د. عمر حماد  عضو هيئة علماء فلسطين

عن أَنَس بن مالك رضي الله عنه قال: «عَمِّيَ الَّذِي سُمِّيتُ بِهِ لَمْ يَشْهَدْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا»، قَالَ: ” فَشَقَّ عَلَيْهِ، قَالَ: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُيِّبْتُ عَنْهُ، وَإِنْ أَرَانِيَ اللهُ مَشْهَدًا فِيمَا بَعْدُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَرَانِي اللهُ مَا أَصْنَعُ، ” قَالَ: «فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا»، قَالَ: «فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ»، قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ: يَا أَبَا عَمْرٍو، أَيْنَ؟ فَقَالَ: وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ، قَالَ: «فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ»، قَالَ: «فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مِنْ بَيْنِ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ»، قَالَ: ” فَقَالَتْ أُخْتُهُ – عَمَّتِيَ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ – فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِبَنَانِهِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] “، قَالَ: «فَكَانُوا يُرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ» رواه مسلم.

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَافِعٍ أَخُو بَنِي عدىّ بن لنجّار، قَالَ: انْتَهَى أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فِي رِجَالٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَقَدْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ: مَا يُجْلِسُكُمْ؟ قَالُوا: قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَمَاذَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ؟ (قُومُوا)  فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَبَهْ سُمِّيَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. (السيرة النبوية لابن إسحاق)

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي حُمَيْدُ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا بِأَنَسِ بْنِ النَّضْرِ يَوْمئِذٍ سَبْعِينَ ضَرْبَةً، فَمَا عَرَفَهُ إلَّا أُخْتُهُ، عَرَفَتْهُ بِبَنَانهِ. (السيرة النبوية لابن إسحاق)

الشرح والتعليق

1-      هذه الأحاديث تدل على أن الثبات على الدين، والجهاد في سبيل الله تعالى يورث صاحبه الجنة.

2-      قوله (عمي الذي سُمِّيتُ به) أي عمي الذي سماني أهلي باسمه وهو أنس بن النضير

3-      قوله (ليراني الله ما أصنع) هكذا هو في أكثر النسخ ليراني بالألف وهو صحيح ويكون ما أصنع بدلا من الضمير في يراني أي ليرى الله ما أصنع.

4-      قوله (فهاب أن يقول غيرها) معناه أنه اقتصر على هذه اللفظة المبهمة وهي قوله (ليراني الله ما أصنع) مخافة أن يعاهد الله على غيرها فيعجز عنه أو تضعف بنيته عنه أو نحو ذلك وليكون أبرأ له من الحول والقوة.

5-      قوله (واهًا لريح الجنة) قال العلماء: (واهًا) كلمة تحنن وتلهف وقائل هذه العبارة هو أنس بن النضر.

6-      قوله (أجده دون أحد) قال ابن بطال: يحتمل أن يكون على الحقيقة، وأنه وجد ريح الجنة حقيقة، أو وجد ريحا طيبة ذكَّرَه طيبُها بطِيب الجنة، ويجوز أن يكون أراد أنه استحضر الجنة التي أعدت للشهيد، فتصور أنها في ذلك الموضع الذي يقاتل فيه، فيكون المعنى: إني لأعلم أن الجنة تكتسب في هذا الموضع فاشتاق لها.  وقال النووي: محمول على ظاهره وأن الله تعالى أوجده ريحها من موضع المعركة وقد ثبتت الأحاديث أن ريحها توجد من مسيرة خمسمائة عام.

7-      قوله (بِضْعٌ): البضع ما بَينَ الثَّلاثِ والتِّسعِ.

8-      قوله (إِلَّا بِبَنَانِهِ) بِفَتْحِ الْبَاءِ الثانية وَالنُّونِ جَمْعُ بَنَانَةٍ وَهِيَ الْأُصْبُعُ وَقِيلَ طَرَفُهَا.

9-      ما أحوجنا اليوم لمثل أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ليذكرنا أن نعمل لدين الله تعالى، وأن نموت على ما مات عليه أسلافنا، وأن ننفض غبار الكسل عن كواهلنا، وألا نتواني في نصرة دين الله تعالى، فقد وضح الطريق واستبانت معالمه، فامض لنصرة دين الله تعالى ولا يضرك قلة السالكين.

10-   إن إشاعة مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد أثرت على بعض الصحابة الكرام  وأذهلتهم هذا الذهول، فاتخذها القرآن هنا مادة للتوجيه، ومناسبة لتقرير أن البشر إلى فناء، والعقيدة إلى بقاء، ومنهج الله للحياة مستقلٌّ في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس، من الرسل والدعاة على مدار التاريخ. ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ فالمسلم الذي يحب محمدًا صلى الله عليه وسلم ذلك الحبَّ، مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد صلى الله عليه وسلم، والعقيدة التي بلّغها وتركها للناس من بعده، فالعقيدة باقية ممتدة موصولة بالله الحيِّ الذي لا يموت.

كما أن الجهاد في سبيل الله أقدم من المجاهد، وأبقى من المجاهد، فالمجاهدون يجيئون ويذهبون ويُستَشهدون، ولكن الجهاد باقٍ على الأجيال والقرون إلى قيام الساعة، ويبقى المجاهدون موصولين بمصدره، الذي أرسل الرسل وأنزل الكتب

وهذا هو الذي فهِمه الصحابي الجليل النضرُ بن أنس رضي الله عنه، حين وجد أصحابه قد ألقوا سيوفهم ورماحهم، وقالوا له: إن محمدًا قد مات، فقال: “فما تصنعون بالحياة من بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله”. فالثبات الثبات، والجهاد الجهاد.

11-   هنيئا لمن أكرمه الله بالشهادة مقبلا غير مدبر، فوق الأرض لا تحتها، فلم يخن أصحابه، ولم يتَخَلَّ عنهم، بل كان إمامهم وأمامهم في ساحات الوغى، وقد بدأت حياته الجديدة عند ربه، وبدأ رزقه الطيب الجديد بالوصول إليه إن شاء الله تعالى (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171))

نسأل الله تعالى أن يرزقنا الشهادة، وأن يبلغنا منازل الشهداء

والله أعلم.

والحمد لله رب العالمين

مع تحيات د. عمر حماد

الجمعة 18/10/2024م

الموافق 14/ربيع الثاني/1446هـ