تأليف: الأستاذ الدكتور عبد الجبار سعيد / كلية الشريعة في جامعة قطر
لتحميل البحث نسخة وورد:
https://docs.google.com/document/d/1vmkJm_uI5xuRyGC1usYvpcA5IGCioqzJ?rtpof=true&usp=drive_fs
لتحميل البحث نسخة pdf:
https://drive.google.com/open?id=1vlRCdCRG5dAQ4T0nH6JFbCS01JWjBtcr&usp=drive_fs
المُلخَّص
يتناول هذا البحث مفهوم التطبيع لغة واصطلاحاً ويقصد به: الاستسلام غير المشروط للأمر الواقع والاعتراف بالكيان الصهيوني الغاصب للأرض كدولة ذات سيادة وتحويل علاقات الصراع بينها وبين البلدان العربية والإسلامية إلى علاقات طبيعية، كما تناول البحث مصالح التطبيع الموهومة عند المؤيدين له، ومنها دعم الاقتصاد عند المطبعين وتحقيق التطور الحضاري، وغير ذلك. كما تعرض البحث للمفاسد التي يسببها التطبيع، وأخطرها هو القضاء على فكرة التحرير والتمكين للعدو في فلسطين. ثم ناقش البحث فكرة القائلين بقياس اتفاقيات التطبيع على صلح الحديبية، وبين عدم صحة هذا القياس وبطلانه، كما عرض أدلة مانعي التطبيع وأدلة المجيزين وخلص إلى حرمة التطبيع بشكل قاطع.
فهرس المحتويات
المُلخَّص…. ب
المقدمة. 0
المبحث الأول.. 1
مفهوم التطبيع. 1
لغة: 1
اصطلاحاً: 2
علاقة المفهوم اللغوي بالمفهوم الإصلاحي: 3
الصلح والمعاهدات: 3
المبحث الثاني. 4
التطبيع بين المصلحة والمفسدة. 4
المبحث الثالث… 7
التطبيع والمعاهدات… 7
المبحث الرابع. 9
حكم التطبيع. 9
أدلة المحرمين: 12
أدلة المجيزين: 15
المقدمة
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فإن التطبيع مع العدو الصهيوني أصبح يشكل تحدياً غير عادي للأمة كلِّها، ولطالما كان تحدياً، ولكنه اليوم بشكل غير مسبوق، وذلك بسبب تهافت عدد من الأنظمة العربية والإسلامية، وعدد من المؤسسات والشخصيات العربية والإسلامية بل والعلماء أيضاً، بشكل لم يخطر على بال كثيرين منّا، ومما زاد درجة التحدي، أن التطبيع الذي يسعون إليه، لم يعد محصوراً في المجال السياسي، بل تعداه إلى الثقافة والهوية، والمجتمع والقيم، والأخلاق والسلوك، والاقتصاد والإعلام وغير ذلك مما نعلم ومما لا نعلم. ولعل من أخطر مظاهر هذا التحدي، أنه أصبح يدعو له ويقع فيه بعض العلماء والمفتين ووزراء الأوقاف، وأصبحوا يروجون لفكرتهم أحياناً باسم الدين، وباسم دعم القدس وأهلها، فهل فعلاً يمكن أن يكون التطبيع حلالاً أو مباحاً أو واجباً كما وصل الأمر ببعضهم أن يزعم، وإن لم يسم الأمر باسمه؟
فما حكم التطبيع مع العدو الصهيوني؟ وهل فعلاً يمكن أن يحقق المنافع للأمة؟ هذا ما يحاول الباحث الإجابة عليه في هذا البحث، ولمزيد من إلقاء الضوء على الموضوع، سيتناول البحث مفهوم التطبيع، ومصالحه ومفاسده، وعلاقته بالاتفاقيات المبرمة أو التي ستبرم.
المبحث الأول
مفهوم التطبيع
لغة:
قال ابن فارس: “الطاء والباء والعين أصلٌ صحيح، وهو مثلٌ على نهايةٍ ينتهي إليها الشيء حتى يختم عندها، يقال طبَعت على الشيء طابَعاً. ثم يقال على هذا طَبْعُ الإنسان وسجيَّتُه. ومن ذلك طَبَعَ اللهُ على قَلْب الكافر، كأنَّه ختم عليه حتى لا يصل إليه هُدىً ولا نُور، فلا يوفَّق لخير. ومن ذلك أيضاً طبْع السَّيف والدِّرهم، وذلك إذا ضربه حتى يكمّله. والطَّابع: الخاتم يُختَمُ به *. والطَّابِع: الذي يَختِم.
ومن الباب قولُهم لملْءِ المِكيال طَبع. والقياسُ واحدٌ؛ لأنه قد تكامل وخُتم. وتطبَّع النَّهر، إذا امتلأ؛ وهو ذلك المعنى. وكذلك إذا حُمِّلت النّاقة حِمْلَها الوافِيَ الكاملَ، فهي مطبَّعة… ومما شذَّ عن هذا الأصل وقد يمكن أن يُقارَب بينهما، إلاَّ أنَّ ذلك على استكراه، قولهم للدَّنَس: طَبَع. يقال رجلٌ طَبِعٌ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “استَعيذوا بالله من طمَعٍ يَهدِي إِلَى طَبَعٍ”[1].
ويقول ابن منظور في لسان العرب:”
(طبع) الطبْعُ والطَّبِيعةُ الخَلِيقةُ والسَّجيّةُ التي جُبِلَ عليها الإِنسان…ويجمع طَبْعُ الإِنسان طِباعاً وهو ما طُبِعَ عليه من طِباعِ الإِنسان في مأْكَلِه ومَشْرَبِه وسُهولةِ أَخلاقِه وحُزونَتِها وعُسْرِها ويُسْرِها وشدّتِه ورَخاوَتِه وبُخْلِه … وطَبَعَه اللهُ على الأَمرِ يَطْبَعُه طبْعاً فَطَرَه وطبَع اللهُ الخَلْقَ على الطبائعِ التي خلقها فأَنشأَهم عليها وهي خَلائِقُهم يَطْبَعُهم طبْعاً خَلَقَهم. .. وفي الحديث كل الخِلال يُطْبَعُ عليها المُؤْمِنُ إِلا الخِيانةَ والكذب أَي يخلق عليها. والطِّباعُ ما رُكِّبَ في الإِنسان من جميع الأَخْلاق التي لا يكادُ يُزاوِلُها من الخير والشر… وطبَع الله على قلبه ختم على المثل. ويقال طبَع الله على قلوب الكافرين نعوذ بالله منه أَي خَتَمَ فلا يَعِي وغطّى ولا يُوَفَّقُ لخير …الطَّبْع بالسكون الختم وبالتحريك الدَّنَسُ وأَصله من الوَسَخ والدَّنَس يَغْشَيانِ السيف ثم استعير فيما يشبه ذلك من الأَوْزار والآثامِ وغيرهما من المَقابِحِ. وفي حديث الدُّعاء اخْتِمْه بآمينَ فإِنّ آمينَ مِثْلُ الطابَعِ على الصحيفة الطابع بالفتح الخاتم يريد أَنه يَخْتِمُ عليها وتُرْفَعُ كما يفعل الإِنسان بما يَعِزُّ عليه وطبَع الإناءَ والسِّقاء يَطْبَعُه طبْعاً وطبَّعه تَطْبِيعاً فتطَبَّع مَلأَه وطِبْعُه مِلْؤُه والطَّبْعُ مَلْؤُكَ السِّقاءَ حتى لا مَزِيدَ فيه من شدّة مَلْئِه… وتَطَبَّعَ النهرُ بالماء فاض به من جوانبه. قال الأَزهري ويجمع الطِّبْعُ بمعنى النهر على الطُّبوعِ سمعته من العرب وفي الحديث أَلقى الشَّبكةَ فطَبَّعها سَمَكاً أَي مَلأَها والطِّبْعُ أَيضاً مَغِيضُ الماءِ وكأَنه ضِدّ وجمع ذلك كله أَطباعٌ وطِباعٌ وناقة مُطْبَعةٌ ومُطَبَّعةٌ مُثْقَلةٌ بحِمْلِها على المثل كالماء… قال الأَزهري والمُطَبَّعُ المَلآن …وتكون المطبَّعة الناقة التي مُلِئت لحماً وشحماً فتَوَثَّقَ خلقها وقِربة مُطبَّعة طعاماً مملوءة”[2].
اصطلاحاً:
تفاوتت المفاهيم الاصطلاحية للتطبيع بحسب نظرة الباحثين وزاوية النظر إلى المسألة، فمن تناول الحديث عن المؤسسات، تحدث عن التطبيع ما بين مؤسساتنا ومؤسسات العدو من جهة تبادل الزيارات، والأنظمة والمنافع، ومن تحدث عن السياسة طرح التطبيع من وجهة نظر سياسية، والاقتصادي والثقافي كل من جهة بحثه ونظره.
فمنهم من رأى التطبيع بأنه:” المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلي أو دولي، مصمم خصيصا للجمع (سواء بشكل مباشر أو غير مباشر) بين فلسطينيين (و/أو عرب) وإسرائيليين (أفرادا كانوا أم مؤسسات) ولا يهدف صراحة إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكل أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني”[3]
وأهم أشكال التطبيع-حسب هذا الرأي-هي تلك النشاطات التي تهدف إلى التعاون العلمي أو الفني أو المهني أو النسوي أو الشبابي، أو إلى إزالة الحواجز النفسية. ويستثنى من ذلك المنتديات والمحافل الدولية التي تعقد خارج الوطن العربي، كالمؤتمرات أو المهرجانات أو المعارض التي يشترك فيها إسرائيليون إلى جانب مشاركين دوليين، ولا تهدف إلى جمع الفلسطينيين أو العرب بالإسرائيليين، بالإضافة إلى المناظرات العامة. كما تستثنى من ذلك حالات الطوارئ القصوى المتعلقة بالحفاظ على الحياة البشرية، كانتشار وباء أو حدوث كارثة طبيعية أو بيئية تستوجب التعاون الفلسطيني-الإسرائيلي”[4].
ويطلق التطبيع في دارجتنا اللغوية ويقصد به “هو العودة بالأشياء إلى سابق عهدها وطبيعتها.
وفي الصراع العربي الصهيوني يقصد به الاستسلام غير المشروط للأمر الواقع والاعتراف بالكيان الصهيوني الغاصب للأرض كدولة ذات سيادة وتحويل علاقات الصراع بينها وبين البلدان العربية والإسلامية إلى علاقات طبيعية (شاملاً السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، والأفراد والمؤسسات وغير ذلك) وآليات الصراع إلى آليات تطبيع.. وبالتالي التخلي عن مشروع الأمة والانصياع لخدمة المشروع الصهيوني.
أما كلمة التطبيع فقد شرعت مع اتفاقيات -كامب ديفيد- المشؤومة. التي وقعت في 17 أيلول/سبتمبر عام 1978 حيث وردت عبارة علاقات عادية أو طبيعية.. والمقصود إنهاء حال المقاطعة.. التي انتهت بقرار رسمي في شباط عام 1980.”[5]
علاقة المفهوم اللغوي بالمفهوم الإصلاحي:
يجد المتأمل لكلا المفهومين أن بينهما علاقة وطيدة، فالمطبِّعون يسعون لجعل التطبيع عاماً وشاملاً لكل جوانب الحياة، ويتيحون للعدو الصهيوني اختراقنا حد الامتلاء، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المطبعين يسعون لجعل العلاقة مع العدو الصهيوني طبيعية كأنها سجيَّة وطبع عاديّ.
الصلح والمعاهدات:
ولا يخفى على أحد أن الصلح من حيث المفهوم لا يتداخل مع التطبيع، ولكنه صورة من صور العلاقة مع العدو، مندرج فيه بل يشكل المدخل له، وإنما أردت ذكره هنا، لأن البعض يتحدث عن وقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش ويعده مبرراً للتطبيع وتوقيع المعاهدات مع الاحتلال.
الصلح في المصطلح الشرعي: “وضع الحرب مدة معلومة إن كان عقدا لازما ، أو مدة مطلقة إن كان عقدا جائزا ممكن الفسخ وقت الحاجة”[6]. فالصلح في الميزا ن الشرعي غير مؤبد لا ينحل، فإما أن يكون هدنة مؤقتة، أو يمكن إلغاؤها.
المبحث الثاني
التطبيع بين المصلحة والمفسدة
لا بد قبل إصدار الحكم بشأن التطبيع من الوقوف على المصالح التي يمكن أن يحققها، أو المفاسد والأضرار التي يمكن أن يصيبنا بها، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره.
يزعم الدعاة إلى التطبيع أنه يحقق جملة من المصالح منها:
- دعم الشعب الفلسطيني عموماً وأهل القدس خصوصاً دعماً اقتصاديا من خلال الوصول إليه والبيع والشراء منه.
- تثبيت الشعب الفلسطيني وإشعاره بوقوف الأمة معه ومساندتها إياه.
- المساهمة في فعاليات مقاومة الاحتلال والرباط في المسجد الأقصى.
- ربط أبناء الأمة والشعب الفلسطيني بفلسطين والقدس، وتعريفهم بهما، والمحافظة على ديمومة التواصل معهما.
- التعرف عن قرب على معاناة الشعب الفلسطيني من جهة، وعدوان الاحتلال على الفلسطينيين من جهة ثانية، ونقل كل ذلك إلى العالم.
- الاستفادة مما لدى (إسرائيل) من الخبرات والمعارف، والتبادل المعرفي والثقافي معهم، ونقل الحضارة والتقدم الذي يتميزون به إلى مجتمعاتنا.
- التطبيع مع (إسرائيل) يشكل مدخلاً للعلاقة مع أمريكا، والعالم الغربي، وهذا يفيد مجتمعاتنا: حضارة وثقافة وسياسة واقتصاداً … ويخرجنا من دائرة الصراع إلى دائرة النهوض والفعل الحضاري.
- التطبيع مع (إسرائيل) يحقق لنا الكثير من المكاسب الاقتصادية، من خلال التبادل التجاري، والخبرات الاقتصادية (الإسرائيلية)، وهو ما يسهم بتحقيق الرفاه الاقتصادي للشعوب العربية والإسلامية.
أما الرافضون للتطبيع فيرون أنه يجلب عدداً من المفاسد منها:
- التطبيع يمكِّن للاحتلال في أرض فلسطين ويجعل وجوده طبيعياً، ويقضي على فكرة التحرير.
- التطبيع يدعم اقتصاد الاحتلال وينشِّطه على حساب الاقتصاد الفلسطيني.
- يتيح التطبيع للاحتلال فرصة التأثير على الشباب الفلسطيني، وإسقاطهم خلقياً وفكرياً وثقافياً، بل وتجنيدهم لصالح الاحتلال.
- يساهم التطبيع في تدمير الاقتصادات العربية والإسلامية لصالح اقتصاد الاحتلال، لأنه الأقوى.
- يساهم التطبيع في نشر الانحلال الأخلاقي والانحراف الفكري والثقافي في الأمة.
- يساهم التطبيع في القضاء على ثقافة المقاومة، وفكر المقاومة، بل ويجعل النظرة إليها إرهاباً وتطرفاً تنبغي محاربته.
