أثناء الغزو الصليبي في بلاد الشام (علي بن طاهر السلمي أنموذجاً)
د. علي محمد الصلابي
لم تكن الاستجابة من قبل الفقهاء والقضاة في بلاد الشام ضد غزو الصليبيين مقتصرة على الاستغاثة، وطلب النجدة، بل تعدت إلى العديد من الوسائل الأخرى التي من بينها الكتابة والتأليف في الجهاد ضد ذلك الغزو لتهيئة الأجواء الفكرية، وتثقيف المسلمين عامة، حيث نالت اهتماماً كبيراً من جملة الفقهاء والعلماء قبل وأثناء الغزو الصليبي، فقد كانت حاجة العصر للتعبئة الفكرية، ونشر الثقافة الإسلامية، أصبحت من الأمور الأساسية انذاك في وقت كانت بلاد الشام تخوض صراعاً سياسياً، ومذهبياً عسكرياً انعكس على تدوين التاريخ في الشرق العربي، وظهور العديد من المصنفات والتراجم حول سير السلاطين والملوك والأسر الحاكمة، وأحداث القتل والصراع ضد الصليبيين، ولذلك اندفعت فئة الفقهاء والقضاة إلى تنوير مجتمعاتها الإسلامية، الذي جاء مجسداً عبر مؤلفاتهم وكتبهم خلال مجموعتين:
الأولى: ركزت على التأليف والوعظ بصورة تقليدية؛ وتوضيح أمور وأركان الدين الحنيف للناس.
والثانية: التي توجهت للتحريض والتأليف في الجهاد، وحث المسلمين عليه؛ لأنها أدركت الضعف العام في إيمان المسلمين عليه، وتركهم لأمور دينهم، لذلك كتبت الكثير من المصنفات قبل وأثناء الغزو الصليبي في بلاد الشام.
والذي يهمنا هنا المؤلفات التي حرضت على الجهاد الإسلامي وتعريف المسلمين بأمور دينهم وتعبئتهم للوقوف بوجه ذلك الغزو، ومن أبرز أولئك الفقهاء:
- الفقيه علي بن طاهر السلمي (431 ـ 500 هـ/1039 ـ 1106 م): هو علي بن طاهر جعفر القيسي السلمي الدمشقي الشافعي، كان من علماء بلاد الشام وعلى إثر مجيء ذلك الغزو تحول إلى واعظ ومحرض على الجهاد بإلقائه الخطب والدروس في المساجد التي تنقَّل فيها عبر مدن بلاد الشام، وفلسطين، حيث جسد ذلك في كتابه الجهاد، الذي جاء عقب سقوط بيت المقدس عام (492 هـ/1098 م)، وذلك من خلال إحدى خطبه التي حث فيها المسلمين على الجهاد ضد الغزو: فإن المجاهدين لهذه الطائفة الظافرين
بهم الموفقين في إخراجهم من بيت المقدس وغيرها من هذه البلاد() ، وركز السلمي في أبوابه الأولى من كتابه
(الجهاد) على العديد من القضايا والأفكار الهامة التي كانت عليها بلاد الشام، والعالم الإسلامي آنذاك.
مبتدئاً سياسة صليبية عامة استهدفت الأندلس وصقلية وبلاد الشام. إذ إنه أول من نبه إلى وحدة أهداف الحروب الصليبية سواء في الأندلس، أو في صقلية، أو بلاد الشام، تلك الفكرة التي أخذها المؤرخون فيما بعد، وطوروها؛ فقد ذكر ابن الأثير: وكان ابتداء دولة الإفرنج، واشتداد أمرهم وخروجهم إلى بلاد الإسلام، واستيلائهم على بعضها سنة ثمان وسبعين وأربعمئة، فملكوا مدينة طليطلة، وغيرها من بلاد الأندلس…، ثم قصدوا سنة أربع وثمانين وأربعمئة جزيرة صقلية وملكوها…، فلما كانت سنة تسعين وأربعمئة خرجوا إلى بلاد الشام.
