د. سفيان أبو زيد
26/9/2019
في ملتقانا المبارك الذي اجتمع فيه أزيد من مئتي مشارك، من سبعة وثلاثين دولة، من شتى الأجناس البيضاء والسوداء والصفراء والحمراء، من كل قارات العالم، من كل المذاهب الإسلامية، منا الحنفي ومنا المالكي ومنا الشافعي ومنا الحنبلي، ومن كل الحركات الدعوية، منا الصوفي والسلفي والإخواني والتبليغي واللامنتمي، ترانا مختلفين في بعض أفكارنا، في تعبداتنا، في صفة صلواتهم، منا من يقبض ومنا من يسدل، ومنا من يقنت ومنا من لا يقنت، منا الملتحون ومنا غير الملتحين، منا الموفرون ومنا المقصرون، ترانا في مداخلاتنا ونقاشاتنا التي قد يحمى وطيسها أحيانا كل يرى وجهة نظره هي الأصوب والأصلح، نعترض على العلماء والمؤطرين والمؤثثين لأنشطة ومحاضرات ودورات الملتقى، ولكن في الغالب العام بأدب واحترام واعتبار بأن أغلب المسائل تكتنفها الاحتمالات..
وأنا أتأمل هذا الجو الماتع الرائق تبادر إلي تساؤل وهو:
ما السر في هذا التفاهم؟ ومن وراء هذا التعايش؟؟
فأيقنت بأنها وسطية الإسلام الحقة التي شكلتها فسيفاء مكوناته ومذاهبه واجتهادات الصادقين والراسخين من أهله، فزدت يقينا بأن مقولة: أقرب المذاهب إلى الحق هو كذا؟ أو أقرب المذاهب إلى السنة هو كذا؟ أو أقرب المذاهب إلى الوسطية هو كذا؟ وأقرب الحركات والجماعات إلى الحق هو كذا؟ كلام سوفسطائي دعائي وسياسي أحيانا، يعوزه كثير من الدقة ويغلب عليه سيل من التعصب والمزايدة، أو قد يكون نسبيا في جزء دون جزء.
فالإسلام لا يكون وسطيا ولا يكون مواكبا ولا يكون موضوعيا إلا بالوحي الحق الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبجهود المعتبِرين والمجتهدين الراسخين والصادقين من الناظرين في ذلك الوحي، كلٌ يرى من جهته ويدلي بدلوه يصيب حيث يخطئ الآخر ويخطئ حيث يصيب الآخر، ويتشدد حيث ييسر الآخر وييسر حيث يتطرف الآخر، فالكل يجر الكل بالتناوب إلى الطريق الوسط الذي رسمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، متعظين مراجعين معتذرين منصفين متعاونين متعايشين متصابرين متخلقين، حتى يبقى مجموعة الأمة على تلك الوسطية التي ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
هذه هي الوسطية الحقة التي ينبغي لكل منتم لهذا الدين أن يتحرك إليها ويكيف سلوكه وفكره وفقها وأن تستمر تلك الحركة والسير إلى أن يلقى الله تعالى، وفي ذهنه ومخططه ورؤيته مزيد عمل وحركة للاقتراب منها والسير نحوها، يكمل ذلك من بعده تعديلا واستفادة وتطويرا، فتتناغم جهود تلك المذاهب والحركات والاجتهادات مع بقاء كياناتها في حركة وسطية دؤوبة تختلف تفاصيلها وتتنوع مساراتها ولكنها لا تتوقف ولا تتصادم ولا يهدم بعضها ما بناه الآخر، كما لا يدعي بعضها أنها الحركة الفاعلة أو الجامعة أو التي ينبغي على الجميع أن ينضوي تحتها..
كما أن الوسطية ليست مرتبطة ببلد أو جنس أو عرق فقد وجدنا من الوسطية في فكر أهل بلاد صدعنا الإعلام المغرض بإنها منبع الإرهاب ومرتعه ما لم نجده في متدينين انحدروا من بلاد التقدم والتطور !!
هذه هي الوسطية التي أرادها ربنا وأراد أن نتخلق بها ونتسلِّك وفقها، وسطية لا تقصي أحدا ولا تخرج عن ضوابطها وقواعدها ومقاصدها وثوابتها التي قد تم الاتفاق عليها بين كل السالكين والمتحركين نحوها، والثابتين على طريقها..
أما وسطية التلميع والتنفع والتركيع والتمييع، وسطية المقاس السياسي أو المصلحة اللحظية التي تريد أن تشكل الإسلام وفق رغباتها ونزواتها ومصلحتها السياسية أو المادية، فليست من الوسطية في شيء، بل سرعان ما يظهر خداعها وينتهي بريقها بانتهاء مادتها وطاقتها التي استمدت من فان ضعيف فقير، أما الوسطية الحقة فجذوتها لا تنطفئ وإن تكالبت عليها أيدي التجفيف والخنق والقمع، ولا تتميع وتذوب وإن أغدقت عليها مغادق الثناء والاعتناء، لأن مددها من الحي القوي الغني، وغايتها رضاه فإليه تركن وإياه توالي وبه تأمن.
فأهم اختبار يختبر فيه المسلم وبالأحرى العامل في هذا الشأن فكريا وسلوكيا وشعوريا هو أن يكون وسطيا، فمرة تطاوعه نفسه وأخرى تمانعه.. ولا يثبت على مسلكها ويراجعها ويسير نحوها إلا الموفقون الصادقون..
اللهم أعنا على أنفسنا وعقولنا وأفكارنا وسلوكنا حتى نتحقق الوسطية الحقة أو نقترب منها..