خاص هيئة علماء فلسطين
8/12/2025
د. وصفي عاشور أبو زيد

في حياة الأمم محطات من الضوء يتقدّم صفوفها شعراء ومفكرون يحملون المصابيح في الليلة الطويلة، هؤلاء ليسوا مجرد كتّاب أو قائلين للحرف؛ بل هم صُنّاع الوعي، وحملة الذاكرة، وحراس المعنى، ومن هؤلاء في زماننا القريب الشاعر الكبير عبد الرحمن يوسف القرضاوي، أحد أبرز الأصوات الشعرية والسياسية التي شكّلت وجدان الثورة المصرية، وعبّرت عن نبضها ونبض الشعوب العربية الباحثة عن كرامة وحرية، واليوم، وبعد ثلاثمئة وثلاثة وثلاثين يومًا على اختطافه، ما يزال مصيره غائبًا، وصوته محجوبًا، وأثره مصادَرًا، لا يُعرف أين هو ولا كيف هو، ولا هل ما يزال يسمع العالم أنفاسه أم أن صمت السجون قد أثقلها بما لا يُحتمل؟ إن مأساة عبد الرحمن ليست مأساة فرد، وليست شأنًا عائليًّا أو سياسيًّا ضيقًا، وليست مجرد اعتقال لشاعر كتب ضد الظلم، بل هي مرآة لوجدان أمة تعاقَب على أحلامها، وتُجلد على قصائدها، وتُختطف إرادتها كما يُختطف شاعرها.
من لبنان إلى الإمارات… اختطاف بثمن بخس
لا تزال تفاصيل الاختطاف تذبح الضمير العربي كلما استعيدت: شاعر عربي بارز، معروف، علني، لا يحمل سلاحًا، ولا يقود تنظيمًا “إرهابيًّا”، ولا يمارس إلا الكتابة… يُختطف من بلد عربي في واقعة غامضة بثمن بخس دراهم معدودة، كأننا أمام قصة يوسف التي تتكرر ذاتها في عصر الأقمار الصناعية والكاميرات وحقوق الإنسان، اختُطف عبد الرحمن من لبنان بعد أن مر منها بعد زيارته لسوريا اختفالا بنجاح ثورتها، ورُحِّل إلى الإمارات رغمًا عن كل النداءات والمساعي، وتمت العملية بصمت مخجل، حتى بدا المشهد كله وكأنه بيعٌ سياسي لا علاقة له بالقانون ولا العدالة ولا الأعراف الدبلوماسية، ورغم مرور الشهور الطوال، فإن أحدًا – لا أسرته ولا محاميه ولا المنظمات الدولية – يعلم أين هو، ولا ما التهم الموجهة إليه، ولا ما إن كان قد حصل على حقه الطبيعي في التواصل مع العالم .. إنها حالة اختفاء قسري مكتملة الأركان، لا يشوبها أدنى شك، بل تُعد واحدة من أكثر الوقائع السافرة التي تكشف حجم الانحدار الذي وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في التعامل مع الإنسان الحرّ.
عبد الرحمن… شاعر الثورة، وصوت الميدان، وحارس الحلم
ليس عبد الرحمن يوسف رجلًا مجهولًا ولا اسمًا عابرًا، ولا كاتبَ مقالاتٍ معزولًا عن جمهوره؛ بل هو شاعر الثورة المصرية الذي كانت قصائده تُقرأ في الميادين، وتُرتل في صدور الشباب، وتُحفظ في مظاهرات يناير وفبراير، وتنشد في أناشيد وأغانٍ، هو صاحب دواوين كاملة تفيض غضبًا ووعيًا وشجاعة، مثل ديوان مسبحة الرئيس، وديوان أمام المرآة، وديوان نزف الحروف، وديوان لا شيء عندي أخسره، وديوان في صحة الوطن، وديوان يوميات ثورة الصبار، وديوان رثاء امرأة لا تموت، وديوان حزن مرتجل، وديوان اكتب تاريخ المستقبل، وغيرها مما صار جزءًا من الذاكرة الثورية والأدبية الحديثة، كتب عن الحرية فهتف الناس معه، وكتب عن الظلم فاهتزت القلوب له، وكتب عن الوطن فصار صوته مرآة لآمال ملايين المصريين والعرب، ومثل هذا الرجل لا يُعتقل لأنه ارتكب جريمة، وإنما لأنه حمل قلمًا شريفًا في حقبة تكره الأقلام، وتخشى الكلمة، وتضيق بالحرف الحر.
لماذا يخيف الشعرُ الطغاة؟
الشعر – في نظر المستبدين – ليس مجرد كلمات، بل هو طاقة تحريضية وشرارة وعي ونافذة يطل منها الناس على ذواتهم ومصائرهم، والشعراء في تاريخ الأمة لم يكونوا شعراء فقط، بل كانوا مفكرين وقادة رأي وصناع اتجاهات وحملة مواقف.
ومن المتنبي إلى أحمد شوقي، ومن أحمد مطر إلى نزار قباني، ظل الشاعر هو صوتَ الجماعة حين تخاف الجماعة الكلام، وفي زمن القمع يكون الشاعر جيشًا من الكلمات، وجيشًا من الوعي، وجيشًا من الأسئلة، ولهذا يخشاه المستبدون؛ لأنه يفضحهم بلا سلاح، ويحاربهم بلا بندقية، ويستنهض ضدهم قلوب الناس بلا مظاهرة واحدة .. عبد الرحمن يوسف القرضاوي واحد من هؤلاء؛ قصيدته تُسقط ورقة التوت عن المستبد، وتعيد للناس ما سرقته الأنظمة من شجاعتهم؛ ولهذا كان هدفًا سهلًا: فالشاعر يحبه الناس ويستمعون إليه، وقد تُحدثُ قصيدةٌ واحدة ما لا تُحدثُه كتب ولا خطب، كما لا يمكن التحكم في أثره، وهذا ما لا تطيقه الأنظمة المغلقة!
مأساة إنسانية: أسرة لا تعرف أين أبوها
وراء المأساة السياسية تتوارى مأساة إنسانية أشد ألمًا: أسرة كاملة لا تعرف أين هو والدها، بنات يكبرون دون أن يسمعوا صوته، إخوة وأخوات ينتظرون خبرًا فلا يأتي، عائلة تعيش بين الظن والحدس، وتبحث في العتمة عن خيط ضوء، والأسوأ من ذلك أن الصمت الرسمي حوّل الأمر إلى جدار من رصاص: لا معلومات، لا شفافية، لا قانون، لا تحديثات، لا تحقيقات… وكأن حياة شاعر عربي صارت شيئًا يمكن طيّه في الأدراج خارج كل منظومات العدالة والإنسانية!
إنها لحظة نادرة تكشف بشاعة العالم العربي حين تبتلع السجونُ أبناءه بلا تهمة، وتغلق الأنظمة على الحقيقة، ثم تريد من الناس أن ينسوا، وأن يطووا الصفحة، وأن يواصلوا حياتهم كما لو أن شاعرًا لم يُختطف، وكأن قلبًا لم يُذبح.
من يستحق التكريم لا التجريم
كل ما فعله عبد الرحمن أنه كتب، نعم كتب، كتب عن الحرية، كتب عن الاستبداد، كتب عن الثورة، كتب عن الظلم، كتب عن الإنسان العربي الذي يريد أن يعيش كريمًا، فهل يكون جزاء الشعر السجن؟ وهل يكون مصير الحرف القيد؟ وهل تصبح القصيدة جريمة في قانون لا يعرف من الجريمة إلا اسمها؟ عبد الرحمن – بكل المقاييس – يستحق التكريم: شاعر كبير، صاحب مشروع أدبي واضح، رجل كلمة لا رجل عنف، صوتٌ مدافع عن الأمة، مفكر منحاز للناس، وحين تختطف دولة كالإمارات شاعرًا عربيًّا معروفًا، فإنها لا تضرب شخصًا بقدر ما تضرب قيمة، ولا تُسكت قلمًا بقدر ما تُسكت أمة، ولا تغيّب شاعرًا بقدر ما تغيّب مستقبل التفكير الحر.
شرعية المقاومة بالكلمة
قد يظن البعض أن الشعر ليس مقاومة، وأنه مجرد جمالية لغوية أو صياغة وجدانية، لكن الحقيقة أن الشعر – في السياق العربي خاصة – كان دومًا أداة وعي وسلاحًا معنويًّا ومنبرًا سياسيًّا ووسيلة لتثبيت الهوية، وتعبيرًا عن أشواق الناس، يتجسد فيه قول الله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾. [سورة الشعراء: 227]، ولم يكن عبد الرحمن بدعًا من الشعراء؛ فقد ورث هذا الدور التاريخي، وحمله بصدق وشجاعة، وظل وفيًّا لدوره حتى آخر لحظة قبل اختطافه، فإذا كان العالم يدافع عن حرية الصحفيين والكتّاب والمفكرين، فإن الدفاع عن عبد الرحمن هو دفاع عن هذا الحق الإنساني الكوني.
الإمارات… سجلٌّ مثقل في حرية التعبير
لا يمكن فصل مأساة عبد الرحمن عن السياق الأوسع لواقع الحريات في الإمارات في السنوات الأخيرة: اعتقالات واسعة للنشطاء، اختفاءات قسرية، محاكمات سياسية، تضييق شامل على كل صوت مختلف، وغياب شبه كامل للمجتمع المدني، ويأتي اختطاف شاعر عربي ليزيد هذا السجل قتامة، ويجعل القضية تتجاوز الإمارات نفسها لتصبح قضية حرية العرب في التعبير، وحقّ الأمة في أن تسمع أبناءها لا أن يبتلعهم الصمت.
هكذا تتحول المأساة الفردية إلى قضية أمة
كل شاعر كبير هو ملك أمته وليس ملك أسرته فقط، وغياب عبد الرحمن يوسف يعني غياب صوت من أهم أصوات الوعي الجمعي، غياب أحد أقوى نقاد الاستبداد، غياب شاعر يشكّل ذاكرة الثورة، غياب رؤية كانت تضيء الطريق حين يستحكم الظلام .. إن أمة تُسجن شعراؤها أمة تهدم معانيها، وتطفئ قناديلها، وتفقد جزءًا من قدرتها على التعبير عن نفسها.