وأدرك أن ضعف العالم الإسلامي، وتشرذمه، وتجزئته هو العامل الرئيس وراء نجاح الغزو الصليبي في المشرق، أو المغرب الإسلاميين، وليس قوة الصليبيين أنفسهم؛ وركز على التجزئة السياسية لبلاد الشام بصورة خاصة، لأنه عاش وأحس بالمعاناة هناك، وتثاقل السكان عن جهادهم.
وذكَّر السلمي المسلمين بفكرة استمرارية الجهاد سواء في الحرب أو السلم كجزء من سياسة عامة يجب على الأمراء والخلفاء المسلمين القيام بها كشرط أساسي للمواجهة الناجحة، ففي كل عام يجب على الأمير المسلم القيام بحملة خارج ديار الإسلام لا لطمع، أو لغنيمة يبتغيها، وإنما للمحافظة على دار الإسلام من عدوان غير المسلمين، وإشعارهم بالرهبة، وقوة المسلمين بالاستمرار تجسيداً للرأي القائل في العصر الحاضر بضرورة نقل المعارك إلى أرض العدو دوماً، وذكر السلمي الأمراء بأن ذلك الغزو لم يكن هدفه الأرض، والعقيدة فقط، وإنما هدفه هو إزالتهم من سلطاتهم، وإخراجهم من البلاد التي تحت أيديهم، وذلك بهدف إثارة حميتهم، وحثهم على الجهاد، وطلب من عامة الناس مساندة أمرائهم وقادتهم المجاهدين الذين يتبعون
السلف الصالح لمواجهة تلك المحنة، وطرد الصليبيين.
والقارئ لكتاب السلمي في الجهاد يدرك مباشرة عمق المعاناة التي كان يعانيها السلمي وهو الفقيه الذي يرى بيت المقدس تنتهك حرمته، وتداس قدسيته، ولذلك أول ما حث عليه هو تخليص بيت المقدس من أيدي أولئك الغزاة: فاجتهدوا رحمكم الله في هذا الجهاد لعلكم تكونوا الظافرين بمزية هذا الفتح العظيم ! ويعتبر السلمي أول من أدرك ضرورة الوحدة الجهادية بين بلاد الشام والعراق، ومدن آسية الصغرى، قبل عصر الوحدة الإسلامية ضد الصليبيين بقيادة آل زنكي والأيوبيين.
ويعتبر في هذا المجال من الروَّاد. ودعا السلمي المسلمين إلى تطهير النفوس وإصلاحها، فهي الأساس في وحدة إسلامية لعقد العزم والإصرار على مجاهدة ذلك الغزو: وقدموا جهاد أنفسكم على جهاد أعدائكم؛ فإن النفوس أعدى لكم منهم، واردعوها عما هي عليه من عصيان خالقها سبحانه؛ تظفرون بما تؤملونه من النصرة عليهم.
إن الغزو الصليبي لبلاد الشام من وجهة نظر السلمي لم يأتِ من فراغ وإنما أدرك ضعف المسلمين لعدم تمسكهم بدين الله الحنيف، ولذلك اجتهد في نصحهم بالعودة إلى الله وتطهير النفوس؛ بالرجوع إلى كتاب الله، والإقلاع عما تقدم منهم، والنهوض إلى قرع باب الجهاد: وليكن قصدكم بجهادكم هذا إرضاء ربكم، والذب عن أنفسكم، وعن غيركم من إخوانكم؛ ليمحص لكم ثواب غزوكم ، ولا يكون ذلك أمام تقدم الغزو الصليبي، وأخذه لمدن عديدة إلا المبادرة إليهم، والمرابطة على المدن التي لم تحصل في أيديهم، فإن النفير إليهم وقصدهم في البلاد التي قد تملكوها علينا إنما هو حرب يقصد بها الدفاع عن النفوس، والأولاد
والأهل، والأموال، والحراسة لما بقي بها في أيدينا من البلاد وكانت دعوة السلمي للمسلمين عامة لوحدة القوى الإسلامية: شامها، وجزريها، ومضريها. ونصحهم باتباع منهاجه في تطهير النفوس وإصلاحها فهي الأساس في وحدة إسلامية لعقد العزم والإصرار على مجاهدة ذلك الغزو: وقدموا جهاد أنفسكم على جهاد أعدائكم فإن النفوس أعدى لكم منهم، واردعوها عما هي عليه من عصيان خالقها سبحانه تظفرون بما تؤملونه من النصرة عليهم ، حيث رأى: إن لم يتناس الحكام المسلمون أحقادهم وخلافاتهم فإنهم ما زالوا على جاهلية غير مقتدين بالمثل النابع من التراث: عند الشدائد تذهب الأحقاد.
