خاص هيئة علماء فلسطين
د. محمد همام ملحم
أخرج الإمام البخاري في صحيحه: عن عوف بن مالك[1]، قال: أتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، وهو في قبّة من أدم، فقال: (اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم مُوْتَانٌ يأخذ فيكم كَقُعاصِ الغنم[2]، ثم استفاضة المال، حتى يعطى الرجل مئة دينار فيظل ساخطاً، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر؛ فَيَغْدِرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً)[3].
ولنا مع هذا الحديث الشريف الصحيح ثلاث وقفات:
الوقفة الأولى: اشتمال هذا الحديث على جملة من دلائل النبوة التي تمثل أهم المحطات الاسترتيجية المستقبلية لبيت المقدس:
هذا الحديث الشريف اشتمل على ذكر جملة من دلائل النبوة التي ظهرت وهي موت النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وفتح بيت المقدس، والموتان الذي تمثل بالطاعون الذي وقع في زمن الصحابة رضي الله عنهم عند فتوح الشام أما الآيات الثلاث الأخيرة فلم تقع بعد.
والحديث فيه بيان نبوي شريف لأهم المحطات الاستراتيجية المستقبلية المتعلقة ببيت المقدس، وفيه إشارة إلى خطة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم لفتح بيت المقدس ولمستقبل بيت المقدس فيما بعد الفتح.
فأغلب الأمور الخمسة التي عدها النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته صلى الله عليه وسلم متعلقة ببيت المقدس، بل إنني أرى أن جميعها متعلق بالصراع حول مستقبل الإسلام عموما ومستقبل ببيت المقدس خصوصا[4]، فقد عد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بعد موته صلى الله عليه وسلم فتح بيت المقدس ثم الموتان وهو ما حصل في طاعون عمواس بعد فتح بيت المقدس وعلى أرض بيت المقدس في منطقة عمواس، ثم استفاضة المال وهو مرتبط ببيت المقدس فقد دلت أحاديث أخرى على أنه يكون في زمن المهدي عندما يكون في بيت المقدس، ثم الفتنة التي لا تدع بيتا من العرب إلا دخلته فالذي أرجحه بأنها الفتنة السياسية التي وقعت في الأمة وأدت إلى سقوط الخلافة وضياع بيت المقدس والتي لا نزال نعيش في ظلالها وآثارها المدمرة، أما الدلالة الأخيرة فهي المرتبطة بالهدنة مع الروم وغدر يختم بالملحمة العظمى التي تكون بين المسلمين والروم على أرض فلسطين وقد ورد التصريح بها في أحاديث كثيرة.
الوقفة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الواضع لخطة فتح بيت المقدس وأنه أول من فتح أطراف بيت المقدس:
في هذا الحديث دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم يعد أول من جاس أطراف ديار بيت المقدس فقد ذكر المؤرخون بأن تبوك تعد من أطراف بيت المقدس[5]، وقد جاوز النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تبوك إلى المدن التي تليها وهي أيضا ضمن نطاق بيت المقدس، بل أرسل علقمة بن مُجَزِّز المدلجي رضي الله عنه على رأس سرية إلى فلسطين[6]، وقد بدأ التحرك النبوي الفعلي باتجاه فتح بيت المقدس في غزوة دومة الجندل وهي في السنة الخامسة للهجرة أي قبل غزوة تبوك بأربع سنين تقريبا، ومما يوضح خطة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ما رواه الواقدي في مغازيه: أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْنُوَ إلَى أَدْنَى الشّامِ، وَقِيلَ لَهُ إنّهَا طَرَفٌ مِنْ أَفْوَاهِ الشّامِ، فَلَوْ دَنَوْت لَهَا كَانَ ذَلِكَ مِمّا يُفْزِعُ قَيْصَرَ. وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ أَنّ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ جَمْعًا كَثِيرًا، وَأَنّهُمْ يَظْلِمُونَ مَنْ مَرّ بِهِمْ مِنْ الضّافِطَةِ[7]، وَكَانَ بِهَا سُوقٌ عَظِيمٌ وَتُجّارٌ، وَضَوَى إلَيْهِمْ قَوْمٌ مِنْ الْعَرَبِ كَثِيرٌ، وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَدْنُوا مِنْ الْمَدِينَةِ. فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ، فَخَرَجَ فِي ألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النّهَارَ،… فَسَارَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى هَجَمَ عَلَى مَاشِيَتِهِمْ وَرِعَائِهِمْ، فَأَصَابَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَصَابَ، وَهَرَبَ مَنْ هَرَبَ فِي كُلّ وَجْهٍ. وَجَاءَ الْخَبَرُ أَهْلَ دُومَةِ الْجَنْدَلِ فَتَفَرّقُوا، وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَاحَتِهِمْ، فَلَمْ يَجِدْ بِهَا أَحَدًا، فَأَقَامَ بِهَا أَيّامًا وَبَثّ السّرَايَا وَفَرّقَهَا حَتّى غَابُوا عَنْهُ يَوْمًا ثُمّ رَجَعُوا إلَيْهِ، وَلَمْ يُصَادِفُوا مِنْهُمْ أَحَدًا..)[8]
الوقفة الثالثة: تدارس الصحابة الكرام رضوان الله عليهم هذا الحديث وطريقة تعاملهم معه:
دلت عدة روايات على عناية الصحابة رضوان الله عليهم بهذا الحديث وتدارسهم له وبشكل خاص بعد وقوع طاعون عمواس فقد أخرج الحاكم في المستدرك في حديث عوف وفيه فَلَمَّا كَانَ عَامَ عَمْوَاسَ قال عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِي: «اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ» فَقَدْ كَانَ مِنْهُنَّ الثَّلَاثُ وَبَقِيَ الثَّلَاثُ، فَقَالَ مُعَاذٌ: إِنَّ لِهَذَا مُدَّةً[9]. وروي أنه قال: إن لهذا أهلاً[10]. وفي ذلك دلالة على أن الصحابة الكرام تعاملوا مع هذه الآيات التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بما تقتضيه هذه الأخبار من إعداد وعمل وجهاد، فقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم أن من أهم الواجبات عليهم أن يحققوا هذا الوعد وأن يحولوا هذا الخبر إلى حقيقة قائمة، وأن يستعدوا لمواجهة الفتن، فقاموا بهذا الواجب على أفضل حال في حالتي البشارة والنذارة، فسعوا لفتح بيت المقدس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة فقد أنفذ أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعث أسامة إلى فلسطين بالرغم من ارتداد أكثر العرب عملاً بوصية النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى الواقدي في فتوح الشام عن مجموعة من الرواة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعد أن فرغ من حروب الردة قام خطيبا في الناس وكان مما قال” اعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عول أن يصرف همته إلى الشام، فقبضه الله إليه، واختار له ما لديه، إلا وإني عازم أن أوجه أبطال المسلمين إلى الشام بأهليهم ومالهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنبأني بذلك قبل موته”[11] وقد جمع الصديق رضي الله عنه أهل الشورى من أجل وضع الخطة التفصيلية لهذا الفتح وكان ممن أشار برأيه كل من عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، فكان رأي الفاروق رضي الله عنه أن “يسرِّب إليهم الخيل في إثر الخيل، ويبعث الرجال تتبعها الرجال، والجنود تتلوها الجنود” وأما ابن عوف رضي الله عنه فقال: “يا خليفة رسول الله إنها الروم وبنو الأصفر، حدٌّ حديد وركن شديد، ما أرى أن تقحم عليهم إقحاما لكن تبعث الخيل فتغيرُ في قواصي أرضهم ثم ترجع إليك فإذا فعلوا ذلك بهم مرارا أضروا بهم وغنموا من أداني أرضهم فقووا بذلك عن عدوهم ثم تبعث إلى أراضي أهل اليمن وأقاصي ربيعة ومضر ثم تجمعهم جميعا إليك ثم إن شئت بعد ذلك غزوتهم” وقد ارتضى الصديق رضي الله عنه رأي عمر رضي الله عنه في إرسال الجيوش إلى الشام وعدم الاقتصار على بث السرايا لأن مرحلة بث السرايا تمت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبداية زمن أبي بكر رضي الله عنه، وأخذ بجزء من رأي عبد الرحمن بن عوف وهو المتعلق بجمع أهل اليمن وغيرهم من أجل هذه الحرب، ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام اهتمام الصحابة رضوان الله عليهم بمعرفة عدوهم وإمكانياته وقدراته وقواته مما جعلهم يفكرون مليا في طريقة مواجهته، بل تروي كتب المغازي أن أبا بكر رضي الله عنه أمر الصحابة الذين في المدينة بالنفير لقتال الروم ولما اجتمع الجيش واستعرضعهم أبو بكر رضي الله عنه وجد عددهم وعدتهم لا تكفي لخوض الحرب مع الروم، وهذا كان رأي عمر رضي الله عنه أيضا، فأرسل الكتب إلى اليمن وأطراف البلاد لإرسال المدد ولم يرسل الجيوش إلا بعد اجتماع عدد كبير من الجند من اليمن وأطراف البلاد، وفي ذلك درس لنا في هذا الزمان بضرورة معرفة العدو وإدراك خطره ومكامن القوة والضعف لديه والتعرف على جميع النواحي المتعلقة به والقوى المرتبطة به.
