، وكذلك فالقرآن فيه حماية حقيقية مادية، ذكر الإمام القرطبي في تفسيره الرائع (الجامع لأحكام القرآن): قصة امرأة أبي لهب، «فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: لما نزلت سورة تبت يدا أبي لهب أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول:
مذمماً عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا
والنبي ﷺ قاعد في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، لقد أقبلت وأنا أخاف أن تراك ! قال رسول الله ﷺ : إنها لن تراني وقرأ قرآنا فاعتصم به كما قال، وقرأ ﴿وَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ جَعَلۡنَا بَيۡنَكَ وَبَيۡنَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ حِجَابٗا مَّسۡتُورٗا٤٥﴾، فوقَفَتْ على أبي بكر رضي الله عنه ولم تر رسول الله ﷺ فقالت: يا أبا بكر، أُخبرت أن صاحبك هجاني ! فقال: لا ورب هذا البيت ما هجاك. قال: فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها.
وقال كعب رضي الله عنه في هذه الآية: كان النبي ﷺ يستتر من المشركين بثلاث آيات: الآية التي في الكهف ﴿إِنَّا جَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۖ﴾، والآية في النحل ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۖ﴾، والآية التي في الجاثية ﴿أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةٗ﴾ الآية، فكان النبي ﷺ إذا قرأهن يستتر من المشركين.
قال كعب رضي الله عنه: فحدثت بهن رجلاً من أهل الشام، فأتى أرض الروم فأقام بها زماناً، ثم خرج هاربًا فخرجوا في طلبه فقرأ بهن فصاروا يكونون معه على طريقه ولا يبصرونه. قال الثعلبي: وهذا الذي يروونه عن كعب حدثت به رجلاً من أهل الري فأُسر بالديلم، فمكث زماناً ثم خرج هارباً، فخرجوا في طلبه فقرأ بهن حتى جعلت ثيابهم لتلمس ثيابه فما يبصرونه.
قلت: ويزاد إلى هذه الآي أول سورة يس إلى قوله ﴿فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ﴾. فإن في السيرة في هجرة النبي ﷺ ومقام علي رضي الله عنه في فراشه قال: وخرج رسول الله ﷺ فأخذ حفنة من تراب في يده، وأخذ الله – عز وجل -على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رءوسهم وهو يتلو هذه الآيات من يس: ﴿يسٓ١ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡحَكِيمِ٢ إِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ٣ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ٤ تَنزِيلَ ٱلۡعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ٥﴾ – إلى قوله تعالى ﴿وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ سَدّٗا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدّٗا فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ﴾؛ حتى فرغ رسول الله ﷺ من هذه الآيات، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه تراباً، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب.
قلت: ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منثور من أعمال قرطبة مثل هذا. وذلك أني هربت أمام العدو وانحزت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد ليس يسترني عنهما شيء، وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن: فعبرا علي ثم رجعا من حيث جاءا وأحدهما يقول للآخر: هذا ديبلة: يعنون شيطانا، وأعمى الله – عز وجل – أبصارهم فلم يروني، والحمد لله حمدا كثيرا على ذلك «.
وهذا يدل على أن قراءة القرآن تعطي القارئ المتصل بالله حماية وستاراً من عدوه، وهي وصية لكل مجاهدٍ ولكل عامل للتحرير ممن يرجو الله أن يكون من بعث الآخرة؛ أن تحصّن بالقرآن، وتحصُّنُكَ بالقرآن يقتضي أن يكون معك دائماً، فاحرص على حفظه وكثرة تلاوته، وعلى تدبره وفهمه، ثم العمل الصادق به.
﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا٤٦﴾ التوحيد هو علامة مميزة لأهل الإيمان والدعوة والجهاد، وأعظم ذلك أن يكون بالقرآن كلام الله، فأهل الإسراء مداومون على التوحيد والقرآن، وهو حصنهم وسلاحهم الذي لا يقوى أمامه أهل الباطل، فاجعل طريقك للتوحيد بالقرآن.
وذكر المؤمن لربه وحده، دلالة على صدق ثقته بربه، فلا يظن أن أحداً أبداً يمكن أن ينفعه إلا ربه سبحانه وتعالى، ولكل منا مقام عند ربه، مقام في الربوبية بقدر قربك من الله، فمقامك في الربوبية هو الذي يعطيك المكانة والدرجة، فهل مقامك عند ربك أيها العامل للأقصى يؤهلك لأن تحرره ؟! اسأل نفسك دوماً هذا السؤال!.
﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا٥٣﴾ إن أهل الإسلام والعمل لدين الله ولتحرير المقدسات دائماً ينشرون الخير والرحمة بين الناس، ويحرصون على الكلام الطيب والقول الحسن لكي لا يدعوا للشيطان منفذاً بينهم، فإن الشيطان لهم عدوٌ شديد العداوة يسعى للتحريش والإفساد بينهم، فيجتهد ليخرج كلمة نابية أو كاذبة من أي واحد لتكون سبباً في الخلاف والقتال وفساد ذات البين، والذي أخبر النبي ﷺ أنها (الحالقة)، التي تحلق الدين وليس الشعر، فعن أبي الدرداء رضِي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : «ألاَ أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟»، قالوا: بلى، قال: «إصلاح ذات البَيْن، فإنَّ فساد ذات البَيْن هي الحالقة»؛ رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح.
وجاء أيضاً عن النبيﷺ أنَّه قال: «هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدِّين».
وقد أكثر عليه الصلاة والسلام في حث أمته على القول الحسن وطيب الكلام، ومن ذلك: (أفش السلام، وأطب الكلام، وصل الأرحام، وصلّ بالليل والناس نيام تدخل الجنة بسلام) رواه أحمد، وفي الصحيحين عن النبي ﷺ قال: ويعجبني الفأل، قيل وما الفأل؟ قال الكلمة الطيبة» متفق عليه، وصح عن النبي ﷺ قوله: «اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة»، وقوله ﷺ «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت»، وقوله ﷺ «والكلمة الطيبة صدقة». فصفة أهل الإسراء وبعث الآخرة أنهم لا يتلفظون إلا بالكلام الطيب، ولا يسيئون القول لمن حولهم، بل وللناس جميعاً. ويحرصون على صفاء النفوس ووحدة الصفوف.
﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا٥٦﴾ يعلم أهل البعث الآخر؛ أنه لا يكشف الضر عنهم في كل وقت وحين، إلا الله، ولذلك فإنهم ينادونه ويتضرعون إليه وحده، ويجتهدون في الدعاء بين يديه سبحانه، وهذه صفة ملازمة لهم، بل ويتحدون أهل الشرك، بأن يدعو آلهتم من دون الله، فهل سينفعونهم وهل سيكشفون عنهم ضرهم!
﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا٦٤﴾ يدرك أهل الإسراء وبعث الله الآخر، بأن معركتهم قائمة مع الشيطان وحزبه، وأن الشيطان يقود هذه المعركة خاصة التي تتعلق بالقدس والأقصى بنفسه ! وأنه يسعى في هذه المعركة لاستفزاز أوليائه بصوته بأن يدفع الناس للاستخفاف والفزع والانحراف بصوت الغناء والإعلام المضلل وألسنة السوء من الإعلاميين والكتاب المبطلين، وكل ما يوقعُ الخوف في قلوب الناس من أهل الباطل ومن الكفار، ومن العمل للإسلام والتفكير بالتحرر من قيود المجرمين، ولذلك فإن الشيطان سعى في الأرض لتأسيس ممالك إعلامية وأبواق عالمية؛ تبث في الناس الخور والضعف والذلة، وتدعوهم للاستكانة للباطل، وأنه لا طاقة لهم بمواجهة أمريكا وإسرائيل والغرب وحكام السوء منهم، وأن الطريق الوحيد للبقاء والحياة هو بالاستسلام لهم، والرضا بالخضوع والخنوع، وأن يكونوا عبيداً وتبعاً لأوامرهم، وهذا من أصوات الشيطان -الذي هو أصلاً ضعيف الكيد والقدرات كما أخبرنا الله تعالى: ﴿إِنَّ كَيۡدَ ٱلشَّيۡطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا﴾.
كما أن الله تعالى قال له: اصرخ فيهم واستنفرهم بكل ما لديك من خيل ورجل، فالشيطان يدعو حزبه ليواجهوا الحق ويحاربوه، وما دروا هؤلاء أنما هو يدعوهم إلى النار، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر:6]، فمن أجابه وتبعه ألقاه في نار جهنم.
كما أنه يشارك من استجابوا له؛ في أموالهم وأولادهم ! نعم، إنه يشاركهم في أموال السحت والربا وما يأكلونه من أموال الناس بالباطل، فإنما هي نصيب الشيطان، وهي أموال قذرة لا خير ولا بركة فيها، ويشاركهم في الأولاد؛ إما إن كانوا من أولاد الزنا -عياذاً بالله-، أو إن كانوا ممن لا يذكرون الله عند إتيانهم أزواجهم، فيشاركهم الشيطان، فقد أخبر النبي ﷺ فيما رواه مسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ اللهِ اللهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا). فالإسلام يعلمنا أن نحقق العبودية لله في كل أحوال حياتنا وتقلبنا في هذه الدنيا.
وقال ﷺ: (إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ)
وهكذا، فإن أهل البعث الآخر، من سيجوسون خلال الديار ويتبروا ما على بنو إسرائيل، فإنهم لا يحرصون على متابعة ما يبثه أعداء الإسلام في الإعلام -إلا من كان متخصصاً وهذه وظيفته-، ولا يتأثرون به ولا يستخفهم ذلك، كما أنهم أقوياء بدينهم، فلا يتبعون نداء الشيطان في أي عمل أو محفل، وينضبطون بما جاء عن النبي ﷺ في أموالهم وفي علاقاتهم مع أزواجهم، فلا يشاركهم الشيطان في ذلك، وهم في حفظ الله ورعايته.
فاحرص على ذكر الله الوارد عن النبي ﷺ عند الاستيقاظ وفي الصباح، وعند دخول الخلاء والخروج منه، وعند الوضوء، وعند الخروج من البيت والدخول إليه، وعند الأكل والشرب، وعند ركوب الدابة، وعندما تأتي أهلك، وعندما تقوم في جوف الليل من نومك، وفي كل أحوالك لتكون دائماً مع الله.
﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا٦٦﴾ يعلم أهل البعث الآخر، بأن الذي يحرك الأمور كلها هو الله، فلا يتذللوا لغيره، فهو الذي يحرك السفن في الماء، وهو الذي الذي يمسك الطير والطائرات في جو السماء، وهو الذي يحرك الجبال والبراكين في البر، وهو الذي يتحكم بكل مخلوق في الكون، حتى أدق المخلوقات من البكتريا والفيروسات، فسبحان الله الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو على كل شيء وكيل.
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا٧٠﴾ ابن آدم مكرم عند الله، ولذلك سخر له البر والبحر، ورزقه من الطيبات، وفضله على كثير من مخلوقاته، فلا تذل نفسك، وهو منهج أهل البعث الآخر، فهم أعزة لا تنحني رقابهم للكفر والظلم، ولا يستطيبون الحياة الذليلة، بل يرون أنه لا طعم للحياة بدون العزة في كنف الله، فلا يطلبون أرزاقهم بالذل والانكسار والحرام، ويتوكلون على ربهم في سيرهم إلى قدسهم.
﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا٧٣ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا٧٤ إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا٧٥﴾ منهج عظيم يتعلمه أهل البعث الآخر ومن ينوون الإسراء إلى أقصاهم، بأن أهل الباطل والكفر يسعون دوماً لفتنة أهل الحق، فيعرضون عليهم حلولاً مجتزءة لقضية الأقصى والقدس، ولكل قضايا الدين، فربما أوهموهم بالسلام، أو ببعض التنازلات السياسية في سبيل «التفاهم» والحوار، وأن التشدد في مسائل السياسة لا محل له، حتى بات بعض الإسلاميين يدعون إلى تنحية الدين عن السياسة، وأن الدين أسمى وأجل من السياسة، فالسياسة لا دين لها، وهذا عين الضلال، فالله تعالى أعلمنا بأن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، وليس السياسة ولا أقوال البشر، فمن ترك شيئاً من دينه لينال خلة الأمم المختلفة، فقد افترى على دينه، ولن ينتفع منهم بشيء، قال الله تعالى: ﴿وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ﴾، ومن أصر على الركون إليهم -ولو بشيء قليل- فإنه سيذوق الويل وسيتعب كثيراً، فتتضاعف عليه المهمات والمشاغل والمتاعب في الحياة، ولن ينال منهم شيئاً، ولذلك فإن أهل البعث الآخر لا يركنون إلى أهل الكفر والباطل ولا يتوقعون منهم شيئاً، ويعملون بدون تنازلات، وإن بدا هذا كأنه ضرب من الخيال وتغريد خارج السرب، لكنه في الحقيقة هو الحق الذي لا محيد عنه، فإن ركنت إلى الكفار فستنال من الله الوبال، وإن ثبت على الإيمان فإن الله يعزك بالحال والمآل.
واشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركانُ
من يتق الله يُحمد في عواقبه ويكفِهِ شرَّ من عزّوا ومن هانوا
من استعان بغير الله في طلبٍ فإنّ ناصره عجزٌ وخذلانُ
(أبو الفتح البستي)
﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا٧٨﴾، إن من أهم واجبات المؤمن عامة والعاملين لتحرير الأقصى خاصة، أن يقيموا الصلاة بأن يؤدوها بأركانها وواجباتها وسننها وهيئاتها، فإقامة الصلاة هي المطلوبة وليس مجرد أداء الصلاة، فأهل البعث الآخر يفهمون أن الصلاة هي من أهم أعمالهم التي تصلهم بالله تبارك وتعالى وتمدهم بالثبات والاستقامة والنور والبصيرة، فلا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وهذه الآية جمعت في قوله تعالى ﴿لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ أي الصلوات الأربع الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فالدلوك هو الزوال للشمس، والليل يبدأ من غروب الشمس، وأما صلاة الفجر، فالإشارة إليها في قوله تعالى ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾، وقد روى البخاري بسنده إلى أبي سلمة وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر»، ويقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾. فيا للعجب من أناس يدّعون حب القدس والأقصى، وأنهم يعملون للتحرير، ثم يضيعون الصلاة، أو يصلونها صلاة نقر ولا يخشعون فيها، فكيف يمكن أن يثبتوا وأن يواجهوا تكاليف العمل الكبير؟!
﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا٧٩﴾ ما أكرم أهل القرآن على الله، فكرامتهم بتلاوة كتابه الكريم وهم بين يديه يصلون الفرائض التي افترضها عليهم، وهذا من أحب الأعمال إليه سبحانه، ثم لا يزال يفتح لهم باب رحمته وفضله، ولا يزالون يتقربون إليه بالنوافل حتى يحبهم، فميزة أهل البعث الآخر، أنهم لا يكتفون بمجرد صلوات الفرائض، وهنا لا بد من التنبيه أن بعض من يعملون للدين، وفي زحمة الانشغالات؛ يظن أنه معذور بألا يقوم الليل لكونه يعمل للدعوة بالنهار، وهذا خطير ومضر، فالداعية والمجاهد لا يقوى على حمل الأمانة إلا برافعة قوية تعينه على ذلك، وهذه الرافعة تكون بقيام الليل ! نعم ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيۡلِ هِيَ أَشَدُّ وَطۡٔٗا وَأَقۡوَمُ قِيلًا٦﴾، فيا أهل الإسراء ويا أهل السعي للتحرير، اسمعوا لما يقوله العليم الخبير كما في الحديث القدسي عن رسول الله ﷺ: إن الله قال: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بهـا، وإن ســألني لأعطينـه، ولئـن استعاذني لأعيذنه). فيــا لهــا من مكانــة عظيمة؛ يصف الله تعالى في أول كلامه؛ دفاعه ونصرته لأوليائه، ثم يذكر صورة لهذه الولاية، فليكن ربك سبحانه وتعالى معك في سمعك وبصرك ويدك ورجلك وفي كل حركاتك وسكناتك، فلا تنطلق لشيء فلا تنطلق لشيء من هذه الأشياء إلا ووضعت أمام عينيك مخافة الله والاستمداد منه والاستعانة به، فحينها لن يخذلك أبداً، ولن تهزم إن شاء الله.
﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا٨١﴾ حين يستنصر المؤمن بربه تبارك وتعالى، فإنه يوقن بلا شك ولا ريب، بأن الحق يأتي فيتراجع الباطل أمامه ويتقهقر، بل ويزهق وينتهي، ومثل هذه الآيات ينبغي أن تكون من زاد أهل الإسراء، فإذا واجهوا أحداً من أهل الباطل؛ فليدعو بمثل هذا الدعاء ليكون لهم عوناً في عملهم.
﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا٨٠﴾ لا يجد المجاهد ومن يعد نفسه ليكون من بعث الله على بني إسرائيل؛ إلا الصلة بالله زاداً ومدداً، فلا يفتر لسانه عن الدعاء والطلب من الله تعالى، فهمّهُ أن يكون صادقاً في عمله ومسيره، يدخل إلى أي عمل بصدق ويخرج بصدق، وينتصر بصدق من الله تعالى وحده، ويدعو الله أن يكون دخوله إلى القدس دخول صدق، فلا موالاة لأعداء الله، ولا تنازل عن ثوابته، ولا محاباة في دين الله، ولا تقصير في عباداته ومنهج رسوله ﷺ، ولا ينصره ولا يثبته إلا من يملك السلطان والقوة لينصره، وهو الله.
﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا٨٢﴾ سبحان الله.. هذا القرآن الذي فيه الهدى والقوامة والدليل للاستقامة والنصر والتحرير، هذا هو الشفاء والرحمة لكل أمراض الأفراد والجماعات، وهو الشفاء المعنوي، فبالقرآن تصفو النفس ويذهب عنها الأسى والهم والغم، وكذلك فالقرآن شفاء مادي، وهنا أنصح إخواني لمن مرض أن يأخذ بالسبب بالبحث عن العلاج ولا شك، ولكن قبل ذلك توجه إلى ربك سبحانه وتعالى بالدعاء وقراءة سورة الفاتحة، فقد روى البخاري والترمذي واللفظ له عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناساً من أصحاب النبي ﷺ مروا بحيٍّ من العرب فلم يقروهم ولم يضيفوهم، فاشتكى سيدهم فأتونا فقالوا: هل عندكم دواء؟ قلنا: نعم ولكن لم تقرونا ولم تضيفونا فلا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلاً، فجعلوا على ذلك قطيعاً من الغنم. قال: فجعل رجل منا يقرأ عليه بفاتحة الكتاب، فبرئ فلما أتينا النبي ﷺ ذكرنا ذلك له قال: (وما يدريك أنها رقية) ولم يذكر نهياً منه وقال: (كلوا واضربوا لي معكم بسهم)، فقد حازت الفاتحة الشفاء المعنوي الذي ينور العقول والأذهان، والشفاء الحسي الذي يجلب العافية للأبدان.
وبعد ذلك يقرأ من يرقي نفسه أو من يرقي غيره كل آيات الشفاء في القرآن -كل آية ورد فيها معنى الشفاء-، وهي ست آيات، ثم يقرأ الأدعية التي وردت عن النبي ﷺ، كمثل: اللهم رب الناس أذهب البأس واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقما، وكذلك: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك (7 مرات)، وآية الكرسي والمعوذات والإخلاص، وغير ذلك مما ورد في السنة المطهرة الصحيحة، فتعاهدك يا أيها الجندي في بعث الآخرة لنفسك ولمن حولك بالأذكار والقرآن وحفاظك على صحتك من الأولويات المهمة، لنفسك ولمن حولك.
وهذا القرآن لا ينتفع به الظالمون، فاحذر من الظلم بكل أنواعه، وأوله الشرك بالله صغيره وكبيره، ومن ثم ظلم الأهل والأبناء والأقرباء، ثم ظلم من حولك في المجتمع، أو ظلم العاملين معك، وهكذا تتسع الدائرة لكل شخص في الدنيا، فالظلم ظلمات، والظلم حاجز عن فهم كتاب الله والانتفاع به.
﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا٨٣﴾ أهل الحق السائرون في طريق الجهاد والتحرير والمتأملون أن يكونوا من بعث الله الآخر على بني إسرائيل؛ لا تغيرهم النعم، فهم مخبتون لربهم مقبلون عليه في السراء والضراء، بل النعم تزيدهم قرباً إلى الله وشكراً له ونفعاً لخلقه، وفي حال البلاء لم يقنطوا من رحمة الله، ولم يسخطوا على ربهم، بل صبروا وشكروا وعادوا إلى ربهم وأشفقوا من ذنوبهم.
﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا١٠٠﴾ يجب أن تترسخ في قلوبنا أن خزائن كل شيء بيد الله تبارك وتعالى، وأنه هو الذي يملك ما في السموات وما في الأرض، وأنه جعلنا مستخلفين في هذه الحياة الدنيا، وجعل في أيدينا شيئاً من فضله وعطائه، فهو الذي أعطانا، وهو الذي استقرضنا؛ سبحانه من إله عظيم كريم رحيم، قال تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الحديد:7]، فهو سبحانه وضع أيدينا على هذه الأموال والأرزاق، ثم أمرنا أن ننفق منها لخير مجتمعاتنا ولانتشار الرحمات بيننا، بل ووعدنا إن آمنا وصدقنا بوعده وخيره، أن يعطينا أجراً كبيراً عظيماً.
فمن كان من أهل الحق، فلا ينبغي أن يبخل بشيء عن الآخرين، وينبغي أن يثق بفضل الله، وهذه صفة أساسية في العاملين لتحرير الأقصى، الكرم والجود والعطاء، بأموالهم وأوقاتهم وعلمهم وكل ما يستطيعون تقديمه.
﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا١٠٢﴾ يقين المؤمن الذي يواجه الباطل، وشموخه ووقوفه في وجه أعتى الظالمين والطواغيت، هذه من صفات أهل البعث الآخر السائرين لتحرير مسرى رسول الله ﷺ، فهم لا يترددون برد الأمور إلى الله، وقول الحق في مواجهة الظلمة، بل ويلمزون فيهم، فمن أوتي البصيرة لا يخفى عليه ذلك، أما من طمست بصيرته وعمي عن الحق، فهو في ظلمات يعمه ولا يبصر نور الحق.
ويأتي القول المزلزل الذي ينم عن إيمان عجيب، فموسى عليه السلام يقول لفرعون إني لأظنك يا فرعون مثبوراً، فعبر القرآن بلام القسم للتأكيد الشديد، بأن موسى يعتقد جزماً بأن فرعون سيثبر أي سيهلك وينتهي، ولكن جئ بمصطلح الظن، لأن موسى عليه السلام لا يعرف كيف سيُهلك الله فرعون، ولا متى، وهل سيكون هلاكُ فرعونَ قبل وفاة موسى أم بعده، فاستعمل الظن الذي يعني التيقن بالأمر مع عدم معرفة بعض أجزائه والتردد فيها، فيا أيها الساري إلى مسجدك الأسير، لا يداخلنك أي شك ولا للحظة أن الصهاينة الفراعنة الظلمة سيهلكون وسيكنسون من القدس وفلسطين، ولكن كيف ومتى بالضبط وتفاصيل ذلك؛ كله في علم الله تبارك وتعالى.
ولذلك نحن نقسم بالله العظيم بأن القدس والأقصى سيتم تطهيرهما من دنس يهود لا شك عندنا في ذلك، وأملنا بالله تبارك وتعالى أن يتحقق اجتهاد من اجتهد في قرب ذلك، كيف؟! ونحن نرى دولة الصهاينة متغطرسة متسلحة متمادية في طغيانها، لا عليك.. فالأمر لله من قبل ومن بعد، ألم تسمع قول الله تعالى: ﴿هوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ﴾ [الحشر:٢]؛ لم يتوقع الصحابة رضوان الله عليهم أن يهود يمكن إخراجهم من هذه الحصون المهولة، وإن بقي في صدورهم تردد واحتمال أن يحصل هذا الأمر، وكذلك لم يتوقع يهود أن يخرجوا من حصونهم أبداً وهم الذين يتحصنون وراء أسوار ضخمة، ولديهم أسلحة كثيرة، ولديهم اكتفاء ذاتي في الطعام والشراب، فلو حاصرهم النبي ﷺ سنوات لم يحتاجوا للخروج، فماذا حصل؟! بالرغم من كل هذا، أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ! يا أيها المسلم إن لربك سبحانه وتعالى تدبيراً عجيباً قد لا تدركه ولا يخطر على بالك، فلربما أرسل عليهم جندي الخوف، أو جندي الوباء، أو جندي الاختلاف والتفكك، أو أي جنديٍ آخر من جنوده ﴿ومَا يَعلَمُ جُنودَ رَبِّكَ إلا هُوَ﴾.
﴿فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا١٠٣﴾ هذه بشرى لأهل الإسراء ولأهل فلسطين، فكم تساءل بعض المتفذلكين؛ طالما أن القوة بيد يهود، فلماذا لا يخرجون كل الفلسطينيين من بلادهم، ولماذا لا يضربون قنابل نووية فيهلكوا أهل غزة، ويبيدوهم عن آخرهم؟ هذه التساؤلات ساذجة، وبرغم ذلك فنقول لهم؛ إن الله تعالى قد كتب أن الكفار إذا أرادوا أن يستفزوا ويخرجوا المسلمين عامة من أرضهم، فإن مصيرهم الإهلاك والإنهاء جميعاً، ولذلك لن يمكنوا من هذا، وهي بشرى لكل مؤمن؛ أن الله تعالى سيطهر أرض الإسراء من رجس يهود، فوتيرة ظلمهم واستبدادهم تتعالى وتتسارع، وهذا مؤذن بقرب هلاكم إن شاء الله.
﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا١٠٦﴾ لقد أنزل الله تعالى القرآن بآيات متفرقة للرد على الكفار مرة بعد مرة، وليكون فيـه التثبيت واليقـين للنبي ﷺ وللمـؤمنين، كما جـاء في سـورة الفرقـان ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان:٣٢]، فنزول القرآن منجماً ومفرقاً سبّب للكفار قديماً قلقاً وتعباً شديداً، حتى نسوا معارضتهم لأصل نزول القرآن، وصاروا يقولون لو أنه نزل مرة واحدة فنرتاح من مجابهته في كل مرة بعد مرة، ولا نضعف أمام حججه الدامغة في كل موقف، ولذلك قال الله تعالى لنا ﴿وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾، فواجبنا أن نستنزل القرآن الكريم في كل موقف لمواجهة ما يحدث معنا في عملنا، ومواجهتنا ليهود، ومواجهـة مواقف الحيـاة عـامة (الأمن والخوف) كما في قولـه تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلً﴾ [النساء:83]، فكل أمورنا تترواح بين الأمن والخوف، فنحتاج أن نستنزل القرآن المناسب لكل موقف، فنفهم عن الله تبارك وتعالى ما يصلح لهذا الموقف، ولذا فواجبنا أن يكون القرآن هو مدار حياتنا وأساسها وهو أساس المرجعية لعملنا، وأن نصبر ونتريث في قراءته واستنباط أحكامه، وهو الذي سيوصلنا إلى منهجية التحرير والنصر على أعدائنا.
وأرى أن ارتباط هذه الآية هو بما سبقها، فقد سبقت بقصة جمع بني إسرائيل في قوله تعالى ﴿وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا﴾، فالمؤمنون متيقنون من أن الله تعالى يجمع بني إسرائيل من أصقاع الأرض ليسكنوا فلسطين، وهذا مؤذن باقتراب وعد الآخرة ! فالله تعالى وعد بأن جمع بني إسرائيل لا يعني العزة لهم والنصر، بل إنهم جمعوا ليأتي عباد الله ﴿عباداً لنا أولي بأس شديد﴾، وتكون مهمتهم إساءة وجوه بني إسرائيل، وتتبير ما علوه، وبالتالي الانتصار عليهم وإخراجهم من القدس، ودخول المسجد الأقصى، وتخليص البشرية من شرهم.
وكأن الله تعالى يخبر نبيه ﷺ والمؤمنين بأن في هذا القرآن آيات متفرقات تقرأ على الناس، ستأخذ مدة من الزمن ﴿عَلَىٰ مُكۡثٖ﴾، وتتطلب منكم استنزال معانيها ومدلولاتها وأسرارها، لتكون مفتاح النصر وخارطة طريقكم إلى التحرير.
﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا١٠٧ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا١٠٨ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ١٠٩﴾ يا الله.. كم نشتاق لهذه اللحظة! فالله تبارك وتعالى يبشرنا بأنه ستأتي اللحظة التي نترقبها حين يتحقق ما كان يؤمن به البعض، ولا يؤمن به البعض الآخر من أن النصر قريب، ومن إشارات ذلك في هذه السورة العظيمة، فإذا وقع ما قاله أهل العلم الذين كانوا يؤمنون بهذه العقيدة وهذا الفهم من قبل، وتليت عليهم هذه الآيات حينها، فإذا بهم يخرون للأذقان سجداً لله يبكون من شدة الفرح والرضا، ويقولون سبحان ربنا، لقد كان وعده ﴿وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ﴾.. والله.. مفعولاً، أي متحققاً لا شك ولا ريب، وكنا مؤمنين بذلك، وكنا نبشر الناس به، ولكن كان كثير من الناس يرفضون قولنا، بل وربما يتندرون به، ويظنون أننا نتخرص بالغيب ونتنبأ بغير علم، فيكررون السجود بفرحة عجيبة ونزول خاشع لله وهم يبكون بخشوع وإخبات، فقد تحقق لهم ما عاشوا عليه، ورأوا بأعينهم نصر الله، وتحرر المسجد الأقصى، وطهر من رجس الصهاينة.
وأنا في هذا أخالف ما ذهب إليه المفسرون من القول، بأن هذه الآية تعني أن صالحي أهل الكتاب من أهل العلم في زمن النبي ﷺ كانوا حين يسمعون القرآن يتأثرون بما سمعوه ويخرون سجداً وبكياً بما كانوا يجدونه في كتبهم من نبوءات عن النبي ﷺ، وهذا حقيقة ليس عليه دليل، وعندما أورد الطبري شيـخ المفسرين؛ أقـوال الصحـابة والتابعين؛ لم يورد شيئـاً عن الشطر الأول من الآية ﴿قُلۡ ءَامِنُواْ بِهِۦٓ﴾، بل جاء بأقوال عن معنى ، وهو أمر مفهوم، إلا أن الشطر الأول من الآية الكريمة فيه التحدي الذي جاء عقب الحديث عن بني إسرائيل وجمعهم في أرض الإسراء، ولم يؤثر في أي رواية حديثية أن عبدالله بن سلام أو غيره من أهل الكتاب الذين أسلموا -وهم قليل جداً- قد خر ساجداً عندما سمع آيات القرآن، ولا يناسب ذكر هذا في سياق آيات تتحدث عن قصة بني إسرائيل في مواجهة أهل الإسلام، والله تعالى أعلم.
﴿قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا١١٠﴾ على المسلم المتدبر لكتاب الله، وخاصة من يعمل لنصرة دينه، أن يكون له صلة قوية بأسماء الله الحسنى، فهي مفتاح العلاقة مع الله تبارك وتعالى، وبها أمرنا أن ندعوه، وتحقيق كمالاتها هو من أسباب إهباط آدم عليه السلام إلى الأرض كما ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه (مفتاح دار السعادة)، فأنت أيها المسلم مأمور أن تحقق معاني أسماء الله الحسنى، وأن تظهر أثرها في الكون، فتفعل هذه الأسماء في حياتك بشكل عملي ومنهجي، فتتعرف على الأسماء كلها وتجعل لها حيزاً مهما في حياتك، وكلما فهمت معناها وتفاعلت معها، وشعرت بأثرها في حياتك، كلما ارتقيت في علاقتك مع الله، وتحققت لك مراداتك في الحياة، وفي هذه الآية تخصيص لهذين الاسمين الجليلين الذين تَميَّزا عن بقية أسماء الله تعالى من عدة وجوه:
الوجه الأول: اجتماعهما في البسملة ﴿بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ﴾ وهي مفتاح الخير ومبتدؤه، فما عدا سورة التوبة فلا توجد سورة من سور القرآن الكريم لا تفتتح بالبسملة بهذه الصيغة التوقيفية، في حين أن للاستعاذة أكثر من صيغة.
الوجه الثاني: تشابه السياقات التي يرد فيها كل اسم منهما ضمن القرآن الكريم.
الوجه الثالث: في حين أن المبالغة في الرحمة هي الصيغة المتبادرة لذهن من يقرأ الاسم إلا أن اسم الجلالة ﴿الرَّحمَن﴾ أتى في سياقات أخرى تحمل الدلالة على الرعاية والخشية والبطش والعذاب والعقاب، فكيف يكون ذلك إلا أن يكون للاسم دلالات تتجاوز مفهوم الرحمة من جهة، ودلالات على أن من العدل البطش بالمعتدي رحمة بالمعتدى عليه.
الوجه الرابع: أن الله جل وعلا مع أمره لعباده بالدعاء بأسماء الله الحسنى ﴿وَلِلَّهِ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ فَٱدۡعُوهُ بِهَاۖ وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلۡحِدُونَ فِيٓ أَسۡمَٰٓئِهِۦۚ سَيُجۡزَوۡنَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [الأعراف:178]، لكنه أيضاً خص هذين الاسمين دون سواهما، وأمر عباده بالدعاء بهما أو بأحدهما، وأجمل بقية الأسماء الحسنى بعدهما كما جاء في هذه الآية: ﴿قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا﴾
فاختص هذين الاسمين دون سواهما بالذكر والأمر بدعائه جل شأنه بهما وهو أمر يستدعي النظر والتفكر والتدبر.
اسم الجلاله «الله»: وهذا الاسم العظيم متعلق باستحقاقه جل جلاله لعبادة العابدين وتفرده بالألوهية فالله هو المألوه الذي يُتّخَذُ إلهاً يعبد، فتعلق هذا الإسم بما يصعد إليه جل جلاله من عبادة العابدين ومن تأليه وتنزيه وإعلاء في قلوبهم، ولو تتبعنا مواضع هذا الاسم العظيم في القرآن لوجدناه يحمل دلالة التأليه والتنزيه والعبادة.
اسم الجلاله «الرَّحمَن»: وهذا الإسم متعلق بربوبيته جل في علاه لخلقه وإحاطته وقدرته واختصاصه بجميع ما ينزل إليهم من كرمه وعطائه، أو من قوته وعذابه، فكانت ذات دلالة مكملة لدلالة الالوهية عند الخلق، ففي حين كانوا يؤلهون الأصنام وينزهونها ويفردونها بالعبادة فقد كانوا يدركون عجزها عن الربوبية والحفظ والعقاب والحساب والتصرف في الكون، فيصرفون له من التعظيم والتوجه ما لا يستقيم مع حالها وحقارتها فهي لا تقدر على الربوبية».
وعوداً على ما يتعلق بسياق حديثنا عن سورة الإسراء وتحرير المسجد الأقصى، فأنت أيها المجاهد في سيرك لتكون من البعث الآخر على بني إسرائيل، فإنك بهذا العمل العظيم، تحقق توحيد الألوهية والربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فإن إلهك الذي آمنت به وتوجهت إليه بالتوحيد والتعظيم، وكذلك الذي تطلب منه ويرعاك ويحفظك، والذي تدعوه بأسمائه العظيمة الحسنى، فإنه يرضى عنك بفعلك هذا، فأنت تحقق مراد الله عز وجل في تطهير المسجد الأقصى الذي أراده الله موطناً للتوحيد لا للشرك، وأراده مركزاً للإيمان والإسلام، لا هيكلاً للمشركين والمنحرفين من بني إسرائيل، فسعيك هذا مشكور، وصلاتك التي تقدمها بين يدي الله تبارك وتعالى مقبولة، وانتبه لأن هذه الصلاة وهذه الصلة تحتاج أحياناً إلى المخافتة وأحياناً إلى الجهر، فإن عدوك يتربص بك، وإن ربك يكلؤك ويحميك، فامض على بركة الله.. فأنت منصور.
﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا١١١﴾ وتختم السورة صفات هذا البعث العظيم، بأهم صفة ابتدأها القرآن الكريم وعلمنا أن نداوم عليها، وهي شعار المؤمن في حياته، وهي تلازمه في صلواته، وهي دليل على عبوديته وإخباته، وهي صفة الحمد لله والاعتراف بالفضل له سبحانه بما أنعم به من تحقيق الانتصار وانتهاء مرحلة المواجهة مع بني إسرائيل ومع المشركين بكل أصنافهم، ولذلك حمد ذاته العلية على عدم اتخاذ ولد، فهو سبحانه لم ينشغل بولد له يخصه على غيره، وهو الذي يحمد على أنه ليس له شريك في ملكه، فهو المتفرد بالأمر والخلق والقضاء، ولا ينازعه أحد في ذلك، فهو القاهر فوق عباده، وهو القادر على نصرة أوليائه ولم يحتج إلى أولياء من جهة الضعف والافتقار لغيره حاشاه سبحانه، فغيره يحتاج إلى الأولياء لينصروه، وأما هو سبحانه فيتخذ المؤمنين العاملين لنصرة دينه كأولياء تشريفاً لهم وإعزازاً لمكانتهم عنده بما بذلوه لأجله وبما جاهدوا وعملوا لتكون كلمته هي العليا
﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾، فسبحانه عظيم في ذاته وصفاته، وعظيم في حكمته وقدره، ولذلك الجأوا إليه واجعلوه أكبر توجهكم وأكبر اهتمامكم وأكبر من كل شيء في الكون وبلا نهاية ولا حد، فتكبير الله تعالى شعار أهل الإيمان لتعظيم ربهم ولإشعار أنفسهم بالقوة بأنهم يلجأون إلى العظيم الكبير المتعال، ولقهر أعدائهم، فربهم ونصيرهم يُكَبَّرُ تكبيراً ولا يحتاج إلى نصير ولا شريك.
وإذا انتهت هذه المرحلة الخطيرة في جهاد الأمة وسعيها، فستبدأ مرحلة التمكين والبأس الشديد، والتي تصورها السورة العظيمة التي بعدها (سورة الكهف)، وحيث ختمت هذه السورة بالحمد، فقد ابتدأت السورة الثانية (الكهف) بالحمد لله تبارك وتعالى على ما مضى وعلى ما هو آت، فبهذا الكتاب الذي نزل على محمد ﷺ تمكنت أمته، وبهذا الكتاب القويم الذي ﴿لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٖ﴾ تنهض هذه الأمة وتتمكن، وفي نفس الوقت إنذار للمشركين الذين أساءوا وظلموا وانتزعت منهم الحقوق، فهؤلاء المشركين الذي ادعوا النقص لله وأن له ولد، فسيأتيهم بأس شديد من ﴿لَّدُنۡ﴾ الله تبارك وتعالى، وهذا من أخطر التخويف والتهديد، فمن لدن الله عز وجل يكون الاتصال المباشر الذي لا واسطة فيه بين الله وبين خلقه، فهو بأس شديد مباشر عظيم، ولك أن تتخيل هذا البأس الذي وصفه رب الأرباب وملك الملوك ومن له القدرة المطلقة بأنه (شديداً)، فأي قوة في الدنيا ستقوم أمامه؟.
وأختم هذه الخواطر في صفات أهل البعث الآخر على بني إسرائيل، بالقول بأن أهل الإسراء والانتصار يعتبرون القرآن نورهم وصراطهم، ويفهمون ترابطه بعضه ببعض، ولذلك خذوه بقوة وخذوه بوحدة، وخذوه بتدبر وفهم عميق، ففيه الهدى والنور.
