13/11/2023
د. مجدي قويدر أستاذ الفقه وأصوله ومدير تحرير مجلة المرقاة المحكمة
إن الله تعالى جعل الحياة تسير وفق نظام محكم، وقوانين وسنن ثابتة ومطردة، هي سر انتظام الحياة والأحياء، وسبب امتدادها وديمومتها، وكلفنا باكتشافها وتسخيرها، واستيعاب سيرورتها، وفهم آلية عملها، والعمل بمنهجيتها في معادلات الحياة.
ومن السنن التي كشف القرآن الكريم عنها التدافع بين الحق والباطل، وما انطوت عليه من معطيات الصراع وأسبابه ووسائله وسبل مدافعته ونتائجه، ولعل سورة الإسراء التي تعد مكنزا للسنن الإلهية، كشفت لنا عن أخطر وسائل المجرمين في مواجهة أهل الحق وهي “استفزازهم من الأرض”، حيث وردت في ثلاثة مواضع من السورة، والاستفزاز: هو الإخراج من الأرض (التهجير) على وجه الخوف والاضطراب والهلع، أو القتل والاستئصال والإبادة الجماعية.
وفي ضوء التأكيد على سننية عاقبة الاستفزاز تناولت سورة الإسراء محاولة قريش استمالة النبي صلى الله عليه وسلم عن الحق، أو قبوله بالحلول الوسط، والتقائه معهم في منتصف الطريق، فلما فشلوا، انتقلوا إلى التضييق على النبي صلى الله عليه وسلم واستفزازه بكل السبل والوسائل لإجباره على الخروج من مكة المكرمة قال تعالى ﴿وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها﴾ [الإسراء: 76]، ولكن الله أوحى إليه أن يخرج هو مهاجرا، لما سبق في علمه من عدم إهلاك قريش بالإبادة. ولو أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم عنوة وقسرا لحل بهم الهلاك ﴿وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا﴾ [الإسراء: 76]، فهذه هي سنة الله النافذة: ﴿سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا، ولا تجد لسنتنا تحويلا﴾ [الإسراء: 77]، ولقد جعل الله هذه سنة جارية لا تتحول، لأن إخراج الرسل كبيرة تستحق التأديب الحاسم.
وهذا الكون تصرفه سنن مطردة، لا تتحول أمام اعتبار فردي. وليست المصادفات العابرة هي السائدة في هذا الكون، إنما هي السنن المطردة الثابتة. فلما لم يرد الله أن يأخذ قريشا بعذاب الإبادة كما أخذ المكذبين من قبل، لحكمة علوية، لم يرسل الرسول بالخوارق، ولم يقدر أن يخرجوه عنوة، بل أوحى إليه بالهجرة. ومضت سنة الله في طريقها لا تتحول.
كما عرضت سورة الإسراء للمشهد الأخير من الصراع بين الحق والباطل، وبلوغ المعركة ذروتها بين موسى وفرعون، والنهاية البائسة لفرعون وجنده بهلاكهم غرقا في اليم، ونجاة موسى والمؤمنين من بني إسرائيل من كيد الظالمين عند قول الله تعالى: ﴿فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا﴾[الإسراء: 103]، فهذه الآية تسلط الضوء على اللحظة الحاسمة من القصة، فالمواجهة بين موسى وفرعون التي استخدم فيها فرعون دهاقنة السحرة انتهت إلى إذعانهم للحق، وانقلابهم إلى مؤمنين أبرار، وجهرهم بالإيمان دون خشية من العواقب، وهزيمة فرعون على رؤوس الأشهاد عندها لجأ فرعون إلى التهديد بالعذاب والوعيد بالنكال، فأوحى الله إلى موسى أن يسري بعباده ليلا، فلما علم فرعون تبعهم بجنده وتقفوا أثرهم، فلما أدركوهم عند البحر عزم على قتلهم، واستئصالهم، والتخلص منهم، وإبادتهم، «فأراد أن يستفزهم من الأرض»، وفي تلك اللحظة الحرجة، وقد بلغ الكرب مداه، ولا سبيل للنجاة، فالبحر من أمامهم، والعدو من خلفهم، ﴿قال أصحاب موسى إنا لمدركون﴾ [الشعراء: 61] لكن موسى يقينه بربه وثقته به تامة ﴿قال كلا إن معي ربي سيهدين﴾ [الشعراء: 62]، فأوحى الله إلى موسى ﴿أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم﴾ [الشعراء: 63]، فوقف الماء على جانبي الطريق كالطود العظيم، فسلكه موسى ومن معه، فكان سبيلا لنجاتهم، واقتحمه فرعون وجنوده، فكان هلاكا لهم ﴿فأغرقناه ومن معه جميعا وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا﴾ [الإسراء: 103-104].
