20/2/2024
د. محمود مصطفى أبو محمود المدير التنفيذي في هيئة علماء فلسطين
أذكر أني دخلت باب كلية الشريعة -وأنا في السنة الجامعية الأولى- عقب يوم 24 نوفمبر 1989م، وإذا بأخبار الشهادة وعطرها يفوح في الأرجاء، وكانت اللافتات المعلقة والصور تحكي خبر استشهاد الدكتور عبد الله عزام مع اثنين من أبنائه رحمهم الله. وكان الشيخ عالما مجاهدا بالسنان والبيان، وكان ممسكا بعنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار إليها يبتغي الجهاد في سبيل الله. وكان من نصيبه أن ينال شرف الشهادة على أرض بيشاور الباكستانية قرب جبال الهندوكوش، فأثرت سيرته العطرة رحمه الله في نفوسنا، وأنارت شهادته الطريق الجامع بين العلم والجهاد؛ فصار أسوة حسنة لطلبة العلم والعلماء.
ولم نلبث حتى عشنا تضامن أمتنا في ظلال حرب الخليج الأولى 1991م، وحينها شعر جيلنا بقرب المواجهة مع العدو الصهيوني المحتل لفلسطين. وتغير المزاج العام في دول الطوق نحو الإعداد والتعبئة العامة؛ مما أذكى روح الجهاد في سبيل الله، وانتبه الكثيرون من شباب الأمة لواجبهم للإعداد والسير في طريق استعادة أرض فلسطين السليبة.
وصار الناس يحدثون أنفسهم بالجهاد في سبيل الله ونيل شرف الشهادة في سبيل الله على ثرى هذه الأرض المقدسة المباركة التي أوصى يوسف عليه السلام أن ينقل رفاته إليها، وسأل موسى عليه السلام ربه أن يدني قبره منها رمية بحجر، وهي ذاتها مسرى نبينا العظيم محمد صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى السماء، قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير﴾ [سورة الإسراء: 1].
وأذكر أننا كنا نتسامر ويسأل بعضنا بعضا من ذاك المحظوظ منا الذي سيعيش لحظات الفتح والنصر فيسمع ويلبي نداء الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعال فاقتله!
وظهر أن بعضنا أدرك باكرا أن الطريق إلى هذه الحرية يمر عبر الاستعداد والبذل والتضحية وتقدم الصفوف. ففي 22 ديسمبر من عام 1990م تقدم “علاء الدين حجازي” وكان طالبا في الثانوية ومن حمائم مسجد الفالوجة في العاصمة عمان، وكان متميزا بصلاحه وتفوقه. غادر منزله وبات ليلته في غور الأردن في مسجد أبي عبيدة، ثم عبر فجرا إلى ضفة نهر الأردن الغربية، وكتب في وصيته يخاطب المسلمين والعرب: ((لماذا تخافون من الدخول إلى فلسطين وتحريرها؟)). ثم سار بنفسه نحو الشهادة، فنالها وهو يحمل مصحفا وسكينا؛ فنبه بفعله الغافل، وأقام الحجة على كل متدرب وقادر.. وكان لسان حاله ما نطق به الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود -رحمه الله- حين قال:
لعمرك إني أرى مصرعي .. ولكن أغذّ إليه الخطى
أرى مصرعي دون حقي السليب .. ودون بلادي هو المبتغى
يلذّ لأذني سماع الصليل .. ويبهج نفسي مسيل الدما
لعمرك هذا ممات الرجال .. ومن رام موتاً شريفاً فذا
فكيف اصطباري لكيد الحقود .. وكيف احتمالي لسوم الأذى
أخوفاً وعندي تهونُ الحياة .. وذُلاّ وإنّي لربّ الإبا
بقلبي سأرمي وجوه العداة .. فقلبي حديدٌ وناري لظى
ثم ترجل الفارس “مروان عرندس” وكان طالبا في السنة الثالثة في كلية الشريعة في الجامعة الأردنية فنفذ مع أخويه البطلين خليل زيتون ورائد الصالحي عملية جهادية بطولية نوعية، فعبروا إلى فلسطين من جهة وادي عربة، وهناك كمنوا وتصدوا لحافلات تُقل جنودا وصهاينة، فقتلوا منهم ثم ارتقوا شهداء. أذكر يومها أن الناس أثلج صدورهم خبر هذه العملية، حتى تناقلت تفاصيلها قنوات الأخبار والصحافة، وتمنى الكثيرون أن لو كانوا مع هؤلاء النفر الثلاثة.
لقد استشهد مروان عرندس وصاحباه صبيحة يوم الجمعة 8 فبراير 1991م، وفي ذلك اليوم المبارك نزلت بركات السماء بالثلج واكتست الدنيا ثوبها الأبيض البهي، وكما أحيا الثلج الطاهر الأرض ودبّ فيها الروح فاهتزت وربت، فإن استشهاد مروان وإخوانه أيقظ نفوسا وأحيا قلوبا وبعث روحا جهادية سرت بين أصحابه ومعارفه وشيوخه ظل صداها يمتد حتى تجاوز وادي عربة فوصل الآفاق. ثم توالت بعدها العمليات الجهادية الفردية والجماعية لتتجاوز نهر الأردن ولتشتبك مع العدو الصهيوني، وصارت الشهادة على مرمى حجر لكل عاشق للجهاد ماض في سبيل نصرة المسجد الأقصى المبارك.
إننا نستذكر الشهيد المقدام مروان عرندس بعد ثلاث وثلاثين سنة، نستلهم العبرة من صنيع هذا الرجل الذي باع نفسه لله مقبلا غير مدبر صابرا محتسبا وهو في عمر العشرين؛ فسالت دمه الطاهرة على ثرى الأرض المقدسة ودفن فيها إلى جوار من سبقه من الأنبياء والشهداء الكرام.
ومع أن مروان عرندس ولد في الأردن عام 1970، إلا أن نسب عائلته الكريمة يعود إلى قرية “بيت دجن” والتي تقع إلى الجنوب الشرقي من مدينة يافا وتبعد عنها 10 كم. وقد هاجرت عائلته إلى الأردن أيام نكبة فلسطين في عام 1948م. وكان والده “أبو وليد” رحمه الله من جيل النكبة؛ فكد وتعب حتى أنشأ حياة جديدة لأسرته في العاصمة عمان، فأحسن تنشئة أبنائه وبناته وغرس فيهم الإيمان وحب فلسطين. أما أمه الصابرة الحاجة “أم وليد” رحمها الله فقد صبرت على فراق ابنها خالد عشرين سنة، ثم طال بها العمر لترى ابنها مروان شهيدا بطلا على ثرى فلسطين.
في أجواء هذه العائلة المؤمنة المجاهدة تربى مروان فتميز بالإخلاص والصدق والشدة في الحق، والدماثة والابتسامة الرائعة، وعون الآخرين والتواضع لهم، وكان رحمه الله وفيا أمينا. ربط مروان قلبه بالمساجد فحافظ على صلاة الجماعة فيها، وسمع دروس العلم وقرأ كثيرا في السيرة النبوية، وتميز بصوم الاثنين والخميس منذ كان في المرحلة الثانوية، ثم أخذ نصيبه من رياضتي التايكوندو والجودو، وحضر دورة الجيش الشعبي وكان متميزا فيها ومتقدما بأدائه؛ وكان رحمه الله مجتهدا في دروسه، وذو أخلاق عالية، يحبه أقرانه، ويحترمه معلموه ويقدرونه، فكان حقا أنموذجا يحتذى وأسوة حسنة للشباب.
كتب مروان عرندس وصيته قبل ذهابه إلى فلسطين، فقال:
((الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى، أما بعد:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَليَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} [سورة التوبة: 123]. يا أخوتي في الدين اعلموا أن سوق الشهادة قد فتح فأين المشترون {الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [سورة النساء: 74] …؟! فالجهاد الجهاد والشهادة الشهادة.. فليخسأ بنو صهيون.. فجيش محمد سوف يعود. فليكن كل منا من جنود هذا الجيش المبارك بالأفعال قبل الأقوال. وأوصيكم بأن تخرجوا الدنيا من القلوب فهي المعيق الأساسي أمام المجاهد..)).
وها هي الأيام والسنون تنقضي وتمر، وما زال رفقاء مروان عرندس يذكرون صاحبهم ويحفظون وصيته ويتلمسون طريقه؛ يرجون عزة أمتهم ويعملون لفجرها المجيد، وبلا شك فإن النفوس المؤمنة الطاهرة الوفية ستبقى ترنو عيونها إلى الشهادة في سبيل الله، وتتطلع لنيلها على أرض فلسطين المباركة المقدسة وفي سبيل الله لتحرير أولى القبلتين ومسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن الجدير ذكره أن الشهيد له أجره مرتين إن قتله أهل الكتاب -اليهود أو النصارى- روى ذلك الإمام مسلم في كتاب الجهاد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه (في حديث طويل) قال: خَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُتِلَ عمي عامرٌ في خيبر، فقال رسول الله: لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ. ونحوه ما رواه أبو داود والبيهقي عن قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، يُقَالُ لَهَا: أُمُّ خَلاَّدٍ، وَهِيَ مُتَنَقِّبَةٌ، تَسْأَلُ عَنِ ابْنِهَا وَهُوَ مَقْتُولٌ؟ فَقَالَ لَهَا بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ: جِئْتِ تَسْأَلِينَ عَنِ ابْنِكِ وَأَنْتِ مُتَنَقِّبَةٌ؟ فَقَالَتْ: إِنْ أُرْزَأ ابْنِي فَلَنْ أُرْزَأَ حَيَائِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ابْنُكِ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ. قَالَتْ: وَلِمَ ذَاكَ، يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لأَنَّهُ قَتَلَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ.
وفي الختام.. وحتى لو طال العُمر فستكبر معه الأمنيات، وسيبقى المؤمنون الأوفياء، ولا تزال طائفة على الحق ثابتة لا يضرها من خذلها، وستظل نفوسهم الأبية تواقة مرابطة على ثغرها وتسير في طريقها مهما طالت. ولن يتخلى الأحرار عن حلمهم بالعودة إلى وطنهم السليب، وسيرقبون تحقق وعد الله: فيغدون ويروحون مع أحفادهم الصغار يركضون أمامهم للصلاة في المسجد الأقصى المبارك، وحينها سيحكون لهم سير الأبطال وذكريات الفتح والنصر المبين.
رحم الله شهداء أمتنا وسلام على أرواحهم الطاهرة، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
نقلاً عن الجزيرة نت: