25/11/2025
تقرير خاص ـ د. عمر الجيوسي
نقلاً عن موقع الجزيرة نت https://aja.ws/z4kh1k

قرار نزع سلاح غزة
يشكل ملف نزع سلاح حركة حماس وفصائل المقاومة في قطاع غزة قلقا كبيرا لدى دولة الاحتلال الإسرائيلي والدول الداعمة لها ، خصوصا في ظل اعتماد مجلس الأمن الدولي للمشروع الأمريكي بشأن إنهاء الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة.
في 17 نوفمبر 2025، اعتمد مجلس الأمن القرار (S/RES/2803) الذي يُضفي شرعية دولية على خطة الاستقرار الأمريكية لغزة، بما في ذلك نشر قوة مؤقتة يُفوض لها “تفكيك السلاح” لدى فصائل غير حكومية في غزة، ما يعكس محاولة ربط توقّف العنف الدولي بتقييد القدرات المسلحة لتلك الفصائل ضمن آليات مؤسساتية دولية.
يكون محور عمل قوة الاستقرار الدولية المؤقتة في غزة تحت قيادة موحدة هو (تجريد غزة من السلاح وحماية المدنيين وتدريب الشرطة الفلسطينية، بالتنسيق مع مصر وإسرائيل).
يثير هذا القرار تساؤلات قانونية جوهرية حول مدى التوازن بين تفويض أمني دولي وحق الفلسطينيين في الإبقاء على ما يعتبرونه وسيلة مقاومة؛ فالتفويض الممنوح للقوة الدولية يمكن قراءته كخطوة لفرض “نزع سلاح تقني” أكثر منه تسوية سيادية سياسية، مما يثير تحديات مستقبلية لسيادة القرار الفلسطيني ضمن أي ترتيبات انتقالية.
رئيس وزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو استبق القرار وقال ( في اجتماع مجلس وزراء في 16 نوفمبر 2025) :”ستكون هذه المنطقة منزوعة السلاح وسيُنزَع سلاح حماس ـ إما بالطريقة السهلة أو بالطريقة الصعبة. هذا ما قلته، وهذا ما قاله الرئيس ترامب أيضًا.” وفي جلسة مجلس الأمن قال السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة :”نزع سلاح حماس شرط أساسي في القرار الأمريكي “.
حركة المقاومة الإسلامية ـ حماس ـ (في بيانها الصادر في 18 نوفمبر 2025) قالت “إن تكليف قوة وأدوار دولية بمهام داخل القطاع، منها نزع سلاح المقاومة، يحولها لطرف في الصراع لصالح الاحتلال”.
وفي ظل تباين المواقف وتفاعلات هذا القانون، يظهر التناقض الصارخ على الأرض؛ فبينما يعترف القانون الدولي بحق مقاومة الاحتلال للشعوب المحتلة، إلا أن التطبيق العملي والواقع على الأرض يكشفان ازدواجية المعايير؛ حيث تُجَرَّم المقاومة بينما يُمنح الاحتلال غطاءً لتوسيع قدراته العسكرية.
القانون الذي انحاز: كيف تحوّل مبدأ التحرر إلى أداة لنزع السلاح
يبقى الإطار القانوني المنظّم للمقاومة محدودًا بفعل التفسيرات الأمنية السائدة، مما يقلّل من مساحة الحماية القانونية للحركات المسلحة. فـ “البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977 يقرّ بشرعية مقاومة الاحتلال ضمن النزاعات المسلحة، إلا أنّ التطبيق العملي لهذا الإقرار يظل خاضعًا لاعتبارات سياسية وأمنية”.
يشير الباحث آدم روبرتس في دراسته (المقاومة ضد الاحتلال العسكري) إلى أن “الشرعية القانونية لا تتحوّل دائمًا إلى حماية فعلية عندما تتزاحم الاعتبارات الأمنية للدول الكبرى مع قواعد القانون الدولي”.
وتؤكد اللجنة الدولية للصليب الأحمر في تقريرها الرسمي (مارس 2023) حول الوضع الراهن في مجال نزع السلاح والرقابة على الأسلحة “أن إجراءات نزع السلاح يجب أن تُدار ضمن مبادئ إنسانية صارمة تستند إلى قواعد القانون الدولي الإنساني، وأن أثر هذه الإجراءات ينعكس بشكل مباشر على حماية المدنيين واستقرار بيئة ما بعد النزاعات”. وتضيف اللجنة في التقرير أن “أي برنامج لنزع السلاح يجب أن يُنفذ تحت إشراف مؤسّسات قانونية وإنسانية معترف بها، مع آليات رقابية ومساءلة لضمان أن تكون النتائج إنسانية، وأن تُعزز استقرار البنية المؤسسية، لا مجرد خفض مستوى التسلّح”.
