خاص هيئة علماء فلسطين

         

17/10/2024

د. محمد همام سعيد عضو المكتب التنفيذي في هيئة علماء فلسطين

لقراءة ملخص هذه المقالة: https://mugtama.com/13/343467

تميز جيل الصحابة رضي الله عنهم بامتلاكهم حسّ الاستدراك المنطلق من قيمة الإخلاص والصدق الذي حققوه فعلاً وسلوكاً في حياتهم، فما إن تعثّر أو تأخر أحدهم عن اللحاق بأي خير إلا وبدأت عملية استدراك سريعة وحاسمة في قطع نموذج الحياة التي كانت قبل الاستدراك واستبدالها بنموذج حياة الجدّ والعزيمة، ولعلّ نموج الصحابي الجليل أنس بن النضر رضي الله عنه خير مثالٍ على ذلك، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن عمه غاب عن بدر، فقال: غبت عن أول قتال النبي صلى الله عليه وسلم، لئن أشهدني الله مع النبي صلى الله عليه وسلم ليريَنَّ الله ما أجد، فلقي يوم أحد، فهزم الناس، فقال: «اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين وأبرأ إليك مما جاء به المشركون» فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ، فقال: أين يا سعد، إني أجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه، وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم ([1])

وفي رواية ([2]): عن أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: سُمِّيتَ بِهِ. وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَالَ: «أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُيِّبْتُ عَنْهُ، أَمَا وَاللهِ لَئِنْ أَرَانِي اللهُ مَشْهَدًا فِيمَا بَعْدُ لَيَرَيَنَّ اللهُ مَا أَصْنَعُ» قَالَ: «وَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرُهَا»، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد من العام المقبل، فاستقبله سعد بن معاذ» فقال: يا أبا عمرو «أين؟» قال: «واها لريح الجنة، أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين يعني ضربة، ورمية، وطعنة» فقالت عمتي الرُّبيِّع بنت النضر أخته: فما عرفت أخي إلا ببنانه قال: وأنزلت هذه الآية مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].

هذا الحديث يوثق لنا قصة موقف عظيم لصحابي جليل، تتجلى فيها صورة ناصعة للصدق مع الله عز وجل في الجهاد في سبيله، وتُرسم فيها معالم فقه الاستدراك عندما يفوت شيء من الخير.

أما الصحابي الجليل فهو: أنس بن النضر بن ضمضم، النجاري الخزرجي الأَنصارِيّ ([3])، أبو عمرو، رضي الله عنه، استُشهد بأُحُد، وكان من فضلاء الصحابة، وهو عم أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد سمي باسمه.

وأما قصة موقفه فقد غاب عن غزوة بدر دون تقصير منه، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ومعه عدد من الصحابة رضي الله عنهم من أجل طلب عير أبي سفيان ولم يعزم على الصحابة في الخروج، وقد ورد في رواية النسائي أنه قال: “أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُيِّبْتُ عَنْهُ” وهي تدل على أن غيابه كان لعذر كأن لم يعلم بخروج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أو غير ذلك، لكنه رضي الله عنه كبُر عليه ذلك لِما فاته من الخير العظيم في شهود بدر كما قال عنه أنس بن مالك رضي الله عنه ، ومن هنا بدأت قصة موقفه العظيم رضي الله عنه، وسنتوقف مع هذا الموقف بشيء من التحليل عند الوقفات الآتية:

الوقفة الأولى: فقه الاستدراك وزيادة الحرص على العمل بسبب فوات شيء من الخير:

قال الوزير ابن هبيرة: في هذا الحديث أن الله سبحانه وتعالى قد يبلغ من لطفه بعبده المؤمن إلى أن يرزقه الله زيادة الحرص على الخير، بأن يفوته من الخير شيء قد كان أدركه غيره، فإن أنس بن النضر حين فاتته بدر زاد حرصه، حتى بات الناس في يوم أحد، فاستدرك ما فاته وجعل حسن بلائه مقتدى لكل من أراد أن يستدرك فائتًا من أمره أن يفعل كفعله ([4]). ونحن نقول في هذه الأيام وبعد مرور عام على الطوفان بأنه ينبغي لكل من فاته فضل المشاركة في الجهاد بشكل مباشر أو غير مباشر، السعي للاستدراك من خلال بذل ما يمكنه في سبيل الله وبذل الجهد بإعداد النفس والاستعداد وذلك من أجل استغلال أية فرصة تتاح.

الوقفة الثانية: سر الإخلاص وبركته:

عند النظر في قوله رضي الله عنه: “ليَرَيَنّ الله” فقد ضبطت بفتح الياء والراء وضبطت أيضاً: بضم الياء وكسر الراء “ليُرِيَنّ اللهُ”، أما معنى “ليَريَنّ” بفتح الياء والراء: فهو أنه لم يُرد أن يرى ما فعله غير الله عز وجل، فدل قوله هذا على لباب إخلاصه، ولا جرم أن الله سبحانه وتعالى أظهر بركة إخلاصه عليه[5].

أما معنى الرواية التي فيها ضم الياء وكسر الراء: “ليُرِيَنَّ اللهُ” أي: لَيُرِيَنَّ اللَّهُ النَّاسَ ما أصنعه وَيُبْرِزُهُ اللَّهُ تَعَالَى لهم[6] لكي يقتدي المسلمون بنيتي وبفعلي.

ولا تعارض بين الروايتين، فكلاهما تدلان على عظم إخلاص أنس بن النضر رضي الله عنه، فالرواية الثانية، وإن كان فيها أنه يريد أن يُري اللهُ سبحانه الناسَ ما يصنع، فإن طلب هذا الإظهار والإبراز إنما كان لأجل الاقتداء والتحريضِ والتعليم للناس الذين في زمنه والذين سيأتون بعدهم، وقد بارك الله في إخلاص أنس رضي الله عنه، فحفظت نيته، وحفظ صدقه، وبرز ما صنعه في الأمة إلى ساعتنا هذه، فصار هذا الموقف قدوة لكل مسلم ومسلمة.

الوقفة الثالثة: من علامات الصدق الجد والاجتهاد في الإعداد ونية التجديد في الإسلام:

نعيش في هذه الوقفة مع قوله: ” ليريَنَّ الله ما أُجِدُّ” وقد رويت لفظة أجد مرة بضم الهمزة وكسر الجيم وتشديد الدال (أُجِدُّ) ومرة بفتح الهمزة مع مسر الجيم وتشديد الدال (أَجِدُّ) ومرة بفتح الهمزة وكسر الجيم مع عدم تشديد الدال (أَجِدُ)، ولكل ضبط معنى مختلف عن الآخر، وورد في رواية أخرى ” ما أصنع”.

فأما رواية أَجِدُّ: فمن التجديد وجعل الأمر جديداً، وعليه يكون  المعنى: ليرينَّ اللهُ ما أُجَدِّدُ في الإسلام؛ من شدة القتل بالكفار، واقتحام الأهوال في قتالهم ([7])، فقد كان أنس بن النضر مجدداً في ميدان الجهاد واقتحام الأهوال، ومجددا في ميدان الصدق مع الله في الجهاد وطلب الشهادة ومجدداً في باب النية والإخلاص، وقد روي عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنه قال عنه: “إنّي لأَرجُو أن يبعثه الله أمّةً وحده يوم القيامة”  وذلك لِمَا قام به من تجديد، ولم تخلُ أمة الإسلام في تاريخها الطويل من صور الاقتداء بنموذج هذا الصحابي الجليل، ما دامت النية صادقة وفهم متطلبات الدين والعمل له والجهاد في سبيله حاضراً في وعيهم وتفكيرهم، ونرى اليوم جحافل المجددين الذين جددوا في الأمة روح الجهاد من المجاهدين من أبناء فلسطين من غزة الطوفان وضفة العياش ومن أبناء الأمة من كل مكان تلتقي دماؤهم مع دماء الصحابي الجليل أنس بن النضر رضي الله عنه في ميدان التجديد في باب الإعداد والجهاد، وميادين التجديد متنوعة وكثيرة، وباب التجديد مفتوح لكل مؤمن مشتاق إلى الفردوس الأعلى في الجنان.

أما أَجِدّ فمن الجِدّ أي المبالغة في الشيء وذلك إذا اجتهدَ في الأمر[8]، فالمعنى يدور حول استفراغ الوسع في الاجتهاد والجهد في سبيل الله، وهو ما قام به أنس بن النضر رضي الله عنه فقد استفرغ غاية جهده في الإعداد حتى صار من شدة تمرنه وتدربه خشن البنان كما وصفته أخته التقية النقية الرُّبيّع رضي الله عنها، وها هم رجال الإسلام في غزة العزة وعموم فلسطين يعلمون الدنيا معاني الجد والاجتهاد في الإعداد والجهاد، وها هو المجاهد الواحد كأمثال الجاهد المجاهد ماهر الجازي رحمه الله الذي يبذل جهده ويعد نفسه ويضع خطته فيكرمه المولى عز وجل بالشهادة بعد الإثخان في العدو.

وأما أَجِدُ: بتخفيف الدال فهي مضارع وَجَدَ؛ أي: ليرين اللهُ ما أجده أنا في نفسي من المشقة وارتكاب الخطر[9]، فقد رأى الصحابة رضوان الله عليهم ما وجده أنس بن النضر رضي الله عنه، وها هي الأمة اليوم ترى ما يجده المجاهدون الصابرون الصامدون، ترى الشهيد المجاهد الساجد كيف يختم شهادته الزكية بالسجود لله عز وجل.

أما رواية “لَيَرَيَنَّ اللهُ مَا أَصْنَعُ” فقد قالوا في معناها: أنه ألزمَ نفسه إلزامًا مؤكدًا بالإبلاء في الجهاد، والانتهاض فيه، والإبلاغ في بذل ما يقدر عليه منه[10].

الوقفة الرابعة: الصدق مع الله يقتضي قلة التحديث، والإسرار بالنية والإكثار من الإعداد والتوكل على الله.

فقد قال أنس بن مالك عن عمه: “فهاب أن يقول غيرها”، أي أنه لم يقل: سأفعل وأفعل في المعركة، وذلك مخافة أن يعجز أو يقصِّر، أو مخافة العجب منه أو به، أو قد يكون ذلك من باب حسن التوكل على الله عز وجل والتواضع له سبحانه، ولا مانع من أن تكون كل هذه المعاني مقصودة في نفس أنس بن النضر رضي الله عنه، ممّا يحتّم على  كل مسلم أن يتخلّق بهذه الأخلاق الحميدة ، فيضمر في قلبه ما يريد فعله لله عز وجل، وإن كانت هناك مصلحة في التكلم كانت بقدر الحاجة فقط، والله عز وجل مطلع على البواطن والظواهر، قال سبحانه {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }[طه: 7]، ثم إن من أهم أسباب النجاح في ميدان الجهاد التزام السرية والكتمان وعدم الحديث عن النوايا والأفكار والأعمال، وقد أثبتت المقاومة الباسلة في غزة العزة التزامها بأقصى درجات السرية والكتمان فكان ذلك سرّ من أسرار نجاحها في طوفانها المبارك، فبقيت تحافظ على قوتها إلى الآن، على الرغم مما قام به العدو من إبادة وتدمير.

الوقفة الخامسة: من علامات الصدق مع الله المبادرة إلى العمل وإن تأخر من هو أعلم وأعلى مقاما:

عندما قال أنس رضي الله عنه: «اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين وأبرأ إليك مما جاء به المشركون» فلم يجلس مع من جلس من الصحابة رضوان الله عليهم الذين ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقد أخرج ابن إسحاق في سيرته، قال: انتهى أنس بن النضر…إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله، رضي الله عنهم، في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما تضنون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل[11]. ويستفاد من ذلك أن لا يستصغر المسلم نفسه، وأن يقوم بالحق ولو لم يسر في الطريق أحد ولو رأى تأخر من هو أعلم منه وأعلى مقاما في ذلك.

الوقفة السادسة: من أعظم بركات استحضار الصدق وتحقق اليقين بشمِّ ريح الجنة.

فقول أنس رضي الله عنه لسعد بن معاذ عندما لقيه: “إني أجد ريح الجنة دون أحد” وفي رواية: “واها لريح الجنة أجدها دون أحد” وتقال كلمة واها للتعجب من طيب الشيء وجماله.

قال ابن حجر: يحتمل أنه وجد ريح الجنة حقيقة، ويجوز أنه استحضر الجنة التي أعدت للشهيد فتصور أنها في ذلك الموضع الذي يقاتَل فيه، فيكون المعنى إني لأعلم أن الجنة تكتسب في هذا الموضع فأشتاق لها، أو أنه لما اشتاق إلى ريح الجنة صارت له قوة من استنشاقها حقيقة ([12])، فيا شباب الإسلام عليكم بالصدق والإعداد والعمل، لتستنشقوا رياح الجنة وتلتحقوا بأنس بن النضر رضي الله عنه والصحب الكرام.

الوقفة السابعة: الصدق بالوفاء بالعهد.

 ورد في بعض الروايات أن سعد بن معاذ قال وهو يروي ما صنع أنس للنبي صلى الله عليه وسلم: “فما استطعت يا رسول الله ما صنع”[13]، وفي رواية أخرى قال سعد لأنس رضي الله عنهما: “أنا معك، فلم أستطع أن أصنع ما صنع”[14] ومعنى قوله أنه لم يستطع أن يصف ما صنع أنس من كثرة ما أغنى وأبلى في المشركين، أو لم يستطع أن يصنع مثله في الإقدام الذي صدر منه حتى وقع له ما وقع من الصبر على تلك الأهوال بحيث وجد في جسده ما يزيد على الثمانين من طعنة وضربة ورمية[15].

ولأجل ما وقع منه من الصدق بالوفاء بالعهد نزل فيه وفي أمثاله قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]، وفي قوله تعالى {ومنهم من ينتظر} فسحة من الأمل لمن أراد أن يلحق بركب هؤلاء الرجال.

هذا والله أعلم والحمد لله رب العالمين.


[1] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة أحد، حديث رقم 4048

[2] حديث صحيح أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب المناقب، باب أنس بن النضر رضي الله عنه، حديث رقم 8233

[3] الأصبهاني، معرفة الصحابة، 1/ 230

[4] ابن هبيرة، الإفصاح عن معاني الصحاح، 5/ 256.

[5] ابن هبيرة، الإفصاح عن معاني الصحاح، 5/ 256.

[6] النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، 13/ 48.

[7] الدماميني، مصابيح الجامع، ج8/ ص9.

[8] ابن الملقن، التوضيح لشرح الجامع الصحيح، ج21، ص 154.

[9] الدماميني، مصابيح الجامع، ج8/ ص9.

[10] أبو العباس القرطبي، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، ج3/ ص 738.

[11] ابن إسحق، سيرة ابن إسحاق (كتاب السير والمغازي)، تحقيق سهيل زكار، ص 330.

[12] فتح الباري، ج6/ ص 23.

[13] أخرجها البخاري في صحيحه حديث رقم 2805

[14] أخرجها أحمد، في مسنده، حديث رقم 13085 طبعة الرسالة.

[15] ابن حجر، فتح الباري، 6/ 23.