جمال وحطنا
إن من أشرف ما عشناه في الملتقى العلمي الدولي الرابع للشباب هو الشعور بمفهوم الجسد الواحد، وبوحدة الأمة، فبالرغم من اختلاف ألواننا وأنسابنا وأعراقنا وأوطاننا، إلا أنك لا تكاد تحس بالغربة ولا بالاغتراب، بل بالعكس تماما، تجد يُسرا في الفهم والإفهام، وفي التعايش والتواصل، وذلك لوجود قواسم مشتركة فيما بيننا، ليس من حيث اللغة والثقافة فحسب، بل حتى من حيث الآلام والآمال أيضا.
فقد شكلت فقرات الملتقى التي امتدت لـ 18 يوما، فضاء للتواصل والتعايش والتفاكر بين 300 مشارك من 40 دولة، حرِصت خلاله الجهة المنظمة -هيئة علماء فلسطين- مشكورةَ على حسن توزيع المشاركين في غرف الإيواء وفي تحديد مجموعات الخِدمة بالشكل الذي يُحقق الانسجام والتلاقح بين المشاركين من مختلف الدول، وذلك للخروج من ضيق الحدود الجغرافية السياسية إلى سعة القيم الإسلامية الجامعة.
يقول أحمد بن حسونة من تونس وهو أحد المشاركين في الملتقى : جميل ذلك الإحساس حينما يشاركك الغرفة إندونيسي وفلسطيني، ويلقي عليك تحية الصباح يمنيّ بشوش، ويشاركك التجوّل إنقليزي أنيق، لتجلس في الغداء إلى جانب سوري مطّلع، وترمي بإنصاتك إلى حديث صديق تركيّ مضياف، وتتسوّق مساء مع نرويجي متأدّب، لتعودا إلى صلاة ويكون الإمام فيها ماليزيا بصوته الساحر، وتذهبوا إلى ندوة علمية يؤثّثها ليبيّ حافظ، ويقدّمها لبناني فنّان، ويوثّقها جزائريٍّ فقيه، وينقلها فرنسي هادئ، ويؤنسك فيها عراقيّ حالم، ويُثْرِيهَا أثيوبيّ عَفَويّ، وينقُدُها تُركِسْتَاني يشكي هَمّ بلاده، ويُقيّمُها صديق لك من ساحل العاج، ويُناقِشها مغربيّ وقور، وينشد فيها المصري بإبداعه، لتجتمعوا بعد ذلك في مسامرة ليلية بفكاهة سودانية، وصوت حلبيّ …
ولا شك أن مَطلب وحدة الأمة، وتجسيد مفهوم الجسد الواحد هو مَطلب شرعي قبل كل شيء ، فقد تواترت نصوص شريعتنا الغراء الآمـرة بالوحدة، الحاضة على الائتـلاف، الناهية عن التفرق والاختلاف، ومن ذلك قول سبحانه وتعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وقوله تعالى { وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ} ولاشك أن جوهر رسالة أمة الإسلام في وحدتها واجتماعها على تعظيـم الخـالق وعبادته. قال جل جلاله {وَإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] كما جسد الحبيب المصطفى هذا المَطلب بضرورة استشعار آلام إخواننا في كل مكان، كما نستشعر آلام كل عضو في أجسامنا، حيث قال صلى الله عليه وسلم { مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّىّ } صحيح مسلم، خلاصة حكم المحدث: صحيح .