ازدواجية المعايير: السلاح الفلسطيني مقابل ترسانة الاحتلال
تشير الدراسات الحديثة إلى أن النماذج التي غالبًا ما تُستدعى في النقاشات الدولية حول نزع السلاح بعد النزاعات ـ مثل ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية ـ لا يمكن اعتبارها وصفات جاهزة قابلة للتطبيق في سياقات أخرى، بما فيها غزة. فقد ارتبطت هذه التجارب بظروف استثنائية فرضت أثمانًا سيادية وسياسية واقتصادية ضخمة؛ إذ خضعت ألمانيا لنظام إشراف احتلالي صارم أعيد من خلاله تشكيل بُنيتها السياسية والعسكرية، بينما فرض الاحتلال الأمريكي على اليابان دستورًا جديدًا تضمن المادة التاسعة من الدستور الياباني التي تنص صراحة على أن اليابان “تتنازل إلى الأبد عن الحرب كحق سيادي وعن امتلاك قوات هجومية”، مع الإبقاء فقط على قوات دفاع محدودة. هذه التجارب قيدت حقّهما الوطني لعقود طويلة.
لتوضيح الاختلافات الجوهرية في نتائج نزع السلاح بعد النزاعات، نقسم التجارب الدولية إلى ثلاثة مسارات استنادًا إلى طبيعة التفويض السياسي والسيادة الوطنية المصاحبة لكل تجربة:
المسار الأول: نزع السلاح تحت إشراف خارجي وإعادة تشكيل الدولة
توضّح تجارب ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك العراق بعد الاحتلال الأمريكي، أن نزع السلاح المفروض خارجيًا يحمل أثمانًا سيادية ثقيلة ويقيد القرار الوطني لعقود طويلة.
ألمانيا: خضعت لعملية “إزالة النازية” (Denazification) التي شملت تفكيك مؤسسات الحكم وإعادة صياغة البنية السياسية والقانونية تحت إشراف مباشر لقوات الاحتلال، إضافة إلى فرض قيود صارمة وطويلة على التسلح قبل السماح بإعادة بناء جيش محدود ضمن ترتيبات حلف الناتو.
اليابان: فرض الاحتلال الأمريكي دستورًا جديدًا عام 1947 تضمّن المادة التاسعة التي تلزم الدولة بالتخلي عن الحرب كحق سيادي وتحظر تأسيس قوات هجومية مستقلة، مقابل الاعتماد على المظلة الأمنية الأمريكية.
العراق: شهد نزع سلاح شامل بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 ضمن ترتيبات خارجية وسيطرة مؤقتة، ما أدى إلى إعادة تشكيل البنية الأمنية والسياسية مع ضعف في استقرار القرار الوطني.
المسار الثاني: نزع السلاح بعد تحقيق هدف سياسي وسيادة وطنية
في الجزائر تشير بيانات وزارة الدفاع الجزائرية (2025) إلى أن نزع السلاح لم يبدأ إلا بعد إعلان الاستقلال عام 1962 وتحول السلطة إلى جهة وطنية شرعية، حيث دمجت قوات جبهة التحرير الوطني ضمن الجيش الوطني، مما يعكس أن أي نزع سلاح يجب أن يرتبط بتحقق سيادة وطنية ومؤسسات شرعية.
وفي إيرلندا الشمالية، يؤكد مركز تشاتام هاوس ـ المعهد البريطاني المتخصص في دراسات السلام وصياغة السياسات ـ أن تسليم السلاح حدث ضمن تسوية سياسية متوازنة تضمن تمثيلًا واسعًا ومؤسسات محلية شرعية، مشيرًا إلى أن النجاح مرتبط بالمؤسسات الوطنية لا بالوصاية الخارجية.
وفي جنوب إفريقيا ـ وفقًا لدراسة معهد أبحاث السلام في أوسلو (PRIO) لعام 2023 ـ لم يتم إنهاء العمل المسلح من قبل المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب إفريقيا إلا بعد إسقاط نظام الفصل العنصري وقيام حكومة وطنية ديمقراطية ذات سيادة، حيث تم دمج قواته ضمن أجهزة الأمن الرسمية للدولة. وتشير الدراسة إلى أن نزع السلاح في هذا السياق كان نتيجة مباشرة لتحقيق هدف سياسي كامل، مما عزز المؤسسات الوطنية وأمنها، ولم يكن مجرد إجراء تقني أو مفروضًا خارجيًا.
