خاص هيئة علماء فلسطين
7/12/2025
د. إبراهيم مهنا عضو المكتب التنفيذي في هيئة علماء فلسطين
لم تكن الحرب الهمجية العنصرية التي شنها الاحتلال على غزة قاصرة على استهداف المقاتلين، لكنها استهدفت كل ما يمت بصلة لاستمرار الحياة على هذه الأرض، فاستهدفت البنية التحتية في القطاع، كتدمير معظم محطات تحلية المياه، والمشافي والمراكز الصحية، والطرق الرئيسة والشوارع الفرعية، ونظام الصرف الصحي، ومولدات الكهرباء وأبراج الاتصال، والمباني الحكومية، والمساجد والكنائس، فضلاً عن أكثر من 75% من المباني السكنية.
ولعل أخطر ما استهدفته على الإطلاق تدمير كل ما يتعلق بالهوية الوطنية والذاكرة الفلسطينية التي تربط الأجيال بجذورها وهويتها الفلسطينية الأصيلة للوصول إلى «الإبادة المعرفية» التي تهدف لخلق جيل جديد منفصل عن تراثه وتاريخه وحضارته وقيمه، جيل يقبل بالخنوع لإرادة المحتل ويرضى بحياة بلا هوية ولا ثقافة ولا كرامة، جيل بلا طموح يعيش ليأكل ويشرب ويقضي شهواته كالبهائم.
وقد شملت الإبادة المعرفية التي مارستها آلة الاحتلال البغيض كل أركان المعرفة، في محاولة لكي وعي الجيل الجديد، وخطورة هذا النوع من الإبادة أنها تستهدف تشكيل مستقبل الشعب بشكل أساس، من خلال تفكيك ممنهج للبيئة التي تنمو فيها المعرفة، وتُحفظ عبرها الذاكرة، وتُنتَج من خلالها الهوية، وهي جريمة جديدة ضد الإنسانية تضاف إلى سجل الاحتلال المليء بالمخازي، ضاربة بعرض الحائط كل الاتفاقيات الدولية التي تنص على حماية التراث الثقافي خاصة في الحروب، وتتمحور حول اتفاقية لاهاي لعام 1954م وتعديلاتها، وتستكمل بالبروتوكولين الإضافيين الأول عام 1954م، والثاني عام 1999م، بالإضافة إلى اتفاقية جنيف عام 1977م، واتفاقية «يونسكو» عام 1972م.
وقد نصت هذه الاتفاقيات على مجموعة من المبادئ الأساسية لحماية التراث يمكن مراجعتها في مظانها، وعلى سبيل الاختصار يمكن تلخيص هذه المبادئ بما يلي:
- حظر استهداف الممتلكات الثقافية أو استخدامها لأغراض عسكرية.
- تجريم التدمير المتعمد للممتلكات الثقافية الذي يعد جريمة حرب.
- عدم التذرع بالضرورة العسكرية لتبرير تدمير التراث إلا في حالات استثنائية جداً وضرورية للبقاء.
- اتخاذ التدابير المناسبة في زمن السلم لحماية التراث كتحديد علامات مميزة لهذه المرافق.
وسائل الإبادة المعرفية
إن المتابع لسلوك الاحتلال في هذه الحرب يلاحظ استهدافه المباشر والممنهج لكل أدوات المعرفة وصناعة الهوية، ومن ذلك ما يأتي:
أولاً: استهداف البنية التعليمية:
استهدف الاحتلال جميع مرافق التعليم في غزة على مختلف مستوياتها، وإذا بدأنا بالجامعات فقد دمر الاحتلال 5 جامعات من أصل 6 أبرزها الجامعة الإسلامية، وجامعة غزة، وجامعة الأزهر.
وحسب «المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان»، فقد طال الاستهداف 90% من أبنية المدارس الحكومية علماً بأن هناك 133 مدرسة حكومية تستخدم كمراكز إيواء، فقد استهدفت آلاف المدارس الحكومية والخاصة والأممية، كما تم استهداف المختبرات العلمية والمراكز البحثية والمكتبات الجامعية.
ثانياً: اغتيال العقول ورواد المعرفة:
إن المعرفة تتراكم عبر الأشخاص قبل المؤسسات؛ وعليه، فإن الأساتذة الجامعيين والباحثين والمفكرين ومعلمي المدارس بجميع مستوياتها هم رأس المال الثقافي وأهم ركن في عملية المعرفة؛ لذا لم يكن استهدافهم عشوائياً، بل كان ممنهجاً ومقصوداً بذاته، وقد وثق «المرصد الأورومتوسطي» استشهاد 94 من أساتذة الجامعات، منهم 17 أكاديمياً يحملون درجة الأستاذية (البروفيسور)، و59 يحملون درجة الدكتوراة، و18 درجة الماجستير، ومئات المعلمين، وآلاف الطلبة.
بالإضافة إلى ذلك، أدى الاستهداف إلى فقدان أبحاث وبيانات وبنى معرفية امتدت لسنوات؛ مما يهدد انتقال الخبرة بين الأجيال، وبهذا لا يُستهدف الفرد فقط، بل النظام المعرفي برمته الذي كان من الممكن أن ينتجه.
ثالثاً: محو الذاكرة الثقافية:
إن تدمير الوثائق التاريخية من قبل المحتلين منهج استعماري خطير يهدف إلى محو ذاكرة الأجيال الجديدة عبر طمس كل ما يعزز السردية الفلسطينية من وثائق، وإن التاريخ الفلسطيني مليء بالوثائق، والصور، والأرشيفات، والمرويات الشفهية التي تشكل بمجموعها الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني، وفي هذا السياق نقرأ استهداف الاحتلال الذي طال البرج الذي يضم مبنى «عيون على التراث»؛ وهو مشروع وطني مهم لترميم مخطوطات ووثائق نادرة في غزة بتمويل أوروبي.
رابعاً: ضرب استمرارية انتقال المعرفة:
إن عشرات آلاف الأطفال أصبحوا بلا مدارس، وبلا بيئة تعليمية مستقرة، مع عجز في عدد المعلمين، كل ذلك يهدد انتقال عملية نقل المعرفة من جيل لآخر، وهذا يعني إيجاد جيل بعد الحرب يفتقر إلى التسلسل الطبيعي لاستمرار العملية التعليمية، وبالتالي بروز أخطار التسرب من العملية التعليمية نتيجة لهذه الفجوة التعليمية التي سببتها الحرب الممتدة لأكثر من سنتين؛ ما يهدد إلى فقدان المجتمع الغزي للأداة التي يعيد من خلالها إنتاج ذاته وبناء هويته.
مقاومة الإبادة المعرفية
على الرغم من هذه الصورة السوداوية والأخطار الحقيقية التي تواجه الهوية الوطنية والتراث والثقافة، فإن الشعب الفلسطيني كما أبدع في المقاومة العسكرية فقد أبدع في المقاومة المعرفية، واستطاع بشكل كبير من تحييد أخطار الإبادة المعرفية وأبقى على جذوة الوعي مشتعلة وقّادة، وذلك عبر ما يأتي:
- رعاية مبادرات تعليمية في الخيام وإنشاء مدارس مؤقتة متحركة في أماكن نزوح الغزيين.
- البدء بترميم ما يمكن من مباني الجامعات المستهدفة والإعلان عن بدء التسجيل للعام الدراسي في الجامعة الإسلامية.
- الاستعاضة عن الدروس الحضورية بالدروس عن بُعد عبر شبكة الإنترنت.
- حفظ الأرشيف الوطني والوثائق والمخطوطات رقمياً وحفظها خارج القطاع.
- تقديم الإسناد الأكاديمي من الخارج وإطلاق حملات ومبادرات في إطار وقف الوقت للأكاديميين الداعمين خارج فلسطين.
- توثيق كل ما يجري من جرائم وبطولات في سجلات رقمية لضمان بقائها ونقلها للأجيال القادمة.
إن محاولة العدو لاقتلاع الشعب من مستقبله عبر ضرب النظام المعرفي، واغتيال العقول، وتفكيك الذاكرة، وتعطيل انتقال المعرفة بين الأجيال، لن تمر دون مقاومة، فإن ما يقدمه الفلسطينيون من مقاومة معرفية وثقافية يومية يُثبت أن الوعي لا يُمحى بالقصف، وأن المعرفة قادرة على البقاء متجذرة حتى في أقسى الظروف.
وجدير بنا النظر بفخر إلى امتداد المقاومة المعرفية خارج حدود الوطن، لتشمل العالم الغربي الذي بات لا يؤمن بالسردية الصهيونية، وأصبح متماهياً مع السردية الفلسطينية، وانعكس ذلك إيجاباً في صناديق الاقتراع، وهذا يبشر ببداية مرحلة جديدة أبرز معالمها اندحار المشروع الصهيوني في المنطقة والعالم، وإن غداً لناظره قريب.
نقلاً عن مجلة المجتمع: https://mugtama.com/a/a7AJeBdj