وإن من أعمق المحاضرات التي قُدِّمت بهذا الصدد في ملتقانا المبارك، تلكم المداخلة للدكتور محمد المختار الشنقيطي بعنوان وحدة الفضاء الحضاري الإسلامي، ابن بطوطا أنموذجا. حيث عرضها بأسلوب بديع يُبين فيها بجلاء أمرين أساسيين لوحدة هذه الأمة، فأما الأول فوحدة البنية الجغرافية للعالم الإسلامي والتي تُعد عنصرا مساعدا على التنسيق والتعاون والتوحد (عكس التباعد الحاصل بين بعض الدول كأمريكا والصين مثلا)، وقد شبه هذه البنية الجغرافية بالنسر، حيث يمكن اعتبار جزيرة العرب كأنها قلب هذا النسر، ورأسه بالأناضول (تركيا)، وجناحيه تمتد يمنةً إلى أقصى آسيا، ويسرةً إلى المغرب الأقصى. وأما الأمر الثاني فوحدة البنية الثقافية للعالم الإسلامي والتي تشكل روح هذا الفضاء الحضاري الإسلامي حيث يتفق المسلمون على ربٍ واحد، ورسول واحد، وقبلة واحدة، ويجمعهم موسم الحج في زمان ومكان واحد …وغير ذلك مما اجتمع في الأمة وتفرق في غيرها ، كما عرض لذلك تجربة الرحالة المغربي الطَّنْجِي ابن بطوطة التي شملت 44 دولة واستغرقت أكثر من 140 ألف كيلو متر يجول فيها ويصول بين مختلف البلدان الإسلامية وغيرها، يثبت فيها وحدة البنية الثقافية للأمة، إذْ أنه ما نزل بدولة إلا وأحس كأنه بين أهله وعشيرته، فلا حدود وحواجز بينه وبينهم، بل يتم الاحتفاء به وتقديمه للإمامة ولمناصب القضاء كونه فقيها متضلعا في العلوم الشرعية .
وللأسف، ورغم كون شباب الصحوة الإسلامية تشرئب أعناقهم لشهود هذه الوحدة المباركة للأمة، أو على الأقل بعض اتحاداتها) كالاتحاد المغاربي… (إلا أن بعض المواقف التي تظهر من حين لآخر، سواء من الأفراد أو من المؤسسات خاصة من بني جلدتنا، يُعيق تجلي هذه الوحدة ويُؤخر حصولها، في انسجام تام مع مخططات الأعداء في زرع النعرات الوطنية، وإثار النزعات القومية، وإذكاء الصراعات السياسية لتقسيم الأمة إلى دويلات متناثرة، لتضعف قوّتها، وتتشتت طاقاتها، ويذهب ريحها، واتخاذ ذلك ذريعة للتدخل بعد ذلك.
في الوقت الذي تجد فيه دول الاتحاد الأوربي التي شهدت أكثر الصراعات العسكرية دموية على مر التاريخ جراء الحرب العالمية الأولى والثانية، حيث سُفكت فيها الدماء وهُجر فيها المدنيون … إلا إنها تترفع عن كل الخلافات وتجدها تجلس على طاولة الحوار والمفاوضات لتحقيق الاتحاد. مؤكدة بذلك أن الوحدة مَطلب عزيز وهدف ترنو إليه المجتمعات البشرية كلّها، وتبذل كلّ ما لديها للوصول إليه.
أخيرا وليس آخرا، لا سبيل لتوحيد صفوف الأمة، ولمّ شعثها، وجعلها كيانًا وجسدًا واحدًا، لتحقق التعاون والتكامل فيما بينها، بفضل تنوع أعراقها وأنسابها وألوانها وبلدانها وثرواتها، إلا بأمرين ملازمين:
أولهم: فهم واستيعاب ثم ابطال مشاريع الأعداء التي تستهدف إضعاف الأمة، وتقسيمها واستنزاف ثرواتها ومقدراتها.
وثانيها: العودة إلى عوامل القوة الحضارية للأمة، وعلى رأسها الرجوع إلى كتاب الله جل جلاله، تلاوةً وتدبراً وتخلقاَ لتطهير القلب من بواعث التباغض والتفرقة وغرس المحبة والألفة ووحدة الصف، وكذلك بالاعتزاز بتاريخنا العريق وبهويتنا الأصلية، ونعض عليها بالنواجذ بكل فخر واعتزاز.
فقد حصدت الأمة مرارة التفرق والانقسام، فلماذا لا تجرب بركة الوحدة والاتحاد؟
جمال وحطنا
21 غشت 2022
خواطر #الملتقى_العلمي_الدولي_الرابع_للشباب
نقلاً عن:
https://www.facebook.com/WAHATNA.Jamal/posts/1746496619047729