المسار الثالث: نزع تقني بلا أفق سياسي مسبق أدى إلى هشاشة مؤسسات أمنية
توضح تقارير الاتحاد الأفريقي حول أنغولا (2005) أن برامج نزع السلاح قبل وجود سلطة وطنية كاملة واجهت انهيارات أمنية جزئية وصعوبات في إعادة دمج المقاتلين، ما أدى إلى هشاشة مؤسساتية.
وفي ناميبيا، أظهرت دراسة صادرة عن جامعة ويندهوك (2019) أن نزع السلاح دون اتفاق سياسي شامل نتج عنه فراغ مؤسسي جزئي وعقبات في إعادة الإدماج الاقتصادي للمقاتلين.
وفي البوسنة، أكد مركز العدالة الانتقالية الدولي ـ ICTJ ـ ( في تقريره الصادر عام 2009) أن “نزع السلاح بعد الحرب لم يكن مدعومًا بإطار سياسي مؤسسي متكامل، مما أدى إلى فراغ أمني وهشاشة كبيرة في بناء مؤسسات أمنية مستقرة” .
وأما تجربة الضفة والسلطة الوطنية الفلسطينية ،فتشير دراسات (مركز فلسطين للدراسات السياسية والاجتماعية لعام )2025 إلى أن “تركيز السلاح بيد أجهزة مرتبطة بالتنسيق الأمني مع الاحتلال يعكس هشاشة المؤسسات الوطنية وضعف السيطرة على الوسائل العسكرية، ويؤكد الاستطلاع أن نحو 68% من الفلسطينيين يعارضون أي تدخل لقوة خارجية مسلحة لتفكيك سلاح حماس ” ، ما يعكس رفضًا شعبيًا لتكرار تجربة تفويض أمني يقوّض الحق الوطني.
ورغم ذلك، رحّبت السلطة الفلسطينية بتصويت مجلس الأمن الدولي لصالح الخطة الأمريكية وعبّرت عن استعدادها للعمل ضمن الإطار الذي يحدده القرار، وحثّت على بدء التطبيق الفوري على الأرض، ونشرت وزارة الخارجية الفلسطينية على حسابها على “إكس” بياناً جاء فيه “رحبت دولة فلسطين باعتماد مجلس الأمن الدولي مشروع القرار الأميركي بشأن غزة الذي يؤكد تثبيت وقف إطلاق النار الدائم والشامل في قطاع غزة”.
خاتمة : الفصائل الفلسطينية أمام مآلات القرار
رفضت فصائل المقاومة الفلسطينية وحذّرت من أن قرار مجلس الأمن رقم 2803 يعتبر وصاية دولية على قطاع غزة، وشدّدت على حق الشعب الفلسطيني بالمقاومة والدفاع عن النفس. وقالت حركة الجهاد الإسلامي إن القرار يفصل القطاع عن باقي الأراضي الفلسطينية ويفرض وقائع جديدة تناقض ثوابت الشعب الفلسطيني، مشيرة إلى أن “حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال يكفله القانون الدولي ويشكل سلاح المقاومة ضمانة لهذا الحق”. وأكد رئيس حركة حماس في غزة خليل الحيّة لقناة الجزيرة في أكتوبر الماضي تمسك الفلسطينيين بحقهم في الاحتفاظ بالسلاح حتى قيام دولة فلسطينية مستقلة.
وعلى صعيد المؤسسات، وفقًا لما أظهرته دراسة جوزفين وريكاردو في معهد أوسلو لأبحاث السلام (PRIO، 2023)، فإن أي نزع سلاح خارج إطار مشروع سياسي شامل يؤدي إلى هشاشة مؤسساتية وفراغ أمني، ما يعزز ما أشار إليه قادة الفصائل من ضرورة الإبقاء على سلاح المقاومة ضمن سياق سياسي ومؤسساتي.
وتشير هذه التصريحات والدراسة إلى أن أي تدخل خارجي لتفكيك سلاح الفصائل الفلسطينية دون إطار سياسي شامل يعكس تجربة مشابهة لتجارب نزع السلاح في دول أخرى مثل أنغولا وناميبيا والبوسنة، حيث أدى ذلك إلى هشاشة مؤسساتية وفراغ أمني، مؤكدًا أن الحفاظ على السلاح ضمن سياق سياسي شرعي هو عنصر حاسم لاستقرار المؤسسات وحق الشعب في مقاومة الاحتلال.