لماذا الصمت؟ سؤال يجلد الضمير العربي
بعد مرور هذا الوقت كله على اختفائه، وصمت الناس، كأنهم نسوا قضية الشاعر الحر، من حقنا أن نتساءل: كيف يمكن للعالم العربي أن يصمت على اختفاء شاعر؟ أين الاتحادات الأدبية والثقافية؟ أين المنظمات الحقوقية العربية؟ أين المؤسسات الرسمية التي تزعم حماية المثقف؟ أين وزارات الثقافة التي تتغنى بالإنجاز؟ أين الإعلام الذي يملأ شاشاته احتفاءً بالشعر بينما يتجاهل مأساة شاعر بارز؟ الصمت هنا جريمة أخرى؛ لأن الظلم إذا لم يجد من يقف في وجهه استشرى، وإذا لم يجد من يفضحه تمدد، وإذا لم يجد من يندد به صار قاعدة لا استثناء.
بين يوسف النبي ويوسف الشاعر
في الحكايتين تشابه عجيب يوجع القلب؛ كلاهما بيع بثمن بخس وكانوا فيه من الزاهدين، كلاهما تجسّد فيه الظلم في أوضح صوره، كلاهما وضع في غياهب الجب/السجن؛ لأن الحقيقة تُخيف، كلاهما واجه قهرًا بلا ذنب ارتكبه، لكن يوسف النبي خرج من السجن ليصبح ملكًا ورجل رؤية وحكمة، ويوسف الشاعر سيخرج كذلك إن شاء الله تعالى، وسينتصر المعنى؛ لأن التاريخ علمنا أن الكلمة تنتصر ولو بعد حين، وأن الظلم لا يدوم وإن طال.
دعوة مفتوحة لإنقاذ عبد الرحمن
إن قضية عبد الرحمن يوسف القرضاوي اليوم ليست قضية سياسية ضيقة، بل هي قضية إنسانية، وقضية أخلاقية، وقضية فكرية، وقضية أدبية، وقضية وطنية، وقضية أمة بأكملها؛ ولهذا فإن الواجب يدعو إلى إطلاق حملة دولية للمطالبة بكشف مصيره، وتفعيل دور المؤسسات الحقوقية، والتواصل مع المنظمات الدولية المعنية بحرية التعبير، ومخاطبة اليونسكو بوصفه أحد أهم الشعراء العرب المعاصرين، وإطلاق بيانات تضامن من اتحادات الأدباء والمثقفين، وكتابة مقالات ومنشورات عامة تحيي القضية، وعدم ترك أسرته وحيدًة في هذه الأجواء، سواء أكانت أسرته الكبيرة أم أسرته الصغيرة!
الحرية التي لا تحتاج إلى تبرير
عبد الرحمن لا يحتاج إلى الدفاع عنه لأنه لم يحمل سلاحًا، ولم يدعُ إلى عنف، ولم يشكل تنظيمًا “إرهابيًّا”، ولم يمارس أي نشاط خارج حدود التعبير المشروع، جرمه الوحيد أنه كتب شعرًا قويًّا، وقال كلمة صادقة، وحمل ضميرًا حرًا، وواجه الطغيان بالحرف، والاستبداد بالقصيدة، والخوف بالشجاعة .. هذه ليست جريمة؛ هذه رسالة، وهذه الرسالة يجب أن تُكرم لا أن تجرّم.
كلمة إلى عبد الرحمن… إن وصلته كلمة
يا عبد الرحمن، يا صوتنا الغائب، يا شاعر الثورة، يا ابن الكلمة الحرة… نحن نعلم أنك – أينما كنت – ما زلت تكتب، وما زلت تقاتل بالحرف، وما زلت على عهد الشعر والوطن، نعلم أن القيد لن يكسر روحك، وأن السجن لن يُطفئ نورك. نعدك أننا لن ننسى، ولن نسكت، ولن نطوي الصفحة، ولن نتركك تواجه الظلام وحدك.
وأخيرًا: الحرية حقٌّ لا يسقط بالتقادم
الحرية ليست منحة ولا هبة ولا فضلًا من سلطة، بل هي حق أصيل يتجاوز كل القوانين الوضعية ويعلو على كل السلطات الزمنية، وقضية عبد الرحمن يوسف لن تُغلق بالصمت ولن تُطوى بالنسيان؛ لأنها قضيةُ شاعرٍ كبير، وقضيةُ كلمةٍ كبيرة، وقضيةُ وطن كبير، وما دام في الأمة حر واحد فإن صوت عبد الرحمن لن يموت، وإن غيبوه في السجون، وما دام في الأمة نبض فإن القصيدة ستجد طريقها إلى الضوء، حتى لو كانت مكتوبة في العتمة .. إن حرية عبد الرحمن ليست مطلبًا بل واجب، ومصيره ليس لغزًا بل جريمة يجب كشفها، والتضامن معه ليس أمرًا هامشيًّا بل موقف يعيد للأمة شيئًا من كرامتها.