خاص هيئة علماء فلسطين
بقلم: د. علي الصلابي/ الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ابن عم الرسول ﷺ وصهره، ورابع الخلفاء الراشدين، وأحد المبشرين بالجنة، نشأ في كنف النبي ﷺ، وأسلم صغيراً قبل أن يبلغ الحلم، وكان من أوائل من أسلم، نافح عن الإسلام صغيراً، وشاباً وكهلاً، وشارك في غزوات الإسلام الكبرى، عُرف بالشجاعة وتوقد الذكاء، والفقه بأمور الدين والحكمة، وهو من الأئمة الذين يتأسى الناس بهديهم، وبأقوالهم وأفعالهم في هذه الحياة، فسيرته من أقوى مصادر الإيمان، والعاطفة الإسلامية الصحيحة، والفهم السليم لهذا الدين، فنتعلم منه فقهه في التعامل مع السنن، وحسن توجيهها، وكيف نعيش مع القرآن الكريم، ونهتدي بهديه.
هو علي بن أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالبه القُرشي الهاشمي المكي المدني الكوفي. ويكنى بـأبي الحسن والحسين، وأبو القاسم الهاشمي، وأبو السبطين وأبو تراب.
شمائله وأخلاقه: عن أبي صالح قال: قال معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه)، لضرار بن ضمرة الصّدائي: ” صف لي علياً فقال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعفيك، قال: أما إِذْ لا بدّ؛ فإنه والله كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فضلاً، ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظّلمته، وكان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلّب كمه، ويخاطب نفسه، يُعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب. وكان والله كأحدنا؛ يُجيبنا إذا سألناه، ويُدنينا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا، وقربه منا لا نكلمه هيبة له، ولا نبتديه لعظمه، فإن تبسّم فعنْ مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيفُ من عدله “.
علمه: منزلة علي في العلوم، بالمحل العالي، وهبه الله قلباً عقولاً، ولساناً سؤولاً، وحافظة باهرة، وفهماً ثاقباً، ورد منبع العلم ومصدر الحكمة ﷺ ولازمه طيلة مدة الرسالة، وصدر عن بحره الصافي، وقد امتلأ علماً وفهماً وحكمة، ونالته بركة دعوته في القضاء، وأخذ عنه القرآن غضاً طرياً، فكان رضي الله عنه من بحور العلم، قارئاً لكتاب الله، مفسراً له محدثاً، فقيهاً قاضياً، خطيباً شاعراً بليغاً مفوهاً، ولم يكتف بأن يستمع إلى النبي ﷺ ويروي عنه وينقل سننه، بل كان يسأله مستفسراً أو متثبتاً، وقد حفظ علي رضي الله عنه الكثير من الطيب من سنن رسول الله ﷺ وأيامه، في صفة الوضوء، والصلاة وكيفيتها، وأفعالها وأقوالها، والسنن الراتبة، والأذكار والأدعية، وتفصيلات أركان الصيام، وأحكام الجنائز، وأمور الجهاد، والأضاحي والأطعمة، والفرائض والوصايا، والديات والحدود، والآداب والعقائد، وغير ذلك من أمور الإسلام.
فهو القارئ الحافظ لكتاب الله تعالى: فقد قرأ علي رضي الله عنه القرآن على النبي ﷺ وهو ممن حفظ القرآن على عهد الرسول ﷺ، فعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: ما رأيت أحداً كان أقرأ من علي.
وهو المفسر: فعن سليمان بن ميسرة الأحمسي، عن أبيه قال: قال علي رضي الله عنه : ” والله ما نزلت آية، إلا وقد علمت فيم أنزلت، وأين نزلت، إن ربي وهب لي قلباً عقولاً، ولساناً سؤولاً”. وعن أبي الطفيل قال: ” قال علي: …. سلوني عن كتاب الله، فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل”.
وهو المحدث: كان علي رضي الله عنه، محدثاً جهبذا،ً متحرياً في تحمل الحديث وروايته، حتى إنه ليستحلف من يحدثه، ويأمر تلامذته أن يحدثوا الناس بما تطيقه عقولهم، وروى علي الحديث عن رسول الله ﷺ فأكثر وأطاب، وروى عن أبي بكر وعمر، والمقداد بن الأسود، وعن زوجته فاطمة بنت النبي ﷺ وحدث عنه أولاده، الحسن والحسين، ومحمد ابن الحنفية، وعمر وفاطمة، وآخرون كثر من الصحابة والتابعين، وروت له كتب السنة (586) حديثاً في الصحيحين.
وكان علي رضي الله عنه من أكابر فقهاء الإسلام، ومن المكثرين في الفتيا، حيث يملأ اسمه مختلف أبواب الفقه، وشرائع الإسلام، وكان ممن يفتون على عهد النبي ﷺ، وقد ذكر ابن حزم ونقله عنه ابن القيم: أن المكثرين من الفتيا من الصحابة سبعة، وعلي أحدهم. فكان رضي الله عنه يفتي في أمور كالطهارة والوضوء، والصلاة والصيام، والزكاة والحج، والبيوع والنكاح، والطلاق والحدود، والجنايات والديات، والوصايا.
علي بن أبي طالب القاضي: من جلائل نعم الله على علي رضي الله عنه، أن النبي ﷺ بعثه على اليمن داعياً وقاضياً، ودعا له بأن يثبت الله لسانه، ويهدي قلبه، وأوصاه بأن لا يقضي بين اثنين، حتى يسمع منهما جميعاً، قال علي: ” فما أشكل عليّ قضاء بعد”، وقد شهد له كبار الصحابة بأنه من أكابر قضاة الأمة، فقد روى ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “أقرؤنا أبيّ، وأقضانا عليّ”، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ” كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب”، وقال تلميذه عامر الشعبي: “قضاة هذه الأمة أربعة، عمر وعلي، وزيد وأبو موسى الأشعري”.
نشره للعلم: للخلفاء الراشدين الأربعة فضلٌ كبير ودورٌ جليل في نشر علوم الإسلام، وتبليغ شرائعه في الأمصار، واستنابتهم الولاة، وبعثهم العلماء للقيام بواجب الدعوة وتعليم الناس، وقد نشر سيدنا علي رضي الله عنه علومه الغزيرة في عهد النبي ﷺ وزمن الخلفاء الراشدين الثلاثة، وكذلك في أيام إمارته، وعلمُه بالعراق كثيرٌ جداً، حدّث عنه الجمٌ الغفير، وتفقّه به خلائق، وحديثه وفقهه، وأقضيته وعلومه، مدونة في الكتب، ومنشورة بين الناس.
تحرّيه في نشر العلم: روى سويد بن غَفْلَة عن علي رضي الله عنه قال: ” إذا حدْثُتكم عن رسول الله ﷺ حديثاً فوالله لأَنْ أَخِرّ من السماء أَحَبُ إليّ مِن أن أكذِب عليه، وإذا حدّثتُكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خَدْعَة، وإني سمعتٌ رسول الله ﷺ يقول: سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان؛ سُفْهاءٌ الأحلام” والحديث في صفة الخوارج، وقال رضي الله عنه: ” أَيّ أرض تقِلني: أو أي سماء تُظلّني؛ إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم”.
ثناء الصحابة على علمه: فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: ” إذا حدثنا ثقة عن علي بفتيا لا نعدوها”، وقال أيضاً: ” كنا إذا أتانا الثبت عن علي لم نعدل به”، وقال عبد الله بن مسعود: رضي الله عنه: ” أعلم أهل المدينة بالفرائض علي بن أبي طالب”، والأخبار في هذا كثيرة.
ومن درر ما قاله رضي الله عنه:
” يا حملة العلم اعملوا به، فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم، لا يجاوز تراقيهم، يخالف عملهم علمهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حلقاً، فيباهي بعضهم بعضاً، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه، أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك، إلى الله“.
” ألا إن الفقيه كل الفقيه، الذي لا يُقَنط الناس من رحمة الله، ولا يؤمّنهم من عذاب الله، ولا يرخص لهم في معاصي الله، ولا يدع القرآن رغبةٌ عنه إلى غيره، ولا خير في عبادة لا علم فيها، ولا خير في علمٍ لا فهم فيه، ولا خير في قراءة لا تدبّر فيها “.
” ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكنٌ الخيرَ أن يكثر علمك، ويَعظّم حلمُك، وأن تباهي الناس بعبادة ربك، فإن أحسنت حمدت الله، وإن أسأت استغفرت الله، ولا خير في الدنيا، إلا لأحد رجلين: رجل أذنب ذنباً فهو يتدارك ذلك بتوبة، أو رجل يسارع في الخيرات، ولا يَقِلُ عمل في تقوى، وكيف يقل ما يُتَقبْل؟ “.
استشهاده رضي الله عنه:
كان عليّ رضي الله عنه يعلم أنه سيموت قتلاً، فقد بشّره النبي ﷺ أنه سيُقتل شهيداً فقال: “أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِأَشْقَى الناسِ رَجلينِ؟ أُحَيْمِرُ ثمودَ الذي عقَرَ الناقَةَ، والذي يضْرِبُكَ يا عَلِيُّ عَلَى هذِه، حتى يَبُلَّ مِنْهَا هذِه”.
وقد اتفق بعض ذوي القتلى من الخوارج الذين أنام علي رضي الله عنه فتنتهم، على الثأر لذويهم، فتعاهد 3 نفر، وكان منهم عبد الرحمن بن ملجم، على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص، وسار ابن ملجم إلى الكوفة، لتنفيذ ما اتفق عليه مع صحبه، فترصد لأمير المؤمنين في المكان الذي يخرج منه عادة وقت الفجر لإيقاظ الناس للصلاة، وكان ذلك في رمضان سنة 40 هـ، ولما خرج من بيته، ينادي في الناس، الصلاةَ الصلاةَ، ثار إليه ابن ملجم، وضربه بسيفه فأصاب جبهته، وأسال دمه على لحيته، فمكث رضي الله عنه يوم الجمعة وليلة السبت، وفاضت روحه إلى بارئها ليلة الأحد، ودفن بدار الإمارة في الكوفة، واستمرت خلافته 4 سنين و9 أشهر وكان عمره يوم استشهد 63 سنة.
المراجع:
- الطبقات الكبرى، ابن سعد، محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1990م، م3/ ص19.
- تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1995م، م1، ص21.
- علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، عبد الستار الشيخ، دار القلم، دمشق، ط1، 2015م.
- حياة الصحابة، محمد يوسف، تحقيق، بشار معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1999م، م2/ ص651.
- معرفة القراء الكبار، الذهبي، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، 1997م، م1/ ص27.
- تهذيب الأسماء واللغات، النووي، إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة،2008م، م1/ ص345.
- أصحاب الفتيا من الصحابة، ابن حزم الأندلسي، حققه سيد حسن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1995م، ص319.
- الحلية، الأصفهاني، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1996م، م1/ ص 75ـ 77.
- الطبقات، ابن سعد، م2/ ص339 ـ 351.
- سنن الدرامي، 382.
- صحيح الجامع، الألباني، 2589.