وعندما قال معاذ رضي الله عنه عن الآيات الثلاث الباقية: إن لهذا أهلا، ففي ذلك إشارة إلى أن من أهم الواجبات على أتباع الصحابة الكرام والسائرين على دربهم أن يستعدوا لمواجهة الفتن التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم حيث حذر صلى الله عليه وسلم من فتنتين أولاهما فتنة السراء واستفاضة المال وعدم القناعة بشيء من العطاء، والأخرى فتنة لا تدع بيتا من العرب إلا دخلته وسميت في أحاديث أخرى بالدهيماء، والظاهر من خلال استقراء الروايات المتعلقة بهذه الفتنة العامة الشاملة التي لا تترك أحداً من المسلمين إلا لطمته أنها فتنة سياسية متعلقة بالحكم بغير ما أنزل الله وانتشار الظلم، فمن أوجب الواجبات على أتباع الصحابة الكرام في زماننا هذا أن يقاوموا هذه الفتن بنشر العلم وبث الإيمان مع الصبر واليقين بالإضافة إلى مقاومة الظالمين والصدع بالحق والوقوف في صف الطائفة المنصورة المرابطة في بيت المقدس وأكنافه وتمكينهم ودعمهم بكل أنواع الدعم.
هذا وبالله التوفيق
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] عوف بن مالك بن أبي عوف الأشجعي الغطفاني، اختلف في كنيته من نبلاء الصحابة شهد خيبر وفتح مكة وكانت معه راية قومع أشجع، وتحول إلى الشام وشارك في فتح بيت المقدس والشام وسكن حمص، توفي سنة 73 ه، انظر:ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، 7/ 556، الذهبي، سير أعلام النبلاء، 2/ 487.
[2] دَاء يَأْخُذ الْغنم لَا يُلبثها أَن تَمُوت، انظر: ابن سلام، غريب الحديث، 2/ 86.
[3] أخرجه البخاري في صحيحه، حديث رقم (3176) ، وأبو داود في سننه حديث رقم (5000) ، وابن ماجه في سننه حديث رقم(4042) و (4095) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني حديث رقم (1288) ، وابن حبان في صحيحه (6675) ، والطبراني في “المعجم الكبير” 18/ (70) ، والحاكم في مستدركه 4/419، من طريق أبي إدريس الخولاني، وأخرجه غيرهم من طرق أخرى عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه.
[4] بل إنني أرى أن موت النبي صلى الله عليه وسلم مرتبط بالصراع مع يهود، وهذا الصراع مرتبط بخلافة الإسلام، أخرج الإمام أحمد في مسنده عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود، قَالَ: ” لَأَنْ أَحْلِفَ بِاللهِ تِسْعًا ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ قَتْلًا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ وَاحِدَةً، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ اتَّخَذَهُ نَبِيًّا، وَجَعَلَهُ شَهِيدًا ” فقد كان ابن مسعود يرى بأن موت النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو بسبب السم الذي وضعه يهود على ذراع الشاة، ومحاولة يهود قتل النبي صلى الله عليه وسلم مرتبط بأمر خلافة الإسلام للشرائع السابقة والتي منها شريعتهم.
[5] انظر ، العليمي، الأنس الجليل، 2/ 83
[6] علقمة بن مجزز بن الأعور المدلجي، ولاه النبي صلى الله عليه وسلم بعض جيوشه وأرسله في غزوة تبوك إلى فلسطين ، وولاه أبو بكر الصديق حرب فلسطين وشهد اليرموك ثم كان ممن ولي حرب فلسطين في خلافة عمر بن الخطاب، وحضر الجابية، وقد استشهد في البحر فقد أرسله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في عشرين مركباً، أو نحوها، في البحر إلى الحبشة لأن الحبشة تطرفت طرفا من أطراف الإسلام فأصيبوا جميعاً ، انظر تاريخ دمشق: 41/ 191- 192
[7] الضافطة: جمع ضافط، وهو الذي يجلب الميرة والمتاع إلى المدن، ..وكانوا يومئذ قوماً من الأنباط يحملون إلى المدينة الدقيق والزيت. (النهاية، ج 3، ص 22)
[8] رواه الواقدي عن ابْن أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي لَبِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ. ثم قال: وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أَبِي بَكْرٍ، فَكِلَاهُمَا قَدْ حَدّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَحَدُهُمَا يَزِيدُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَغَيْرُهُمَا قَدْ حَدّثَنَا أيضا. مغازي الواقدي، 1/ 402- 403.
[9] الحاكم، المستدرك على الصحيحين، حديث رقم 8303، ج4/ 469.
[10] ابن حجر، فتح الباري، 6/ 279.
[11] الواقدي، فتوح الشام، 1/ 5