- يتولى التطبيع مهمة الترويج للنموذج الصهيوني، على أنّه النموذج الحضاري التقدّمي المنشود، ومن ثم خلق حالة الانبهار والتبعية لهذا النموذج.
وللمزيد من الوقوف على المصالح والمفاسد المترتبة على التطبيع، فإن هناك الكثير من الأسئلة التي أثارها باحثون حول العاقة مع ما يسمى إسرائيل، وهي أسئلة مشروعة ولا بد منها قبل بيان الحكم على التطبيع[7] ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
• ما أكثر ما يجمع “إسرائيل” بنا ؟ هل هناك إلا الحرب؟ وهل يوجد بيننا وبينهم تاريخ “حب مستقر” مشترك؟
• هل يوجد بيننا وبينهم تجربة تاريخية ناجحة منذ أن كانوا يهوداً مشتتين في العالم؟
• ما الذي يجمعنا بهم ثقافياً: لغتهم مختلفة، دينهم مختلف، تاريخهم مختلف، تركيبتهم الاجتماعية مختلفة؟
• هل يمكن أن تنجح العلاقة مع “إسرائيل” ومعنا كل هذا التاريخ الدموي معها؟ وكل هذا الثأر
• ولماذا لم تنجح أي اتفاقية أمنية عربية وفلسطينية مع “إسرائيل” في إشعارها بالثقة والاطمئنان تجاهنا؟
• من الذي دفع ثمن العلاقة مع “إسرائيل” أكثر: هل هي إسرائيل أم العرب والفلسطينيون؟
• هل نجحت أي علاقة اقتصادية بين “إسرائيل” وأي دولة عربية؟
• هل هناك رغبة “إسرائيلية” في تنمية العلاقة مع العرب وتطويرها ونقل الخبرات إليها دون خوف أو تحفظات؟
• الأمر المهم: هل شبكة مصالح الأمن القومي- والداخلي منه خصوصاً- تحتمل علاقة تطبيعية متطورة مع الكيان الإسرائيلي؟
المبحث الثالث
التطبيع والمعاهدات
والباحث هنا ليس بصدد البحث التفصيلي في حكم المعاهدات والأدلة على بطلانها، والخلاف بين المجيزين والمانعين، لأن هذا ليس مجاله، وإنما أوردته هنا للتعقيب على زعم من استدل بصلح الحديبية للتدليل على جواز التطبيع، والنقاش هنا ينصب على هذه الفكرة، فهل يصلح صلح الحديبية مستنداً لمجيزي التطبيع؟ بل هل يصلح دليلاً على صحة المعاهدات التي عقدها المطبّعون، فضلاً عن أن يصلح دليلاً على صحة التطبيع؟
” فالمصالحة مع اليهود جائزةٌ إن كانت على أساس زوال كيانهم، والأمر فيها لولي الأمر، يقدر مصلحة المسلمين في عقدها أو الامتناع منه. وأما إذا كانت على أساس بقاء كيانهم، فقد اتفق العلماء على عدم جوازها، وأن الأصل هو الجهاد، إلا أن تدعو ضرورة تلجئ المسلمين إلى عقد هدنة مؤقتة ريثما يستعدون للجهاد، فتجوز عندئذ وبقدر الضرورة…وإن للمعاهدة في الإسلام شروطاً لا تجوز بدونها، ولها آثار تترتب عليها، وإلا كانت عبثاً، وإن هناك نواقض للمعاهدة إذا أتى المعاهد شيئاً منها كان ناقضاً للعهد، وصار بذلك محارباً مباح المال والدم.
وبناءً على هذه الأسس… فإن الاتفاقيات التي أبرمت باطلة شرعاً. فهي باطلة لعدم قيام ضرورة تدعو إلى إبرامها، ولو سلّمنا بوجود ضرورة تدعو إلى مهادنة اليهود، فإن هذه المعاهدات لم تقدر بقدر الضرورة، بل تجاوزت الحد، وتنازل عاقدوها لليهود عمّا لم يكن بحسبان اليهود أنفسهم، وعما يستميت المسلمون في سبيل إنقاذه واسترداده والحفاظ عليه، إنها جعلت المسجد الأقصى محل مساومة، بل أشار بعض القائمين على هذه المفاوضات من جانب العرب إلى ضرورة تدويله… وهي باطلة لفقدانها كل شروط المعاهدات في الإسلام. وهي باطلة لأنه لم يترتب عليها آثار المعاهدات في الإسلام من صيانة الدماء والأموال والأعراض. وهي باطلة لأنها لو كانت صحيحة في ذاتها، فإنها قد بطلت بفعل اليهود وعدوانهم بعد عقدها، إذ فعلوا كل نواقض المعاهدات… وهي باطلة بإجماع علماء العصر على بطلانها، ولم يخالف في ذلك إلاّ من لا يحتج بخلافه، زو من كان غائباً عن الواقع لا يعرف شيئاً من الحقيقة[8].
ويرى بعض العلماء (ابن باز مثلاً) جواز معاهدة العدو الصهيوني والتطبيع معه من خلال القياس على صلح الحديبية[9]، ويرون أن قريشاً كانت معتديةً على أموال المسلمين، وأملاكهم، ومع ذلك فقد صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيقاس صلح اليوم ومعاهداته على صلح الحديبية. فهل يشكل صلح الحديبية مرتكزاً ودليلاً يصلح الاستناد إليه في إباحة المعاهدة مع اليهود، ومن ثم التطبيع معهم؟
والمتأمل لهذا الصلح يجد أنه ثمة فوارق بينه وبين الاتفاقيات التي أبرمت والتي يراد إبرامها، سواد في طبيعتها، أو أهدافها أو ظروفها وأحوالها، أو شروطها وآثارها، ومن الفوارق بين هذه الاتفاقيات وصلح الحديبية[10]:
أن مكة في ذلك الوقت لم تكن دار إسلام، بل دار حرب، وجبت الهجرة منها إلى المدينة، وقريش فيها مالكة ملكاً صحيحاً، وليس وجوداً طارئاً، وهؤلاء تجوز مصالحتهم، إذا رأي ولي الأمر ذلك، وجهادهم فرض كفاية لا فرض عين. بينما اغتصب اليهود أرض فلسطين، وهي جزء من أرض الإسلام، وطبقت على أهلها أحكامه، فاغتصب اليهود الأرض والسلطان، واستولوا على الحق العام، إضافة إلى عدوانهم على الحقوق الخاصة. وجهادهم في هذه الحال فرض عين على كل مسلم ومسلمة.
إن صلح الحديبية كان صلحاً مؤقتاً، فقد كان عشر سنوات، أي أنه كان هدنة، وليس فيه تنازل عن أي جزء من بلاد المسلمين، ولا عن أي حق من حقوقهم، أما الاتفاقات الموقعة مع اليهود فهي مؤبدة، كما نصت على ذلك الاتفاقيات نفسها، ومرجعياتها الدولية، مثل قرارات مجلس الأمن وغيرها.
كان لصلح الحديبية وفق خطة النبي صلى الله عليه وسلم أهداف دعوية وعسكرية وسياسية آتت ثمارها، بل إن الله تعالى سمّاه فتحاً. أما المعاهدات فإن التطبيع بكل أشكاله أخطر آثارها، ومن ذلك تغيير المناهج ونشر الفساد ونشر الرذيلة، وتقوية اقتصادهم وتدمير اقتصاد العرب والمسلمين، وما شهدنا من آثار اتفاقيات كامب ديفيد، ووادي عربة وأوسلوا خير دليل، ويغني عن كثير من الكلام.
وغير ذلك من الفوارق الكثير وفيما ذكرنا من الفوارق كفاية للدلالة على عدم صحة القياس على صلح الحديبية، ولا الاستدلال به على صحة ما عُقد ولا ما سيعقد من الاتفاقيات والمعاهدات.
المبحث الرابع
حكم التطبيع
في ضوء ما قدمنا من تصورنا للتطبيع، وفهمنا له، وتقديرنا للمفاسد المترتبة عليه، والمصالح الموهومة التي ظنها البعض، وتوهم أنه يمكن أن يحققها، فإننا لا نتردد في القول بحرمة التطبيع مع ما يسمى إسرائيل، وقد قال بهذا الرأي جمهرة من علماء الإسلام المعتبرين:
- فهذا التطبيع هو نوع من تولي هؤلاء، نتولاهم وهم يعادوننا ويحاربوننا هذا منطق مرفوض”[11].
بالفعل أفتيت بهذه الفتوى وما زلت مصرًّا عليها، والسند الشرعي في هذه الفتوى أن التعامل الذي يقوي العدو المحتل على أي مستوى ويضعف المسلمين من قبيل التطبيع الاقتصادي والتجاري وفي أي مجال هو تعامل حرام شرعًا، ويمثل عدم اكتراث بالشرع وبمصلحة الأمة؛ لأن هذا العدو لا يزال يحتل بلاد المسلمين ويعامل أهلها معاملة أقل ما يقال فيها أنها غير إنسانية، ولم تقف الفتوى عند هذا الحد بل قلت بضرورة مقاطعة الشركات التي تتعاون مع الكيان الصهيوني، أو التي لها علاقة به من قريب أو من بعيد؛ لأن التعاون الاقتصادي مع هذا الكيان شر كله، وإن ما يقال عن أن مصلحة الوطن تأتي من خلال هذا التعامل غير صحيح[12].
- [13].
- . ومنها فتوى مؤتمر علماء فلسطين المنعقد في 1412 هـ أفتوا بحرمة المشاركة في مؤتمر مدريد وأفتوا أيضا بحرمة التطبيع مع اليهود ثم ذكروا الأدلة الشرعية في ذلك. ومنها فتوى رابطة علماء فلسطين الصادرة عام ١٩٩١م وتتضمن عبارات دالة وواضحة على رفض الصلح ومآلاته ومنها مضامين التطبيع بأشكاله المتعددة[14].
- .
- .
- .
- فإن التطبيع مع اليهود محرم شرعا، ولا يجوز لأحد كائنا من كان أن يعقده بتلك الصورة، وإذا وقع كذلك فإنه يقع صلحا باطلا” وقد وقع عليها كل من: حمد الريس، علي الخضير، محمد الرشودي، ناصر الفهد، أحمد السناني، صالح الرشودي، عبد الله ال سعد، حمد الحميدي. وغير ذلك من الفتاوى مما يصعب حصره وجمعه.
أدلة المحرمين: استعرض المحرمون للتطبيع والمانعون جملة من الأدلة: من القرآن والسنة، والإجماع ومقاصد الشريعة وفقه المآلات تذكر بعضها مما تتحقق به الكفاية، ولا مجال لاستعراضها جميعاً[15]:
من القرآن الكريم:
من السنة:
ففيه من الشروط الاعتراف بالكيان اليهودي، وإلغاء الجهاد وأمثال ذلك.
ومن مقاصد الشريعة وأصولها:
ويضاد مقاصد الجهاد الشرعي الثابت في الكتاب والسنة والإجماع.
ويضاد الأصول المجمع عليها في الجهاد والولاء والبراء وأصل عدم تمكين اليهود من جزيرة العرب.
أدلة المجيزين:
لعل أبرز ما استند إليه المجيزون للتطبيع ومن أبرزهم: فضيلة الشيخ ابن باز رحمه الله، والدكتور علي جمعة، والحبيب الجفري وغيرهم:
ويرى فضيلة الإمام القرضاوي-حفظه الله- رداً على الدليل الأول، أنه ينبغي أن نجنح للسَّلم إذا جنح له العدو، ولكن تطبيق هذا على واقع اليهود معنا غير صحيح؛ لأن اليهود الغاصبين لم يجنحوا للسَّلم يوماً، وكيف يعتبر اليهود جانحين للسَّلم، بعد أن اغتصبوا الأرض، وسفكوا الدماء، وشردوا الأهل، وأخرجوا الناس من ديارهم بغير حق؟… إن الآية التي يجب أن نذكرها هنا ليست آية سورة الأنفال، بل آية سورة محمد وهي قوله تعالى: ” فلا تهنوا وتدعوا إلى السّلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يَتِرَكُم أعمالكم” محمد ٣٥
كما استطرد فضيلة الإمام في الرد على مسألة الهدنة وصلح الحديبية وهو ما أشرنا له سابقاً، ولا داعي لتكراره.
استدراك هام:
لا بد من الإشارة إلى أنه لا يدخل في حكم التطبيع هذا التعامل الضروري الذي يضطر إليه أبناء فلسطين في الداخل والخارج، كونه لا بديل لهم في معظم الأحيان، وبعض أشكال التعامل مع مؤسسات العدو في الداخل والخارج مندرج في باب الضرورة، ولا بد لهم منه، على أن هذا يحمل أبناء فلسطين المسؤولية في محاولة إيجاد البدائل ما أمكن، من مثل بعض البضائع والاقتصادية وغير ذلك.
[1] ابن فارس أحمد بن فارس: معجم مقاييس اللغة تحقيق عبد السلام هارون، ٣/٤٣٨-٤٣٩، دار الفكر، ١٩٧٩م.
[2] ابن منظور: محمد بن مكرم، لسان العرب مادة طبع ٨/٢٣٢ ط١، دار صادر-بيروت.
[3] http://www.pacbi.org/atemplate.php?id=50
[4] المصدر السابق
[5] https://www.aljamaa.net/ar/2005/04/16/
التطبيع-مخاطره،-نتائجه-ومقاومته/ عفاف الحكيم.
[6] http://www.saaid.net/fatwa/f20.htm
[7] أسامة الأشقر: اسئلة-قبل-ان-تقول-رأيك-في-التطبيع.
https://www.palinfo.com/articles/2017/8/26/
[8] تكروري، نواف: أحكام التعامل السياسي مع اليهود في فلسطين المحتلة ٤٧٦-٤٧٧ ط١، دار الشهاب- دمشق، ٢٠٠٠م.
[9] أنظر أدلة الفتوى ورد القرضاوي عليها ورد الشيخ ابن باز والرد على الرد بالتفصيل: القرضاوي: يوسف، فتاوى معاصرة ٣/٤٧٨-٤٩١ المكتب الإسلامي-بيروت ط١، ٢٠٠٣م.
[10] تكروري ٥٢٤-٥٣٧ باختصار وتصرف.
[11] القرضاوي: يوسف، التطبيع مع إسرائيل وحكم الإسلام فيه
http://www.al-qaradawi.net/new/Articles-719 وانظر رفضه للسلام مع ما يسمى إسرائيل في فتاوى معاصرة ٣/٤٧٨-٤٩١.
[12] http://www.djazairess.com/akhbarelyoum/32979
[13] http://www.moheet.com/2012/04/26/1613862/
وانظر: تكروري ٥١١.
[14] تكروري: ٥١١-٥١٣. وانظر بشأن الفتاوى الأخرى: http://www.saaid.net/fatwa/f20.htm
[15] انظر http://www.saaid.net/fatwa/f20.htm وانظر http://www.moheet.com/2012/04/26/1613862/ وانظر فتاوى معاصرة ٣/٤٧٨-٤٩١
[16] السجستاني: أبو داود، سنن أبي داود كتاب الإجارة، باب في النهي عن العينة ٣/٤٧٧ رقم ٣٤٦٢. والحديث صحيح
[17] البخاري: محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير باب قتال اليهود ٤/٤٢ رقم ٢٩٢٥