واستمر السلمي في مواضع عديدة من كتاب (الجهاد) يحث، ويحرض، ويعظ، وينبه، ويعلم الحكام عامة على ضرورة الجهاد بخطبه ودروسه التي ألقاها في الجامع الأموي بدمشق، وفي مدن بلاد الشام، وفلسطين في اثنين وثلاثين باباً ، ولم يترك شاردة ولا واردة في الجهاد إلا وتطرق إليها، ونلاحظ أن السلمي في كتابه (الجهاد) تطرق إلى توضيح التجزئة والتشرذم في المشرق الإسلامي، وخاصة في بلاد الشام من ضعف القوى الإسلامية، وتفككها مع ضعف الإيمان بفرض الجهاد، وهي نقطة استغلها الغزاة، ولكنه عالج ذلك الخلل بطرحه قضية تطهير النفوس، والعودة إلى التمسك بدين الله الحنيف؛ وإصلاح الأمر فيما بينهم، والإقدام على (الجهاد) لمواجهة ذلك الغزو، وأنه لا يتم ذلك إلا بوحدة القوى الإسلامية، لذا جاء كتابه الجهاد عاماً، لم يخصصه لسلطة سياسية معينة أو لفئة من المسلمين من بلاد الشام مثلاً وفق رؤية إسلامية مبنية على إسناد متين تمثل في القرآن الكريم، والسنة النبوية، وكتب السير، والمغازي، والتفاسير، وربط موضوعاتها بالخطر الصليبي على بلاد الشام، وهذا دليل على مدى اطلاعه، وفكره الثاقب في جمع المعلومات وتسخيرها في مكانها المناسب.
ونلاحظ من خلال البحث بأنَّ الدعوة الأولى للجهاد لم تصدر عن مجالس الحكام بل صدرت من محافل الفقهاء، والعلماء المسلمين من أساتذة، وعلماء، وفقهاء، وكتَّاب، ويعتبر السلمي من أوائل من حث على الجهاد، ومن ضمن تيار الرفض العام الإسلامي المدعوم من قِبل الفقهاء والقضاة، لقد كتب السلمي كتابه في فترة مبكرة من تلك الحروب، وهذا دليل على ذكائه وفطنته في إدراكه لمشاكل بلاد الشام المعقدة، ولكن إن لم تتوفر الظروف العامة لإنجاح دعوته للجهاد في تلك الفترة المبكرة ذاتها، فهو قد ساهم في كتابه للتمهيد لمرحلة الزنكيين، والأيوبيين. ولقد قام الأستاذ رمضان حسن الشاوش بدراسة وتحقيق كتاب (الجهاد) للسلمي، وقدمه كرسالة ماجستير لجامعة الفاتح بطرابلس الغرب عام (1992 م).
المصادر والمراجع:
- ابن الأثير، الكامل في التاريخ (8/397).
- خليفة جمال محمد سالم، موقف فقهاء الشام وقضاتها من الغزو الصليبي، ص 94-99
علي الصلابي، دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاوة التغلغل الباطني والغزو الصليبي، ص 654-658.