وهكذا كانت عاقبة الطغيان والتكذيب بآيات الله، فقد مضت سنته سبحانه في إهلاك الظالمين، وتمكين عباده الموحدين، وإسكانهم في الأرض التي كانوا يستضعفون فيها ﴿ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين﴾ [القصص، الآية 6]، ﴿ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد﴾ ]إبراهيم، الآية 14].
وهذا المشهد من القصة سيق لإنذار مشركي مكة، وتخويفهم، وتهديدهم بأن عاقبة مكرهم وكيدهم ومحاولاتهم آيلة إلى ما صار إليه مكر فرعون وكيده، فقد أضمر المشركون إخراج النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من مكة، فمثلت إرادتهم بإرادة فرعون استفزاز موسى وبني إسرائيل من الأرض.
سنة الله في عقوبة الاستفزاز:
إن الاستفزاز من الأرض مخطط شيطاني استخدمه المجرمون على مدى العصور حيث قاموا بالتضييق على أهل الحق وإزعاجهم، وإخراجهم من ديارهم، ونفيهم من أرضهم؛ لإرغامهم على التنازل عن مبادئهم، ومارسه أئمة الكفر بإخراج أنبيائهم، وطردهم من ديارهم، وهو من أقسى العقوبات على النفس قال تعالى: ﴿وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا﴾ [إبراهيم: 13]، وقال عز من قائل: ﴿وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم ۖ إنهم أناس يتطهرون﴾ [الأعراف: 82]، وغيرها من الآيات، أو الاستفزاز بالقتل والاستئصال والإبادة الجماعية كما قال الله تعالى حكاية عن فرعون: ﴿وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد﴾ [غافر: 26] ﴿قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون﴾ [الأعراف: 127]، وقوله تعالى عن مؤامرة قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم لقتله: ﴿وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك﴾ [الأنفال: 30] وهناك من قتل بالفعل من الأنبياء ودعاة القسط، قال الله تعالى: ﴿إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم﴾ [آل عمران: 21]، والمراد بهذه الآية اليهود خاصة، فقد قتلوا أنبياءهم من قبل، وهموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم في زمن نزول الآية، قال الله تعالى: ﴿أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون﴾ [البقرة: 87]، وقوله تعالى: {ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [البقرة: 61].
واليهود الصهاينة اليوم يمارسون كل صور الاستفزاز على أهلنا في غزة، بمحاولة التهجير القسري، والاستئصال والإبادة الجماعية للعائلات الفلسطينية، واستهداف الآمنين، وهدم البيوت على رؤوس ساكنيها، لأنهم تمسكوا بأرضهم وحقهم في مقاومة عدوهم، وسورة الإسراء أكدت أن سنة الله ماضية لم يفلت منها أحد من المجرمين الأولين، ولن يفلت منها طغاة العصر الصهاينة الذين يستفزون أهلنا في فلسطين تقتيلا وتشريدا وتنكيلا، ﴿سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا، ولا تجد لسنتنا تحويلا﴾[الإسراء: 77]، فجعل الله عقوبة الاستفزاز سنة جارية لا تتحول، وعادة مطردة لا تتغير، وقانونا ساريا على المجرمين في كل عصر.
ووعد الله لنا أن تجري على هؤلاء الصهانية سنته في هلاك المستفزين وفق قوانين الله في المرسلين، أو نكون نحن العباد الذين يسومونهم سوء العذاب، ويتبروا ما علوا تتبيرا، وهذا يبعث على الاطمئنان بأنهم يحفرون قبورهم ويخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين. وهذا الوعد يمد الأجيال بالأمل أن ليل المحنة سيطوى قريبا، وعتمة الأزمة ستنجلي، وفجر الفرج سيشرق، وضياء الحق سينبعث، وأن الاستضعاف سيتبدل إلى قوة واستخلاف، وبعد الخوف والتشريد أمن وتمكين، ولن يخلف الله وعده، وستطوي سننه التي لا تحول ولا تزول الصهاينة البغاة، ويدمر ما يصنعه فراعنة العصر من فساد واستبداد.
نقلاً عن: