5/3/2024
د. عمر حماد عضو هيئة علماء فلسطين
سلاح المقاطعة الاقتصادية
عن أَبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، قال: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟» فَقَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟» قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: «مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟» فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ»، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، يَا مُحَمَّدُ، وَاللهِ، مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَاللهِ، مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَاللهِ، مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَصَبَوْتَ، فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا وَاللهِ، لَا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رواه البخاري ومسلم
الشرح والتعليق
1- هذا الحديث يدل على أهمية المقاطعة الاقتصادية لأعداء الدين على مختلف أشكالهم وألوانهم، وخصوصا الذين يعينون بني صهيون ويمدونهم بالمال والسلاح، والرأي والمشورة، ويؤيدونهم في حربهم الظالمة على أهلنا في غزة.
2- كما أن هذا الحديث يدل على العفو عند المقدرة، وعلى أمور كثيرة سأذكرها في ثنايا الشرح إن شاء الله.
3- قوله (قِبَلَ نَجْدٍ) أي باتجاه نجد، والنجد هو المكان المستوي المرتفع عن سطح البحر كما ورد في مختار الصحاح وكتب اللغة، والمقصود به تلك الهضبة العملاقة التي تتوسط الجزيرة العربية، وهي عبارة عن هضبة يتراوح ارتفاعها ما بين (762- 1524م) فوق سطح البحر، مع انخفاض تدريجي من الغرب نحو الشرق، و«هضبة نجد» تحدها صحراء النفود الكبير» شمالاً، والدهناء شرقاً، وحدود الربع الخالي جنوباً، بينما يحدها من الغرب جبال الحجاز، ومن الجنوب الغربي «مرتفعات عسير.
4- وتضم نجد حاليا: منطقة الرياض ومنطقة القصيم ومنطقة حائل والأجزاء الشرقية لمنطقة مكة المكرمة.
5- قوله (فرَبَطوه بساريةٍ مِن سَواري المَسجِدِ النَّبويِّ) أي الأُسْطوانةُ والعَمودُ.
6- قوله (ما عندَكَ يا ثُمامةُ؟) يَعني: أيُّ شَيءٍ عِندَكَ؟ أو ما الَّذي تَظُنُّه أنِّي فاعلٌ بكَ؟
7- فقال ثُمامةُ: (عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ) يَعني: لسْتَ أنتَ ممَّن يَظلِمونَ النَّاسَ؛ بلْ أنتَ ممَّن يَعْفو ويُحسِنُ.
8- قوله (وإنْ تَقتُلْني تَقتُلْ ذا دَمٍ) لها معنيان:
الأول: أي: صاحبَ دَمٍ، يَعني: إنْ قَتَلْتَني فأنا مَطلوبٌ بدَمٍ أستحِقُّ عليه القَتلَ؛ فلا عَيبَ عليكَ في قَتْلي.
الثاني: أنَّه صاحبُ دَمٍ غالٍ وشَريفٍ لرياسَتِه وفَضلِه، وفي قَتْلِه بُلوغٌ للثَّأرِ وشِفاءٌ للقَلبِ.
9- قوله (وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ) وإنْ تُنعِمْ وتُحسِنْ بالمَنِّ بلا فِداءٍ تُنعِمْ على شاكرٍ؛ لأنَّكَ تُنعِمُ على كَريمٍ حافظٍ للمَعْروفِ، ولا يَنْسى الجَميلَ،
10- قوله (وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ) وإنْ كُنتَ تُريدُ المالَ لأفْتَديَ به نَفْسي، فاطلُبْ مِن المالِ ما تَشاءُ؛ فسوف تُعْطاه.
11- قوله (فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ) وفي رواية (إلى نجل) بالجيم، أي إلى بستان فيه عين ماء.
12- قوله (يَا مُحَمَّدُ، وَاللهِ، مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَاللهِ، مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَاللهِ، مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ) هذا إخبارٌ مِن ثُمامةَ رَضيَ اللهُ عنه لحالتِه التي كان عليها بعْدَ هِدايةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ له إلى الإسلامِ؛ فقدِ انقلَبَت العَداوةُ إلى الصَّداقةِ، والبُغضُ إلى المحبَّةِ، فسُبحانَ مَن بيَدِه قُلوبُ عِبادِه، يُصرِّفُها كيف يَشاءُ!
13- قوله (قَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَصَبَوْتَ) هكذا هو في الأصول (أصبوت) بالواو وهي لغة، والمشهور (أصبأت) بالهمز ومعناهما: أتَركْتَ دِينَكَ ومِلَّتَكَ، وخرَجْتَ مِن الحقِّ إلى الباطلِ! -على زَعْمِهم-
14- قوله (لَا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وهنا موضع الشاهد، فثمامة بن أثال أعلن مقاطعة أهل مكة وعدم التعامل التجاري معهم وأنه لن يصل شيء إلى أهل مكة من الحنطة إلا إذا وافق الرسول صلى الله عليه وسلم.
15- فهي المقاطعة لمن حاد الله ورسوله..المقاطعة لمن حاربوا الإسلام ..المقاطعة لمن عذَّبوا المسلمين وفتنوهم في دينهم والمقاطعة لمن أيَّد بني صهيون أو ساعدهم أو أمدهم بالمال والسلاح والرأي..
16- أيقن ثمامة أن واضع المعروف في غير أهله؛ كالزارع في السَّبَخ، أو كالـمُسْرِج في الشمس ..وأنّ التعاون التجاري أولى به قبائل أخرى ذات أخلاق ودين.
17- لقد لقنهم ثمامة الدرس، وأصاب المفَصْل فيهم، وشَل اقتصادهم، وجعل عيشهم رَنَق، وعذبهم أُجاج، وحلوهم صَبْر.. حتى أصابهم الضنك والضجر، فأرسل وجهاء قريش إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة ليخلي لهم حمل الطعام .
18- ومن الأدلة على المقاطعة الاقتصادية لبضائع الأعداء قول النبي– صلى الله عليه وسلم – جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ ” رواه النسائي
19- الجهاد بالمال، له وجهان :
وجه إيجابي بدفع المال، لتجهيز الجيش الإسلامي المحارب في الميدان أو المرابط في الثغور .
ووجه سلبي بمنع المال، أي بعدم شراء بضائع الأعداء، وقطع أي تعامل تجاري مع العدو
20- قال الله تعالى :وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ” [ التوبة :5]
وهذا نص صريح يأمر الله فيه بالتضييق على المعتدين، وحصرهم، وبذل شتى السبل الشرعية لدفع عدوانهم ..
21- يدل الحَديثِ على أمور كثيرة منها :
الإحْسانُ إلى مَن يَستَحِقُّه، وأنَّه يُليِّنُ القُلوبَ المغْلَقةَ،
الإحْسانُ إلى الأَسْرى، والعَفوُ عنهم، والرِّفقُ بمَن يُحَسُّ إسْلامُه منهم، وإطْلاقُه.
جواز رَبطُ الأسيرِ في المَسجِدِ وإنْ كان كافرًا، خُصوصًا إذا كان ذلك لغرَضٍ نافعٍ، كسَماعِ قُرآنٍ، أو عِلمٍ، ورَجاءِ إسْلامِه، ونَحوِ ذلك منَ المَصالِحِ.
مَعرِفةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمَعادِنِ الرِّجالِ، ووَضْعُه الإحْسانَ في مَوضِعِه.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الشهادة، وأن يبلغنا منازل الشهداء
والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين
مع تحيات د. عمر حماد
الجمعة 19/1/2024م
الموافق 7/رجب/1445هـ
